9 مصاحف

9 مصاحف الكتاب الاسلامي
حسبي الله ونعم الوكيل

حسبي الله ونعم الوكيل

 

Translate

الاثنين، 5 يونيو 2023

ج1وج2وج3وج4.المجلد الأول: (كتاب العقائد)الدرر السنية

المجلد الأول: (كتاب العقائد)الدرر السنية
مقدمة
تقريظات الكتاب

١- تقريظ الشيخ: محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده، لإبراز الحق وإبدائه، والكشف عن مكنون عقود اللآلي بعد خفائه، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وأصحابه، السالكين على طريق الحق، المخالفين لأعدائه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإني نظرت في هذا المجموع، الفائق، الرائق، الذي جمعه ورتبه الابن: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فرأيته قد جمع علوما مهمة، ومسائل كثيرة جمة، مما أوضحه علماء أهل هذه الدعوة الإسلامية، في مسائلهم، ورسائلهم، الساطعة أنوارها، الواضحة أسرارها، لمن أراد الله هدايته.
فإنهم رحمهم الله، حرروا هذه المسائل والرسائل، تحريرا بالغا، مشتملا على مستنداته، من البرهان والحجة، وعلى طريق الهداية، إلى واضح السبيل والمحجة، لا سيما ما تضمنه من العقائد، والردود، والنصائح، التي لا تظفر

بأكثرها في مجموع سواه.
وقد رتبها الترتيب الموافق، وتابع بينها التتابع المطابق، لا سيما المسائل الفقهية، التي رتبها على حسب أبواب الفقه، وفرقها فيها من غير إخلال بشيء من المقصود، فكان هذا المجموع هو الدرة المفقودة، والضالة المنشودة.
فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه على هذا الصنيع، الذي هو للعين قرة، وللمستبصر مسرة، والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه وعظيم سلطانه.
حرره الفقير إلى عفو ربه وإحسانه، محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
٢١ ذي القعدة - سنة ١٣٥١ هـ.

٢- تقريظ العلامة الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بإحسانه سدد من شاء من عباده، وبامتنانه وفق من أسعفه بإسعاده، وبعنايته أعلى همة من خصه بجعل جمع العلوم الدينية غاية مراده. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله في قوله وعمله واعتقاده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ وآله وصحبه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده.
وبعد: فقد سمعت هذا المجموع الفائق مرتين، وبعضه أكثر من ذلك، بقراءة جامعه ومرتبه: الأخ الفاضل عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، فوجدته وفقه الله تعالى، لم يأل جهدا في جمع رسائل أئمتنا، أئمة هذه الدعوة، وأجوبتهم، وتتبعها من مظانها، ولم يترك - وفقه الله تعالى - شيئا مما ظفر به إلا أشياء غير محررة، أو أشياء غير مقطوع بها عمن نسبت إليه، مع بذله الطاقة في التصحيح، ومقابلة ما ظفر به منها، على ما يمكنه الوقوف عليه من نسخها، مع أنها لم تخل من تغيير.
وقد أجاد ترتيبها بما يسهل على المستفيد طريق ما

تمهيد
بقلم جامعه: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خص بالهداية في زمن الفترات، من شاء من عباده، نعمة منه وفضلا، وألهمهم الحكمة مع ما جبلهم عليه من الفطرة، فتفجرت ينابيعها على ألسنتهم، فنطقوا بالصواب عقلا ونقلا. وفتح بصائرهم، وهداهم إلى الصراط المستقيم، علما، وعملا، وهجرة، وجهادا؛ فأعادوا نشأة الإسلام في الصدر الأول. ويسر لهم من معالم الدين، ومواهب اليقين، ما فضلهم واصطفاهم به على المعاصرين، فحاكوا السلف المفضل، وفتح لهم من حقائق المعارف ومعارف الحقائق، ما امتازوا به على غيرهم، عند من سبر وتأمل. ساروا على المنهج السوي، وشمروا إلى علم الهدى، حتى لحقوا بالرعيل الأول.
فسبحان من وفق من شاء من الخلائق لتأصيل الأصول، وتحقيق الحقائق، وجمع له مواهب الخيرات الجلائل والدقائق. أحمده سبحانه على ما من به علينا،

وهدانا إليه من بين سائر الخلائق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أكمل الله به الدين، وجعل شريعته أكمل الطرائق. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، نجوم الهداية للسابق واللاحق، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله - وله الحمد والمنة - بعث محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأكمل به الدين وأتم به النعمة، فدخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرقت الأرض بنور النبوة، واهتزت طربا وابتهاجا، حتى تركهم ﷺ على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها. ودرج على هذا المنهج القويم خلفاؤه الراشدون، وصحبه المهديون، والأفاضل بعدهم المرضيون.
ثم إنه خلفت بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، وهذا مصداق ما أخبر به ﷺ. ولكن الله سبحانه من فضله ضمن لهذه الأمة بقاء دينها وحفظه عليها، وهذا إنما يحصل بإقامة من يقيمه الله تبارك وتعالى من أفاضل خليقته، وخواص بريته، وهم حملة الشريعة المطهرة، وأنصار الملة المؤيدة، الذابون عن دينه، المصادمون لأهل البدع والأهواء، المجاهدون من رام انحلال عرى كلمة التقوى، الذين هم في الأمة المحمدية كالأنبياء في الأمم

الخالية؛ فأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها، وينتهى إلى رأيها، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، تحيا القلوب بأخبارهم، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم؛ فحفظ الله لهم دينهم حفظا لم يحفظ به دينا سواه.
وذلك أن نبي هذه الأمة، هو خاتم النبيين، لا نبي بعده، يجدد ما دثر من دينها، كما كان دين من قبلنا من الأنبياء، كلما دثر دين نبي جدده نبي آخر يأتي بعده، فتكفل الله بحفظ هذا الدين، وأقام له في كل عصر حملة ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتمويه الزائغين، ميزوا ما دخل فيه من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط، وحفظوه أشد الحفظ.
ولما كان النبي ﷺ بعث بجوامع الكلم، حتى إنه ليتكلم بالكلمة الجامعة العامة، التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة، تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، والنصوص بهذا الوجه محيطة بأحكام أفعال العباد، اقتضت حكمة الله تعالى أن نصب للناس أئمة هدى من أهل الدين والإيمان، والتحقيق والعرفان، يخلفون النبي ﷺ يبلغون أمته ما قاله، ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم؛ وأعلمهم وأفضلهم: أشدهم تمسكا بما جاء عنه ﷺ وأفهمهم لمراده، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم،

يقصد من الفائدة ويريد، لا سيما المسائل الفرعية، التي هي من كتاب الطهارة، إلى كتاب الإقرار، حيث رتبها على حسب ترتيب فقهائنا الحنابلة، رحمهم الله تعالى؛ فإنه جاء في ذلك بالمقصود، فصارت متيسرة التناول، قريبة الوجود، مع عدم الإخلال بشيء من المراد، ولا تقصير فيما ينبغي أن يطلب منه ويراد. فجزاه الله خيرا، ونظمه في سلك الدعاة إلى دينه، الذابين عما بعث به رسوله، وجزى بالخير من سعى في نشره، وتعميم المنفعة به.
أملاه الفقير إلى عفو ربه: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ،
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. ٢٠ ذي القعدة سنة ١٣٥١ هـ.

٣- تقريظ الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، قاضي المجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي غرس لهذا الدين من كل خلف عدوله، ووفق من شاء لتأصيل قواعده وتحرير أصوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها الخلاص من كرب يوم القيامة، وشدائده المهولة؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، الذين شمروا في نصرة دين ربهم واتباع رسوله.
أما بعد: فإني قد أشرفت على ما جمعه الابن الفاضل: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من رسائل وجوابات أئمتنا، أئمة هذه الدعوة الإسلامية، الذين تأخر عصرهم، وتقدم فخرهم، حتى ألحقوا بالسلف الصالح، وامتازوا على غيرهم بإقامة القسطاس الراجح، فإذا هو مشتمل على عقائد سلفية، وردود على أهل مذاهب غوية، وفتاوى مقرونة بأدلتها الشرعية.
وقد أجاد وفقه الله في ترتيبها، وجمع متشتتها وتبويبها، لا سيما المسائل الفقهية، والفتاوى الفروعية؛ فإنه رتبها على

تبويب متأخري الفقهاء من أصحابنا - رحمهم الله - فأبرز مخبآت خرائدها، واقتنص ما تشتت من شواردها، حتى تيسر للطلاب اجتناء دررها، والتلذذ بالنظر إلى محيا غررها.
فإنها كانت قبل متفرقة في رسائل شتى، لا تكاد تحصل القليل منها، فضلا عن الكثير، فجاءت - ولله الحمد - عديمة النظير. وصلى الله على عبده ورسوله محمد، خاتم المرسلين، وأفضل الأولين والآخرين.
قال ذلك ممليه، الفقير إلى الله عز شأنه: عبد الله بن عبد العزيز العنقري.
وصلى الله على محمد وسلم. ١٣ ذي الحجة سنة ١٣٥١ هـ.

ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم.
وقد اختص الله منهم نفرا أعلى قدرهم ومناصبهم، وأبقى ذكرهم ومذاهبهم، فعلى أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام.
وكان أبو عبد الله: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل
أوفاهم فضيلة، وأقربهم إلى الله وسيلة، وأوسعهم معرفة بحديث رسول الله ﷺ وأعلمهم به، وأتبعهم له، وأكثرهم تتبعا لمذاهب الصحابة والتابعين، وأزهدهم في الدنيا، وأطوعهم لربه، ومذهبه مؤيد بالأدلة.
قال أبو الفرج: نظرنا في أدلة الشرع، وأصول الفقه، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين، فرأينا أحمد -
- أوفرهم حظا من تلك العلوم، كان إذا سئل عن مسألة كأن علم الدنيا بين يديه.
وقال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف. وصدق فإنه
كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وعلمه بالسنة اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وهو حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بحديث النبي ﷺ وأصحابه والتابعين.
واختص عن أقرانه بسعة الحفظ، وكثرته، حتى قيل

إنه يحفظ ثلاثمائة ألف حديث؛ وبمعرفة صحيحه من سقيمه، وكان إليه المنتهى في علم الجرح والتعديل، وبمعرفة فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه. ورؤي من فهمه ما يقضى منه العجب، بل لم تكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها، كلام إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وكذا كلام عامة فقهاء الأمصار والبلدان.
ومعلوم أن من فهم هذه العلوم وبرع فيها فأسهل شيء عنده معرفة الحوادث، والجواب عنها، على وفق تلك الأصول. ومن نظر بالتتبع والاستقراء، علم أن علم الإمام أحمد، ومن سلك سبيله من الأئمة، أعلى علوم الأمة وأجلها وأعلاها، وإن فيه كفاية لمن هداه الله.
حفه الله بجهابذة فحول، تلقوه عنه بالقبول، حرروه وهذبوه، وبنوا منه الفروع على الأصول، من أولاده ومعاصريه، ينيفون على خمسمائة فقيه، وطبقات بعده أئمة جهابذة، كانوا للسنة الغراء ناصرين، وعن حمى السمحاء محامين، كما كان عليه سائر إخوانهم الموفقين، من أتباع بقية الأربعة المهديين، مع كثرة خصومهم في تلك الأعصار، وتوافر أضدادهم في سائر الأمصار، واعتكار ليل الشرك والفساد، وتلاطم أمواج بحر البدع والعناد.
إلى أن أقام الله تعالى العالم الرباني، مفتي الأمة، بحر العلوم، شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية، المجتهد

المطلق، المجمع على فضله، وإمامته، الذي جمع الله العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد. جدد الله به الدين بعد دروسه، وأحيا به هدي سيد المرسلين بعد أفول شموسه، وأدحض به جميع بدع المبتدعين، وانبلج الحق واليقين. وقام بعده تلامذته المحققون، وأتباعهم ممن لا يحصون.
وبعدهم انتقضت عرى الإسلام، وعبدت الكواكب والنجوم، وعظمت القبور، وبنيت عليها المساجد، وعبدت تلك الضرائح والمشاهد، واعتمد عليها في المهمات، دون الصمد الواحد، ولكن في الحديث: «إن الله تبارك وتعالى يبعث لهذه الأمة، على رأس كل قرن، من يجدد لها أمر الدين» ١، ويبين المحجة بواضحات البراهين.
فبعث في القرن الثاني عشر، عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، الآية الباهرة، والحجة الظاهرة، شيخ الإسلام والمسلمين، المعدود من أكابر السلف الماضين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السلفي الأول، وإن تأخر زمنه عند من خبر وتأمل، بحر العلوم، أوحد المجتهدين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب.
فشمر عن ساعد جده واجتهاده؛ وأعلن بالنصح لله


١ أبو داود: الملاحم (٤٢٩١).

ولكتابه ورسوله، وسائر عباده، دعا إلى ما دعت إليه الرسل، من توحيد الله وعبادته، ونهاهم عن الشرك، ووسائله وذرائعه؛ فالحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين.
والحمد لله الذي صدق وعده، وأورثه الرضى وحده، وأنجز وعده، واستجاب دعاءه، فصارت ذريته، وذرياتهم، وتلامذتهم نجوم هداية، وبحور دراية، ثبتوا على سبيل الكتاب والسنة، وناضلوا عنه أشد النضال، ولم يعدوا ما كان عليه الصحابة والسابقون، والأئمة الموثوق بهم، كأبي حنيفة والسفيانينى،؛ ومالك والشافعي وأحمد وأمثالهم. ولم يثنهم عن عزمهم طلاقة لسان مخادع، ولا سفسطة متأول، ولا بهرجة ملحد، ولا زخرفة متفلسف، وكلما انقضت طبقة منهم، أنشأ الله طبقة بعدها على سبيل من قبلها، فهم الأبدال والأخيار والأنجاب.
وقد أخبر الصادق الأمين: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته» ١ وقال: «لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله، لا يضرها من خالفها» ٢. وقد أقام الله بهم السنة والفرض؛ فصاروا حجة على جميع أهل الأرض، وأشرقت بهم نجد على جزيرة العرب، ولله در القائل حيث قال:


١ ابن ماجه: المقدمة (٨)، وأحمد (٤/‏٢٠٠).
٢ البخاري: المناقب (٣٦٤١) والتوحيد (٧٤٦٠)، ومسلم: الإمارة (١٠٣٧)، وأحمد (٤/‏٩٩).

ففيها الهداة العارفون بربهم … ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنة … مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة … رسائلهم يغدو بها كل ماهر
وفيها من الطلاب للعلم عصبة … إذا قيل من للمشكلات البوادر
ولا يعرف شعب دخل في جميع الأطوار، التي دخل فيها الإسلام في نشأته الأولى، غربة وجهادا وهجرة وقوة، غير هذا الشعب. فلقد ظهر هذا الشيخ المجدد المجتهد، في وقت كان أهله شرا من حال المشركين، وأهل الكتاب في زمن البعثة، من شرك وخرافات، وبدع وضلالات، وجهالة غالبة؛ فدعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع إلى أصل الإسلام، فأعاد نشأة الإسلام كما كانت. وسارت ذريته وتلامذتهم سير السلف الصالح، وجرى عليهم ما جرى على تلك السادة.
وقد شهد لهم أهل العلم والفضل والتحقيق، من أهل القرى والأمصار، أنهم جددوا التوحيد، ودعوا إليه حتى استنار، حتى شهد لهم أعداؤهم بذلك، كما ستقف عليه:
مناقب شهد العدو بفضلها … والفضل ما شهدت به الأعداء
ومن سبر حقيقة القوم، وعرف مآخذهم، انقاد لهم، وجعلهم أئمة هداة؛ ولقد صدق القائل:
أئمة حق والنصوص طريقهم
وأحمد خريت الطريق وهاديا

على مذهب الحبر الإمام ابن حنبل … عليهم من المولى سلام يوافيا
عقائدهم سنية أجمع الملا … عليها خصوصا تابعا وصحابيا
وأسلمها عقدا وأعلمها هدى … وأحكمها فاشدد عليها الأياديا
صرائح قرآن نصوص صريحة … ومن ردها دارت عليه الدواهيا
كانوا على مذهب الحبر الرباني، والصديق الثاني، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني
وأرضاه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، لقوة علمه وفضله، تتبعوا دليله، واقتدوا به من غير تقليد له، يأخذون من الروايتين عنه فأكثر بما كان أقرب إلى الدليل، وربما اختاروا ما ليس منصوصا في المذهب، إذا ظهر وجه صوابه، وكان قد قال به أحد الأئمة المعتبرين. وليس ذلك خروجا عن المذهب، إذ قد تقرر عنه، وعن سائر الأئمة، رحمهم الله أنه إذا خالف قول أحدهم السنة، ترك قوله، لقول رسول الله ﷺ.
وبالجملة، فمن تأمل حالهم، واستقرأ مقالهم، عرف أنهم على صراط مستقيم، ومنهح واضح قويم؛ شمروا عن ساعد الجد والاجتهاد، وصرفوا عنايتهم في نصرة هذا الدين، الذي كان الأكثر في غاية من الجهالة بمبانيه العظام، ونهاية من الإعراض عن الاعتناء به والقيام، فشرعوا فيه للناس موارد، بعد أن كان في سالف الزمن طامسا خامدا، وعمروا لهم فيه معاهد، حتى صار طاهرا مستنيرا مشاهدا.
فنشروا شريعة سيد المرسلين ﷺ لجميع الخلائق،

وكشفوا قناعها، وحققوا الحقائق، وأنشأوا المدارس وعمروها بالتعليم، وجاهدوا في الله كل طاغ أثيم، وصنفوا الكتب فأجادوا، وكشفوا الشبهات فأبادوا، وأجابوا السائل فأفادوا، فكشفوا عن الدين ما عراه، وأبدوا وأعادوا. فحق لقوم هذا شأنهم، أن يعتنى برسائلهم، وفتاويهم، وردودهم، وتجمع وتدون لكيلا تذهب، وترتب وتعنون لكيلا تصعب.
وقد اجتهد علماؤنا في جمعها، وحفظها؛ وحرصوا وحضوا على نشرها، وجمع شواردها. وكان أكثر من جمع، ما وجده شيخنا الفاضل: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ: سليمان بن سحمان، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وغيرهم؛ إلا أنها غير مرتبة، فصار الطالب للمسألة لا يجدها إلا بعد تعب وعناء، ولا خفاء بما في ذلك من المشقة والنصب، وربما لا يجدها.
فأمرني من تجب طاعته علي أن أجمعها، وأرتبها حسب الطاقة، مع أني لست من أهل تلك البضاعة؛ فتمادت بي الأيام، أقدم رجلا وأؤخر أخرى، لكثرة الأشغال، ومعالجة المعاش والضيعة، وعدم الأهلية، إلى أن قويت العزيمة، وخلصت النية، وظهرت، ويسر الله الأمر وسهله، ووفق إليه، فحينئذ أمعنت النظر، وأنعمت الفكر، وجمعت ما أدركته. وأعانني عليه شيخنا الفاضل، الحبر الثقة، الشيخ: محمد بن الشيخ إبراهيم، وحرره وهذبه، أعدته وأبديته عليه

فزها، فظهر آثار القبول عليه وأبهى؛ كررت الفقه عليه مرارا، والأصول وغيرها إمرارا.
وقرأت أكثره على شيخنا النبيل، الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وعلى الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فجاء - بحمد الله - جامعا جل رسائلهم وفتاويهم، بل كلها إلا قليلا.
وقد صنف العلماء في كل عصر ومصر، في الأصول، والفروع، وغيرها ما لا يحصى، حفظا للدين والشريعة، وأقوال أهل العلم، وليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة، ولولا ذلك، لجرى على ديننا ما جرى على الأديان قبله، فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم.
فوضح هؤلاء الأحبار الطريق إلى الله بالعلم، وأبرزوا مشكلات الحوادث بينابيع الفهم، بما يثلج الصدور، ويطرد الوهم، وصارت فتاويهم وأجوبتهم هي المعتبرة عند القضاة والمفتين، لرجحانها بالدليل، وموافقتها القواعد والتأصيل.
وها هو ذا يفصح عن نفسه، ويدل على عظيم نفعه، جامعا شاملا نافعا، فيه من الفوائد ما هو حقيق أن يعض عليه بالنواجذ، وتثنى عليه الخناصر، ويكب عليه أولو البصائر

النوافذ. اشتمل على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تجدها في كثير من الكتب المصنفة، ولا الدواوين المؤلفة.
فإن أردت مقام الدعوة إلى الدين، وتوحيد رب العالمين، وجدته بأحسن أسلوب وأتم تبيين. وإن أردت حل مشكلات الفروع عن يقين، فخذها عليها النور المستبين، أو أردت حكم جهاد المفسدين، ألفيته على وفق سيرة سيد المرسلين، أو أردت حل أوهام الزائغين، وجدتها مجلوة بأوضح البراهين، أو استنباط آيات من كلام رب العالمين، أفادك ما لا يوجد في كلام أكثر المفسرين، أو نصائح شاملة في أمور الدين، لقيتها آية باهرة للمتأملين. ألفها فحول من هداة مهتدين، تهدى إليك ساطعة بالنور المستبين، تشتاق إليها نفوس الموحدين، وتطمئن بها قلوب المؤمنين، وتنشرح لها صدور الطالبين.

وقد وقع هذا المجموع المبارك، في أحد عشر جزءا:
الأول: كتاب العقائد.
والثاني: كتاب التوحيد.
والثالث: كتاب الأسماء والصفات.
والرابع: كتاب العبادات من كتاب الطهارة إلى الأضاحي؛ وفي أوله فصلان:
الفصل الأول: في أصول مآخذهم.
والفصل الثاني: في أصول الفقه.
والخامس: كتاب المعاملات وما يتبعه إلى العتق.
والسادس: من كتاب النكاح إلى الإقرار.
والسابع: كتاب الجهاد.
والثامن: كتاب حكم المرتد.
والتاسع: مختصرات الردود، على ذوي الشبه، والزيغ، والجحود.
والعاشر: الاستنباط، وتفسير آيات من القرآن.
والحادي عشر: كتاب النصائح؛ وفي آخره تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة، تطلعك على كبر شأنهم، وعلو مرتبتهم، وعمق مآخذهم، وتشرح صدرك لقبول أجوبتهم.

تنبيهات
التنبيه الأول: في كيفية ترتيب كل جزء من أجزاء هذا المجموع؛ فليعلم أن الجزء الأول، والثاني، والثالث، والثامن، والتاسع، والحادي عشر، قد أبقيت الرسائل والأجوبة فيها على ما هي عليه، ولم ترتب إلا على حسب وفيات مؤلفيها، فيذكر في كل واحد من هذه الأجزاء، أولا: رسائل الشيخ محمد
، ثم من بعده، وهكذا، على حسب الوفيات، وقد يقدم الأشهر.
وأما الجزء الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، فهي على حسب ترتيب فقهائنا - رحمهم الله - في التبويب والمسائل، وإذا كان في المسألة جوابان فأكثر، ذكر السؤال أو بعضه أو ملخصه، إن لم يحتج إليه كله؛ ويبدأ بجواب الأقدم، ثم جواب من يليه من غير إعادة للسؤال، بل يكتفى بقول: وأجاب فلان، وهكذا مرتبا إلى أن تفرغ الأجوبة، التي في تلك المسألة.
وقد ينتقل من مسألة إلى مسألة أخرى من غير ذكر سؤال، فيقال: وأجاب فلان، اكتفاء بما في جواب التي قبلها، لما بينهما من الارتباط.

التنبيه الثاني: إن بعض المسائل قد لا نقف لها على سؤال، فنصور لها سؤالا على حسب ما يظهر من الجواب؛ وهذا إذا لم يكتف بالسؤال السابق.
وأما الجزء العاشر الذي في الاستنباط، فترتيبه على حسب السور.
التنبيه الثالث: لم آل جهدا في مقابلة ما نقلناه على الأصول، وتصحيحه، وفي بعض تلك الأجوبة كلمات يسيرة عامية، فأصلحتها، بإبدالها بكلمات عربية، هي بمعنى تلك الكلمات، وذلك عن إذن بعض من قرأتها عليه، وعرضها عليه، واستجازته إياها؛ إذ فهم المراد كما ينبغي متوقف على ذلك.
التنبيه الرابع: إني لم أتعرض إلا لفتاوى، ورسائل، وردود أهل هذه الدعوة، ولم أثبت من الردود، في هذا المجموع، إلا ما كان مختصرا، نحو الكراستين فأقل؛ وأما الردود الكبار: فهي متداولة، مستقلة على حدتها، مستغنية عن إثباتها في هذا المجموع، كما أني لم أثبت ما كان مشهورا متداولا، ككتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات، وفضائل الإسلام، وغيرها مما شهرته كافية.

التنبيه الخامس: بعض الفتاوى، لم أقف على اسم صاحبها، لكنه من أهل هذه الدعوة قطعا، فأورده بقولي: سئل بعضهم، ونحوه.
والله أسأل: أن يجعل السعي فيه خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم؛ فهو العالم بمودعات السرائر، وخفيات الضمائر، وأن يتغمدنا وإياهم بفضله ورحمته، ويتجاوز عنا وعنهم بسعة مغفرته، ويحشرنا في زمرتهم، إنه سميع قريب، عليه نتوكل وإليه ننيب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.

كتاب العقائد
(جواب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأهل القصيم في بيان عقيدته إجمالا)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام: العالم الرباني، والصديق الثاني، مجدد الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية، أوحد العلماء، وأورع الزهاد؛ الشيخ: محمد بن عبد الوهاب؛ أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، لما سأله أهل القصيم عن عقيدته:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم: أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.

فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا، فنَّزه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾، [سورة الصّافات الآيتات: ١٨٠-١٨١-١٨٢].
والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية، وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله ﷺ بين الروافض، والخوارج.
وأعتقد: أن القرآن كلام الله، منْزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود؛ وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد ﷺ. وأؤمن: بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد

الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد، ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ومَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾، [سورة المؤمنون، الآيتان: ١٠٢-١٠٣]،؟وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وأومن: بحوض نبينا محمد ﷺ بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي ﷺ وأنه أول شافع، وأول مشفع؛ ولا ينكر شفاعة النبي ﷺ إلا أهل البدع والضلال؛ ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى: ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضى﴾، [سورة الأنبياء آية: ٢٨]. وقال تعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ﴾، [سورة البقرة آية: ٢٥٥]. وقال تعالى: ﴿وكَمْ مِن مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا إلاَّ مِن بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشاءُ ويَرْضى﴾، [سورة النجم آية: ٢٦]. وهو: لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله؛ وأما المشركون: فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: ﴿فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ﴾، [سورة المدثر آية: ٤٨].

وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته.
وأومن بأن نبينا محمدا ﷺ خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة؛ ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة
. وأتولى أصحاب رسول الله ﷺ، وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيْمانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾، [سورة الحشر آية: ١٠]. وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء. وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله ﷺ ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسيء. ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام. وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام: برا كان، أو

فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة؛ والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا ﷺ إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل.
وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله. ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه. وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله. وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.
وأعتقد أن الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؛ وهو بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل.
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي.

فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة؛ وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد؛ وإني خارج عن التقليد؛ وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين؛ وإني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق؛ وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله ﷺ لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي ﷺ، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض، وابن عربي؛ وإني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم؛ وقبله من بهت محمدا ﷺ أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور؛ قال تعالى: ﴿إنَّما يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ﴾، [سورة النحل آية: ١٠٥]. بهتوه ﷺ بأنه يقول: إن الملائكة، وعيسى، وعزيرا في النار؛ فأنزل الله في ذلك: ﴿إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ﴾، [سورة الأنبياء آية: ١٠١]، وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من

يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله، وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر، والذبيحة حرام؛ فهذه المسائل حق، وأنا قائل بها؛ ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين، كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى: بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة، إن شاء الله تعالى.
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾، [سورة الحجرات آية: ٦].
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف ومعاتبته له)
وله أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، حفظه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب، فيها إنكار وتغليظ علي، ولما قيل: إنك كنت معهم، وقع في الخاطر بعض الشيء، لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء.
وأيضا لما أعلم منك من محبة الله ورسوله، وحسن

الفهم، واتباع الحق، ولو خالفك فيه كبار أئمتكم، لأني اجتمعت بك من نحو عشرين، وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري، كتبتها، ونقلت على هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان، التي ذكر البخاري في أول الصحيح: هذا هو الحق الذي أدين الله به، فأعجبني هذا الكلام، لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين.
وذاكرتني أيضا في بعض المسائل، فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما من الله به عليك، من حسن الفهم، ومحبة الله والدار الآخرة؛ فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر، لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق إن كان مع خصمهم فواضح؛ وإن كان معهم: فينبغي للداعي إلى الله، أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه، موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى.
وينبغي للقاضي - أعزه الله بطاعته - لما ابتلاه الله بهذا المنصب أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يوقنون؛ فمن ذلك: لا يستخفنه الذين لا يوقنون؛ ويتثبت عند سعايات الفساق والمنافقين، ولا يعجل. وقد وصف الله المنافقين في كتابه بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب، ويجتنب أهلها أيضا؛ فوصفهم بالفصاحة، والبيان، وحسن اللسان، بل

وحسن الصورة في قوله: ﴿وإذا رَأيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجْسامُهُمْ وإنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ الآية، [سورة المنافقون آية: ٤]. ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين، ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله: ﴿يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ﴾ الآية، [سورة المائدة آية: ٤١]. ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضى بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة، وبراءة، وسورة القتال، وغير ذلك، نصيحة لعباده ليتجنبوا الأوصاف ومن تلبس بها.
ونهى الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع، فكيف يجوز من مثلك أن يقبل من مثل هؤلاء؟! وأعظم من ذلك: أن تعتقد أنهم من أهل العلم، وتزورهم في بيوتهم، وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة، وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا، لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره.
وأما ما ذكر لكم عني، فإني لم آته بجهالة، بل أقول - ولله الحمد والمنة وبه القوة -: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، ولست - ولله الحمد - أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله ﷺ التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أني لا أرد الحق إذا

أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه: إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين؛ ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله ﷺ فإنه لا يقول إلا الحق.
وصفة الأمر: غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، والتابعون وأتباعهم، والأئمة كالشافعي، وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسنى من أتباعهم.
وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل؛ وسادتهم وأئمتهم، وأعلمهم وأعبدهم، وأزهدهم، مثل: ابن القيم، والحافظ الذهبي، والحافظ العماد ابن كثير، والحافظ ابن رجب، قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم، الذين هم خير من ابن حجر، وصاحب الإقناع، بالإجماع. فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم، والإطباق على طريقتهم، قالوا: هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل، لأن رسول الله ﷺ قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى، حذو القذة بالقذة «حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ١. وقد ذكر الله في كتابه: أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا،


١ البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٣٢٠)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٩٤)، وأحمد (٢/‏٣٢٧).

وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله، وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب. وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين، بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ﴿فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾، [سورة المؤمنون آية: ٥٣] والزبر: الكتب.
فإذا فهم المؤمن، قول الصادق المصدوق: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ١، وجعله قبلة قلبه، تبين له أن هذه الآيات وأشباهها، ليست على ما ظن الجاهلون: أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر
أنه قال في هذه الآيات: «مضى القوم، وما يعني به غيركم».
وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، الذين هم غير المغضوب عليهم، ولا الضالين؛ فمن عرف دين الإسلام، وما وقع الناس فيه من التغيير له، عرف مقدار هذا الدعاء، وحكمة الله فيه.
والحاصل: أن صورة المسألة، هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع التحفة ٢ مثلا؟ فأعلم المتأخرين وسادتهم منهم، كابن القيم قد أنكروا هذا غاية


١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).
٢ يعني التحفة لابن حجر الهيتمي المكي الشافعي.

الإنكار؛ وأنه تغيير لدين الله؛ واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه، من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله ﷺ البين، لمن نور الله قلبه. والذين يجيزون ذلك، أو يوجبونه، يدلون بشبه واهية، لكن أكبر شبههم على الإطلاق: إنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه، ولا يقدر عليه إلا المجتهد؛ وإنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون.
ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلدا، ومن أوضحه قول الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾، [سورة التوبة آية: ٣١]. وقد فسرها رسول الله ﷺ في حديث عدي بهذا الذي أنتم عليه اليوم، في الأصول، والفروع، لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل، بل يبين مصداق قوله: «حذو القذة بالقذة» ١ إلخ. وكذلك فسرها المفسرون، لا أعلم بينهم اختلافا، ومن أحسنه: ما قاله أبو العالية، أما إنهم لم يعبدوهم، ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم، ولكنهم وجدوا كتاب الله، فقالوا: لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا.
وهذه رسالة لا تحتمل إقامة الدليل، ولا جوابا عما يدلي به المخالف، لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق، فإن أردتم الرد علي بعلم وعدل، فعندكم كتاب إعلام الموقعين، لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفة ٢.


١ أحمد (٤/‏١٢٥).
٢ اسم مكان.

فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطا كثيرا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدل لها بالدلائل الواضحة القاطعة، منها: أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه، وأن رسول الله ﷺ وأصحابه وصفوه من قبل أن يقع، وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يسير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير غريبا كما بدأ.
وقد علمتم أن رسول الله ﷺ لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام: من معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) يعني أبا بكر، وبلالا. فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ، فما أجهل من استدل بكثرة الناس، وأطباقهم، وأشباه هذه الشبهة، التي هي عظيمة عند أهلها، حقيرة عند الله، وعند أولي العلم من خلقه، كما قال تعالى: ﴿بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الأوَّلُونَ﴾، [سورة المؤمنون آية: ٨١]. فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها، إلا وقد ذكر الله في كتابه: أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل، مثل إطباق الناس، وطاعة الكبراء، وغير ذلك.
فمن من الله عليه بمعرفة دين الإسلام، الذي دعا إليه رسول الله ﷺ، عرف قدر هذه الآيات، والحجج، وحاجة الناس إليها. فإن زعمتم: أن ذكر هؤلاء الأئمة لهذا لمن كان من أهله، فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر، والذكر والأنثى، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال:

ذلك صعب، مكيدة من الشيطان، كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم، الحنيفية ملة إبراهيم؛ وإن بان لكم أنهم مخطئون، فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه. وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله، ودعوة إلى الله، لأحصل ثواب الداعين إلى الله، وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه، وأنه عندكم من أنكر المنكرات، من أن الذي يعيب هذا عندكم، مثل من يعيب رسول الله ﷺ وأصحابه.
لكن أنت، من سبب ما أظن فيك من طاعة الله، لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام؛ فإذا قرأته، فإن أنكره قلبك فلا عجب؛ فإن العجب ممن نجا كيف نجا؟ فإن أصغى إليه قلبك بعض الإصغاء، فعليك بكثرة التضرع إلى الله، والانطراح بين يديه، خصوصا أوقات الإجابة، كآخر الليل، وأدبار الصلاة، وبعد الأذان.
وكذلك بالأدعية المأثورة، خصوصا الذي ورد في الصحيح، أنه ﷺ كان يقول: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» ١. فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء، بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الناس كلهم، وقل: يا معلم إبراهيم علمني.


١ مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (٧٧٠)، والترمذي: الدعوات (٣٤٢٠)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (١٦٢٥)، وأبو داود: الصلاة (٧٦٧)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٣٥٧)، وأحمد (٦/‏١٥٦).

وإن صعب عليك مخالفة الناس، ففكر في قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وإنَّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ واللَّهُ ولِيُّ المُتَّقِينَ﴾، [سورة الجاثية الآيتان: ١٨-١٩]، ﴿وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، [سورة الأنعام آية: ١١٦].
وتأمل قوله في الصحيح: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ» ١ وقوله ﷺ: «إن الله لا يقبض العلم» ٢ إلى آخره، وقوله: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» وقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» ٣. والآيات، والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف.
فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل، وتسلك مسلك الأكثر؛ ولكن لا مانع لما أعطى الله، والله لا يتعاظم شيئا أعطاه، وما أحسنك لو تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر
في أوله، فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا.
وأما هذا الخيال الشيطاني الذي اصطاد به الناس، أن من سلك هذا المسلك، فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الاقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف، فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه، كما قال تعالى: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾، [سورة الأنعام آية: ١١٢]. فإن الذي


١ مسلم: الإيمان (١٤٥)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٨٦)، وأحمد (٢/‏٣٨٩).
٢ البخاري: العلم (١٠٠)، ومسلم: العلم (٢٦٧٣)، والترمذي: العلم (٢٦٥٢)، وابن ماجه: المقدمة (٥٢)، وأحمد (٢/‏١٦٢،٢/‏١٩٠)، والدارمي: المقدمة (٢٣٩).
٣ أبو داود: السنة (٤٦٠٧)، والدارمي: المقدمة (٩٥).

أنا عليه، وأدعوكم إليه، هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم، فإنهم قد وصوا الناس بذلك. ومن أشهرهم كلاما في ذلك، إمامكم الشافعي، قال: لا بد أن تجدوا عني ما يخالف الحديث، فكل ما خالفه، فأشهدكم أني قد رجعت عنه.
وأيضا: أنا في مخالفتي هذا العالم، لم أخالفه وحدي، فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم، وقلت القول بنجاسته، يخالف حديث العرنيين، ويخالف حديث أنس: «أن النبي ﷺ صلى في مرابض الغنم» ١. فقال هذا الجاهل الظالم: أنت أعلم بالحديث من الشافعي؟ قلت: أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته، بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه، قد خالفه، واستدل بالأحاديث.
فإذا قال أنت أعلم من الشافعي؟ قلت: أنت أعلم من مالك؟ وأحمد؟ فقد عارضته بمثل ما عارضني به، وسلم الدليل من المعارض، واتبعت قول الله تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ الآية، [سورة النساء آية: ٥٩]. واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم، لم أستدل بالقرآن، أو الحديث وحدي، حتى يتوجه علي ما قيل، وهذا على التنْزل؛ وإلا فمعلوم: أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة، ولا تعبؤون بمن خالفه من رسول، أو صاحب، أو تابع، حتى الشافعي نفسه، ولا تعبؤون بكلامه إذا خالف نص


١ البخاري: الوضوء (٢٣٤)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٢٤)، والترمذي: الصلاة (٣٥٠)، وأحمد (٣/‏١٣١،٣/‏١٩٤).

ابن حجر، وكذلك غيركم إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة.
فهؤلاء الحنابلة من أقل الناس بدعة؛ وأكثر الإقناع، والمنتهى، مخالف لمذهب أحمد ونصه، يعرف ذلك من عرفه؛ ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم؛ وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله والرسول، مقتديا بأهل العلم؟ أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله؟ فأنتم على هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله، وسماه شركا، وهو اتخاذ العلماء أربابا؟ وأنا على الأول، أدعو إليه، وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه، وقبلناه منكم.
وإن أردت النظر في إعلام الموقعين، فعليك بالمناظرة في أثنائه، عقدها بين مقلد وصاحب حجة. وإن ألقي في ذهنك: أن ابن القيم مبتدع، وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها، فاضرع إلى الله، وأسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد ناظرا، ومناظرا، واطلب كلام أهل العلم في زمانه، مثل الحافظ الذهبي، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم، ومما ينسب للذهبي
:
العلم قال الله قال رسوله … قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة … بين الرسول وبين رأي فقيه

فإن لم تتبع لهؤلاء، فانظر كلام الأئمة قبلهم، كالحافظ البيهقي في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر، والخطابي، وأمثالهم، ومن قبلهم، كالشافعي، وابن جرير، وابن قتيبة، وأبي عبيد، فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام السلف. وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه، وشروحهم، فإنها القاطعة عن الله، وعن دينه.
وتأمل: ما في كتاب الاعتصام للبخاري، وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء بما صرح مما صح عنه ﷺ أن أمته ستفترق على أكثر من سبعين فرقة، أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول ﷺ وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم، وتقولون: ما نقدر عليها، ولا يقدر عليها إلا المجتهد، فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله، وكلام رسوله إلا المجتهد. وتقولون: يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أصحابه؛ فجزمتم وشهدتم: أنكم على غير طريقتهم، معترفين بالعجز عن ذلك.
وإذا كنتم مقرين أن الواجب على الأولين اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، لا يجوز العدول عن ذلك، وأن هذه الكتب، والتي خير منها، لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل، ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد، لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري، متى حرم الله هذا الواجب، وأوجب هذا المحرم؟!

ولما حدث قليل من هذا، لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام أحمد، اشتد إنكاره لذلك؛ ولما بلغه عن بعض أصحابه أنه يروي عنه مسائل بخراسان، قال: أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه: أنكر عليه، وقال: تكتب رأيا لعلي أرجع عنه غدا، اطلب العلم مثل ما طلبنا.
ولما سئل عن كتاب أبي ثور؟ قال: كل كتاب ابتدع، فهو بدعة. ومعلوم: أن أبا ثور من كبار أهل العلم؛ وكان أحمد يثني عليه؛ وكان ينهى الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثني عليهم ويعظمهم.
ولما أخذ بعض أئمة الحديث كتب أبي حنيفة، هجره أحمد، وكتب إليه: إن تركت كتب أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك. ولما ذكر له بعض أصحابه أن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة، قال: إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها.
وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾، [النّور، من الآية: ٦٣]. قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، ومعلوم: أن الثوري عنده غاية، وكان يسميه أمير المؤمنين؛ فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها، فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم؟! وشهد عليهم بذلك،

ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف ما دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ﷺ.
وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم: أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله، ورسوله، والسلف الصالح، وقد قدمنا أن النبي ﷺ قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» ١ إلى آخره، فتأمل هذه الشبهة، أعني قولكم: لا نقدر على ذلك؛ وتأمل ما حكى الله عن اليهود، في قوله: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [سورة البقرة آية: ٨٨]، وقوله: ﴿ولَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وما يَكْفُرُ بِها إلاَّ الفاسِقُونَ﴾، [سورة البقرة آية: ٩٩]، وقوله: ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [سورة الزخرف آية: ٣]، وقوله: ﴿ولَقَدْ يَسَّرْنا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ﴾، [سورة القمر آية: ١٧].
واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم؛ واعرف من نزلت فيه؛ واعرف الأقوال والأفعال، التي كانت سببا لنُزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم: لا نقدر على فهم القرآن والسنة، تجد مصداق قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ٢ وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال.
ففيها: أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد، حتى إن آخرهم قال عند موته: لا أعلم على وجه الأرض أحدا على ما نحن عليه، ولكن قد أظل زمان نبي.


١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).
٢ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).

واذكر مع هذا قول الله تعالى: ﴿فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي الأرْضِ إلاَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهُمْ﴾، [سورة هود آية: ١١٦].
فحقيق لمن نصح نفسه، وخاف عذاب الآخرة: أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه، خصوصا ما وصف به علماءهم، ورهبانهم، من كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله، أي: علماءهم، من الشرك، والإيمان بالجبت والطاغوت، وقولهم للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا؛ لأنه عرف أن كل ما فعلوا لا بد أن تفعله هذه الأمة، وقد فعلت.
وإن صعب عليك مخالفة الكبر، أو لم يقبل ذهنك هذا الكلام، فأحضر بقلبك: أن كتاب الله أحسن الكتب، وأعظمها بيانا وشفاء لداء الجهل، وأعظمها فرقا بين الحق والباطل، والله سبحانه قد عرف تفرق عباده، واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه: ﴿وما أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وهُدًى ورَحْمَةً﴾ [سورة آية ٦٤]، وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهها في ذهنك، واعرضها على قلبك، فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال.
فتأمل قوله: ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾، [سورة لقمان آية: ٢١]، وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة، وكذلك قوله: {أتُجادِلُونَنِي فِي أسْماءٍ

سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ}، [سورة الأعراف آية: ٧١].
فكل حجة تحتجون بها، تجدها مبسوطة في القرآن، وبعضها في مواضع كثيرة.
فأحضر بقلبك: أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل، فارقا بين الحق والباطل، لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج، ويكررها، مع عدم حاجة المسلمين إليها، ويترك الحجج التي يحتاجون إليها، ويعلم أن عباده يفترقون؛ حاشا أحكم الحاكمين من ذلك.
ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق، وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم، وأعظمهم جاها، ولو اتبعه أكثر الناس: ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين، وصفات الله تعالى، وغالب من يدعي المعرفة، وما عليه المتكلمون، وتسميتهم طريقة رسول الله ﷺ حشوا، وتشبيها، وتجسيما. مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام - مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين - تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه.
وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك، مثل ما ذكر في فتح الباري، في مسألة الإيمان، على قول

البخاري: وهو قول وعمل، ويزيد وينقص؛ فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي: أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله، ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين، ولم يرده.
فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، وقرأت في كتب أهل العلم من السلف، ومن أتباعهم من الخلف، ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى، وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها، أو تأول شيئا من النصوص، فقد افترى على الله، وخالف إجماع أهل العلم، ونقلهم الإجماع: أن علم الكلام بدعة وضلالة، حتى قال أبو عمر ابن عبد البر: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار، أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات، لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء؛ والكلام في هذا يطول.
والحاصل: أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم، بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان، الذين بعث فيهم النبي ﷺ فابتدع هؤلاء كلاما من عند أنفسهم، كابروا به العقول أيضا، حتى إنكم لا تقدرون تغيرون عوامكم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر، إلا من سبقت لهم من الله الحسنى، وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود،

يبغضونهم الناس، ويرمونهم بالتجسيم.
هذا، وأهل الكلام وأتباعهم، من أحذق الناس، وأفطنهم، حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم، ما يحير اللبيب، وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف، حتى إن أئمة المتكلمين، لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر والنهي، مثل قولهم: المراد بالصيام كتمان أسرارنا، والمراد بالحج زيارة مشائخنا؛ والمراد بجبريل: العقل الفعال؛ وغير ذلك من إفكهم؛ ردوا عليهم الجواب: بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام؛ فقال لهم الفلاسفة: أنتم جحدتم علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب، على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم، وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا؟! وتأويلكم صحيحا؟! فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد.
والمراد: أن مذهبهم مع كونه فاسدا في نفسه، مخالفا للعقول، وهو أيضا مخالف لدين الإسلام، والكتاب والرسول، وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف، ثم مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل، حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها.
وأنا أدعوك إلى التفكر في هذه المسألة، وذلك أن السلف قد كثر كلامهم، وتصانيفهم في أصول الدين، وإبطال

كلام المتكلمين، وتفكيرهم، وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية: البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، ومن بعدهم، كالحافظ الذهبي؛ وأما متقدموهم: كابن سريج، والدارقطني، وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر؛ ففتش في كتب هؤلاء، فإن أتيتني بكلمة واحدة أن منهم رجلا واحدا لم ينكر على المتكلمين، ولم يكفرهم، فلا تقبل مني شيئا أبدا؛ ومع هذا كله، وظهوره غاية الظهور، راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون؛ والله المستعان.
ومن العجب: أنه يوجد في بلدكم من يفتي الرجل بقول إمام؛ والثاني بقول آخر، والثالث بخلاف القولين؛ ويعد فضيلة، وعلما، وذكاء، ويقال: هذا يفتي في مذهبين أو أكثر. ومعلوم عند الناس: أن مراده في هذا، العلو والرياء، وأكل أموال الناس بالباطل؛ فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه، أو مثله إذا كان معه الدليل، ولم آت بشيء من عند نفسي، تكلمتم بهذا الكلام الشديد، فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم، توجه علي القول.
وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم تزعمون أن هذا إنكار للمنكر، فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلي الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
منها - وهو أعظمها -: عبادة الأصنام عندكم، من بشر،

وحجر؛ هذا يذبح له؛ وهذا ينذر له؛ وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات؛ وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر، وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة، ولو عصى الله!
فإن كنتم تزعمون أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن، فهذا من العجب، فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يختلف في ذلك، اللهم إلا أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود، من إيمانهم بالجبت والطاغوت. وإن ادعيتم: أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل، قدرتم على البعض؛ كيف وبعد الذين أنكروا على هذا الأمر، وادعوا أنهم من أهل العلم، ملتبسون بالشرك الأكبر، ويدعون إليه، ولو يسمعون إنسانا يجرد التوحيد، لرموه بالكفر والفسوق؛ ولكن نعوذ بالله من رضى الناس بسخط الله.
ومنها: ما يفعله كثير من أتباع إبليس، وأتباع المنجمين والسحرة والكهان، ممن ينتسب إلى الفقر، وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس، ويشبهون بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله؛ حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم: أنه من العلم الموروث عن الأنبياء، من علم الأسماء، وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله ﷺ «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ١.


١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).

ومنها: هذه الحيلة الربوية، التي مثل حيلة أصحاب السبت، أو أشد. وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع: إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسوله ﷺ، وإما إلى إجماع أهل العلم؛ فإن عاند، دعوته إلى المباهلة، كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان، والأوزاعي، في مسألة رفع اليدين، وغيرهما من أهل العلم؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز بن سعود إلى الشيخ عبد العزيز الحصين والي مكة)
وفي سنة ١١٨٤هـ، أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، إلى والي مكة، الشيخ: عبد العزيز الحصين، وكتبا إلى الوالي المذكور، رسالة، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمة عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد، أعزه الله في الدارين، وأعز به دين جده، سيد الثقلين.
إن الكتاب لما وصل إلى الخادم، وتأمل ما فيه من الكلام الحسن، رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف، لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية، ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها؛ وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر، وهو واصل إليكم،

ويجلس في مجلس الشريف، أعزه الله، هو وعلماء مكة؛ فإن اجتمعوا، فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشيخ كتبهم، وكتب الحنابلة.
والواجب على الكل منا، ومنكم: أنه يقصد بعلمه وجه الله، ونصر رسوله كما قال تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ الآية، [سورة آل عمران آية: ٨١]. فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمدا ﷺ، على الإيمان به، ونصرته، فكيف بنا يا أمته؟ فلا بد من الإيمان به، ولا بد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك، وأولاهم به أهل البيت، الذي بعثه الله منهم، وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته ﷺ. والسلام.
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى علماء مكة وإجابة الأمير عبد العزيز للشريف غالب)
وفي سنة ١٢٠٤ هـ، أرسل: غالب إلى الإمام عبد العزيز
، يطلب منه أن يرسل إليه رجلا من أهل العلم، يبحث مع علماء مكة المشرفة، فأرسلا إليه، وكتب الشيخ هذه الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم دين سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، وتابعي الأئمة الأعلام.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد: جرى علينا من الفتنة، ما بلغكم، وبلغ غيركم، وسببه: هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله. فلما أظهرنا هذه المسألة، مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور، كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم، لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى، مع أسباب أخر.
فأشاعوا عنا: أنا نسب الصالحين، وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها؛ وأنا أخبركم بما نحن عليه، بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب، ليتبين لكم الأمر، وتعلموا الحقيقة.
فنحن - ولله الحمد - متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وتعلمون - أعزكم الله - أن المطاع في كثير من البلدان، لو يتبين بالعمل بهاتين المسألتين، أنها تكبر عند العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك، وأنتم تعلمون - أعزكم الله - أن في ولاية أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما أحضروا كتب الحنابلة، التي عندنا عمدة، وكالتحفة، والنهاية عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب - أعزه الله ونصره - امتثلنا أمره، وأجبنا طلبه، وهو إرسال رجل من أهل العقل والعلم، ليبحث مع علماء بيت الله الحرام، حتى

يتبين له - أعزه الله - ما عندنا، وما نحن عليه.
ثم اعلموا وفقكم الله: إن كانت المسألة إجماعا، فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد، فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد؛ فمن عمل بمذهبه في محل ولايته، لا ينكر عليه. وأنا أشهد الله وملائكته، وأشهدكم أني على دين الله ورسوله، وإني متبع لأهل العلم، غير مخالف لهم؛ والسلام.
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لأحد علماء المدينة وبيان سبب الخلاف الذي بينه وبين الناس)
وله أيضا -
تعالى - مجاوبة لعالم من أهل المدينة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؛ إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، ثم ينتهي إلى جناب … لا زال محروس الجناب بعين الملك الوهاب؛ وبعد: الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر حيث أخبر بطيبكم؛ فإن سألت عنا فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات.
وإن سألت عن سبب الاختلاف، الذي هو بيننا وبين الناس، فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج، وغير ذلك، ولا في شيء من المحرمات. الشيء الذي عندنا زين، هو عند الناس زين؛

والذي عندهم شين هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين، ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين، ونؤدب الناس عليه.
والذي قلب الناس علينا: الذي قلبهم على سيد ولد آدم ﷺ، وقلبهم على الرسل من قبله: ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ﴾، [سورة المؤمنون آية: ٤٤]، ومثل ما قال ورقة للنبي ﷺ: «والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي» ١. فرأس الأمر عندنا، وأساسه: إخلاص الدين لله، نقول: ما يدعى إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح القربان إلا لله، ولا يخاف خوف الله إلا من الله؛ فمن جعل من هذا شيئا لغير الله، فنقول: هذا الشرك بالله، الذي قال الله فيه: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ الآية، [سورة النساء آية: ٤٨، و١١٦]. والكفار الذين قاتلهم النبي ﷺ واستحل دماءهم يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، النافع الضار، المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله سبحانه لنبيه ﷺ: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾ الآية، [سورة يونس آية: ٣١]. ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأنّى تُسْحَرُونَ﴾ [سورة الآيتان: ٨٨-٨٩]. وأخبر الله عن الكفار: أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد، واذكر قوله سبحانه: ﴿فَإذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، [سورة العنكبوت آية: ٦٥]. والآية الأخرى: ﴿وإذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، [سورة لقمان آية: ٣٢]، وبين الله غاية الكفار،


١ البخاري: بدء الوحي (٤)، ومسلم: الإيمان (١٦٠)، وأحمد (٦/‏٢٢٣،٦/‏٢٣٢).

ومطلبهم، أنهم يطلبون الشفع ١. واقرأ أول سورة الزمر، تراه سبحانه بين دين الإسلام، وبين دين الكفار ومطلبهم، الآيات في هذا من القرآن: ما تحصى ولا تعد.
وأما الأحاديث الثابتة عنه ﷺ فلما قال بعض الصحابة: «ما شاء الله، وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده». وفي الحديث الثاني، قال بعض الصحابة: «قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق. قال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله وحده» ٢. وفي الحديث الثالث: «أن أم سلمة
، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح - أو العبد الصالح - بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» ٣.
والحديث الرابع: «لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» ٤.
والحديث الخامس: عن معاذ قال: "كنت رديف


١ لعله يريد الشفاعة.
٢ أحمد (٥/‏٣١٧).
٣ البخاري: الصلاة (٤٣٤)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٢٨)، والنسائي: المساجد (٧٠٤)، وأحمد (٦/‏٥١).
٤ البخاري: الزكاة (١٣٩٥)، ومسلم: الإيمان (١٩)، والترمذي: الزكاة (٦٢٥)، والنسائي: الزكاة (٢٤٣٥)، وأبو داود: الزكاة (١٥٨٤)، وابن ماجه: الزكاة (١٧٨٣)، وأحمد (١/‏٢٣٣)، والدارمي: الزكاة (١٦١٤).

النبي ﷺ على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» ١ الحديث؛ والأحاديث في هذا ما تحصى.
وأما تنويهه ﷺ بأن دينه يتغير بعده، فقال ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ؛ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة». وفي الحديث عنه ﷺ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ٢. وفي الحديث قال: «افترقت الأمم قبلكم. افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة. والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة. وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي». ٣. وفي الحديث قال ﷺ «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» ٤.
ويكون عندك معلوما: أن أساس الأمر، ورأسه، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، قال تعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أنا فاعْبُدُونِ﴾، [سورة الأنبياء آية: ٢٥]. وقال تعالى: {ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا


١ البخاري: الجهاد والسير (٢٨٥٦)، ومسلم: الإيمان (٣٠)، والترمذي: الإيمان (٢٦٤٣)، وابن ماجه: الزهد (٤٢٩٦)، وأحمد (٥/‏٢٢٨،٥/‏٢٣٠،٥/‏٢٣٤،٥/‏٢٣٦).
٢ مسلم: الأقضية (١٧١٨)، وأحمد (٦/‏١٤٦،٦/‏١٨٠،٦/‏٢٥٦).
٣ ابن ماجه: الفتن (٣٩٩٣)، وأحمد (٣/‏١٢٠).
٤ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).

أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}، [سورة النحل آية: ٣٦].وقال تعالى: ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ الآيتين [سورة المدثر آية: ١].
ويكون عندك معلوما: أن لله تعالى أفعالا، وللعبيد أفعالا، فأفعال الله: الخلق والرزق، والنفع، والضر، والتدبير؛ وهذا أمر ما ينازع فيه، لا كافر، ولا مسلم. وأفعال العبد، العبادة: كونه ما يدعو إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه؛ فالمسلم: من وحد الله بأفعاله سبحانه وأفعاله بنفسه؛ والمشرك: الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه، ويشرك بأفعاله بنفسه.
وفي الحديث» لما أنزل الله عليه: ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾، [المدثر:٢]، صعد الصفا ﷺ فنادى: «واصباحاه» فلما اجتمع إليه قريش، قال لهم ما قال؛ فقال عمه: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا. وأنزل الله فيه: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾، [المسد ١] «وقال ﷺ:»يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " ١ أين هذا من قول صاحب البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به … سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي … إذا الكريم تجلى باسم منتقم


١ البخاري: الوصايا (٢٧٥٣) وتفسير القرآن (٤٧٧١)، ومسلم: الإيمان (٢٠٦)، والنسائي: الوصايا (٣٦٤٦)، والدارمي: الرقاق (٢٧٣٢).

وذكر صاحب السيرة: أنه صلوات الله وسلامه عليه، قام يقنت على قريش، ويخصص أناسا منهم، في مقتل حمزة وأصحابه، فأنزل الله عليه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية، [سورة آل عمران آية: ١٢٨]، ولكن مثل ما قال ﷺ «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» ١.
فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم؛ فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر، الذي يشهد أن التوحيد دين الله، ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد؛ ولكن نسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا، ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل. ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي﴾ الآية، [سورة آل عمران آية: ٣١].
ويكون عندك معلوما: أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه، التي قال الله: ﴿ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إلى اللَّهِ﴾ الآية [سورة فصلت آية: ٣٣]. وفي الحديث: «والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» ٢.
ثم بعد هذا يذكر لنا: أن عدوان الإسلام، الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول ﷺ، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم؛ بل نشهد أن رسول الله ﷺ الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود؛ نسأل


١ مسلم: الإيمان (١٤٥)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٨٦)، وأحمد (٢/‏٣٨٩).
٢ البخاري: المناقب (٣٧٠١)، ومسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٦)، وأبو داود: العلم (٣٦٦١)، وأحمد (٥/‏٣٣٣).

الله الكريم رب العرش العظيم: أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه.
هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، من المهاجرين والأنصار، والتابعين، وتابع التابعين، والأئمة الأربعة
أجمعين؛ وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة، فإن اجتماعهم حجة؛ والقائل: إنه يطلب الشفاعة بعد موته؛ يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة، والحق أحق أن يتبع.
(بيان عقيدة الشيخ ابن عبد الوهاب وما يأمر به)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: أخبركم أني - ولله الحمد - عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة، وأتباعهم، إلى يوم القيامة؛ لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات، من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهو

الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادة نشؤوا عليها.
وأيضا: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله؛ ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام، فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد، وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جدا، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله.
فنقول: التوحيد نوعان؛ توحيد الربوبية، وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير، عن الملائكة، والأنبياء، وغيرهم؛ وهذا حق لا بد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام؛ بل أكفر الناس مقرون به، قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ [سورة يونس آية: ٣١].
وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام، هو: توحيد الإلهية، وهو: ألا يعبد إلا الله، لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، وذلك أن النبي ﷺ بعث، والجاهلية يعبدون أشياء

مع الله، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة؛ فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد، ولا يدعى أحد، لا الملائكة، ولا الأنبياء. فمن تبعه، ووحد الله، فهو الذي يشهد أن لا إله إلا الله؛ ومن عصاه، ودعا عيسى، والملائكة، واستنصرهم، والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله. وهذه جملة لها بسط طويل؛ ولكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء.
فلما جرى في هذه الأمة، ما أخبر به نبيها ﷺ حيث قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ١، وكان من قبلهم، كما ذكر الله عنهم: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١]، وصار ناس من الضالين يدعون أناسا من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف؛ أعني: على الداعي؛ وأما الصالحون، الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم.
وبين أهل العلم أن هذا هو الشرك الأكبر، عبادة الأصنام؛ فإن الله سبحانه: إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين،


١ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).

والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة، والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء الاستغاثة.
واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي ﷺ بأنهم يدعون الملائكة، والأولياء، والصالحين؛ ويريدون شفاعتهم، والتقرب إليهم؛ وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله، فهم لا يدعونها إلا في الرخاء، فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى: ﴿وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلاَّ إيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ﴾ الآية [سورة الإسراء آية: ٦٧].
واعلم أن التوحيد هوإفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر. وآخر الرسل محمد ﷺ، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين؛ أرسله الله إلى أناس يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله تعالى، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.

فبعث الله محمدا ﷺ يجدد لهم دين إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما. وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو؛ ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع، ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره.
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين، الذين قاتلهم رسول الله ﷺ يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾، [سورة يونس آية: ٣١].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾، [سورة المؤمنون آية: ٨٤-٨٥-٨٦-٨٧-٨٨-٨٩]. وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله، وأنه لم يدخلهم في التوحيد، الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه، هو توحيد العبادة،

الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد. كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى، ليلا ونهارا، خوفا وطمعا، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ﷿ ليشفعوا لهم، ويدعو رجلا صالحا، مثل اللات، أو نبيا مثل عيسى.
وعرفت: أن رسول الله ﷺ قاتلهم على ذلك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ [سورة الجن آية: ١٨]. وقال تعالى: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وما هُوَ بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاَّ فِي ضَلالٍ﴾ [سورة الرعد آية: ١٤].
وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم، ليكون الدين كله لله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادة كلها لله. وعرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، والأنبياء، والأولياء يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله تعالى بهم، هو الذي أحل دماءهم وأموالهم؛ عرفت حينئذ التوحيد، الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون.
وهذا التوحيد هو: معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم، هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليا، أو شجرة، أو قبرا، أو جنيا؛ لم يريدوا أن

الإله هو: الخالق، الرازق، المدبر؛ فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك.
وإنما يعنون بالإله: ما يعني المشركون في زماننا، بلفظ: السيد، فأتاهم النبي ﷺ يدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي: لا إله إلا الله؛ والمراد من هذه الكلمة معناها، لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي ﷺ بهذه الكلمة، هو: إفراد الله بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه، فإنه لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله؛ قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب.
فإذا عرفت: أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام، وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها، من غير اعتقاد القلب، بشيء من المعاني؛ والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله. فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت ما قلت لك، معرفة قلب؛ وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ الآية، [سورة النساء آية: ٤٨، و١١٦]، وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه، من الجهل بهذا، أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل

الله وبرحمته، قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾، [سورة يونس آية: ٥٨]. وأفادك أيضا: الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها، وهو يظن أنها تقربه إلى الله، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [سورة الأعراف آية: ١٣٨]، فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
واعلم: أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الأِنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾، [سورة الأنعام آية: ١١٢]. وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: ﴿فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْمِ﴾، [سورة غافر آية: ٨٣].
فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى: ﴿ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الآية [سورة الأعراف آية: ٨٦].
فالواجب عليك: أن تعلم من دين الله، ما يصير لك

سلاحا، تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك ﷿: ﴿قالَ فَبِما أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ وعَنْ أيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ ولا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾ [سورة الأعراف الآيتان: ١٦-١٧].
ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته، فلا تخف، ولا تحزن، إن كيد الشيطان كان ضعيفا؛ والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين، كما قال تعالى: ﴿وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغالِبُونَ﴾، [سورة الصافات آية: ١٧٣]. فجند الله: هم الغالبون بالحجة، واللسان؛ كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان؛ وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق، وليس معه سلاح.
وقد من الله علينا بكتابه، الذي جعله: ﴿تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وهُدىً ورَحْمَةً وبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة النحل آية: ٨٩]؛ فلا يأتي صاحب باطل بحجة، إلا وفي القرآن ما ينقضها، ويبين بطلانها، كما قال تعالى: ﴿ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْناكَ بِالحَقِّ وأحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٣٣]. قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة، يأتي بها أهل الباطل، إلى يوم القيامة.
والحاصل: أن كل ما ذكر عنا من الأشياء، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان.
ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين: أني لما

بينت لهم كلام الله، وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ﴾ الآية [سورة الإسراء آية: ٥٧]. وقوله: ﴿ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾، [سورة يونس آية: ١٨]، وقوله: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾، [سورة الزمر آية: ٣]، وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾، الآية [سورة يونس آية: ٣١]. وغير ذلك، قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثالنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون.
قلت لهم: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كل: أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم. فلما أبوا ذلك، نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله، وذكرت كل ما قالوا، بعدما صرحت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، فلم يزدهم إلا نفورا.
وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر. وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك؛ وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم، إلا دون النفس والحرمة؛ وهم الذين أتونا في ديارنا؛ ولا أبقوا ممكنا، ولكن قد

نقاتل بعضهم، على سبيل المقابلة، وجزاء سيئة سيئة مثلها؛ وكذلك من جاهر بسب دين الرسول، بعد ما عرف، فإنا نبين لكم أن هذا هو الحق، الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء، والرجال.
فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه؛ فإن التائب من الذنب، كمن لا ذنب له؛ ونسأل الله أن يهدينا، وإياكم، لما يحبه ويرضاه.
(جواب الشيخ ابن عبد الوهاب لابن صياح، ورد مفتريات عليه)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان، المتبعين محمدا ﷺ أن ابن صياح سألني عما ينسب إلي؟ فطلب مني أن أكتب الجواب؛ فكتبته:
الحمد لله رب العالمين، أما بعد: فما ذكره المشركون على أني أنهى عن الصلاة على النبي، أو أني أقول: لو أن لي أمرا، هدمت قبة النبي ﷺ، أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهى عن محبتهم، فكل هذا كذب وبهتان، افتراه علي الشياطين، الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، الذين يأمرون الناس ينذرون لهم، وينخونهم، ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر
، وهو منهم بريء، كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة.

فلما رأوني: آمر الناس بما أمرهم به نبيهم ﷺ أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر، فهو كافر؛ وعبد القادر منه بريء، وكذلك من نخا الصالحين، أو الأنبياء، أو ندبهم، أو سجد لهم، أو نذر لهم، أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان، يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر، بل يقر به، ويعرفه.
وأما الذي ينكره، فهو بين أمرين، إن قال: إن دعوة الصالحين واستغاثتهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيرا لهم، أمر حسن، ولو ذكر الله ورسوله إنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام.
وإنما كلامنا مع رجل، يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل، قد لبست عليه الشياطين دينه؛ ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق؛ ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار، ما فعله؛ ونحن: نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم، أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه، والله سبحانه أنزل القرآن، وذكر فيه ما يحبه، ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا، وأكمل؛ وكذلك محمد ﷺ أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه؛ وهم يحبونه على أنفسهم، وأولادهم،

ويعرفون قدره، ويعرفون أيضا: الشرك، والإيمان.
فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي ﷺ قد دعاه، أو نذر له، أو ندبه، أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله، أو يندبه، أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا أمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري.
وإن كان إذا سألت وجدت أنه: ﷺ تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء، والصالحين، وقتلهم، وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم، فاعرف أن النبي ﷺ لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالحق؛ والواجب على كل مؤمن: اتباعه فيما جاء به.
وبالجملة: فالذي أنكره: الاعتقاد في غير الله، مما لا يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي، فارم به أو من كتاب لقيته، ليس عليه عمل، فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي، فارم به. وإن كنت قلته، عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب، فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه، لأجل أهل زمانه، أو أهل بلده، وأن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه.
واعلم: أن الأدلة على هذا، من كلام الله، وكلام رسوله، كثيرة، لكن: أنا أمثل لك بدليل واحد، ينبهك على غيره، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ

يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ} الآية [سورة الإسراء آية: ٥٦-٥٧].
ذكر المفسرون في تفسيرها: أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى، عليه السلام، وعزير، فقال تعالى: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي؛ ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
فيا عباد الله، تفكروا في كلام ربكم تبارك وتعالى، إذا كان ذكر عن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله ﷺ أن دينهم الذي كفرهم به، هو الاعتقاد في الصالحين؛ وإلا فالكفار يخافون الله، ويرجونه، ويحجون، ويتصدقون، ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين؛ وهم يقولون: إنما اعتقدنا فيهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا، كما قال تعالى: ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [سورة الزمر آية: ٣]. وقال تعالى: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [سورة يونس آية: ١٨].
فيا عباد الله إذا كان الله ذكر في كتابه، أن دين الكفار، هو: الاعتقاد في الصالحين، وذكر أنهم اعتقدوا فيهم، ودعوهم، وندبوهم، لأجل أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، هل بعد هذا البيان، بيان؟ فإذا كان من اعتقد في عيسى بن مريم، مع أنه نبي من الأنبياء، وندبه ونخاه ١ فقد


١ ند به، أي: استغاث به.

كفر، فكيف بمن يعتقدون في الشياطين، كالكلب: أبي حديدة، وعثمان، الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله؟!
وأنت يا من هداه الله: لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين، بل هؤلاء أعداء الصالحين؛ وأنت والله الذي تحب الصالحين؛ لأن من أحب قوما أطاعهم، فمن أحب الصالحين، وأطاعهم، لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم، فهو مثل النصارى الذين يدعون عيسى، ويزعمون محبته، وهو بريء منهم، ومثل الرافضة الذين يدعون علي بن أبي طالب، وهو بريء منهم.
ونختم هذا الكتاب بكلمة واحدة، وهي أن أقول: يا عباد الله، لا تطيعوني، ولا تفكروا؛ واسألوا أهل العلم من كل مذهب، عما قال الله ورسوله؛ وأنا أنصحكم: لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين، مثل الزنى، والسرقة، بل هو عبادة للأصنام، من فعله كفر، وتبرأ منه رسول الله ﷺ يا عباد الله تفكروا، وتذكروا، والسلام.

(بيان الشيخ ابن عبد الوهاب لعبد الرحمن السويدي وبيان عقيدته، ورد مفترياته)
وله أيضا:
تعالى، رسالة أرسلها إلى ابن السويدي، عالم من أهل العراق، سأله عما يقول الناس فيه، فأجابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ في الله: عبد الرحمن، بن عبد الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصل إلي كتابك، وسر الخاطر، جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين؛ وأخبرك أني - ولله الحمد - متبع، لست بمبتدع؛ عقيدتي، وديني الذي أدين الله به، هو: مذهب أهل السنة والجماعة، الذي عليه أئمة المسلمين، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، إلى يوم القيامة.
ولكنني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء، والأموات، من الصالحين وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به، من الذبح، والنذر، والتوكل، والسجود، وغير ذلك مما هو حق الله، الذي لا يشركه فيه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل؛ وهو الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم؛ وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.

وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة، هم الرافضة، الذين يدعون عليا وغيره، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ وأنا صاحب منصب في قريتي، مسموع الكلمة، فأنكر هذا بعض الرؤساء، لكونه خالف عادات نشؤوا عليها.
وأيضا: ألزمت من تحت يدي، بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا، وشرب المسكر، وأنواع المنكرات، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا، وعيبه، لكونه مستحسنا عند العوام؛ فجعلوا قدحهم وعداوتهم، فيما آمر به من التوحيد، وأنهى عنه من الشرك، ولبسوا على العوام: أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، ونسبوا إلينا أنواع المفتريات؛ فكبرت الفتنة، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان، ورجله.
فمنها: إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلا عن أن يفتريه.
ومنها: ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة. فيا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! وهل يقول هذا مسلم؟ إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراك؛ فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة.
وكذلك قولهم، إني أقول: لو أقدر على هدم قبة النبي ﷺ لهدمتها.
وأما دلائل الخيرات، وما قيل عني: أني حرقتها، فله

سبب، وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني: أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله، ولا يظن أن القراءة فيه أفضل من قراءة القرآن. وأما إحراقها، والنهي عن الصلاة على النبي ﷺ بأي لفظ كان، فنسبة هذا إلي من الزور والبهتان.
والحاصل: أن ما ذكر عني من الأسباب، غير دعوة الناس إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، فكله من البهتان؛ وهذا لو خفي على غيركم، فلا يخفى على حضرتكم. ولو أن رجلا من أهل بلدكم، ولو كان أحب الخلق إلى الناس، قام يلزم الناس الإخلاص، ويمنعهم من دعوة أهل القبور، وله أعداء وحساد، أشد منه رياسة، وأكثر اتباعا، وقاموا يرمونه بمثل هذه الأكاذيب، ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين، وأن دعوتهم من إجلالهم، واحترامهم، لعلمتم كيف يجري عليه.
ومع هذا، وأضعافه، فلا بد من الإيمان بما جاء به الرسول،
، ونصرته، كما أخذ الله على الأنبياء قبله، وأممهم، في قوله تعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾، [سورة آل عمران آية: ٨١]، فلما فرض الله الإيمان، لم يجز تركه.
وأنا أرجو أن الله يكرمك بنصر دينه، ونبيه، وذلك

على حسب الاستطاعة، ولو بالقلب، والدعاء، وقد قال ﷺ «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ١. فإن رأيت عرض كلامي هذا على من ظننت أنه يقبله من إخواننا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
ومن أعجب ما جرى، من بعض الرؤساء المخالفين، أني لما بينت لهم معنى كلام الله تعالى، وما ذكره أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ﴾ [سورة الإسراء آية: ٥٧]. وقوله تعالى: ﴿ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [سورة يونس آية: ١٨]. وقوله: ﴿ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [سورة الزمر آية: ٣]، وما ذكره الله، من إقرار الكفار في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ الآية [سورة يونس آية: ٣١]، وغير ذلك، قالوا: القرآن لا يجوز العمل به لنا، ولا مثلنا، ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نقبل إلا ما ذكره المتأخرون.
فقلت: أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية، والمالكي، والشافعي، والحنبلي، كلا أخاصمه بكتب المتأخرين من علماء مذهبه، الذين يعتمد عليهم؛ فلما أبوا ذلك، نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب، وذكرت ما قالوا، بعدما حدثت الدعوة عند القبور، والنذر لها، فعرفوا ذلك، وتحققوه، ولم يزدهم إلا نفورا.
وأما التكفير: فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما


١ البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٨)، ومسلم: الحج (١٣٣٧)، والنسائي: مناسك الحج (٢٦١٩)، وابن ماجه: المقدمة (٢)، وأحمد (٢/‏٣١٣،٢/‏٤٦٧،٢/‏٥٠٨).

عرف، سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة - ولله الحمد - ليسوا كذلك.
وأما القتال: فلم نقاتل أحدا إلا دون النفس، والحرمة؛ فإنا نقاتل على سبيل المقابلة ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [سورة الشورى آية: ٤٠]. وكذلك من جاهر بسب دين الرسول، بعدما عرفه، والسلام.
(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أهل المغرب في بيان التوحيد والشرك)
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، رسالة إلى أهل المغرب، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد: أن محمدا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله، فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله، فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا؛ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحانَ اللَّهِ وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾، [سورة يوسف آية: ١٠٨]. وقال تعالى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [سورة آل عمران آية: ٣١].

وقال تعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [سورة الحشر آية: ٧]، وقال تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا﴾ [سورة المائدة آية: ٣]. فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله ﷺ.
وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع، والتفرق، والاختلاف فقال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ﴾، [سورة الأعراف آية: ٣]، وقال تعالى: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة الأنعام آية: ١٥٣]. والرسول ﷺ قد أخبر: بأن «أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع» ١ وثبت في الصحيحين، وغيرهما عنه ﷺ أنه قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» ٢ وأخبر في الحديث الآخر: «أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ٣. إذا عرف هذا، فمعلوم ما قد عمت به البلوى، من حوادث الأمور، التي أعظمها الإشراك بالله، والتوجه إلى


١ البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٣١٩)، وابن ماجه: الفتن (٣٩٩٤)، وأحمد (٢/‏٣٢٥،٢/‏٣٣٦،٢/‏٣٦٧).
٢ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/‏٨٤،٣/‏٨٩).
٣ الترمذي: الإيمان (٢٦٤١).

الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد، وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله؛ وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى: ﴿فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ [سورة الزّمر الآيتان: ٢-٣]، فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه؛ وأخبر: أن المشركين يدعون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده. وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار؛ فكذبهم في هذه الدعوى، وكفرهم، فقال: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ [سورة الزمر آية: ٣]. وقال تعالى: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [سورة يونس آية: ١٨].
فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك بهم، وذلك أن

الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا﴾ [سورة الزمر آية: ٤٤]؛ فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ﴾ [سورة البقرة آية: ٢٥٥]. وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلاَّ مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾، [سورة طه آية ١٠٩]، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلاَّّّّ لِمَنِ ارْتَضى﴾ [سورة الأنبياء آية: ٢٨]. وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ وما لَهُمْ فِيهِما مِن شِرْكٍ وما لَهُ مِنهُمْ مِن ظَهِيرٍ ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلاَّ لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ [سورة سبأ الآيتان: ٢٢-٢٣].
فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ [سورة الجن آية: ١٨]. وقال: ﴿ولا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ فَإنْ فَعَلْتَ فَإنَّكَ إذًا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [سورة يونس آية: ١٠٦]. فإذا كان الرسول ﷺ وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل: «يأتي فيخر ساجدا فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة» ١ فكيف بغيره من الأنبياء، والأولياء؟!
وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح، من الصحابة


١ البخاري: تفسير القرآن (٤٤٧٦)، ومسلم: الإيمان (١٩٣)، وابن ماجه: الزهد (٤٣١٢)، وأحمد (٣/‏٢٤٧)، والدارمي: المقدمة (٥٢).

والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم، ودرج على منهجهم.
وأما ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء، الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم، ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادا، وجعل السدنة، والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور، التي أخبر بوقوعها النبي ﷺ وحذر منها، كما في الحديث عنه ﷺ أنه قال: «لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان». وهو ﷺ حمى جناب التوحيد، أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر،
وثبت فيه أيضا: «أنه بعث علي ابن أبي طالب
وأمره: أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه» ١، ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول ﷺ. فهذا هو الذي أوجب الاختلاف، بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر، إلى أن كفرونا، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا، وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم؛ وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة، من كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع السلف


١ مسلم: الجنائز (٩٦٩)، والترمذي: الجنائز (١٠٤٩)، والنسائي: الجنائز (٢٠٣١)، وأبو داود: الجنائز (٣٢١٨)، وأحمد (١/‏٩٦،١/‏١٢٨،١/‏١٤٥).

الصالح، من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [سورة الأنفال آية: ٣٩]. فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [سورة الحديد آية: ٢٥].
وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات، على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وأمَرُوا بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ولِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [سورة الحج آية: ٤١].
فهذا هو الذي نعتقد، وندين الله به، فمن عمل بذلك، فهو أخونا المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا.
ونعتقد أيضا أن أمة محمد ﷺ المتبعين لسنته، لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، وصلى الله على محمد.

(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى رئيس بادية الشام في بيان ما يدعو إليه)
وله أيضا:
تعالى، رسالة إلى فاضل، رئيس بادية الشام.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الشيخ: فاضل آل مزيد، زاده الله من الإيمان، وأعاذه من نزغات الشيطان.
أما بعد: فالسبب في المكاتبة: أن راشد بن عربان، ذكر لنا عنك كلاما حسنا، سر الخاطر، وذكر عنك أنك طالب مني المكاتبة، بسبب ما يجيئك من كلام العدوان ١ من الكذب، والبهتان، وهذا، هو: الواجب من مثلك، أنه لا يقبل كلاما إلا إذا تحققه.
وأنا أذكر لك أمرين، قبل أن أذكر لك صفة الدين؛ الأول: أني أذكر لمن خالفني، أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي ﷺ أمته، وأقول لهم: الكتب عندكم، انظروا فيها، ولا تأخذوا من كلامي شيئا؛ لكن إذا عرفتم كلام رسول الله ﷺ الذي في كتبكم، فاتبعوه، ولو خالفه أكثر الناس.


١ أي: الأعداء.

والأمر الثاني: أن هذا الأمر، الذي أنكروا علي، وأبغضوني، وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام، واليمن، أو غيرهم، يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أظهره في مكاني، لأجل أن الدولة ما يرضون؛ وابن عبد الوهاب أظهره، لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه. هذا كلام العلماء، وأظنه وصلك كلامهم.
فأنت تفكر في الأمر الأول، وهو قولي: لا تطيعوني، ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله ﷺ الذي في كتبكم، وتفكر في الأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به، لكن ما يقدر يظهره. فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله، واعلم أنه ما ينجيك إلا اتباع رسول الله ﷺ، والدنيا زائلة، والجنة والنار، ما ينبغي للعاقل أن ينساهما.
وصورة الأمر الصحيح، أني أقول: ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه: ﴿فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ [سورة الجن آية: ١٨]. وقال في حق النبي ﷺ: ﴿قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا رَشَدًا﴾ [سورة الجن آية: ٢١]. فهذا كلام الله، والذي ذكره لنا رسول الله ﷺ ووصانا به، ونهى الناس لا يدعونه. فلما ذكرت لهم: أن هذه المقامات، التي في الشام، والحرمين، وغيرها، أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين، والتعلق عليهم، هو الشرك

بالله الذي قال الله فيه: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٢]، فلما أظهرت هذا: أنكروه، وكبر عليهم؛ وقالوا: أجعلتنا مشركين؟ وهذا ليس إشراكا؛ هذا: كلامهم، وهذا كلامي، أسنده عن الله ورسوله؛ وهذا هو الذي بيني، وبينكم؛ فإن ذكر شيء غير هذا، فهو كذب، وبهتان؛ والذي يصدق كلامي هذا: أن العالم ما يقدر يظهره، حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق، ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة؛ وأنت - ولله الحمد - ما تخاف إلا الله، نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله، والله أعلم.

(رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى من تصل من المسلمين ونصيحته لهم أن يتعلموا دين الله)
وله أيضا: قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فاعلموا رحمكم الله، أن الله بعث محمدا ﷺ إلى الناس بشيرا ونذيرا؛ مبشرا لمن اتبعه بالجنة، ومنذرا لمن لا يتبعه عن النار؛ وقد علمتم: إقرار كل من له معرفة، أن التوحيد الذي بينا للناس، هو الذي أرسل الله به رسله، حتى إن كل مطوع ١ معاند يشهد بذلك، وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم، هو الشرك الذي قال الله فيه: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٢]. فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون: لو يتركون أهل العارض، التكفير والقتال، كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال، لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم، أنه دين الله ورسوله، أن تعلموه وتعملوا به، إن كنتم من أتباع محمد باطنا وظاهرا./١
أي: معلم، أو مرشد.

ج2.

ج2. الدرر

(رسالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي)
قال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الرحمن، آل فيصل، إلى جناب الأخوين المكرمين: الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي، وناصر الدين الحجازي، سلمهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإني أحمد إليكما الله، الذي لا إله إلا هو، على نعمه التي من أجلها: نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه، إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها؛ ونسأله أن يصلي على عبده، ورسوله، وحبيبه، وخيرته من خلقه، محمد، وآله وصحبه وحزبه.
وغير ذلك: ورد علينا ردكم على عبد القادر الإسكندراني، فرأيناه ردا سديدا، وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود؛ فحمدنا الله على ما من به عليكم، من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشائخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه؛ فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة، تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين، وشبه المارقين والملحدين؛ فلربنا الحمد لا نحصي

ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه.
وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان، التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة، من ينهى عن ذلك، أو يغيره؛ فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام، واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك، ويحذر عنه، خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم، من الكفر، والشرك، والبدع، والمنكرات الفظيعة؛ فالعالم بالحق، والعارف له، والمنكر للباطل، والمغير له، يعد بينهم وحيدا غريبا.
فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله، وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله، ونزلت به كتبه، من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا؛ فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات؛ لا سيما في هذا الزمان، الذي قل

خيره، وكثر شره، قال ﷺ «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء» ١ وقال لعلي بن أبي طالب : «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» ٢؛ ونحن إن شاء الله من أنصاركم، وأعوانكم.
ومن حسن توفيق الله لكم: أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق، وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك؛ واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام، لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله، فإن الحق منصور، وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه ٣ هدية نهديها إليكم، من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه، من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون؛ نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والهداية لأقوم منهج وطريق، والسلام.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وهو: كتاب التوحيد


١ مسلم: العلم (٢٦٧٤)، والترمذي: العلم (٢٦٧٤)، وأبو داود: السنة (٤٦٠٩)، وأحمد (٢/‏٣٩٧)، والدارمي: المقدمة (٥١٣).
٢ البخاري: الجهاد والسير (٣٠٠٩)، ومسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٦)، وأبو داود: العلم (٣٦٦١)، وأحمد (٥/‏٣٣٣).
٣ إشارة إلى كتاب: الهدية السنية، للشيخ سليمان بن سحمان، المطبوعة بمصر سنة ١٣٤٤ هـ.

المجلد الثاني: (كتاب التوحيد)
كتاب التوحيد

كتاب التّوحيد
بسم الله الرحمن الر حيم
كتاب التوحيد
[أربعة قواعد يتميز بها المسلم من المشرك]
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع له من الأفعال، المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال، أحمده سبحانه وأشكره إذ هدانا لدين الإسلام، وأزاح عنا شبه الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موحد له في الغدو والآصال.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، نبي جاءنا بدين قويم، فارتوينا مما جاءنا به من عذب زلال؛ اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه الذين هم خير صحب وآل، وسلم تسليما.
أما بعد: فقد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تنبغي مخالفتهم، أن أجمع مؤلفا يشتمل على مسائل أربع،

وقواعد أربع، يتميز بهن المسلم من المشرك.
الأولى: أن الذي خلقنا وصورنا لم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، معه كتاب من ربنا، فمن أطاع فهو في الجنة، ومن عصى فهو في النار، والدليل قوله تعالى: ﴿إنّا أرْسَلْنا إلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِدًا عَلَيْكُمْ كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [سورة المزمل آية: ١٥]، وقال تعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها ولَهُ عَذابٌ مُهِينٌ [سورة النساء آية: ١٣»١٤].
الثانية: أنه سبحانه ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات آية: ٥٦]، وقال: ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [سورة البينة آية: ٥].
الثالثة: أنه إذا دخل الشرك في عبادتك، بطلت ولم تقبل؛ وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى: ﴿ولَقَدْ أُوحِيَ إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [سورة الزمر آية: ٦٥]، وقال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [سورة النساء آية: ١١٦]، وقال تعالى: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٢].

ومن نوع هذا الشرك: أن يعتقد الإنسان في غير الله: من نجم، أو إنسان أو نبي، أو صالح، أو كاهن، أو ساحر، أو نبات، أو حيوان، أو غير ذلك، أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة، فقد قال الله تعالى: ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ [سورة فاطر آية: ٢]، وقال تعالى: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ وإنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رادَّ لِفَضْلِهِ﴾ [سورة يونس آية: ١٠٧].
فإذا تبين في القلب أنه
﷿ بهذه الصفة، وجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ٥١].
وقال تعالى موبخا لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وعزير، عليهما السلام، لما أنزل الله عليهم القحط والجوع: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا﴾ [سورة الإسراء آية: ٥٦»٥٧].
وقال تعالى لنبيه:ﷺ ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [سورة الكهف آية: ١١٠]، وقال تعالى: {قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلّا ما شاءَ اللَّهُ ولَوْ

كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أنا إلّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: ١٨٨].
ومن نوع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله، فقد قال الله تعالى: ﴿فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [سورة هود آية: ١٢٣]، وقال تعالى: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾ [سورة الفرقان آية: ٥٨]، وقال تعالى: ﴿وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ [سورة آل عمران آية: ١٢٢]، وقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [سورة المائدة آية: ٣]، إلى قوله: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [سورة المائدة آية: ٣]، وقال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [سورة الكوثر آية: ٢]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام آية: ١٦٢].
ومن نوع هذا الشرك: تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [سورة التوبة آية: ٣١]، وقال عدي بن حاتم، «يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال رسول الله ﷺ: أما أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم؟ وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى؛ قال: فتلك عبادتهم» وأحبارهم ورهبانهم: علماؤهم وعبادهم؛ وذلك أنهم اتخذوهم أربابا، وهم لا يعتقدون ربوبيتهم، بل يقولون: ربنا وربهم الله، ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم

الله، وتحريم ما أحل الله، وجعل الله ذلك عبادة. فمن أطاع إنسانا عالما، أو عابدا، أو غيره، في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، واعتقد ذلك بقلبه، فقد اتخذه ربا، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ومن ذلك: «أن أناسا من المشركين، قالوا: يا محمد، الميتة من قتلها؟ قال: الله؛ قالوا: كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالا وقتل الله حراما؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وإنْ أطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ ١»).
ومن نوع هذا الشرك: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة، أو الصحبة، أو الولاية، وشد الرحال إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك؛ فتارة يسألونه وتارة: يسألون الله عنده؛ وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره.
ولما كان هذا بدء الشرك، سد النبي ﷺ هذا الباب؛ ففي الصحيحين أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»٢، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: (ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا).
وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني»٣ وقال ﷺ: "لعن الله زائرات


١ النسائي: الضحايا (٤٤٣٧)، وأبو داود: الضحايا (٢٨١٩).
٢ البخاري: الجنائز (١٣٩٠)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٣١)، والنسائي: المساجد (٧٠٣)، وأحمد (١/‏٢١٨،٦/‏٣٤،٦/‏١٢١،٦/‏١٤٦،٦/‏٢٥٥)، والدارمي: الصلاة (١٤٠٣).
٣ أبو داود: المناسك (٢٠٤٢)، وأحمد (٢/‏٣٦٧).

القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج»١ وفي الموطأ عنه ﷺ أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد»٢.
وفي صحيح مسلم عن علي، قال: «بعثني رسول الله ﷺ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا أدع تمثالا إلا طمسته»٣، فأمر بمسح التماثيل من الصور الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا أو بهذا.
«وبلغ عمر
أن قوما يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي ﷺ أصحابه تحتها، فأمر بقطعها»، «وأرسل إليه أبو موسى: أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف، فيه أخبار ما سيكون، وفيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا جدبوا، كشفوا عن القبر، فمطروا. فأرسل إليه عمر، يأمره أن يحفر في النهار ثلاثة عشر قبرا، ويدفنه بالليل بواحد منها، لئلا يعرفه الناس، فيفتنون به».
واتخاذ القبور مساجد مما حرم الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجد، ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرما، لم يكن من ذلك شيء على عهد الصحابة والتابعين.
وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة، لا أحد يدخلها، ولا تشد الصحابة الرحال إليه، ولا إلى غيره من المقابر، ففي الصحيحين عنه ﷺ


١ الترمذي: الصلاة (٣٢٠)، والنسائي: الجنائز (٢٠٤٣)، وأبو داود: الجنائز (٣٢٣٦)، وأحمد (١/‏٢٢٩،١/‏٢٨٧،١/‏٣٢٤).
٢ مالك: النداء للصلاة (٤١٦).
٣ مسلم: الجنائز (٩٦٩)، والترمذي: الجنائز (١٠٤٩)، والنسائي: الجنائز (٢٠٣١)، وأبو داود: الجنائز (٣٢١٨)، وأحمد (١/‏٩٦).-=ج3=

فقال : اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:ج3
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [سورة النساء آية: ٤٨]، ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْواهُ النّارُ وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ [سورة المائدة آية: ٧٢]، ومنه: الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي ﷺ أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت، على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول ﷺ ولو عمل به، كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ أبِاللَّهِ وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ [سورة التوبة آية: ٦٥].
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف. فمن فعله أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى: ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [سورة البقرة آية: ١٠٢].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {ومَن يَتَوَلَّهُمْ مِنكُمْ فَإنَّهُ مِنهُمْ إنَّ اللَّهَ لا

يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: ٥١].
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْها إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [سورة السجدة آية: ٢٢]. ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. انتهى.
[جواب الشيخ سليمان عن الفرق بين التوحيد العلمي والإرادي]
وسئل الشيخ سليمان بن سحمان
: عن الفرق بين التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي؟
فأجاب: الفرق بينهما "الأول: هو توحيد الأسماء والصفات والثاني: هو توحيد الإلهية. ثم وجدت لابن القيم
ما لفظه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه. وتكليمه، لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع حد الإفصاح، كما

في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص، بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: ما تضمنته سورة: ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ [سورة الكافرون آية: ١]، و﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ الآية [سورة آل عمران آية: ٦٤]، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس، ووسطها، وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن، فهي متضمنة لنوعي التوحيد.
بل نقول قولا كليا: إن كل آية في القرآن، فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري؛ وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، إلى آخر كلامه
تعالى.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الثاني، ويليه: الجزء الثالث، كتاب الأسماء والصفات.

المجلد الثالث: (كتاب الأسماء والصفات)
كتاب الأسماء والصفات

قال الحبر الحجة الثقة، الإمام الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين، محيي السنة في العالمين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الثواب.
بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فقد وصل كتابك تطلب شيئا من معنى كتاب المويس، الذي أرسل لأهل الوشم، وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه، فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك، من غير مجازفة، بل أنا مقتصر، فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار؛ وذلك أن كتابه مشتمل على الكلام، في ثلاثة أنواع من العلوم: الأول: علم الأسماء والصفات الذي يسمى: علم أصول الدين؛ ويسمى أيضا: العقائد، والثاني: الكلام على التوحيد والشرك، والثالث: الاقتداء بأهل العلم، واتباع الأدلة، وترك ذلك.

أما الأول: فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال: ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض؛ وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين، إحداهما: أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه الثانية: أنه لم يفهم صورة المسألة، وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف، أنهم لا يتكلمون في هذا النوع، إلا بما تكلم الله به ورسوله، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، أثبتوه، مثل: الفوقية، والاستواء، والكلام، والمجيء، وغير ذلك، وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله، نفوه، مثل: المثل، والند، والسمي، وغير ذلك.
وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والعرض، والجهة، وغير ذلك، لا يثبتونه؛ فمن نفاه، مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه، فهو عند أحمد والسلف مبتدع؛ ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره، فهو عندهم مبتدع؛ والواجب عندهم: السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي ﷺ وأصحابه؛ هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس، أنه قال: لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي ﷺ فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده؛ ومثله في ذلك كمثل حنفي، يقول: الماء الكثير، ولو بلغ قلتين، ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير، فإذا سئل عن الدليل، قال قوله ﷺ «الماء طهور لا ينجسه شيء»١، فيستدل


١ الترمذي: الطهارة (٦٦)، وأبو داود: الطهارة (٦٦).

بدليل خصمه؛ فهل يقول هذا من يفهم ما يقول؟ وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة.
قال الشيخ تقي الدين - بعد كلام له على من قال: إنه ليس بجوهر، ولا عرض، ككلام صاحب الخطبة - قال
: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ: الجوهر، والجسم، والتحيز، والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ؛ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي ﷺ بإنكار ذلك؛ وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود: أن الأئمة، كأحمد وغيره، لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، لم يوافقوهم، لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
إذا تدبرت هذا، عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه، على الخطيب الكلام في هذا، هو عين الصواب؛ وقد اتبعا في ذلك إمامهما أحمد بن حنبل وغيره، في إنكارهم ذلك على المبتدعة، ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك، وأن الله جسم، وكذا وكذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا

جوهر، ولا كذا ولا كذا؛ وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت؛ من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه، فالذي يقول: ليس بجسم، ولا، ولا، هم الجهمية، والمعتزلة؛ والذين يثبتون ذلك هو: هشام وأصحابه؛ والسلف بريئون من الجميع، من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه.
فالمويس لم يفهم كلام الأحياء، ولا كلام الأموات، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة، مذهب السلف؛ وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات، كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك: استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم؛ ومن كلام أبي الوفاء ابن عقيل قال: أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا، ما عرفا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم، خير لك من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت، انتهى.
وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم، بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما، مثل أبي بكر وعمر، فهو عنده على مذهب هشام الرافضي؛ فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر، أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحبه أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع.

وقوله في الكتاب: ومذهب أهل السنة: إثبات من غير تعطيل، ولا تجسيم، ولا كيف، ولا أين، إلى آخره؛ وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة، ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة؛ وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه، اتباعا لرسول الله ﷺ كما في الصحيح أنه قال للجارية: «أين الله؟» فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة؛ وأن إنكارها مذهب أهل السنة، كما قيل، وعكسه بعكسه. وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه؛ فغلط عليهم في إثباته؛ وأما التعطيل والكيف، فصدق في ذلك، فجمع لكم أربعة ألفاظ، نصفها حق من عقيدة الحق، ونصفها باطل من عقيدة الباطل، وساقها مساقا واحدا، وزعم: أنه مذهب أهل السنة؛ فجهل وتناقض.
وقوله أيضا: ويثبتون ما أثبته الرسول ﷺ من السمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام، إلى آخره، وهذا أيضا من أعجب جهله؛ وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة، يثبتون الصفات السبع، وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله، ويؤلونه؛ وأما أهل السنة، فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه؛ وذلك صفات كثيرة، لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة، وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل.
إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه: الأول: أنه =ج4.=

 ج4. الدرر

على غيره؛ والسحاب يبسط أسفل منه، وينْزل منه المطر، والشمس فوقه … إلى أن قال: وكذلك المطر، معروف عند السلف والخلف، أن الله تبارك وتعالى يخلقه من الهواء، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا، كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، فهذا معرفته بالمادة التي خلق منها.
ونفس المادة لا توجب ما خلق منها، باتفاق العقلاء؛ بل لا بد من ما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه؛ وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم … إلى أن قال: على قوله تعالى: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ﴾ [سورة السجدة آية: ٢٧] فهذه الآية يستدل بها على علم الخالق، وقدرته، ومشيئته، وحكمته، وإثبات المادة التي خلق منها المطر، والشجر، والإنسان، والحيوان، مما يدل على حكمته، ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق، إلا من مادة. انتهى كلامه.
قال في الصواعق: الوجه الثامن: أن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات: إنزال مطلق، كقوله: ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾ فأطلق الإنزال، ولم يذكر مبدأه، وقوله: ﴿وأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعامِ ثَمانِيَةَ أزْواجٍ﴾ [سورة الزمر آية: ٦] الثانية: الإنزال من السماء، كقوله: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُورًا﴾ [سورة الفرقان آية: ٤٨] الثالثة: إنزال منه سبحانه، كقوله: ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [سورة الزمر آية: ١].

وقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ﴾ [سورة النحل آية: ١٠٢] الآية، وقال: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ﴾ [سورة الأنعام آية: ١١٤].
فأخبر: أن القرآن منزل منه، والمطر نزل من السماء، والحديد والأنعام، منزلان نزولا مطلقا، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، حيث قالوا: إن كون القرآن منزلا، لا يمنع أن يكون مخلوقا، كالماء، والحديد، والأنعام، حتى غلا بعضهم، فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا، وقال: الإنزال بمعنى الخلق، وجوابه: أن الله سبحانه فرق بين النّزول منه، والنّزول من السماء، فجعل القرآن منزلا منه، والمطر منزلا من السماء، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف.
والمضاف إليه سبحانه نوعان: أحدهما: أعيان قائمة بأنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف، الثاني: إضافة صفة إلى موصوفها، كسمعه، وبصره، وحياته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، ووجهه، ويده … إلخ. وإنما أطلنا النقل، لأنك قد تفهم منه شيئا لم يظهر لنا.
وراجعنا حاشية على المصابيح قوله: «حديث عهد بربه» أي: قريب العهد من عند ربه، لم يخالطه ما يغسل به الأيدي الظالمة، والأكف العادية.

وقال في الهدى، بعد قوله: «هذا حديث عهد بربه»١ قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي ﷺ كان إذا سال السيل، قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا، فنتطهر منه، ونحمد الله عليه» وأخبرنا من لا أتهم، عن إسحاق بن عبد الله: «أن عمر كان إذا سال السيل، ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلا تمسحنا به». انتهى من هديه ﷺ في الاستسقاء.
والذي نفهم: أن الإنزال، والخلق، من صفات الأفعال من غير إشكال، فإن كان مقصود النووي: تأويل صفات الأفعال، فلا شك في بطلانه، وإن كان مقصوده: بيان أن المطر جديد الخلق، مع قطع النظر عن التعرض لصفات الرب، فلم يظهر لنا في ذلك منع؛ والذي فهمنا من كلامكم: أن النووي متعرض لتأويل صفات الأفعال، وهذا لا شك في بطلانه؛ وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع: كتاب العبادات


١ مسلم: صلاة الاستسقاء (٨٩٨)، وأبو داود: الأدب (٥١٠٠)، وأحمد (٣/‏١٣٣،٣/‏٢٦٧).

المجلد الرابع: (القسم الأول من كتاب العبادات)
*
فصل: في أصول مأخذهم

فصل في أصول مأخذهم أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها
قال شيح الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
هذه أربع قواعد، من قواعد الدين، التي تدور الأحكام عليها، وهي: من أعظم ما أنعم الله به على محمد ﷺ وأمته، حيث جعل دينهم دينًا كاملًا وافيًا، أكمل وأكثر علمًا من جميع الأديان؛ ومع ذلك، جمعه لهم في لفظ قليل، وهذا مما ينبغي التفطن له، قبل معرفة القواعد الأربع، وهو أن تعلم قول النبي ﷺ لما ذكر ما خصه الله به على الرسل، يريد منا أن نعرف منة الله علينا، ونشكرها. قال لما ذكر الخصائص: «وأُعطيت جوامع الكلم» ١، قال إمام الحجاز، محمد بن شهاب الزهري: معناه: أن يجمع الله له المسائل الكثيرة، في الألفاظ القليلة.
القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ إلى قوله: ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة الأعراف آية: ٣٣].


١ البخاري: الجهاد والسير (٢٩٧٧)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٢٣)، والنسائي: الجهاد (٣٠٨٧، ٣٠٨٩)، وأحمد (٢/‏٢٦٤، ٢/‏٢٦٨، ٢/‏٣١٤).

القاعدة الثانية: أن كل شيء سكت عنه الشارع، فهو عفو، لا يحل لأحد أن يحرمه، أو يوجبه، أو يستحبه، أو يكرهه، لقوله تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإنْ تَسْألوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفا اللَّهُ عَنْها﴾ [سورة المائدة آية: ١٠١]. وقال النبي ﷺ: «وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها».
القاعدة الثالثة: أن ترك الدليل الواضح، والاستدلال بلفظ متشابه، هو طريق أهل الزيغ، كالرافضة والخوارج، قال الله تعالى: ﴿فَأمّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ [سورة آل عمران آية: ٧]. والواجب على المسلم: اتباع المحكم؛ فإن عرف معنى المتشابه، وجده لا يخالف المحكم بل يوافقه، وإلا فالواجب عليه اتباع الراسخين في العلم في قولهم: ﴿آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ [سورة آل عمران آية: ٧].
القاعدة الرابعة: أن النبي ﷺ ذكر أن: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات» ١؛ فمن لم يفطن لهذه القاعدة، وأراد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل، فقد ضل وأضل.
فهذه أربع قواعد، ثلاث ذكرها الله في كتابه، والرابعة ذكرها رسول الله ﷺ.
واعلم رحمك الله، أن أربع هذه الكلمات، مع اختصارها، يدور عليها الدين، سواء كان المتكلم يتكلم في علم التفسير، أو في علم الأصول، أو في علم أعمال


١ البخاري: الإيمان (٥٢)، ومسلم: المساقاة (١٥٩٩)، والترمذي: البيوع (١٢٠٥)، والنسائي: البيوع (٤٤٥٣) والأشربة (٥٧١٠)، وأبو داود: البيوع (٣٣٢٩)، وابن ماجة: الفتن (٣٩٨٤)، وأحمد (٤/‏٢٦٩، ٤/‏٢٧٠)، والدارمي: البيوع (٢٥٣١).

القلوب الذي يسمى: علم السلوك، أو في علم الحديث، أو في علم الحلال والحرام والأحكام، الذي يسمى: علم الفقه، أو في علم الوعد والوعيد، أو في غير ذلك من أنواع علوم الدين. أنا أمثل لك مثلًا، تعرف به صحة ما قلته، وتحتذى عليه إن فهمته، وأمثله لك في فن من فنون الدين، وهو علم الفقه، وأجعله كله في باب واحد منه، وهو الباب الأول. قلت: يأتي في باب ١ الطهارة إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا: ومن أعظم ما منّ الله به عليه ﷺ وعلى أمته: إعطاء جوامع الكلم: فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة، تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصر؛ وكذلك رسول الله ﷺ، فقد خصه الله بالحكمة الجامعة؛ ومن فهم هذه المسألة فهمًا جيدًا فهم قول الله تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [سورة المائدة آية: ٣]. وهذه الكلمة أيضًا من جوامع الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة، فعُلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله ﷺ وأصحابه، كما أوصانا به في قوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» ٢.


١ أي: في باب المياه، من كتاب الطهارة صفحة: ١٣٥.
٢ أبو داود: السنة (٤٦٠٧)، والدارمي: المقدمة (٩٥).

وتفهم أيضًا: معنى قوله تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ [سورة النساء آية: ٥٩]. فإذا كان الله سبحانه قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي: إلى كتاب الله، وإلى الرسول ﷺ أي: إلى سنته، علمنا قطعا: أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع الناس فيه، وجد فيهما ما يفصل النّزاع.
وقال أيضًا: إذا اختلف كلام أحمد، وكلام الأصحاب، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله وإلى رسوله، لا إلى كلام أحمد، ولا إلى كلام الأصحاب، ولا إلى الراجح من ذلك؛ بل قد يكون الراجح والمرجح من الروايتين والقولين خطأ قطعًا، وقد يكون صوابًا؛ وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل، فالأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل الصواب يصدق بعضه بعضًا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: إما يستدل بحديث لم يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهومًا مخطئًا؛ وبالجملة: فمتى رأيت الاختلاف، فرده إلى الله والرسول؛ فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين لك، واحتجت إلى العمل، فخذ بقول من تثق بعلمه ودينه.
وأما قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة؛ فإن أراد القائل مسائل الخلاف، فهذا باطل يخالف إجماع الأمة؛ فما زال الصحابة

ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائنًا من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم. وإذا كان الله بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه، وينكر عليه.
وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفًا لمذهبه أو لعادة الناس؛ فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكر إلا بعلم؛ وهذا كله داخل في قوله تعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [سورة الإسراء آية: ٣٦]. وأما قول من قال: اتفاق العلماء حجة، فليس المراد الأئمة الأربعة، بل إجماع الأمة كلهم، وهم علماء الأمة.
وأما قولهم: اختلافهم رحمة، فهذا باطل؛ بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، كما قال تعالى: ﴿ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [سورة هود آية: ١١٨-١١٩]. ولما سمع عمرُ ابنَ مسعود، وأُبَيًّا اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر، وقال: «اثنان من أصحاب رسول الله ﷺ، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي هذا، إلا فعلت وفعلت»؛ لكن قد روي عن بعض التابعين، أنه قال: ما أحسب اختلاف =من ج5- يأتي بمشيئة الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج9 كتاب الترغيب والترهيب للمنذري{من5655 الي 5766.}

  ج9 كتاب الترغيب والترهيب من الحديث الشريف عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية...