المحتويات
المقدمة
أول الكتاب
القسم الأول:
القسم الثاني:
نزهة الأسماع في مسألة السماع-لابن رجب الحنبلي
أول الكتاب
الحمد لله رب العالمين رب يسر يا كريم قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ المتقن المحقق زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى:
سئلت عن السماع المحدث وما يتضمنه من سماع الغناء وآلآت اللهو هل هو محظور أم لا وهل ورد في حظره دليل صريح أم لا وعن سماعه من المرأة الأجنبية وعمن يفعله قربة وديانة، فأجبت والله الموفق:
هذه المسائل قد انتشر فيها من الناس المقال وكثر القيل فيها والقال وصنف الناس فيها تصانيف مفردة وذكرت في أثناء التصانيف ضمنا وتكلم فيها أنواع الطوائف من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ثم منهم من يميل إلى الرخصة ومنهم من يميل إلى المنع والشدة.
واستيفاء الكلام في ذلك يستدعي تطويلا كثيرا ولكن سنشير إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه إلى نكت مختصرة وجيزة ضابطة لكثر من مقاصد هذه المسائل ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شر أنفسنا وأن يجعل قصدنا بذلك بيان الحق الذي بعث به رسوله وأن يزيد المهتدي منا ومن إخواننا المسلمين هدى وأن يراجع بالمسىء إلى الحق الذي يرتضيه في خير وعافية بمنه ورحمته آمين
فنقول سماع الغناء وآلآت الملاهي على قسمين فإنه تارة يقع ذلك على وجه اللعب واللهو وإبلاغ النفوس حظوظها من الشهوات واللذات وتارة يقع على وجه التقرب إلى الله عز و جل باستجلاب صلاح القلوب وإزالة قسوتها وتحصيل رقتها:
القسم الأول:
أن يقع على وجه اللعب واللهو فأكثر العلماء على تحريم ذلك أعني سماع الغناء وسماع آلآت الملاهي كلها وكل منها محرم بانفراده وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العلماء على ذلك والمراد بالغناء المحرم ما كان من الشعر الرقيق الذي فيه تشبيب بالنساء ونحوه مما توصف فيه محاسن من تهيج الطباع بسماع وصف محاسنه فهذا هو الغناء المنهي عنه وبذلك فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية وغيرهما من الأئمة.
فهذا الشعر إذا لحن وأخرج بتلحينه على وجه يزعج القلوب ويخرجها عن الاعتدال ويحرك الهوى الكامن المجبول في طباع البشر فهو الغناء المنهي عنه فإن أنشد هذا الشعر على غير وجه التلحين فإن كان محركا للهوى بنفسه فهو محرم أيضا لتحريكه الهوى وإن لم يسم غناء فأما ما لم يكن فيه شيء من ذلك فإنه ليس بمحرم وإن سمي غناء وعلى هذا حمل الإمام أحمد حديث عائشة رضي الله عنها في الرخصة في غناء نساء الأنصار وقال هو غناء الركبان أتيناكم أتيناكم يشير إلى أنه ليس فيه ما يهيج الطباع إلى الهوى.
ويشهد لذلك حديث عائشة أن الجاريتين اللتين كانتا عندها كانتا تغنيان بما تقاولت به الأنصار رضي الله عنهم يوم بعاث وعلى مثله يحمل كل حديث ورد في الرخصة في الغناء كحديث الحبشية التي نذرت أن تضرب بالدف في مقدم النبي صلى الله عليه و سلم وما أشبهه من الأحاديث ويدل عليه أيضا ما في صحيح البخاري عن الربيع بنت معوذ قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة بنى بي فجلس على فراشي وجويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إلى أن قالت جارية منهن وفينا نبي يعلم ما في غد فقال لها أمسكي عن هذه وقولي التي كنت تقولين قبلها.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه أن النبي ﷺ قال لعائشة: (أهديتم الجارية إلى بيتها، قالت: نعم، قال: فهلا بعثتم معها من يغنيهم يقول: أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم، فإن الأنصار قوم فيهم عزل).
وعلى مثل ذلك أيضا حمل طوائف من العلماء قول من رخص في الغناء من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وقالوا إنما أرادوا الأشعار التي لا تتضمن ما يهيج الطباع إلى الهوى وقريب من ذلك الحداء وليس في شيء من ذلك ما يحرك النفوس إلى شهواتها المحرمة.
ولنذكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة والآثار من تحريم الغناء وآلآت اللهو:
فأما تحريم الغناء فقد أستنبط من القرآن من آيات متعددة فمن ذلك قول الله عز و جل {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "هو والله الغناء"، وقال ابن عباس: "هو الغناء وأشباهه" وفسره أيضا بالغناء خلق من التابعين منهم مجاهد وعكرمة والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي وغيرهم.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} قال: "الغناء والمزامير".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {وأنتم سامدون} قال: "هو الغناء بالحميرية".
وقال بعض التابعين في قوله تعالى {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} قال: "إن اللغو هنا الغناء".
وعن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} الآية) خرجه الإمام أحمد والترمذي من رواية عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة وقال قد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي وذكر في كتاب العلل أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال علي بن يزيد ذاهب الحديث ووثق عبيد الله بن زحر والقاسم بن عبد الرحمن وخرجه محمد بن يحيى الهمذاني الحافظ الفقيه الشافعي في صحيحه وقال عبيد الله بن زحر قال أبو زرعة لا بأس به صدوق. قلت علي بن يزيد لم يتفقوا على ضعفه بل قال فيه أبو مسهر وهو من بلده وهو أعلم بأهل بلده من غيرهم قال فيه ما أعلم فيه إلا خيرا وقال ابن عدي هو في نفسه صالح إلا أن يروي عنه ضعيف فيؤتى من قبل ذلك الضعيف وهذا الحديث قد رواه عنه غير واحد من الثقات.
وقد خرج الإمام أحمد من رواية فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: (إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والبرابط والمعازف والأوثان) وذكر بقية الحديث وفي آخره (ولا يحل بيعهن ولا شراؤهن وتعليمهن وتجارة فيهن وثمنهن حرام) يعني الضاربات، وفرج بن فضالة مختلف فيه أيضا ووثقه الإمام أحمد وغيره.
وخرج الاسماعيلي وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (ثمن المغنية حرام وغناؤها حرام) وإسناده كلهم ثقات متفق عليهم سوى يزيد بن عبد الملك النوفلي فإنه مختلف في أمره وخرج حديثه هذا محمد بن يحيى الهمذاني في صحيحه وقال في النفس من يزيد بن عبد الملك مع أن ابن معين قال ما كان به بأس وبوب الهمذاني هذا في صحيحه على تحريم بيع المغنيات وشرائهن وهو من أصحاب ابن خزيمة وكان عالماً بأنواع العلوم وهو أول من أظهر مذهب الشافعي بهمذان واجتهد في ذلك بماله ونفسه وكان وفاته سنة سبع وأربعين وثلاثمائة رحمه الله تعالى.
وخرج في باب تحريم ثمن المغنية من رواية أبي نعيم الحلبي عن ابن المبارك عن مالك عن ابن المنكدر عن أنس عن النبي ﷺ قال: (من قعد إلى قينة يستمع منها صب في أذنيه الآنك يوم القيامة) وقال أبو نعيم الحلبي أسمه عبيد بن هشام قلت قد وثقه أبو داود وقال إنه تغير بآخره وقد أنكر عليه أحاديث تفرد بها منها هذا الحديث.
وفي النهي عن بيع المغنيات أحاديث آخر عن علي و عائشة رضي الله عنهما وغيرهما وفي أسانيدها مقال.
وروى عامر بن سعد البجلي قال: (دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس فإذا جواري يتغنين فقلت: أنتم أصحاب محمد وأهل بدر ويفعل هذا عندكم، قال: اجلس إن شئت واسمع وإن شئت فإذهب فإنه قد رخص لنا في اللهو عند العرس). خرجه النسائي والحاكم وقال صحيح على شرطهما والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس.
ويدل عليه قول النبي ﷺ في حديث عائشة المتفق عليه في الصحيحين لما دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتدفان فانتهرهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: (مزمور الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله ﷺ: دعهما فإنها أيام عيد) فلم ينكر قول أبي بكر رضي الله عنه وإنما علل الرخصة بكونه في يوم عيد فدل على أنه يباح في أيام السرور كأيام العيد وأيام الأفراح كالأعراس وقدوم الغياب ما لا يباح في غيرها من اللهو.
وإنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل وغناؤهم بإنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم وما أشبه ذلك فمن قاس على ذلك سماع أشعار الغزل مع الدفوف المصلصلة فقد أخطأ غاية الخطا وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) وقد روي عنه مرفوعاً، خرجه أبو داود في بعض نسخ السنن وخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي وغيرهما وفي إسناد المرفوع من لا يعرف والموقوف أشبه.
وأما تحريم آلات الملاهي فقد تقدم عن مجاهد أنه أدخلها في صوت الشيطان المذكور في قول الله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك وتقدم أيضا حديث أبي أمامة في ذلك.
وقال البخاري في صحيحه: (وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا عطية بن قيس حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع رسول الله ﷺ يقول ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم الفقير لحاجة فيقولوا إرجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة).
هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به والأقرب أنه مسند فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري وقد قيل إن البخاري إذا قال في صحيحه قال فلان ولم يصرح بروايته عنه وكان قد سمع منه فإنه يكون قد أخذه عنه عرضا أو مناولة أو مذاكرة وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندا والله أعلم.
وخرجه البيهقي من طريق الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار فذكره. فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار.
وخرج أبو داود هذا الحديث مختصرا بإسناد متصل إلى عبد الرحمن بن جابر بهذا الإسناد فقال: (حدثنا عبد الوهاب بن نجده حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس) فذكره وقال: (يستحلون الخز) كذا عنده الخز بالخاء والزاي المعجمتين، وفي باب لباس الخز خرجه والمعروف في رواية البخاري الحر بالحاء والراء المخففة المهملتين ومعناه الفرج.
وقد رواه معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن النبي ﷺ قال: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) خرجه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه وعنده والقينات وخرج أبو داود أول الحديث ولم يتمه.
وروى فرقد السبخي حدثني عاصم بن عمرو البجلي عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: (تبيت طائفة من أمتي على أكل ولهو وشرب ثم يصبحون قردة وخنازير وتبعث على حي من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم باستحلالهم الخمور وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات) خرجه الإمام أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم كذا قال وفرقد لم يخرج له مسلم وقد وثقه ابن معين وغيره وكان رجلا صالحا لكن كان مشتغلا عن الحديث بالعبادة ففي حفظه شىء فحديثه يصلح للاستشهاد والاعتضاد.
وخرج الترمذي معنى هذا الحديث من حديث عمران بن حصين عن النبي ﷺ وخرج الترمذي في المعنى أيضا من حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة عن النبي ﷺ وقال في كل واحد من الثلاثة غريب.
وقد روي في هذا المعنى أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه و سلم من رواية ابن مسعود وسلمان وعبادة بن الصامت وأنس وأبي سعيد وابن عمر وسهل بن سعد وعبد الله بن بسر وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم ولا تخلوا أسانيدهم من مقال لكن تقوى بانضمام بعضها إلى بعض ويعضد بعضها بعضا وقد ذكر البيهقي أنها شواهد لحديث أبي مالك الأشعري المبدوء بذكره.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لوفد عبد القيس: (إن الله حرم علي أو حرم الخمر والميسر والكوبة) قال والكوبة الطبل كذا فسره بعض رواة الحديث.
وخرج أحمد وأبو داود أيضا من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ نهى عن الخمر والميسر والكوبة. قال الإمام أحمد: أكره الطبل وهو الكوبة نهى عنه رسول الله ﷺ.
وروى ليث بن أبي سليم الكوفي عن مجاهد قال: (كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما فسمع صوت طبل فأدخل إصبعيه في أذنيه ثم تنحى حتى فعل ذلك ثلاث مرات ثم قال هكذا فعل رسول الله ﷺ) خرجه ابن ماجة.
وروى ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر عن النبي ﷺ قال: (نهيت عن صوتين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب، وصوت عند نعمة ولعب ولهو ومزامير شيطان). خرجه وكيع بن الجراح في كتابه عن ابن أبي ليلى به وخرج الترمذي أوله ولم يتمه وقال في الحديث كلام أكثر من هذا يشير إلى أن باقي الحديث لم يذكره، وعنده (صوتين أحمقين فاجرين) وقال حديث حسن. وابن أبي ليلى إمام صدوق جليل القدر لكن في حفظه شىء وربما اختلف عنه في الأسانيد.
وقد روى هذا الحديث عنه عن عطاء عن جابر عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي ﷺ كذلك خرجه البزار في مسنده وغيره وروي هذا المعنى عن النبي ﷺ من رواية شبيب بن بشر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم وشبيب وثقه ابن معين وغيره.
وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمارة فوضع إصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: (أتسمع يا نافع؟ فأقول: نعم، حتى قلت: لا، فرفع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله ﷺ سمع زمارة راع فصنع مثل هذا) وهذا الحديث يرويه سليمان بن موسى الفقيه الدمشقي عن نافع وقد أختلفوا في سليمان فوثقه قوم وتكلم آخرون وتابعه عليه المطعم بن المقدام فرواه عن نافع أيضا. أخرج حديثه أبو داود والمطعم هذا ثقة جليل القدر وتابعهما أيضا ميمون بن مهران عن نافع خرج حديثه أبو داود أيضا وروي أيضا عن مالك وعبد الله العمري عن نافع إلا أنه لا يثبت عنهما. فإن قيل قد قال أبو داود هذا حديث منكر قيل هذا يوجد في بعض نسخ السنن مع الإقتصار على رواية سليمان بن موسى ولا يوجد في بعضهما وكأنه قاله قبل أن يتبين له أن سليمان بن موسى توبع عليه فلما تبين له أنه توبع عليه رجع عنه، وقد قيل للإمام أحمد هذا الحديث منكر فلم يصرح بذلك ولم يوافق عليه واستدل الإمام أحمد بهذا الحديث وإنما لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه لأنه لم يكن مستمعا بل سامعا والسامع من غير استماع لا يوصف فعله بالتحريم لأنه عن غير قصده منه وإن كان الأولى له سد أذنيه حتى لا يسمع ومعلوم أن زمارة الراعي لا تهيج الطباع للهوى فيكف حال ما يهيج الطباع ويغيرها ويدعوها إلى المعاصي، كماقال طائفة من السلف: "الغناء رقية الزنا".
ومن سمع شيئا من الملاهي وهو مار في الطريق أو جالس فقام عند سماعه فالأولى له أن يدخل أصبعيه في أذنيه كما في هذا الحديث، وكذلك روي عن طائفة من التابعين أنهم فعلوه، وليس ذلك بلازم. وإن استمر جالسا وقصد الاستماع كان محرماً، وإن لم يقصد الاستماع بل قصد غيره كالأكل من الوليمة أو غير ذلك فهو محرم أيضا عند أصحابنا وغيرهم من العلماء، وخالف فيه طائفة من الفقهاء.
فإن قيل: فلو كان سماع الزمارة محرما لأنكره النبي صلى الله عليه و سلم على من فعله ولم يكتف بسد أذنيه فيحمل ذلك على كراهة التنزيه وقد نقل ابن عبد الحكم هذا المعنى بعينه عن الشافعي رحمه الله كما ذكره الأبري في كتاب مناقب الشافعي رضي الله عنه، قيل: الشافعي رحمه الله لا يبيح استماع آلآت الملاهى وابن عبد الحكم ينفرد عن الشافعى بما لا يوافقه عليه غيره كما نقل عنه في الوطء في المحل المكروه وأنكره عليه العلماء فإن كان هذا محفوظا عن الشافعي فإنما أراد به أن زمارة الراعي بخصوصها لا يبلغ سماعها إلى درجة التحريم فإنه لا طرب فيها بخلاف المزامير المطربة كالشبابات الموصلة وقد أشار إلى ذلك الخطابي وغيره من العلماء.
وقد سبق حديث عائشة رضي الله عنها وقول أبي بكر رضي الله عنه مزمور الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد فدل على أن الدف من مزامير الشيطان لكنه يرخص فيه للنساء في أيام الأفراح والسرور كما يرخص لهن في التحلي بالذهب والحرير دون الرجال ويباح للرجال من الحرير اليسير دون الكثير وكذلك من حلي الفضة فكذلك يباح للنساء في أيام الأفراح الغناء بالدف وإن سمع ذلك الرجال تبعا وهذا مذهب فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما وهو قول الأوزاعي وغيره وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقد كان طائفة من الكوفيين من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ومن بعدهم لا يرخصون في شيء من ذلك بحال فأما الغناء المرخص فيه فليس هو الغزل المهيج للطباع بل هو غناء الركبان ونحوه كما قاله الإمام أحمد وغيره وقد كان خالد بن معدان وهو من أعيان التابعين يأمر بناته ونسائه إذا ضربن بالدف أن بتغنين بذكر الله عز و جل.
وإنما يباح الدف إذا لم يكن فيه جلجل ونحوه مما يصوت عند أكثر العلماء نص عليه الإمام أحمد وغيره من العلماء كما كانت دفوف العرب على عهد النبي صلى الله عليه و سلم وقد رخص في هذا الدف طائفة من متأخري أصحابنا مطلقا في العرس وغيره للنساء دون الرجال.
وأما الآثار الموقوفة عن السلف في تحريم الغناء وآلآت اللهو فكثيرة جداً:
روى ابن أبي حاتم وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: في التوراة إن الله عز و جل أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب و والزفن والمزمار والمزاهر والكنارات. وخرجه أبو عبيد في كتابه غريب الحديث، وقال: المزاهر واحدهما مزهر وهو العود الذي يضرب به، وأما الكنارات فيقال إنها العيدان أيضا ويقال بل الدفوف.
وروى زيد بن الحباب عن أبي مودود المدني عن عطاء بن يسار عن كعب قال: إن مما أنزل الله على موسى عليه السلام فذكره بنحو ما ذكره عبد الله بن عمرو، قال زيد: سألت أبا مودود ما المزامير؟ قال: الدفوف المربعة، قلت: ما النكارات؟ قال: الطنابير.
وروى ابن أبي الدنيا من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع أن ابن عمر مر عليه قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا سمع الله لكم ألا لا سمع الله لكم.
ومن طريق عبد الله بن دينار قال: مر ابن عمر رضي الله عنهما بجارية صغيرة تغنى فقال لو ترك الشيطان أحدا ترك هذه.
وقد تقدم عن ابن مسعود أنه قال الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
وعنه أيضا أنه قال: إذا ركب الإنسان الدابة ولم يسم ردفه الشيطان فقال له الشيطان تغنه فإن لم يحسن قال له تمنه.
وصح عن عثمان رضي الله تعالى عنه الله عنه أنه قال ما تغنيت ولا تمنيت.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام المزمار حرام خرجه البيهقي.
وخرج أيضا بإسناد صحيح عن عائشة أن بنات أخيها خفضن فألمن ذلك فقيل لها: يا أم المؤمنين ألا ندعوا لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى. فأرسلوا إلى فلان المغني فأتاهم فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا وكان ذا شعر كثير فقالت عائشة: أف، شيطان أخرجوه فاخرجوه.
فهذا هو الثابت عن الصحابة رضى الله عنهم أعنى ذم الغناء وآلآت اللهو.
وقد روى ما يوهم الرخصة عن بعضهم وليس بمخالف لهذا فإن الرخصة إنما وردت عنهم في إنشاد أشعار الأعراب على طريق الحداء ونحوه مما لا محذور فيه كما خرج البيهقي من طريق الزهري قال قال السائب بن يزيد بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه في طريق الحج ونحن نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن بن عوف الطريق ثم قال لرباح بن المعترف غننا يا أبا حسان وكان النصب فبينا رباح يغنيهم أدركهم عمر بن الخطاب في خلافته فقال ما هذا فقال عبد الرحمن يا أمير المؤمنين ما بأس بهذا نلهو ويقصر عنا فقال عمر رضى الله عنه فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب وضرار رجل من بنى محارب بن قهر. قال البيهقي والنصب ضرب من أغاني العرب وهو يشبه الحداء قاله أبو عبيد الهروي.
قال وروينا فيه قصة أخرى عن خوات بن جبير عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح في كتاب الحج قال فيها خوات فمازلت اغنيهم حتى إذا كان السحر.
وروى أيضا بإسناد صحيح عن أسامة بن زيد رضى الله عنه أنه كان في مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم مضجعا رافعا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى بالنصب.
وعن أبي مسعود الأنصاري وغيره من المهاجرين والأنصار أنهم كانوا يتغنون بالنصب.
فتبين بهذه الروايات أن ترخص الصحابة رضى الله عنهم إنما كان في إنشاد شعر الجاهلية وفيه من الحكم وغيرها على طريق الحداء ونحوه مما لا يهيج الطباع إلى الهوى ولهذا كانوا يفعلونه في مسجد المدينة ولم يكن في شيء من ذلك غزل ولا تشبيب بالنساء ولا وصف محاسنهن ولا وصف خمر ونحوه مما حرمه الله تعالى.
وقال ابن جريج سألنا عطاء عن الغناء بالشعر فقال لا أرى به بأسا ما لم يكن فحشا.
وهذا يشير إلى ما ذكرناه وعلى مثل ذلك يحمل ماروي فيه عن عروة بن الزبير وغيره من التابعين من الرخصة.
وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما تكره من الشعر قال الهجا والشعر الرقيق الذي يشبب بالنساء وأما الكلام الجاهلي فما انفعه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن من الشعر لحكمة.
قال إسحاق بن راهويه كما قال وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يسمع شعر حسان وغيره واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت فمن استدل بشيء من ذلك على إباحة الغناء المذموم فقد غلط.
وقد روي المنع من الغناء عن خلق من التابعين فمن بعدهم حتى قال الشعبي لعن المغني والمغنى له.
وكان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو من أعلام علماء التابعين وأحد الخلفاء الراشدين المهديين يبالغ في إنكار الغناء والملاهي ويذكر أنها بدعة في الاسلام وكفى بأمير المؤمنين قدوة وقد كان من هو أسن منه من التابعين يقتدون به في الدين حتى سئل بن سيرين عن بعض الأشربة فقال نهى عنه عمر بن عبد العزيز وهو إمام هدى.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن جل جلاله فإن بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت النبت الماء.
وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي في كتابه اختلاف العلماء اتفاق العلماء على النهي عن الغناء إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهذا في الغناء دون سماع آلآت الملاهي فإنه لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها إنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به.
ومن حكى شيئا من ذلك عن مالك فقد أبطل إلا أن مالكا يرى أن الدف والكبر أخف من غيرهما من الملاهي فلا يرجع لأجلهما من دعي إلى وليمة فرأى فيها شيئا من ذلك.
وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال سألت مالك بن أنس عما يترخص في أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق وكذا قال إبراهيم بن المنذر الحزامي وهو من علماء أهل المدينة فتبين بهذا موافقة علماء أهل المدينة المعتبرين لعلماء سائر الأمصار في النهي عن الغناء وذمه ومنهم القاسم بن محمد وغيره كما هو قول علماء أهل مكة كمجاهد وعطاء وعلماء أهل الشام كمكحول والأوزاعي وعلماء أهل مصر كالليث بن سعد وعلماء أهل الكوفة كالثوري وأبي حنيفة ومن قبلهما كالشعبي والنخعي وحماد ومن قبلهم من التابعين أصحاب ابن مسعود وقول الحسن وعلماء أهل البصرة وهو قول فقهاء أهل الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم وكان الأوزاعي يعد قول من رخص في الغناء من أهل المدينة من زلات العلماء التي يؤمر باجتنابها وينهى عن الاقتداء بها.
وقد صنف القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي رحمه الله مصنفا في ذم السماع وافتتحه بأقوال العلماء في ذمه وبدأ بقول الشافعي رحمه الله "هو لهو مكروه يشبه الباطل" وقوله "من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته". قال أبو الطيب وأما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم له فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز بحال سواء كانت مكشوفة أو من وراء حجاب وسواء كانت حرة أو مملوكة قال الشافعي وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ثم غلظ القول فيه وقال هو دياثة ثم ذكر بعد ذلك قول فقهاء الأمصار ثم قال: "فقد أجمع علماء الأمصار على كراهته والمنع منه" قال وإنما فارق الجماعة هذان الرجلان إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (عليكم بالسواد الأعظم) وقال: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) فالمصير إلى قول الجماعة أولى.
وهذا الخلاف الذي ذكره في سماع الغناء المجرد فأما سماع آلات اللهو فلم يحك في تحريمه خلاف وقال إن استباحتها فسق قال وإنما يكون الشعر غناء إن لحن وصيغ صيغة تورث الطرب وتزعج القلب وتثير الشهوة الطبيعية فأما الشعر من غير تلحين فهو كلام كما قال الشافعي الشعر كلام حسنة كحسنة وقبيحه كقبيحه انتهى.
وقد أفتى قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي الشافعي وكان أحد العلماء الصالحين الزهاد الحاكمين بالعدل وكان يقال عنه لو رفع مذهب الشافعي من الأرض لأملاه من صدره بتحريم الغناء وهذه صورة فتياه بحروفها قال: "لا يجوز الضرب بالقضيب ولا الغناء ولا سماعه ومن أضاف هذا إلى الشافعي فقد كذب عليه وقد نص الشافعي في كتاب أدب القضاء أن الرجل إذا داوم على سماع الغناء ردت شهادته وبطلت عدالته وقال الله تعالى {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} قال ابن عباس: معناه تغنون بلغة حمير وقال الله عزوجل: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} جاء في التفسير أنه الغناء والاستماع إليه. وروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: (إن الله كره صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعمة وصوت عند مصيبة يريد بذلك الغناء والنوح) وقال ابن مسعود: الغناء خطبة الزنا، وقال مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل والله أعلم" هذا جواب محمد بن المظفر الشامي الشافعي ثم كتب بعده موافقة له على فتياه جماعة من أعيان فقهاء بغداد من الشافعية والحنفية والحنبلية في ذلك الزمان وهو عصر الأربع مئة وهذا يخالف قول كثير من الشافعية في حمل كلام الشافعي على كراهة التنزيه.
والمعنى المقتضي لتحريم الغناء أن النفوس مجبولة على حب الشهوات كما قال تعالى {زين للناس حب الشهوات من النساء} الآية فجعل النساء أول الشهوات المزينة والغناء المشتمل على وصف ما جبلت النفوس على حبه والشغف به من الصور الجميلة يثير ما كمن في النفوس من تلك المحبة ويشوق إليها ويحرك الطبع ويزعجه ويخرجه عن الإعتدال ويؤزه إلى المعاصي ولهذا قيل إنه رقية الزن.
وقد افتتن بسماع الغناء خلق كثير فأخرجهم استماعه إلى العشق وفتنوا في دينهم فلو لم يرد نص صريح في تحريم الغناء بالشعر الذي توصف فيه الصور الجميلة لكان محرما بالقياس على النظر إلى الصور الجميلة التي يحرم النظر إليها بالشهوة بالكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من علماء الأمه فإن الفتنة كما تحصل بالنظر والمشاهدة فكذلك تحصل بسماع الأوصاف واجتلائها من الشعر الموزون المحرك للشهوات ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن تصف المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها لما يخشى من ذلك من الفتنة وقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم زنا العينين النظر وزنا الأذنين الاستماع وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: "ثلاث فاتنات مفتنات يكببن في النار رجل ذو صورة حسنة فاتن مفتون به يكب في النار ورجل ذو شعر حسن فاتن مفتون به يكب في النار ورجل ذو صوت حسن فاتن مفتون به يكب في النار" خرجه حميد بن زنجويه في كتاب الأدب.
القسم الثاني:
أن يقع استماع الغناء بآلآت اللهو أو بدونها على وجه التقرب إلى الله تعالى وتحريك القلوب إلى محبته والأنس به والشوق إلى لقائه وهذا هو الذي يدعيه كثير من أهل السلوك ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم وانما يتستر بهم ويتوصل بذلك إلى بلوغ غرض نفسه من نيل لذته فهذا المتشبه بهم مخادع ملبس وفساد حاله أظهر من أن يخفى على أحد وأما الصادقون في دعواهم ذلك وقليل ما هم فإنهم ملبوس عليهم حيث تقربوا إلى الله عزوجل بما لم يشرعه الله تعالى واتخذوا دينا لم يأذن الله فيه فلهم نصيب ممن قال الله تعالى فيه {وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء وتصديه} والمكاء الصفير والتصدية التصفيق باليد كذلك قاله غير واحد من السلف وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله} فإنه إنما يتقرب إلى الله عز و جل بما يشرع التقرب به إليه على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم فأما ما نهى عنه فالتقرب به إليه مضادة لله عز و جل في أمره. قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع "اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع المسلمين فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينا وطاعة ولا رأى إعلانه في المساجد والجوامع وحيث كان من البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة وكان مذهب هذه الطائفة مخالفا لما اجتمعت عليه العلماء ونعوذ بالله من سوء التوفيق" انتهى ماذكره.
ولا ريب أن التقرب إلى الله تعالى بسماع الغناء الملحن لا سيما مع آلآت اللهو مما يعلم الضرورة من دين الإسلام بل ومن سائر شرائع المسلمين أنه ليس مما يتقرب به إلى الله ولا مما تزكى به النفوس وتطهر به فإن الله تعالى شرع على السنه الرسل كل ما تزكو به النفوس وتطهر به من أدناسها وأوضارها ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل شيئا من ذلك وإنما يأمر بتزكية النفوس بذلك من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة كما يأمرون بعشق الصور وذلك كله مما تحيى به النفوس الأمارة بالسوء لما لها فيه من الحظ ويقوى به الهوى وتموت به القلوب المتصلة بعلام الغيوب وتبعد به عنه فغلط هؤلاء واشتبه عليهم حظوظ النفوس وشهواتها بأقوات القلوب الطاهرة والأرواح الزكية المعلقة بالمحل الأعلى واشتبه الأمر في ذلك أيضا على طوائف من المسلمين ممن ينتسب إلى السلوك ولكن هذا مما حدث في الإسلام بعد انقراض القرون الفاضلة.
وكان قد حدث قبل ذلك حدثان: أحدهما قراءة القرآن بالألحان بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته على طريقة أصحاب الموسيقى فرخص فيه بعض المتقدمين إذا قصد به الاستعانة على إيصال معاني القرآن إلى القلوب للتحزين والتشويق والتخويف والترقيق وأنكر ذلك اكثر العلماء ومنهم من حكاه إجماعا ولم يثبت فيه نزاعا منهم أبو عبيد وغيره من الأئمة، وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيج الطباع وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن لا بقراءة الألحان وبينهما بون بعيد وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب بيان الاستغناء بالقرآن في تحصيل العلم والايمان.
والحدث الثاني: سماع القصائد الرقيقة المتضمنة للزهد والتخويف والتشويق فكان كثير من أهل السلوك والعبادة يستمعون ذلك وربما أنشدوها بنوع من الألحان استجلابا لترقيق القلوب بها ثم صار منهم من يضرب مع إنشادها على جلد ونحوه بقضيب ونحوه وكانوا يسمون ذلك التغبير وقد كرهه أكثر العلماء قال يزيد بن هارون: ما يغبر الا فاسق ومتى كان التغبير؟ وصح عن الشافعي من رواية الحسن بن عبد العزيز الجروي ويونس بن عبد الأعلي أنه قال: تركت بالعراق شيئا يسمونه التغبير وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن. وكرهه الامام أحمد وقال: هو بدعة محدث، قيل له: إنه يرقق القلب، قال: بدعة. ومن أصحابنا من حكى عنه رواية أخرى في الرخصة في سماع القصائد المجردة وهي اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز وجماعة من التميميين وهؤلاء يحكى عنهم الرخصة أيضا في الغناء وإنما أرادوا سماع هذه القصائد الزهدية المرققة لم يرخصوا في أكثر من ذلك. وذكروا أن الإمام أحمد سمع في منزل ابنه صالح من وراء الباب منشدا ينشد أبياتا من هذه الزهديات ولم ينكر ذلك لكن لم يكن مع إنشادها تغبير ولا ضرب بقضيب ولا غيره.
وفي تحريم الضرب بالقضيب وكراهته وجهان لأصحابنا فإنه لا يطرب كما يطرب سماع آلآت الملاهي وقد روي أيضا سماع القصائد الزهدية عن يزيد بن هارون وعن يحيى بن معين وأبي خيثمة وعلى مثل ذلك أيضا يحمل ما نقله الربيع وابن عبد الحكم عن الشافعي في الرخصة في التغبير وأنه أراد بذلك سماع الأبيات الزهدية المرققة للقلوب المقتضية للتحزين والتشويق الترقيق إما مع ضرب بقضيب أو بدونه ولعل الشافعي كره سماع القصائد مع الضرب بالقضيب ورخص فيه بدونه فلا يكون له في ذلك قولان مختلفان بل يكونان منزلان على حالين وكذلك يزيد بن هارون وعلى مثل ذلك أيضا يحمل عامة ماروي عن المتقدمين من الصوفية وغيرهم في الترخص في السماع والغناء فإن غناءهم وسماعهم كان لا يزيد على سماع هذه القصائد إلا الضرب بالقضيب معها أحيانا.
فاذا كان الشافعي رحمه الله قد أنكر الضرب بالقضيب وجعله من فعل الزنادقة الصادين عن القرآن فكيف يكون قوله في آلآت اللهو المطربة وإن كان قد وقع في سماع ذلك طائفة من الصالحين والصادقين بتأويل ضعيف فلهم أسوة بكثير من العلماء الذين شذوا عن أهل العلم بأقاويل ضعيفة ولم يقدح ذلك في منازلهم ولم يخرجهم عن دائرة العلم والدين فكذلك هؤلاء لا يخرجون عن دائرة الصلاح وإن كان الجميع لا يتبعون في زلاتهم ولا يقتدى بهم فيها.
وقول الشافعي إن الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن يدل على أن الإصرار على سماع الشعر الملحن مع الضرب بقضيب ونحوه يقتضي شغف النفوس بذلك وتعلقها به ونفرتها عن سماع القرآن أو عن استجلاب ثمرات القرآن وفوائده وإصلاح القلوب به وهذا ظاهر بين فإن من كان وجده من سماع الأبيات لا يكاد يجد رقة ولا حلاوة عند سماع الآيات فإذا كان هذا حال من أدمن سماع الأبيات الزهدية بالتلحين فكيف يكون حال من أدمن سماع أشعار الغزل المتضمن لوصف الخمور والقدود والخدود والثغور والشعور مع ذكر الهوى ولواعج الأشواق والمحبة والغرام والاشتياق وذكر الهجر والوصال والتجني والصدود والدلال وكان هذا كله مع آلآت الملاهي المطربة المزعجة للنفوس المثيرة للوجد المحركة للهوى لا سيما إن كان المغني ممن تميل النفوس إلى صورته وصوته ووجد السماع حلاوته وذوقه وطرب قلبه في ذلك فإن هذا كما قال ابن مسعود ينبت النفاق في القلب ولا يكاد يبقى معه من الإيمان إلا القليل وصاحبه في غاية من البعد عن الله والانحجاب عنه.
فإن ادعى من يسمع ذلك أن نفسه ماتت وهواه فني وأنه انما يشير بما يسمعه إلى معرفة الله ومحبته وخشيته فهو بمنزلة من ينظر إلى الصور الجميلة المفتنة ويدعي أن نفسه ماتت وأنه إنما ينظر إليها يعتبر ويستدل بحسن الصنعة وكمالها على عظمة صانعها وكماله وكل ذلك محرم بلا ريب وأكثر من يدعي ذلك كاذب في داعواه ومنهم من هو ملبوس عليه يشتبه عليه حظ نفسه وهواه بحظ روحه وقلبه أو يختلط له الأمران فيجتمعان له جميعا وهو يظن أن حظ نفسه وهواه فني وليس كذلك.
وقد سئل أبو علي الروذباري وهو من أكابر مشايخ الصوفية وأهل العلم منهم عن من يسمع الملاهي ويقول هي لي حلال لأني وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال فقال: "نعم قد وصل لعمري ولكن إلى سقر" وسئل أيضا عن السماع فقال: "ليتنا خلصنا منه رأسا برأس"
قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله قال بعضهم إنا لا نسمع الغناء بالطبع الذي يشترك فيه الخاص والعام قال: "والجواب أن هذا تجاهل منه عظيم لأمرين أحدهما أنه يلزمه على قوله أن يستبيح سماع العود والطنبور وسائر الملاهي ويسمع ذلك كله بالطبع الذي لا يشاركه فيه أحد فإن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله من حيث ادعى أن بعض الملاهي يؤثر وبعضها لا يؤثر في هذا الطبع الذي قد اختص به وإن استباحه فقد فسق، والثاني أن هذا المدعي لا يخلو إما أن يدعي أنه فارق طبع البشر وصار مطبوعا على العقل والبصيرة بمنزلة الملائكة فإن قال ذلك فقد تحرض على طبعه وكذب الله في تركيبه وادعى بذلك العصمة مع مقارنة الفتنة و وجب أن لا يكون مجاهدا لنفسه ولا مجانبا لهواه وطبعه ولا يكون له ثواب على ترك اللذات والشهوات وهذا لا يقوله عاقل وإن قال أنا على طبع البشر المجبول على محبة الهوى والشهوة قلنا له فكيف يصح أن تسمع الغناء المطرب بغير طبعك أو تطرب بسماعه بغير ما في جبلتك وإلى غير ماغرز في نفسك" وذكر بقية الكلام وقال في آخره: "وبلغني أن هذه الطائفة تضيف إلى السماع النظر في وجه الأمرد وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الايمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم" ثم أطال الكلام في الرد عليهم ثم قال: "وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناه من سماع الغناء والنظر إلى وجوه الملاح بعد تناول الألوان الطيبة والمآكل الشهية فاذا شبعت منها نفوسهم طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص والاستمتاع بالنظر إلى وجوه المرد ولو نظروا فيما ذكر من التقلل من الغذاء وما فيه من المجاهدة دون الشهوات لأخذوه بقدر ولم يحنوا إلى سماع ونظر" وذكر بقية الكلام.
وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من العلماء الإجماع على تحريم السماع المعتاد في هذه الأزمان على وجهه المعتاد قال: "و من نسب إباحته إلى أحد من العلماء يجوز الاقتداء به في الدين فقد أخطأ وما جاء عن بعض المشايخ من استباحته ففي غير هذا السماع وبشروط شرطوها غير موجودة في هذا السماع.
ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا فما ترك شيئا مما يقرب منه ومن دار كرامته إلا و أرشدنا إليه ولا شيئا يباعد عنه وعن دار كرامته إلا وزجزنا عنه ولما كان الادمي مركبا من جسد وروح ولكل منهما غذاء يتغذى به فكما أن الجسد يتغذى بالطعام والشراب ويلتذ بالنكاح وتوابعه وبما يشمه ويسمعه فكذلك الروح لها غذاء تتغذى به هو قوتها فاذا فقدته مرضت أعظم من مرض الجسد بفقد غذائه ومتى كان الجسد سقيما فإنه لا يلتذ بما يتغذى به ولا يميل إلى ما ينفعه بل ربما مال إلى ما يضره فكذلك القلب والروح إذا مرض فإنه لا يستلذ بغذائه ولا يميل إليه بل يميل إلى ما يضره ولا قوت للقلب والروح ولا غذاء لهما سوى معرفة الله تعالى ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه فيترتب على هذه المعرفة خشيته وتعظيمه وإجلاله والأنس به والمحبة له والشوق إلى لقائه والرضا بقضائه فمتى سكن ذلك في القلب كان القلب حيا سليما وهذا هو القلب السليم الذي لا ينفع يوم لقاء الله غيره ومتى فقد القلب ذلك بالكلية صار ميتا فإن فقد بعضه كان سقيما بحسب مافقده لا سيما إن اعتاض عما فقده من ذلك بما يضاده ويخالفه.
وإذا علم هذا فإن الله تعالى أمر عباده في كتابه وعلى لسان رسوله بجميع ما يصلح قلوب عباده ويقربها منه ونهاهم عما ينافي ذلك ويضاده ولما كانت الروح تقوى بما تسمعه من الحكمة والموعظة الحسنة وتحيى بذلك شرع الله لعباده سماع ما تقوى به قلوبهم وتتغذى وتزداد ايمانا فتارة يكون ذلك فرضا عليهم كسماع القرآن والذكر والموعظة يوم الجمعة في الخطبة والصلاة وكسماع القرآن في الصلوات الجهرية من المكتوبات وتارة يكون ذلك مندوبا إليه غير مفترض كمجالس الذكر المندوب اليها فهذا السماع حاد يحدوا قلب المؤمن إلى الوصول إلى ربه يسوقه ويشوقه إلى قربه وقد مدح الله المؤمنين بوجود مزيد أحوالهم بهذا السماع وذم من لا يجد منه ما يجدونه فقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} وقال {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} {الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال {ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} قال ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين خرجه مسلم وفي رواية أخرى قال فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا. وعن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنه من نزول القران بهذه الآية.
فهذه الآية تتضمن توبيخا وعتابا لمن سمع هذا السماع ولم يحدث له في قلبه صلاحا ورقة وخشوعا فإن هذا الكتاب المسموع يشتمل على نهاية المطلوب وغاية ماتصلح به القلوب وتنجذب به الأرواح المعلقة بالمحل الأعلى إلى حض6رة المحبوب فيحيى بذلك القلب بعد مماته ويجتمع بعد شتاته وتزول قسوته بتدبرخطابه وسماع آياته فإن القلوب إذا أيقنت بعظمة ما سمعت وأستشعرت شرف نسبة هذا القول إلى قائله أذعنت وخضعت فإذا تدبرت ما احتوى عليه من المراد ووعت اندكت من مهابة الله وإجلاله وخشعت.
فإذا هطل عليها وابل الإيمان من سحب القرآن أخذت ماوسعت فإذا بذر فيها القرآن من حقائق العرفان وسقاه ماء الإيمان أنبتت مازرعت وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها.
ومتى فقدت القلوب غذاءها وكانت جاهلة به طلبت العوض من غيره فتغذت به فازداد سقمها بفقدها ما ينفعها والتعوض بما يضرها فاذا سقمت مالت إلى ما فيه ضررها ولم تجد طعم غذائها الذي فيه نفعها فتعوضت عن سماع الآيات بسماع الأبيات وعن تدبر معاني التنزيل بسماع الأصوات.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم وفي حديث مرسل إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل فما جلاؤها قال تلاوة كتاب الله وفي حديث آخر مرسل أن النبي ﷺ خطب بعدما قدم المدينة فقال: (إن أحسن الحديث كتاب الله قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم)
وقال ميمون بن مهران: إن هذا القرآن قد خلق في صدور كثير من الناس والتمسوا حديثا غيره وهو ربيع قلوب المؤمنين وهو غض جديد في قلوبهم.
وقال محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين حيث ما حلوا منه حلوا في نزهة.
وقال مالك بن دينار: يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم فإن القرآن ربيع المؤمنين كما أن الغيث ربيع الأرض فقد ينزل الغيث من السماء الى الأرض فيصيب الحش فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم أين أصحاب سورة أين أصحاب سورتين ماذا عملتم فيهما.
وقال الحسن تفقدوا الحلاوة في الصلاة وفي القرآن وفي الذكر فان وجدتموها فامضوا وأبشروا وإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق. إسمع يا من لايجد الحلاوة في سماع الآيات ويجدها في سماع الأبيات في حديث مرفوع من أشتاق إلى الجنة فليسمع كلام الله كان داود الطائي يترنم بالآية في الليل فيرى من سمعه أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه.
قال أحمد بن أبي الحواري: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية فيحار فيها عقلي وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الله أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجاة به لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا.
قال ابن مسعود لا يسأل أحد عن نفسه غير القرآن فمن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله.
قال سهل التستري: علامة حب الله حب القرآن.
وقال أبو سعيد الخراز: من أحب الله أحب كلام الله ولم يشبع من تلاوته.
ويروى عن معاذ قال سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت فيقرءونه لا يجدون له شهوة.
وعن حذيفة قال يوشك أن يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ويقرأ الناس القرآن لا يجدون له حلاوة.
وعن أبي العالية قال سيأتي على الناس زمان تخرب فيه صدورهم من القرآن وتبلى كما تبلى ثيابهم وتهافت فلا يجدون له حلاوة ولا لذاذة.
قال أبو محمد الجريري -وهو من أكابر مشايخ الصوفية-: من استولت عليه النفس صار أسيرا في حكم الشهوات محصورا في سجن الهوى فحرم الله على قلبه الفوائد فلا يستلذ بكلامه ولا يستحليه وإن كثر ترداده على لسانه.
وذكر عند بعض العارفين أصحاب القصائد فقال: هؤلاء الفرارون من الله عز و جل لو ناصحوا الله وصدقوه لأفادهم في سرائرهم ما يشغلهم عن كثرة التلاقي.
واعلم أن سماع الأغاني يضاد سماع القرآن من كل وجه فإن القرآن كلام الله ووحيه ونوره الذي أحيا الله به القلوب الميتة وأخرج العباد به من الظلمات إلى النور، والأغاني وآلآتها مزامير الشيطان فإن الشيطان قرآنه الشعر ومؤذنه المزمار ومصائده النساء؛ كذا قال قتادة وغيره من السلف وقد روي ذلك مرفوعا من رواية عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي ﷺ وقد سبق ذكر هذا الإسناد.
والقرآن تذكر فيه اسماء الله وصفاته وأفعاله وقدرته وعظمته وكبرياؤه وجلاله ووعده ووعيده والأغاني إنما يذكر فيها صفات الخمر والصور المحرمة الجميلة ظاهرها المستقذر باطنها التي كانت ترابا وتعود ترابا فمن نزل صفاتها على صفات من {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فقد شبه ومرق من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية.
وقد رئي بعض مشايخ القوم في النوم بعد موته فسئل عن حاله فقال أوقفني بين يديه ووبخني وقال كنت تسمع وتقيسني بسعدى ولبنى. وقد ذكر هذا المنام أبو طالب المكي في كتاب قوت القلوب.
وإن ذكر في شيء من الأغاني التوحيد فغالبه من يسوق ظاهره إلى الإلحاد من الحلول والإتحاد وإن ذكر شيء من الإيمان والمحبة أو توابع ذلك فإنما يعبر عنه بأسماء قبيحة كالخمر وأوعيته ومواطنه وآثاره ويذكر فيه الوصل والهجر والصدود والتجني فيطرب بذلك السامعون وكأنهم يشيرون إلى أن الله تعالى يفعل مع عباده المحبين له المتقربين إليه كما يذكرونه فيبعد ممن يتقرب إليه ويصد عمن يحبه ويطيعه ويعرض عمن يقبل عليه وهذا جهل عظيم فإن الله تعالى يقول على لسان رسوله الصادق المصدوق ﷺ من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.
وغاية ماتحركه هذه الأغاني ما سكن في النفوس من المحبة فتتحرك القلوب الى محبوباتها كائنة ما كانت من مباح ومحرم وحق وباطل والصادق من السامعين قد يكون في قلبه محبة الله مع ما ركز في الطباع من الهوى فيكون الهوى كامنا لظهور سلطان الإيمان فتحركه الأغاني مع المحبة الصحيحة فيقوى الوجد ويظن السامع أن ذلك كله محبة الله وليس كذلك بل هي محبة ممزوجة ممتزجة حقها بباطلها وليس كل ما حرك الكامن في النفوس يكون مباحا في حكم الله ورسوله فإن الخمر تحرك الكامن في النفوس وهي محرمة في حكم الله ورسوله كما قيل:
الراح كالريح ان هبت على عطر ... طابت وتخبث إن مرت على الجيف
وهذا السماع المحظور يسكر النفوس كما يسكر الخمر أو أشد ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر والميسر فإن فرض وجود رجل يسمعه وهو ممتليء قلبه بمحبة الله لا يؤثر فيه شيء من دواعي الهوى بالكلية لم يوجب ذلك له خصوصا ولا للناس عموما لان أحكام الشريعة تناط بالأعم الأغلب والنادر ينسحب عليه حكم الغالب كما لو فرض رجل تام العقل بحيث لو شرب الخمر لم يؤثر فيه ولم يقع فيه فساد فإن ذلك لا يوجب إباحة الخمر له ولا لغيره على أن وجود هذا المفروض في الخارج في الصورتين إما نادر جدا أو ممتنع متعذر.
وإنما يظهر هذا السماع على هذا الوجه حيث جرد كثير من أهل السلوك الكلام في المحبة ولهجوا بها وأعرضوا عن الخشية وقد كان السلف الصالح يحذرون منهم ويفسقون من جرد وأعرض عن الخشية إلى الزندقة فان أكثر ما جاءت به الرسل وذكر في الكتاب والسنة هو خشية الله وإجلاله وتعظيمه وتعظيم حرماته وشعائره وطاعته والأغاني لا تحرك شيئا من ذلك بل تحدث ضده من الرعونة والإنبساط والشطح ودعوى الوصول والقرب أو دعوى الإختصاص بولاية الله التي نسب الله في كتابه دعواها إلى اليهود فأما أهل الإيمان فقد وصفهم بأنهم يؤتون ما اتوا وقلوبهم وجلة وفسر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم بأنهم يصومون ويتصدقون ويصلون ويخشون أن لا يتقبل منهم وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخافون النفاق على نفوسهم حتى قال الحسن ما أمن النفاق إلا منافق ولا خشيه إلا مؤمن.
ويوجب أيضا سماع الملاهي النفرة عن سماع القرآن كما أشار إليه الشافعي رحمه الله وعدم حضور القلب عند سماعه وقلة الإنتفاع بسماعه ويوجب أيضا قلة التعظيم لحرمات الله فلا يكاد المدمن لسماع الملاهي يشتد غضبه لمحارم الله تعالى إذا انتهكت كما وصف الله تعالى المحبين له بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومه لائم ومفاسد الغناء كثيرة جدا.
وفي الجملة فسماع القرآن ينبت الايمان في القلب كما ينبت الماء البقل وسماع الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل ولا يستويان حتى يستوي الحق والبطلان وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور.
والله تعالى المسؤول أن يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق