9 مصاحف

9 مصاحف الكتاب الاسلامي
حسبي الله ونعم الوكيل

حسبي الله ونعم الوكيل

 

Translate

السبت، 3 يونيو 2023

ج3 جامع العلوم لابن رجب /من ح 31 الي حديث 50.



 

من حديث  31 الي 50. 

 جامع العلوم لابن رجب 

الحديث الحادي والثلاثون

عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس . حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة

هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي عن سفيان الثوري عن أبي حازم عن سهل بن سعد وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن إسناده حسن وفي ذلك نظر فإن خالد بن عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد منكر الحديث وقال مرة ليس بثقة يروى أحاديث بواطيل.

وقال ابن معين ليس حديثه بشيء وقال مرة كان كذابا يكذب حدث عن شعبة أحاديث موضوعة وقال البخاري وأبو زرعة منكر الحديث وقال أبو حاتم متروك الحديث ضعيف ونسبه صالح بن محمد وابن عدي إلى وضع الحديث وتناقض ابن حبان في أمره فذكره في كتاب الثقات وذكره في كتاب الضعفاء وقال كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات لا يحل الاحتجاج بخبره.

وخرج العقيلي حديثه هذا وقال ليس له أصل من حديث سفيان الثوري قال وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني ولعله أخذه عنه ودلسه لأن المشهور به خالد هذا قال أبو بكر الخطيب وتابعه أيضًا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر الرازي وغيره فروى عن الثوري قال وأشهرها حديث ابن كثير كذا قال وهذا يخالف قول العقيلي إن أشهرها حديث خالد بن عمرو وهذا أصح ومحمد بن كثير الصنعاني هو المصيصي ضعفه أحمد وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضًا لكن محمد بن كثير خير منهما فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا وقال ما أدري ما أقول فيه وذكر ابن أبي حاتم أنه سأل أبان عن حديث محمد بن كثير عن سفيان الثوري فذكر هذا الحديث فقال هذا حديث باطل يعني بهذا الإسناد يشير إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير عن سفيان.

وقال ابن مشيش سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد فذكر هذا الحديث فقال أحمد لا إله إلا الله تعجبا من يروى هذا الحديث قلت خالد بن عمرو فقال وقعنا في خالد بن عمرو وسكت مراده الإنكار على من ذكر له شيئًا من حديث خالد هذا فإنه لا يشتغل به وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب المواعظ له عن خالد بن عمرو ثم قال كنت منكرا لهذا الحديث فحدثني هذا الشيخ يعني وكيعا أنه سأله عنه ولولا مقالته هذه لتركته.

وخرج ابن عدي هذا الحديث في ترجمة خالد بن عمرو وذكر رواية محمد بن كثير له أيضًا وقال هذا الحديث عن الثوري منكر وقال ورواه زافر يعني ابن سلمان عن محمد بن عيينة أخي سفيان عن أبي حازم عن ابن عمر انتهى وزافر ومحمد بن عيينة كلاهما ضعيف وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرسلًا أخرجه أبو سليمان بن زبر الدمشقي في مسند إبراهيم بن أدهم قد جمعه من رواية معاوية بن حفص عن إبراهيم بن أدهم عن منصور عن ربعي بن حراش قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله دلني على عمل يحبني الله عليه ويحبني الناس عليه فقال أما العمل الذي يحبك الله عليه فازهد في الدنيا وأما العمل الذي يحبك عليه الناس فانظر هذا الحطام فانبذه إليهم وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا من رواية على بن بكار عن إبراهيم بن أدهم قال جاء رجل إلى النبي ﷺ فذكره ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا وقال في حديثه فانبذ إليهم ما في يدك من الحطام وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين إحداهما الزهد في الدنيا وأنه مقتض لمحبة الله عز وجل لعبده والثانية الزهد فيما في أيدي الناس فإنه مقتض لمحبة الناس فأما الزهد في الدنيا فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه وكذا ذم الرغبة في الدنيا كما قال الله تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الأعلى وقال تعالى {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} الأنفال وقال تعالى في قصة قارون {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} إلى قوله {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} القصص، وقوله {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} الرعد وقال تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} النساء وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ. يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} غافر.

وقد ذم الله عز وجل من كان يريد الدنيا بعمله وسعيه ونيته وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث الأعمال بالنيات والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله عز وجل كثيرة جدًا.

ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي ﷺ مر بالسوق والناس كنفيه فمر بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه فقال أيكم يحب أن هذا له بدرهم فقالوا ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال أتحبون أنه لكم قالوا والله لما كان حيا لما رغبنا فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت فقال والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم وفيه أيضًا عن المستورد الفهري عن النبي ﷺ قال ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بماذا يرجع.

وخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء صححه ومعنى الزهد في الشيء الإعراض عنه لاستقلاله واحتقاره وارتفاع الهمة عنه يقال شيء زهيد أي قليل حقير وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا وتنوعت عباراتهم عنه وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية عمرو بن واقد عن يونس بن حليس عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال والزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو ابن واقد منكر الحديث قلت الصحيح وقفه كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي خالد بن صبيح حدثنا يونس بن حليس قال قال أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك وإذا أصبت مصيبة كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر عن يونس بن ميسرة قال ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح ولهذا كان أبو سليمان يقول لا تشهد لأحد بالزهد فإن الزهد في القلب أحدها أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته فإن الله سبحانه وتعالى ضمن أرزاق عباده وتكفل بها كما قال تعالى {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقال تعالى {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} وقال تعالى {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ}.

وقال الحسن إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل وعن على وابن مسعود قالا إن أرجي ما يكون الرزق إذا قالوا ليس في الدنيا دقيق وقال مسروق إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم ليس في البيت قفيز من قمح ولا درهم.

وقال الإمام أحمد أسر أيامي إلى يوم أصبح وليس عندي شيء وقيل لأبي حازم الزاهد ما مالك قال لي مالان لا أخشى معهما الفقر الثقة بالله واليأس مما في أيدي الناس وقيل له أما تخاف الفقر فقال أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثري ودفع إلى على بن الموفق ورقة فقرأها فإذا فيها يا على بن الموفق أتخاف الفقر وأنا ربك وقال الفضيل بن عياض أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل وقال القنوع هو الزاهد وهو الغني فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها ورضي بتدبيره له وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة، وكان من أغني الناس وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار رضي الله عنه كفي بالموت واعظا وكفي باليقين غني وكفي بالعبادة شغلا.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحسد أحدًا على رزق الله ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فإن الله تعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في السخط والشك وفي حديث مرسل أن النبي ﷺ كان يدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ولسانا صادقا حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ورضني من العيش بما قسمته لي، وكان عطاء الخراساني رحمه الله لا يقوم من مجلسه حتى يقول اللهم هب لنا يقينا منك حتى تهون علينا مصائب الدنيا وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا ولا يصيبنا من الرزق إلا ما قسمت لنا وروينا من حديث ابن عباس مرفوعًا قال من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يدي الله أوثق منه بما في يده والثاني أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقي له وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين وقد روي عن ابن عمر عن النبي ﷺ كان يقول في دعائه اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا وهو من علامات الزهد في الدنيا وقلة الرغبة فيها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه من زهد الدنيا هانت عليه المصيبات والثالث أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها وقلة الرغبة فيها فإن من عظمت الدنيا عنده اختار المدح وكره الذم فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم وعلى فعل كثير من الباطل رجاء المدح فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق دل على سقوط منزلة المخلوقين من قلبه وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله وقد مدح الله الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا وكلها ترجع إلى ما تقدم كقول الحسن الزاهد الذي إذا رأى أحدًا قال هو أفضل مني وهذا يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها ولهذا يقال الزاهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا والترفع فيها على الناس فهو الزاهد حقا وهذا هو الذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق وكقول وهب بن الورد رحمه الله والزهد في الدنيا أن لا تأس على ما فات منها ولا تفرح بما آتاك منها قال ابن السماك رحمه الله هذا هو الزاهد المبرز في زهده وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إقبالها وإدبارها وزيادتها ونقصها وهو مثل استواء حال المصيبة وعدمها كما سبق وسئل بعضهم أظنه الإمام أحمد عمن معه مال هل يكون زاهدا قال إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد أو كما قال وسئل الزهري عن الزاهد فقال من لم يغلب الحرام صبره ولم يشغل الحلال شكره وهذا قريب مما قبله فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر منها على حرام صبر عنه فلم يأخذه وإذا حصل له منها حلال لم يشغله عن الشكر بل قام بشكر الله عليه وقال أحمد بن الحواري رحمه الله قلت لسفيان بن عيينة من الزاهد في الدنيا قال من إذا أنعم عليه شكر وإذا ابتلي صبر وفقلت يا أبا محمد الذي قد أنعم عليه فشكر وإذا ابتلي فصبر وحبس النعمة كيف يكون زاهدا فقال اسكت من لم تمنعه النعماء من الشكر ولا البلوى من الصبر فذلك الزاهد وقال ربيعة رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها وقال سفيان الثوري رحمه الله الزهد في الدنيا قصر الأمل ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء وقال، وكان من دعائهم اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا منها ولا تردها عنا فترغبنا فيها ولهذا قال الإمام أحمد الزهد في الدنيا قصر الأمل وقال مرة قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة الله ولقائه والخروج من الدنيا وطول الأمل يقتضي محبة البقاء فيها فمن قصر أمله فقد كره البقاء في الدنيا وهذا نهاية الزهد فيها والإعراض عنها واستدل ابن عيينة لهذا بقوله تعالى {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إلى قوله {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} لبقرة الآية.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال أتى النبي ﷺ رجل فقال يا رسول الله من أزهد الناس فقال من لم ينس القبر والبلى وترك زينة الدنيا وآثر ما يبقى على مايفنى ولم يعد غدا من أيامه وعد نفسه من الموتى وهذا مرسل وقد قسم كثير من السلف الزهد أقسامًا فمنهم من قال أفضل الزهد الزهد في الشرك وفي عبادة ما عبد من دون الله ثم الزهد في الحرام كله من المعاصي ثم الزهد في الحلال وهو أقل أقسام الزهد والقسمان الأولان من هذا الزهد كلاهما واجب والثالث ليس بواجب فإن أعظم الواجبات الزهد في الشرك ثم في المعاصي كلها.

وكان بكر المزني يدعو لإخوانه زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات فعلم أن الله يراه فتركه.

وقال ابن المبارك قال معلي بن أبي مطيع الزهد على ثلاثة وجوه أحدهما أن يخلص العمل لله عز وجل والقول ولا يراد بشيء منه الدنيا والثاني ترك مالًا يصلح والعمل بما يصلح والثالث الحلال أن يزهد فيه وهو التطوع وهو أدناها وهذا أقرب مما قبله إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل وهو الشرك الأصغر والحامل عليه محبة المدح في الدنيا والتقدم عند أهلها وهو من نوع محبة العلو فيها والرياسة.

وقال إبراهيم بن أدهم الزهد ثلاثة أصناف فزهد فرض وزهد فضل وزهد سلامة فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام والزهد الفضل الزهد في الحلال والزهد السلامة الزهد في الشبهات.

وقد اختلف الناس هل يستحق اسم الزهد من زهد في الحرام خاصة ولم يزهد في فضول المباحات أم لا على قولين أحدهما أنه يستحق اسم الزهد بذلك.

وقد سبق ذكر ذلك عن الزهري وابن عيينة وغيرهما والثاني لا يستحق اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباحات وهو قول طائفة من العلماء العارفين وغيرهم حتى قال بعضهم لا زهد اليوم لفقد المباح المحض.

وهو قول يوسف بن أسباط وغيره وفي ذلك نظر.

وكان يونس بن عبيد يقول وما قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها.

وقال أبو سليمان الداراني اختلفوا علينا في الزهد بالعراق فمنهم من قال الزهد في ترك لقاء الناس ومنهم من قال في ترك الشهوات ومنهم من قال في ترك الشبع وكل منهم قريب بعضه من بعض قال وأنا أذهب إلى أن الزهد في ترك ما يشغلك عن الله عز وجل وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه واعلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعًا إلى زمانها الذي هو الليل والنهار المتعاقبان إلى يوم القيامة فإن الله تعالى جعلهما خلفه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.

ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون فيهما، وكان يقول عليه الصلاة والسلام اعملوا الليل لما خلق له والنهار لما خلق له وقال مجاهد ما من يوم إلا يقول لابن آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم فانظر ماذا تعمل في فإذا انقضى طوي ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يقضيه يوم القيامة ولاالليلة إلا تقول كذلك وقد أنشد بعض السلف:

إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق *** والليالي متجر الإنسان والأيام سوق

وليس الذم راجعًا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم مهادا ومسكنا ولا إلى ما أودع الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن ولا إلى ما أنبته فيها من الزرع والشجر ولا إلى ما بث فيها من الحيوانات وغير ذلك فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ولهم به من الاعتبار والاستدلال عل وحدانية صانعه وقدرته وعظمته وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته بل يقع على ما تضر عاقبته أو لا ينفع كما قال عز وجل {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} الحديد وانقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين أحدهما من أنكر أن يكون للعباد دار بعد الدنيا للثواب والعقاب وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ. أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يونس وهؤلاء همهم التمتع في الدنيا واغتنام لذاتها قبل الموت كما قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} محمد.

ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا لأنه يرى أن الاستكثار منها موجب الهم والغم ويقول كلما كثر التعلق بها تألمت النفس بمفارقتها عند الموت فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا والقسم الثاني من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب وهم المنتسبون إلى شرائع المرسلين وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله والظالم لنفسه هم الأكثرون منهم وأكثرهم واقف مع زهرة الدنيا وزينتها فأخذها من غير وجهها واستعملها في غير وجهها وصارت الدنيا أكبر همه بها يرضى وبها يغضب ولها يوالي وعليها يعادي وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا ولا أنها منزلة سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة وإن كان أحدهم يؤمن بذلك إيمانا مجملا فهو لا يعرفه مفصلا ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة بالله في الدنيا مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة والمقتصد منهم أخذ الدنيا من وجوهها المباحة وأدى واجباتها وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهاد في الدنيا كما سبق ذكره ولا عقاب عليهم في ذلك إلا أنه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا قال ابن عمر لا يصيب عبد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريما خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد وروي مرفوعًا من حديث عائشة بإسناد فيه نظر وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده أن رجلًا دخل على معاوية فكساه فخرج فمر على أبي مسعود الأنصاري ورجل آخر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فقال أحدهما خذها من حسناتك وقال الآخر خذها من طيباتك وبإسناده عن عمر رضي الله عنه قال لولا أن تنقص من حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم ولكن سمعت الله عير قومًا فقال أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعم بها الأحقاف وقال الفضيل ابن عياض إن شئت استقل من الدنيا وإن شئت استكثر منها فإنما تأخذ من كيسك ويشهد لهذا إن الله حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه وادخره لهم عنده في الآخرة وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} الزخرف.

وصح عن النبي ﷺ أنه قال من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة وقال لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة وقال وهب إن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستمسكوا نصيبهم من كرامتي سعالمًا موفرا لم أعجل لهم شيئًا في الدنيا لم تكمله.

ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن قتادة بن النعمان عن النبي ﷺ قال إن الله إذا أحب عبدًا حماه عن الدينا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء وخرجه الحاكم ولفظه إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه.

وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وأما السابق بالخيرات بإذن الله فهم الذين فهموا المراد من الدنيا وعملوا بمقتضى ذلك فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملًا كما قال هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملًا هود وقال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الملك قال بعض السلف أيهم أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة وجعل ما في الدنيا من البهجة والنضرة محنة لينظر من يقف منهم معه ويركن إليه ومن ليس كذلك كما قال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} الكهف ثم بين انقطاعه ونفاده فقال وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا الكهف فلما فهموا أن هذا هو المقصود من الدنيا جعلوا همهم التزود منها للآخرة التي هي دار القرار فاكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره كما كان النبي ﷺ يقول ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح عنها وتركها ووصى ﷺ جماعة من الصحابة أن يكون بلاغ أحدهم من الدنيا كزاد راكب منهم سلمان وأبو عبيدة بن الجراح وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم ووصى ابن عمر أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل وأن يعد نفسه من أهل القبور وأهل هذه الدرجة على قسمين منهم من يقتصر من الدنيا على قدر ما يسد الرمق فقط وهو حال كثير من الزهاد ومنهم من يفسح لنفسه أحيانا في تناول بعض شهواتها المباحة لتقوى النفس بذلك وتنشط للعمل كما روي عن النبي ﷺ أنه قال حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة خرجه الإمام أحمد والنسائي من حديث أنس وخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي ﷺ يحب من الدنيا النساء والطيب والطعام فأصاب من النساء والطيب ولم يصب من الطعام قال وهب مكتوب في حكمة آل داود عليهم السلام ينبغي للعاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات ساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يناجي فيها ربه وساعة يلقى فيها إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما لا يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وأفضل بلغة واستجماعا للقلوب يعني ترويحا لها ومتى نوى من تناول شهواته المباحة التقوى على طاعة الله كانت شهواته له طاعة يثاب عليها كما قال معاذ رضي الله عنه إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي يعني أنه ينوي بنومه التقوي على القيام في آخر الليل فيحتسب ثواب نومه كما يحتسب ثواب قيامه، وكان بعضهم إذا تناول شيئًا من شهواته المباحة واسى منها إخوانه كما روي عن ابن المبارك رحمه الله أنه كان إذا اشتهى شيئًا لم يأكله حتى يشهد بعض أصحابه فيأكله معهم، وكان إذا اشتهى شيئًا دعا ضيفا له ليأكل معه، وكان يذكر عن الأوزاعي أنه قال ثلاثة لا حساب عليهم في مطعمهم المتسحر والصائم حين يفطر وطعام الضيف وقال الحسن ليس من حبك الدنيا طلبك ما يصلحك فيها ومن زهد فيها ترك الحاجة يسدها عنك تركها ومن أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه وقال سعيد بن جبير متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة وما لم يلهك فليس متاع الغرور ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه وقال يحيى بن معاذ الرازي كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت أكتسب بها حياة أدرك بها طاعة أنال بها الآخرة وسئل أبو صفوان الرعيني، وكان من العارفين ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أن يتجنبها فقال كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم وكل ما أصبت منها تريد بها الآخرة فليس منها وقال الحسن رحمه الله نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك أنه عمل قليلًا وأخذ زاده منها إلى الجنة وبئست الدار كانت للكافر والمنافق وذلك أنه ضيع لياليه، وكان زاده منها إلى النار وقال أبقع بن عبيد الكلاعي قال رسول الله ﷺ إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال الله يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم قال نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول لأهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم فيقول بئسما اتجرتم في يوم أو بعض يوم سخطي ومعصيتي وناري امكثوا فيها خالدين مخلدين.

وخرج الحاكم من حديث عبد الجبار بن وهب أنبأنا سعيد بن طارق عن أبيه عن النبي ﷺ قال نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته حتى يرضي ربه وبئست الدار لمن صدته عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه وإذا قال العبد قبح الله الدنيا قالت الدنيا قبح الله أعصانا لربه وقال صحيح الإسناد وخرجه العقيلي وقال عبد الجبار بن وهب مجهول وحديثه غير محفوظ قال وهذا الكلام يروي عن علي من قوله وقول علي خرجه ابن أبي الدنيا عنه بإسناد فيه نظر أن عليا سمع رجلًا يسب الدنيا فقال إنها لدار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غني لمن تزود منها مسجد أحباب الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت بفراقها ونادت بعيبها نعت نفسها وأهلها فمثلت ببلائها البلاء وشوقت بسرورها إلى أهل السرور فذمها قوم عند الندامة ومدحها آخرون حدثتهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا فيا أيها المغتر بالدنيا المغتر بغرورها متى استلأمت إليك الدنيا بل متى غرتك بمضاجع آبائك تحت الثرى أم بمصارع أمهاتك من البلى كم قلبت بكفيك ومرضت بيديك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفر بحاجتك ولم تسعف بطلبتك قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غدا ولا يغني عنك بكاؤك ولا ينفعك أحباؤك فبين أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الدنيا لا تذم مطلقا وأنها تحمد بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة وأن فيها مساجد الأنبياء ومهبط الوحي وهي دار التجارة للمؤمنين اكتسبوا منها الرحمة وربحوا بها الجنة فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته وأما ما ذكر من أنها تغر وتخدع فإنها تنادي بمواعظها وتنصح بعبرها وتبدي عيوبها بما ترى من أهلها من مصارع الهلكى وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم ومن الشيبة إلى الهرم ومن الغنى إلى الفقر ومن العز إلى الذل لكن محبها قد أصمه وأعماه حبها فهو لا يسمع نداءها كما قيل:

وقد نادت الدنيا على نفسها *** لو كان في العالم من يسمع

كم واثق بالعمر أفنيته *** وجامع بددت ما يجمع

وقال يحيى بن معاذ رحمه الله لو يسمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا في المغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا وقال بعض الحكماء الدنيا أمثال تضربها الأيام للأنام وعلم الزمان لا يحتاج إلى ترجمان وبحب الدنيا صمت أسماع القلوب عن المواعظ وما أحث السائق لو شعر الخلائق وأهل الزهد في فضول الدنيا أقسام فمنهم من يحصل له فيمسكه ويتقرب به إلى الله كما كان كثير من الصحابة وغيرهم قال أبو سليمان كان عثمان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما خازنين من خزان الله في أرضه ينفقان في طاعته وكانت معاملتهما لله بقلوبهما ومنهم من يخرجه من يده ولا يمسكه وهؤلاء نوعان منهم من يخرجه اختيارا وطواعية ومنهم من يخرجه ونفسه تأبى إخراجه ولكن يجاهدها على ذلك وقد اختلف في أيهما أفضل فقال ابن السماك والجنيد الأول أفضل للتحقق نفسه بمقام السخاء والزهد.

وقال ابن عطاء الثاني أفضل لتحقق نفسه بأن له عملًا ومجاهدة وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه رضي الله عنه ومنهم من لم يحصل له شيء من الفضول وهو زاهد في تحصيله إما مع قدرته أو بدونها والأول أفضل من هذا ولهذا قال كثير من السلف أن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس ونحوه كذا قال أبو سليمان وغيره، وكان مالك بن دينار يقول الناس يقولون مالك زاهد إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز وقد اختلف العلماء أيما أفضل من طلب الدنيا من الحلال ليصل رحمه ويقدم منها لنفسه أم من تركها فلم يطلبها بالكلية فرجحت طائفة من تركها وجانبها منهم الحسن وغيره ورجحت طائفة من طلبها على ذلك الوجه منهم النخعي وغيره وروي عن الحسن رضي الله عنه نحوه والزاهدون في الدنيا بقلوبهم لهم ملاحظ ومشاهد يشهدونها فمنهم من يشهد كثرة التعب بالسعي في تحصيلها فهو يزهد فيها قصد الراحة لنفسه قال الحسن الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن ومنهم من يخاف أن ينقص حظه من الآخرة بأخذ فضول الدنيا ومنهم من يخاف من طول الحساب عليها قال بعضهم من سأل الله الدنيا فإنما يسأل طول الوقوف للحساب ومنهم من يشهد كثرة عيوب الدنيا وسرعة تقلبها وفنائها ومزاحمة الأراذل في طلبها كما قيل لبعضهم ما الذي زهدك في الدنيا قال قلة وفائها وكثرة جفائها وخشية شركائها ومنهم من كان ينظر إلى حقارة الدنيا عند الله فيقذرها كما قال الفضيل لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالًا ولا أحاسب بها في الآخرة لكنت أقتذرها كما يقتذر الرجل الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه ومنهم من كان يخاف أن تشغله عن الاستعداد للآخرة والتزود لها قال الحسن إن كان أحدهم ليعيش عمره مجهودا شديد الجهد والمال الحلال إلى جنبه يقال له ألا تأتي هذا فتصيب منه فيقول لا والله لا أفعل إني أخاف أن آتيه فأصيب منه فيكون فساد قلبي وعملي وبعث إلى عمر بن المنكدر بمال فبكى واشتد بكاؤه وقال خشيت أن تغلب الدنيا على قلبي فلا يكون للآخرة مني نصيب فذلك الذي منه أبكاني ثم أمر به فتصدق به على فقراء أهل المدينة وخواص هؤلاء يخشى أن يشتغل بها عن الله كما قالت رابعة ما أحب أن لي الدنيا كلها من أولها إلى آخرها حلالًا أنفقها في سبيل الله وأنها شغلتني عن الله طرفة عين وقال أبو سليمان الزهد ترك ما يشغل عن الله وقال كل ما يشغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو مشئوم وقال الزهد في الدنيا على طبقتين منهم من يزهد في الدنيا فلا يفتح له فيها روح الآخرة ومنهم من إذا زهد فيها فتح له فيها روح الآخرة فليس شيء أحب إليه من البقاء ليطيع وقال ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا واستراح منها إنما الزاهد من زهد في الدنيا وتعب فيها للآخرة فالزهد في الدنيا يراد به تفريغ القلب من الاشتغال بها ليتفرغ لطلب الله ومعرفته والقرب منه والأنس به والشوق إلى لقائه وهذه الأمور ليست من الدنيا كما كان النبي صلى الله عليه آله وسلم يقول حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ولم يجعل الصلاة مما حبب إليه من الدنيا كذا في المسند والنسائي وأظنه وقع في غيرهما حبب إلى من دنياكم ثلاث فأدخل الصلاة في الدنيا ويشهد لذلك حديث الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو ععالمًا أو متعلما أخرجه ابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة مرفوعًا وروي نحوه من غير وجه مرسلًا ومتصلا وخرجه الطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعًا قال الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجه الله وخرجه ابن أبي الدنيا موقوفا وخرجه أيضًا من رواية شهر بن حوشب عن عبادة قال أراه رفعه قال يؤتي بالدنيا يوم القيامة فيقال ميزوا منها ما كان لله عز وجل وألقوا سائرها في النار فالدنيا وكل ما فيها ملعونة أي مبعدة عن الله لأنها تشغل عنه إلا العلم النافع الدال علي الله وعلي معرفته وطلب قربه ورضاه وذكر الله وما والاه مما يقرب من الله فهذا هو المقصود من الدنيا فإن الله إنما أمر عباده بأن يتقوه ويطيعوه ولازم ذلك دوام ذكره كما قال ابن مسعود تقوي الله حق تقواه أن يذكر فلا ينسي وإنما شرع الله إقام الصلاة لذكره، وكذلك الحج والطواف وأفضل أهل العبادات أكثرهم لله ذكرا فيها فهذا كله ليس من الدنيا المذمومة وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الذاريات.

وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم قالوا لأن نعيم الجنة حظ العبد والعبادات في الدنيا حق الرب وحق الرب أفضل من حظ العبد وهذا غلط ويقوي غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله من جاء بالحسنة فله خير منها النمل قالوا الحسنة لا إله إلا الله وليس شيء خيرًا منها ولكن الكلام على التقديم والتأخير والمراد فله منها خير أي له خير بسببها ولأجلها والصواب إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة أن الآخرة خير من الأولى مطلقا وفي صحيح الحاكم عن المستورد بن شداد قال كنا عند النبي ﷺ فتذكروا الدنيا والآخرة فقال بعضهم إنما الدنيا بلاغ للآخرة وفيها العمل وفيها الصلاة وفيها الزكاة وقالت طائفة منهم الآخرة فيها الجنة وقالوا ما شاء الله فقال رسول الله ﷺ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا وما فيها من الأعمال ووجه ذلك أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل والعلم مقصود الأعمال فتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه فإن العلم أصله العلم بالله وأسمائه وصفاته وفي الآخرة ينكشف الغطاء ويصير الخبر عيانا ويصير علم اليقين عين اليقين وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة فأين هذا مما في الدنيا وأما الأعمال البدنية فإن لها في الدنيا مقصدين أحدهما اشتغال الجوارح بالطاعة وكدها بالعبادة والثاني اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره فالأول قد رفع عن أهل الجنة ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند تجليه لهم يقال لهم ارفعوا رؤوسكم إنكم لستم في دار مجاهدة وأما المقصود الثاني فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها ولا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه في الآخرة عيانا فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله ورؤيته وسماع كلامه لا سيما في أوقات الصلاة في الدنيا كالجمع والأعياد والمقربون منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر ولهذا لما ذكر النبي ﷺ أن أهل الجنة يرون ربهم حض عقيب ذلك على المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر لأن وقت هاتين الصلاتين وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدًا فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس قال ابن عيينة لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا فإن لذة الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة فتبين بهذا أن قوله من جاء بالحسنة فله خير منها على ظاهره فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في الجنة على الوجه الذي يختص به أهل الجنة وبكل حال فالذي يحصل لأهل الجنة من تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ومن قربه ومشاهدته ولذة ذكره هو أمر لا يمكن التعبير عن كنهه في الدنيا لأن أهلها لم يدركوه على وجهه بل هو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر والله تعالى المسئول أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا بمنه وكرمه ورحمته آمين اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم ولنرجع إلى شرح حديث ازهد في الدنيا يحبك الله فهذا الحديث يدل على أن الله يحب الزاهد في الدنيا قال بعض السلف قال الحواريون لعيسى عليه السلام يا روح الله علمنا عملًا واحدًا يحبنا الله عز وجل عليه قال ابغضوا الدنيا يحبكم الله عز وجل وقد ذم الله تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة كما قال {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} القيامة وقال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} الفجر وقال {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} العاديات.

والمراد حب المال فإذا ذم من أحب الدنيا دل على مدح من لا يحبها بل يرفضها ويتركها.

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى.

وفي المسند وسنن ابن ماجه عن زيد بن ثابت عن النبي ﷺ قال من كانت همه الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة وخرجه الترمذي من حديث أنس مرفوعًا بمعناه ومن كلام جندب بن عبد الله الصنعاني رضي الله عنه حب الدنيا رأس كل خطيئة وروي مرفوعًا وروي عن الحسن مرسلًا وقال الحسن من أحب الدنيا وسرته خرج حب الآخرة من قلبه وقال عون بن عبد الله الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان بقدر ما ترجح إحداهما تخف الأخرى وقال وهب إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان إن رضي إحداهما أسخط الأخرى وبكل حال فالزهد في الدنيا شعار أنبياء الله وأوليائه وأحبائه قال عمرو بن العاص رضي الله عنه ما أبعد هديكم من هدي نبيكم ﷺ إنه كان أزهد الناس في الدنيا وأنتم أرغب الناس فيها خرجه الإمام أحمد.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصوما وجهادا من أصحاب محمد ﷺ وهم كانوا خيرًا منكم قالوا كيف ذلك قال كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة وقال أبو الدرداء لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم ويروى عن الحسن قال قالوا يا رسول الله من خيرنا قال أزهدكم في الدنيا وأرغبكم في الآخرة والكلام في هذا الباب يطول جدًا وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى الوصية الثانية وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس وروي عن النبي ﷺ أنه وصى رجلًا فقال ايأس مما في أيدي الناس تكن غنيا خرجه الطبراني وغيره ويروي من حديث سهل بن سعد مرفوعًا شرف المؤمن قيامه بالليل وعزة استغناؤه عن الناس وقال الحسن لا تزال كريما على الناس ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تعاط ما في أيديهم فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك وقال أيوب السختياني لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان العفة عما في أيدي الناس والتجاوز عما يكون منهم، وكان عمر يقول في خطبته على المنبر إن الطمع فقر وإن اليأس غني وإن الإنسان إذا أيس من شيء استغنى عنه وروي أن عبد الله بن سلام لقي كعب الأحبار عند عمر فقال يا كعب من أرباب العلم قال الذين لا يعملون به قال فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه قال يذهبه الطمع وشره النفس وتطلب الحاجات إلى الناس قال صدقت وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي ﷺ بالأمر بالاستعفاف عن مسئلة الناس والاستغناء عنهم فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه لأن المال محبوب لنفوس بني آدم فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك وأما من كان يرى المنة للسائل عليه ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له أو كان يقول لأهله ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم فهذا نادر جدًا من طباع بني آدم وقد انطوى بساط ذلك من أزمان متطاولة وأما من زهد فيما في أيدي الناس وعف عنهم فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ويسود به عليهم كما قال أعرابي لأهل البصرة من سيد أهل هذه القرية قالوا الحسن قال بم سادهم قالوا احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها:

وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها

=========

الحديث الثاني والثلاثون

عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ( لا ضرر ولا ضرار ) .

حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا ورواه مالك في الموطإ مرسلًا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي ﷺ مرسلًا فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضا .

حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه وإنما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة حدثنا الدراوردي عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه وقال الحاكم صحيح الإسناد على شرط مسلم وقال البيهقي تفرد به عثمان عن الدراوردي وخرجه مالك في الموطإ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلًا قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث قال ولا يسند من وجه صحيح ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي عن الدراوردي موصولا والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه ولا يعبأ به ولا شك في تقديم قول مالك على قوله وقال خالد ابن سعد الأندلسي الحافظ لم يصح حديث لا ضرر ولا ضرار مسندا وأما ابن ماجه فخرجه من رواية فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى ابن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قضي أن لا ضرر ولا ضرار وهذا من جملة صحيفة يروى بهذا الإسناد وهي منقطعة مأخوذة من كتاب قاله ابن المديني وأبو زرعة وغيرهما وإسحاق بن يحيى قيل هو ابن طلحة وهو ضعيف لم يسمع من عبادة قاله أبو زرعة وابن أبي حاتم والدارقطني في موضع وقيل إسحاق بن يحيى ابن الوليد عن عبادة ولم يسمع أيضًا من عبادة قاله الدارقطني أيضًا وذكره ابن عدي في كتابه الضعفاء وقال عامة أحاديثه غير محفوظة وقيل إن موسى بن عقبة لم يسمع منه وإنما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه وأبو عياش لا يعرف وخرجه ابن ماجه أيضًا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ضرر ولا ضرار وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون وخرجه الدارقطني من رواية إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة وإبراهيم ضعفه جماعة وروايات داود عن عكرمة مناكير وخرجه الدارقطني من حديث الواقدي حدثنا خارجة بن عبدالله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال لا ضرر ولا ضرار والواقدي متروك وشيخه مختلف في تضعيفه وخرجه الطبراني من وجهين ضعيفين أيضًا عن القاسم عن عائشة وخرجه الطبراني أيضًا من رواية محمد بن سلمة عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر عن النبي ﷺ قال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وهذا إسناد متقارب وهو غريب ولكن خرجه أبو داود في المراسيل من رواية عبدالرحمن ابن معز عن أبي إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع مرسلًا وهذا أصح وخرجه الدارقطني من رواية أبي بكر بن عياش قال أراه عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لا ضرر ولا ضرورة ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه وهذا الإسناد فيه شك وابن عطاء هو يعقوب وهو ضعيف وروى كثير بن عبد اللهبن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال لا ضرر ولا إضرار قال ابن عبد البر إسناده غير صحيح قلت كثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديث هو أصح حديث في الباب وحسن حديث إبراهيم بن المنذر الخزاعي وقال هو خير مراسيل ابن المسيب، وكذلك حسنه ابن أبي عاصم وترك حديثه آخرون منهم الإمام أحمد وغيره فهذا ما حضرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب وقد ذكر الشيخ رحمه أن بعض طرقه تقوي ببعض وهو كما قال وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبدالله المزني إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قوتها وقال الشافعي في المرسل إنه إذا استند من وجه آخر وأرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول فإنه يقبل وقال الجوزجاني إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع يعني لا يقنع برواياته وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار استعمل واكتفي به وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوي منه وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث وقال قال النبي ﷺ لا ضرر ولا ضرار وقال أبو عمرو بن الصلاح هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به وقول أبي داود إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف والله أعلم.

وفي المعنى أيضًا حديث أبي صرمة عن النبي ﷺ قال من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه خرجه أبو داود والترمذى وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب.

وخرج الترمذي بإسناد فيه ضعف عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به، وقوله ﷺ لا ضرر ولا ضرار هذه الرواية الصحيحة ضرار بغير همزة وروى إضرار بالهمزة ووقع ذلك في بعض روايات ابن ماجه والدراقطني بل وفي بعض نسخ الموطأ وقد أثبت بعضهم هذه الرواية وقال ضر وأضر بمعنى واحد وأنكرها آخرون وقالوا لا صحة لها واختلفوا هل بين اللفظين أعني الضر والضرار فرق أم لا فمنهم من قال هما بمعنى واحد على وجه التأكيد والمشهور أن بينهما فرقا ثم قيل إن الضرر هو الاسم والضرار الفعل فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع وإدخال الضرر بغير حق كذلك وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به والضرار أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ورجح هذا القول طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح وقيل الضرر أن يضر به من لا يضره والضرار أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز وبكل حال فالنبي ﷺ إنما نفي الضرر والضرار بغير حق فأما إدخال الضرر على أحد يستحقه إما لكونه تعدي حدود الله فيعاقب بقدر جريمته أو كونه ظلم نفسه وغيره فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل فهذا غير مراد قطعا وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق وهذا على نوعين أحدهما أن لا يكون في ذلك غرض سوي الضرر بذلك الغير فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع منها في الوصية قال تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} النساء وفي الحديث عن أبي هريرة مرفوعًا إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فيدخل النار ثم تلا تلك حدود الله إلى قوله {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء وخرجه الترمذي وغيره بمعناه.

وقال ابن عباس رضي الله عنه الإضرار في الوصية من الكبائر ثم تلا هذه الآية والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه ولهذا قال النبي ﷺ إن الله قد أعطي كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث فينقص حقوق الورثة ولهذا قال النبي ﷺ الثلث والثلث كثير ومتي وصي لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث لم ينفذ ما وصي به إلا بإجازة الورثة وسواء قصد المضارة أو لم يقصد وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث فإنه يأثم بقصده المضارة وهل ترد وصيته إذا ثبت بإقراره أم لا حكي ابن عطية رواية عن مالك أنها ترد وقيل إنه قياس مذهب أحمد ومنها الرجعة في النكاح وقال تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} البقرة وقال {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا} البقرة فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة فإنه آثم بذلك وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث يطلق الرجل امرأته ثم يتركها حتى يقارب انقضاء عدتها ثم يراجعها ثم يطلقها ويفعل ذلك أبدًا بغير نهاية فيدع المرأة لا مطلقة ولا ممسكة فأبطل الله ذلك وحصر الطلاق في ثلاث مرات وذهب مالك إلى أن من راجع امرأته قبل انقضاء عدتها ثم طلقها من غير مسيس أنه إن قصد بذلك مضارتها بتطويل لم تستأنف العدة وبنت على ما مضي منها وإن لم يقصد بذلك استأنفت عدة جديدة وقيل تبين مطلقا وهو قول عطاء وقتادة والشافعي في القديم وأحمد في رواية وقيل تستأنف مطلقا وهو قول الأكثرين منهم أبو قلابة والزهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي في الجديد وأحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وغيرهم ومنها في الإيلاء فإن الله جعل مدة المولي أربعة أشهر إذا حلف الرجل على امتناعه من وطء زوجته فإنه يضرب له مدة أربعة أشهر فإن فاء ورجع إلى الوطء كان ذلك توبته وإن أصر على الامتناع لم يمكن من ذلك ثم فيه قولان للسلف والخلف أحدهما أنها تطلق عليه بمضي هذه المدة والثاني أنه يوقف فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ولو ترك الوطء لقصد إضرار بغير يمين مدة أربعة أشهر فقال كثير من أصحابنا حكمه حكم المولي في ذلك وقالوا هو ظاهر في كلام أحمد وكذا قال جماعة منهم إذا ترك الوطء أربعة أشهر لغير عذر ثم طلب الفرقة فرق بينهما بناء على أن الوطء عندنا في هذه المدة واجب واختلفوا هل يعتبر لذلك قصد الإضرار أم لا يعتبر ومذهب مالك وأصحابه إذا ترك الوطء من غير عذر فإنه يفسخ نكاحه مع اختلافهم في تقدير المدة ولو أطال السفر من غير عذر وطلبت امرأته قدومه فأبي فقال مالك وأحمد وإسحاق يفرق الحاكم بينهما وقدره أحمد بستة أشهر وإسحاق بمضي سنتين ومنها في الرضاع قال تعالى {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} البقرة.

قال مجاهد في قوله {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال لا يمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك.

وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي وغيرهم إذا رضيت ما يرضي به غيرها فهي أحق به وهذا هو المنصوص عن أحمد رحمه الله ولو كانت الأم في حبال الزوج وقيل إن كانت في حبال الزوج فله منعها من إرضاعه إلا أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها وقول الشافعي وبعض أصحابنا لكن إنما يجوز ذلك إذا كان قصد الزوج به توفير الزوجة للاستمتاع لا مجرد إدخال الضرر عليها، وقوله {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} البقرة يدخل فيه أن المطلقة إذا طلبت إرضاع ولدها بأجرة مثلها لزم الأب إجابتها إلى ذلك وسواء وجد غيرها أو لم يوجد هذا منصوص الإمام أحمد فإن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة كثيرة ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلب لأنها تقصد المضارة.

وقد نص عليه الإمام أحمد أيضًا ومنها في البيع قد ورد النهي عن بيع المضطر خرجه أبو داود من حديث على بن أبي طالب أنه خطب الناس فقال إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك قال تعالى {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} البقرة ويبايع المضطرون.

وقد نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر وخرجه الإسماعيلي وزاد فيه قال رسول الله ﷺ إن كان عندك خير تعود به على أخيك وإلا فلا تزيدنه هلاكًا إلى هلاكه وخرجه أبو يعلي الموصلي بمعناه من حديث حذيفة مرفوعًا أيضًا.

وقال عبد الله بن معقل بيع الضرورة ربا.

قال حرب سئل أحمد عن بيع المضطر فكرهه فقيل له كيف هو قال يجيئك وهو محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين وقال أبو طالب قيل لأحمد إن ربح بالعشرة خمسة فكره ذلك وإن كان المشتري مسترسلًا لا يحسن أن يماكس فباعه بغبن كثير لم يجز أيضًا.

قال أحمد الخلابة الخداع وهو أنه يغتبنه فيما لا يتغابن الناس في مثله يبيعه ما يساوي درهما بخمسة ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيار الفسخ بذلك ولو كان محتاجا إلى نقد فلم يجد من يقرضه فاشتري سلعة بثمن إلى أجل في ذمته ومقصوده بيع تلك السلعة ليأخذ ثمنها فهذا فيه قولان للسلف ورخص أحمد في رواية وقال في رواية أخشى أن يكون مضطرا فإن باع السلعة من بائعها فأكثر السلف على تحريم ذلك وهو مذهب مالك وأبي حنيفة رحمهم الله وأحمد وغيرهم ومن أنواع الضر في البيوع التفريق بين الوالدة وولدها في البيع فإن كان صغيرًا حرم بالاتفاق وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة فإن رضيت الأم بذلك ففي جوازه اختلاف ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدًا وإنما ذكرنا هذا على وجه المثال والنوع الثاني أن يكون له غرض آخر صحيح مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرا فيتضرر الممنوع بذلك فأما الأول وهو التصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره فإن كان على غير الوجه المعتاد مثل أن يؤجج في أرضه نارا في يوم عاصف فيحترق ما يليه فإنه متعد بذلك وعليه الضمان وإن كان على الوجه المعتاد ففيه للعلماء قولان مشهوران أحدهما لا يمنع من ذلك وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما والثاني المنع وهو قول أحمد ووافقه مالك في بعض الصور فمن صور ذلك أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره أو يبني بناء عاليا يشرف على جاره ولا يستره فإنه يلزمه بستره نص عليه أحمد ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي قال الروياني منهم في كتاب الحلية يجتهد الحاكم في ذلك ويمنع إذا ظهر له التعيث وقصد الفساد قال، وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا حديثًا طويلا في حق الجار وفيه ولا يستطيل البناء فيحجب عنه الريح إلا بإذنه ومنها أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره فيذهب ماؤها فإنها تطم في ظاهر مذهب مالك وأحمد.

وخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة قال قال رسول الله ﷺ لا تضاروا في الحفر وذلك أن يحفر الرجل إلى جنب الرجل ليذهب بمائه ومنها أن يحدث في ملكه ما يضر ملك جاره من هز أو دق ونحوهما فإنه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد وهو أحد الوجوه للشافعية وكذا إذا كان يضر بالسكان كما إذا كان له رائحة خبيثة ونحو ذلك ومنها أن يكون له ملك في أرض غيره ويتضرر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه فإنه يجبر على إزالته ليندفع به ضرر الدخول خرجه أبو داود في سننه من حديث أبي جعفر محمد بن على أنه حدث سمرة بن جندب أنه كان له عذق من نخل في حائط رجل من الأنصار ومع الرجل أهله، وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذي به وشق عليه فطلب إليه أن يناقله فأبي فأتي النبي ﷺ فذكر ذلك له فطلب إليه النبي ﷺ أن يبيعه فأبي فطلب إليه أن يناقله فأبي قال فهبه له ولك كذا وكذا أمرا رغبه فيه فأبي فقال أنت مضار فقال النبي ﷺ للأنصاري اذهب فاقلع نخله وقد روي عن أبي جعفر مرسلًا قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث كل ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك فإن أجاب وإلا أجبره السلطان ولا يضر بأخيه في ذلك وفيه مرفق له وخرجه أبو بكر الخلال من رواية عبد اللهبن محمد بن عقيل عن عبد اللهبن سليط بن قيس عن أبيه أن رجلًا من الأنصار كانت له في حائطه نخلة لرجل آخر، وكان صاحب النخل لا يريحها غدوة وعشية فشق ذلك على صاحب الحائط فأتي النبي ﷺ فدكر ذلك له فقال النبي ﷺ لصاحب النخلة خذ منه نخلة مما يلي الحائط مكان نخلتك قال لا والله قال فخذ مني ثنتين قال لا والله قال فهبها له قال لا والله قال فردد عليه رسول الله ﷺ فأبي فأمر رسول الله ﷺ أن يعطيه نخلة مكان نخلته وخرجه أبو داود في المراسيل من رواية إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه فقال إنك تطأ حائطي إلى عذقك فأنا أعطيك مثله في حائطك وأخرجه عن فأبي عليه فكلم النبي ﷺ فقال يا أبا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلى مالك واكفف عن صاحبك ما يكره فقال ما أنا بفاعل فقال اذهب فاخرج له مثل عذقه إلى حائطه ثم اضرب فوق ذلك بجدار فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار ففي هذا الحديث والذي قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في تركه وهذا مثل إيجاب الشفعة لدفع ضرر الشريك الطارئ ويستدل بذلك أيضًا على وجوب العمارة على الشريك الممتنع من العمارة وعلي إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة وقد ورد من حديث محمد بن أبي بكر عن أبيه مرفوعًا لا تعضيه في الميراث إلا ما احتمل القسم وأبو بكر هو ابن عمرو بن حزم قاله الإمام أحمد والحديث حينئذ مرسل والتعضية هي القسمة ومتي تعذرت القسمة لكون المقسوم يتضرر بقسمته وطلب أحد الشريكين البيع أجبر الآخر وقسم الثمن نص عليه أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة وأما الثاني وهو منع الجار من الانتفاع بملكه والاتفاق به فإن كان ذلك يضر بمن انتفع بملكه فله المنع كمن له جدار واه لا يحمل أن يطرح عليه خشب وأما إن لم يضر به فهل يجب عليه التمكين ويحرم عليه الامتناع أم لا فمن قال في القسم الأول لا يمنع المالك من التصرف في ملكه وإن أضر بجاره وقال هنا للجار المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه ومن قال هناك بالمنع فاختلفوا ههنا على قولين أحدهما المنع ههنا وهو قول مالك والثاني أنه لا يجوز المنع وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار دار جاره ووافقه الشافعي في القديم وإسحاق وأبو ثور وداود بن المنذر وعبد الملك بن حبيب المالكي وحكاه مالك عن بعض قضاة المدينة.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره قال أبو هريرة مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم وقضي عمر بن الخطاب رضي الله عنه على محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه وقال لتمرن به ولو على بطنك وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد ومذهب أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جاره إذا أجراه في قناة في باطن أرضه نقله عنه حرب الكرماني ومما ينهى عن منعه الضرر منع الماء والكلأ.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ وفي سنن أبي داود أن رجلًا قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الماء قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال الملح قال يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال أن تفعل الخير خير لك وفيه أيضًا أن النبي ﷺ قال الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يمنع فضل الماء الجاري والنابع مطلقا سواء قيل إن الماء لمالك أرضه أم لا وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم والمنصوص عن أحمد وجوب بذله مجانا بغير عوض للشرب وسقي الزروع ومذهب أبي حنيفة والشافعي لا يجب بذله للزرع واختلفوا هل يجب بذله مطلقا أو إذا كان بقرب الكلأ، وكان منعه مفضيا إلى منع الكلأ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي وفي كلام أحمد ما يدل على اختصاص المنع بالقرب من الكلأ وأما مالك فلا يجب عنده بذل فضل الماء المملوك بملك منبعه ومجراه إلا للمضطر كالمجاز في الأوعية وإنما يجب عنده بذل فضل الماء الذي لا يملك وعند الشافعي حكم الكلأ كذلك يجوز منع فضله إلا في أرض الموات ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد أنه لا يمنع فضل الكلأ مطلقا ومنهم من قال لا يمنع أحد الماء والكلأ إلا أهل الثغور خاصة وهو قول الأوزاعي لأن أهل الثغور إذا ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدروا أن يتحولوا من مكانهم من وراء بيضة الإسلام وأهله وأما النهي عن منع النار فحمله طائفة من الفقهاء على النهي عن الاقتباس منها دون أعيان الجمر ومنهم من حمله على منع الحجارة المورية للنار وهو بعيد ولو حمل على منع الاستضاءة بالنار وبذل ما فضل عن حاجة صاحبها بها لم يستدفئ بها أو ينضج عليها طعامًا ونحوه لم يبعد وأما الملح فلعله يحمل على منع أخذه من المعادن المباحة فإن الملح من المعادن الظاهرة لا يملك بالإحياء ولا بالإقطاع نص عليه أحمد وفي سنن أبي دواد أن النبي ﷺ أقطع رجلًا الملح فقيل لمه يا رسول الله إنه بمنزلة الماء أي النابع المعد فانتزعه منه ومما يدخل في عموم قوله ﷺ لا ضرر أن الله لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة فإن ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم لكنه لم يأمر عباده بشيء هو ضار لهم في أبدانهم أيضًا ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض وقال ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج المائدة وأسقط الصيام عن المريض والمسافر وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة وأسقط اجتناب محظورات الإحرام كالحلق ونحوه عمن كان مريضا أو به أذى من رأسه وأمر بالفدية. وفي المسند عن ابن عباس قال قيل لرسول الله ﷺ أي الأديان أحب إلى الله قال الحنيفية السمحة ومن حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال إني أرسلت بحنيفية سمحة ومن هذا المعنى ما في الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ رأي رجلًا يمشي قيل له إنه نذر أن يحج ماشيا فقال إن الله لغني عن مشيه فليركب وفي رواية إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وفي السنن عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت فقال النبي ﷺ إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا فلتركب وقد اختلف العلماء في حكم من نذر أن يحج ماشيا فمنهم من قال لا يلزمه المشي وله الركوب بكل حال وهو رواية عن الأوزاعي وأحمد وقال أحمد يصوم ثلاثة أيام وقال الأوزاعي عليه كفارة يمين والمشهور أنه يلزمه ذلك إن أطاقه فإن عجز عنه فقيل يركب عند العجز ولاشيء عليه وهو أحد قولي الشافعي وقيل بل عليه مع ذلك كفارة يمين وهو قول الثوري وأحمد في رواية وقيل بل عليه دم قاله طائفة من السلف منهم عطاء ومجاهد والحسن والليث وأحمد في رواية وقيل يتصدق بكراء ما ركب وروى عن الأوزاعي وحكاه عن عطاء وروى عن عطاء يتصدق بقدر نفقته عند البيت وقالت طائفة من الصحابة وغيرهم لا يجزيه الركوب بل يحج من قابل فيمشي ما ركب ويركب ما مشى وزاد بعضهم وعليه هدي وهو قول مالك إذا كان ما ركبه كثيرًا ومما يدخل في عمومه أيضًا بأن من عليه دين لا يطالب به مع إعساره بل ينظر إلى حال يساره قال تعالى {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة وعلي هذا جمهور العلماء خلافًا لشريح في قوله إن الآية مختصة بديون الربا في الجاهلية والجمهور أخذوا باللفظ العام لا يكلف المدين أن يقضي بما عليه في خروجه من ملكه ضرر كثيابه ومسكنه المحتاج إليه وخادمه كذلك ولا ما يحتاج إلى التجارة به لنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

==========

الحديث الثالث والثلاثون

البينة على المدعي واليمين على من أنكر

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر . حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين

أصل هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال لو يعطي الناس بدعواهم لادعي ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه وخرجاه أيضًا من رواية نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي ﷺ قضي أن اليمين على المدعي عليه واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساق ابن الصلاح مثله في الأحاديث الكليات وقال رواه البيهقي بإسناد حسن وخرجه الإسماعيلي في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء رجال وأموالهم ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب وروى الشافعي أنبأ مسلم بن خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال البينة على المدعي قال الشافعي وأحسبه ولا أثبته أنه قال واليمين على المدعي عليه وروى محمد بن عمر بن لبانة الفقيه الأندلسي عن عثمان بن أيوب الأندلسي ووصفه بالفضل عن غازي بن قيس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن النبي ﷺ فذكر هذا الحديث ولكن قال البينة على من ادعي واليمين على من أنكر وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح سمع من مالك وابن جريج وطبقتهما وسقط من هذا الإسناد ابن جريج وقد استدل الإمام أحمد وأبو عبيد أن النبي ﷺ قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به وفي المعنى أحاديث كثيرة ففي الصحيحين عن الأشعث بن قيس قال كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ شاهداك أو يمينه قلت إذا يحلف ولا يبالي فقال رسول الله ﷺ من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ثم قرأ هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} آل عمران.

وفي رواية لمسلم بعد قوله إذا يحلف قال ليس لك إلا ذلك وخرجه أيضًا مسلم بمعناه من حديث وائل ابن حجر عن النبي ﷺ.

وخرج الترمذي من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال في خطبته البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه وقال في إسناده مقال والعرزمي يضعف في الحديث من جهة حفظه وخرجه الدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي وفيه ضعف عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة ورواه الحافظ عن ابن جرير عن عمرو بن شعيب مرسلًا وخرجه أيضًا من رواية مجاهد عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال في خطبته يوم الفتح المدعي عليه أولي باليمين إلا أن تقوم بينة وخرجه الطبراني وعنده عن عبدالله ابن عمرو بن العاص وفي إسناده كلام.

وخرج الدارقطني هذا المعنى من وجوه متعددة ضعيفة وروى حجاج الصواف عن حميد بن هلال عن زيد بن ثابت قال قضي رسول الله ﷺ أيما رجل طلب عند رجل طلبة فإن المطلوب هو أولي باليمين وخرجه أبو عبيد والبيهقي وإسناده ثقات إلا أن حميد بن هلال ما أظنه لقي زيدا بن ثابت وخرجه الدارقطني وزاد فيه بغير شهداء وخرجه النسائي من حديث ابن عباس قال جاء خصمان إلى النبي ﷺ فادعي أحدهما على الآخر حقا فقال النبي ﷺ للمدعي أقم بينتك فقال يا رسول الله ما لي بينة فقال الآخر احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عليك أو عندك شيء وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقضي بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم ينكراه وقال قتادة فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه قال ومعنى قوله البينة على المدعي يعني أنه يستحق بها ما ادعي لأنها واجبة يؤخذ بها ومعنى قوله علي المدعي عليه أي يبرأ بها لأنها واجبة عليه يؤخذ بها على كل حال انتهى.

وقد اختلف الفقهاء من أصحابنا والشافعية في تفسير المدعي والمدعي عليه فمنهم من قال المدعي هو الذي يخلي وسكوته من الخصمين والمدعي عليه من لا يخلي وسكوته منهما ومنهم من قال المدعي من يطلب أمرا خفيا على خلاف الأصل والظاهر والمدعي عليه بخلافه وبنوا على ذلك مسألة وهي إذا أسلم الزوجان الكافران قبل الدخول ثم اختلفا فقال الزوج أسلمنا معا فنكاحنا باق وقالت الزوجة بل سبق أحدنا إلى الإسلام فالنكاح منفسخ فإن قلنا المدعي يخلي وسكوته فالمرأة هي المدعي فيكون القول قول الزوج لأنه مدعي عليه إذ لا يخلي وسكوته وإن قلنا إن المدعي من يدعي أمرا خفيا فالمدعي هنا هو الزوج إذ التقارن في الإسلام خلاف الظاهر فالقول قول المرأة لأن الظاهر معها وأما الأمين إذا ادعي التلف كالمودع إذا ادعي تلف الوديعة فقد قيل إنه مدع لأن الأصل يخالف ما ادعاه وإنما لم يحتج إلى بينة لأن المودع ائتمنه والائتمان يقتضي قبول قوله وقيل إن المدعي الذي يحتاج إلى بينة هو المدعي ليعطي بدعواه مال قوم أو دماءهم كما ذكر ذلك في الحديث فأما الأمين فلا يدعي ليعطي شيئًا وقيل بل هو مدعي عليه لأنه إذا سكت لم يترك بل لابد له من رد الجواب والمودع مدع لأنه إذا سكت ترك ولو ادعي الأمين رد الأمانة إلى من ائتمنه فالأكثرون على أن قوله مقبول أيضًا لدعوى التلف.

وقال الأوزاعي لا يقبل قوله لأنه مدع وقال مالك وأحمد في رواية إن ثبت قبضه للأمانة ببينة لم يقبل قوله في الرد بدون البينة ووجه بعض أصحابنا ذلك بأن الإشهاد على دفع الحقوق الثابتة بالبينة واجب فيكون تركه تفريطا فيجب به الضمان ولذلك قال طائفة منهم في دفع مال اليتيم إليه لابد له من بينة لأن الله تعالى أمر بالإشهاد عليه فيكون واجبا وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين أحدهما أن البينة على المدعي أبدًا واليمين على المدعي عليه أبدًا وهو قول أبي حنيفة ووافقه طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخارى وطردوا ذلك في كل دعوى حتى في القسامة وقالوا لا يحلف إلا المدعي عليه ورأوا أن لا يقضي بشاهد ولا يمين لأن اليمين لا تكون إلا على المدعي عليه ورأوا أن اليمين لا ترد على المدعي لأنها لا تكون إلا في جانب المنكر المدعي عليه واستدلوا في مسئلة القسامة بما روى سعيد بن عبيد حدثنا بشير بن بشار الأنصاري عن سهل بن أبي خيثمة أنه أخبره أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها فوجدوا أحدهم قتيلا فذكر الحديث وفيه فقال النبي ﷺ تأتوني بالبينة على من قتله قالوا ما لنا بينة قال فيحلفون قالوا لا نرضي بأيمان اليهود فكره النبي ﷺ أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة خرجه البخاري وخرجه مسلم مختصرًا ولم يتمه ولكن هذه الرواية تعارض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير ابن بشار عن سهل بن أبي خيثمة فذكر قصة القتيل وقال فيه فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقتل عبدالله بن سهل فقال رسول الله ﷺ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وهذه هي الرواية المشهورة الثابتة المخرجة بلفظها بكمالها في الصحيحين وقد ذكر الأئمة الحفاظ أن رواية يحيى بن سعيد أصح من رواية سعيد بن عبيد الطائي فإنه أجل وأحفظ وأعلم وهو من أهل المدينة وهو أعلم بحديثهم من الكوفيين وقد ذكر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيي بن سعيد في هذا الحديث فنفض يده وقال ذاك ليس بشيء رواه على ما يقول الكوفيين وقال أذهب إلى حديث المديني يحيى بن سعيد وقال النسائي لا نعلم أحدًا تابع سعيدا بن عبيد على روايته عن بشير بن بشار وقال مسلم في كتاب التمييز لم يحفظه سعيد بن عبيد على وجهه لأن جميع الأخبار فيها سؤال النبي ﷺ إياهم قسامة خمسين يمينا وليس في شيء من أخبارهم أن النبي ﷺ سألهم البينة وترك سعيد القسامة وتواطؤ الأخبار بخلافه يقضي عليه بالغلط وقد خالفه يحيى بن سعيد.

وقال ابن عبد البر في رواية سعيد بن عبيد هذه رواية أهل العراق عن بشير بن بشار ورواية أهل المدينة عنه أثبت وهم به أقعد ونقلهم أصح عند أهل العلم قلت وسعيد بن عبيد اختصر قصة القسامة وهي محفوظة في الحديث فقد خرج النسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ طلب من ولي القتيل شاهدين على من قتله فقال ومن أين أصيب شاهدين قال فتحلف خمسين قسامة قال كيف أحلف على ما لم أعلم قال فتستحلف منهم خمسين قسامة فهذا الحديث يجمع بين روايتي سعيد بن عبيد ويحيى ابن سعيد ويكون كل منهما ترك بعض القصة فترك سعيد ذكر قسامة المدعين وترك يحيى ذكر البينة قبل طلب القسامة والله أعلم.

وأما مسألة الشاهد مع اليمين فاستدل من أنكر الحكم بالشاهد واليمين بحديث شاهداك أو يمينه.

وقوله ﷺ ليس لك إلا ذلك وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة وقال تفرد بها منصور عن أبي وائل وخالفه سائر الرواة وقالوا إنه سأله ألك بينة أولا والبينة لا تقف على الشاهدين فقط بل تعم سائر ما يبين الحق وقال غيره يحتمل أن يريد بشهادته كل نوعين يشهدان للمدعي بصحة دعواه يتبين بهما الحق فيدخل ذلك بشهادة الرجلين وشهادة الرجل مع المرأتين وشهادة الواحد مع اليمين وقد أقام الله سبحانه أيمان المدعي مقام الشهود في اللعان، وقوله في تمام الحديث ليس لك إلا ذلك لم يرد به النفي العام بل النفي الخاص وهو الذي أراده المدعي وهو أن يكون القول قوله بغير بينة فمنعه من ذلك وأبي ذلك عليه، وكذلك قوله في الحديث الآخر ولكن اليمين على المدعي عليه إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة وأول الحديث يدل على ذلك وهو قوله لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء رجال وأموالهم فدل على أن قوله اليمين على المدعي عليه إنما هي اليمين القاطعة للمنازعة مع عدم البينة وأما اليمين المثبتة للحق مع وجود الشهادة فهذا نوع آخر وقد ثبت بسنة أخرى وأما رد اليمين على المدعي فالمشهور عن أحمد موافقة أبي حنيفة وأنها لا ترد واستدل أحمد بحديث اليمين على المدعي عليه وقال في رواية أبي طالب عنه ما هو بعيد أن يقال له يحلف ويستحق واختار ذلك طائفة من متأخري الأصحاب وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد وروى عن طائفة من الصحابة وقد ورد فيه حديث مرفوع خرجه الدارقطني وفي إسناده نظر قال أبو عبيد ليس هذا إزالة لليمين عن موضعها فإن الإزالة أن لا تقضي باليمين على المطلوب فأما إذا قضي بها عليه فرضي بيمين صاحبه كان هو الحاكم على نفسه بذلك لأنه لو شاء لحلف وبريء وبطلت عنه الدعوى والقول الثاني في المسألة أنه يرجح جانب أقوي المتداعيين وتجعل اليمين في جانبه هذا مذهب مالك وكذا ذكر القاضي أبو يعلي في خلافه أنه مذهب أحمد وعلي هذا تتوجه المسائل التي تقدم ذكرها من الحكم بالقسامة والشاهد واليمين فإن جانب المدعي في القسامة لما قوي باللوث جعلت اليمين في جانبه وحكم له بها، وكذلك المدعي إذا أقام شاهدا فإنه قوي جانبه فحلف معه وقضي له وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله البينة على المدعي طريقان أحدهما أن هذا خص من هذا العموم بدليل والثاني أن قوله البينة على المدعي ليس بعام لأن المراد المدعي المعهود وهو من لا حجة له سوي الدعوى كما في قوله لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء قوم وأموالهم فأما المدعي الذي معه حجة تقوي دعواه فليس داخلا في هذا الحديث وطريق ثالث وهو أن البينة كل ما بين صحة دعوى المدعي وشهد بصدقه فاللوث مع القسامة بينة والشاهد مع اليمين بينة وطريق رابع سلكه بعضهم وهو الطعن في صحة هذه اللفظة أعني قوله البينة على المدعي وقالوا إنما الثابت هو قوله اليمين على المدعي عليه، وقوله لو يعطي الناس بدعواهم لادعي قوم دماء قوم وأموالهم يدل على أن مدعي الدم والمال لابد له من بينة تدل على ما ادعاه ويدخل في عموم ذلك أن من ادعي على رجل أنه قتل مورثه وليس معه إلا قول المقتول عند موته جرحني فلان أنه لا يكتفي بذلك ولا يكون بمجرده لوثا وهذا قول الجمهور خلافًا للمالكية فإنهم جعلوه لوثا يقسم معه الأولياء ويستحقون الدم ويدخل في عمومه أيضًا من قذف زوجته ولاعنها فإنه لا يباح دمها بمجرد لعانه وهذا قول الأكثرين خلافًا للشافعي واختار قوله الجوزجاني لظاهر قوله عز وجل {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} النور والأولون منهم من حمل العذاب على الحبس وقالوا إن لم تلاعن حبست حتى تقر أو تلاعن وفيه نظر ولو ادعت امرأة على رجل بأنه استكرهها على الزنا فالجمهور على أنه لا يثبت بدعواها عليه شيء وقال أشهب من المالكية لها الصداق بيمينها.

وقال غيره منهم لها الصداق بغير يمين هذا كله إذا كانت ذات قدر وادعت ذلك على متهم تليق به الدعوى وإن كان المرمي بذلك من أهل الصلاح ففي حدها للقذف عن مالك روايتان وقد كان شريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرد القرائن الدالة على صدق إحدى المتداعيين وقضي شريح في أولاد هرة تداعاها امرأتان كل منهما تقول هي ولد هرتي قال شريح ألقها مع هذه فإن هي قرت ودرت واستبطرت فهي لها وإن فرت وهربت وبارت فليس لها قال ابن قتيبة قوله استبطرت يريد امتدت للإرضاع وإن بارت اقشعرت وتنفشت، وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشافعية ورجح قوله ابن عقيل من أصحابنا وقد روي عن الشافعي وأحمد السختياني قول القافة في سرقة الأموال والأخذ بذلك ونقل ابن منصور عن أحمد إذا قال صاحب الزرع أفسدت غنمك زرعي بالليل ينظر في الأثر فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع لابد لصاحب الزرع من أن يجئ بالبينة قال إسحاق ابن راهويه كما قال أحمد لأنه مدع وهذا يدل على اتفاقهما على الاكتفاء برؤية أثر الغنم وأن البينة إنما تطلب عند عدم الأثر، وقوله واليمين على المدعي عليه يدل على أن كل من ادعي عليه دعوى فأنكر فإن عليه اليمين وهذا قول أكثر الفقهاء وقال مالك إنما تجب اليمين على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوع مخالطة خوفا من أن يتبذل السفهاء على الرؤساء بطلب أيمانهم وعنده ولو ادعي على رجل أنه غصبه أو سرق منه ولم يكن المدعي عليه متهما بذلك لم يستحلف المدعي عليه وحكي أيضًا عن القاسم بن محمد وحميد بن عبدالرحمن وحكاه بعضهم عن فقهاء المدينة السبعة فإن كان من أهل الفضل أو ممن لا يشار إليه بذلك أدب المدعي عند مالك واستدل بقوله اليمين على المدعي عليه على أن المدعي لا يمين عليه وإنما عليه البينة وهو قول الأكثرين وروى عن على أنه أحلف المدعي مع بينته أن شهوده شهدوا بحق وفعله أيضًا شريح وعبد الله بن عقبة وابن مسعود وابن أبي ليلي وسوار العنبري وعبيد الله بن الحسين ومحمد بن عبدالله الأنصاري وروى عن النخعي أيضًا وقال إسحاق إذا استراب الحاكم وجب ذلك وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال أحمد قد فعله علي فقال له أيستقيم هذا فقال قد فعله علي فأثبت القاضي هذه الرواية عن أحمد لكنه حملها على الدعوى على الغائب والصبي وهذا لا يصح لأن عليا إنما حلف المدعي مع بينته على الحاضر معه وهؤلاء يقولون هذه اليمين لتقوية الدعوى إذا ضعفت باسترابة الشهود كاليمين مع الشاهد الواحد، وكان بعض المتقدمين يحلف الشهود إذا استرابهم أيضًا ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة وجوز ذلك القاضي أبو يعلي من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع إنها تستحلف وأخذ به الإمام أحمد وقد دل القرآن على استحلاف المشهود عند الارتياب بشهادتهم في الوصية في السفر في قوله تعالى {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} إلى قوله {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} المائدة.

وهذه الآية لم ينسخ العمل بها عند جمهور السلف وقد عمل بها أبو موسى وابن مسعود وأفتي بها على وابن عباس وهو مذهب شريح والنخعي وابن أبي ليلي وسفيان والأوزاعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم قالوا تقبل شهادة الكفار في وصية المسلمين في السفر ويستحلفان مع شهادتهما وهل يمنعهما من باب تكميل الشهادة فلا يحكم بشهادتهما بدون يمين أم من باب الاستظهار عند الريبة وهذا محتمل وأصحابنا جعلوها شرطًا وهو ظاهر ما روي عن أبي موسى وغيره.

وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب الاستظهار فإن رأي الحاكم الاكتفاء بالشاهد الواحد لبروز عدالته وظهور صدقه اكتفي بشهادته بدون يمين الطالب، وقوله فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما المائدة يدل على أنه إذا ظهر خلل في شهادة الكفار حلف أولياء الميت على خيانتهما وكذبهما واستحقوا عليه وهذا قول مجاهد وغيره من السلف ووجه ذلك أن اليمين في جانب أقوي المتداعيين وقد قويت هنا دعوى الورثة بظهور كذب الشهود الكفار فترد اليمين على المدعين ويحلفون مع اللوث ويستحقون ما ادعوا كما يحلف الأولياء في القسامة مع اللوث ويستحقون بذلك الدية والدم أيضًا عند مالك وأحمد وغيرهما وقضي ابن مسعود في رجل مسلم حضره الموت فأوصي إلى رجلين مسلمين معه وسلمهما ما معه من المال وأشهد على وصيته كفارا ثم قدم الوصيان فدفعا بعض المال إلى الورثة وكتما بعضه ثم قدم الكفار فشهدوا عليهم بما كتموه من المال فدعا الوصيين المسلمين فاستحلفهما ما دفع إليهما أكثر مما دفعاه ثم دعا الكفار فشهدوا وحلفوا على شهادتهم ثم أمر أولياء الميت أن يحلفوا أن ما شهدت به اليهود والنصارى حق فحلفوا فقضي على الوصيين بما حلفوا عليه، وكان ذلك في خلافة عثمان وتأول ابن مسعود الآية على ذلك وكأنه قابل بين يمين الأوصياء والشهود الكفار فحلفوا معها واستحقوا لأن جانبهم ترجح بشهادة الكفار لهم فجعل اليمين مع أقوي المتداعيين وقضي بها واختلف الفقهاء هل يستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن أحمد أو لا يستحلف إلا فيما يقضي فيه بالنكول كرواية عن أحمد ولا يستحلف إلا فيما يصح بذله كما هو المشهور عن أحمد ولا يستحلف إلا في كل دعوى لا تحتاج إلى شاهدين كما حكي عن مالك وأما حقوق الله عز وجل فمن العلماء من قال لا يستحلف فيها بحال وهو قول أصحابنا وغيرهما ونص عليه أحمد في الزكاة وبه قال طاوس والثوري والحسن بن صالح وغيرهم وقال أبو حنيفة ومالك والليث والشافعي إذا اتهم فإنه يستحلف وكذا حكي عن الشافعي فيمن تزوج من لا تحل له ثم ادعي الجهل أنه يحلف على دعواه وكذا قال إسحاق في طلاق السكران يحلف أنه ما كان يعقل وفي طلاق الناسي يحلف على نسيانه وكذا قال القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله في رجل قال لامرأته أنت طالق يحلف أنه ما أراد به الثلاث وترد إليه.

وخرج الطبراني من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان أناس من الأعراب يأتون بلحم، وكان في أنفسنا منه شيء فذكرنا ذلك لرسول الله ﷺ فقال اجهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها ثم اذكروا اسم الله وكلوا وأبو هارون ضعيف جدًا وأما المؤتمن في حقوق الآدميين حيث قبل قوله فهل عليه يمين أم لا ففيه ثلاثة أقوال للعلماء أحدهما لا يمين عليه لأنه صدقه ولا يمين مع التصديق وبالقياس على الحاكم وهذا قول الحارث العكلي والثاني عليه اليمين لأنه منكر فيدخل في عموم قوله واليمين على من أنكر وهو قول شريح وأبي حنيفة والشافعي ومالك في رواية وأكثر أصحابنا والثالث لا يمين عليه إلا أن يتهم وهو نص أحمد وقول مالك في رواية لما تقدم من ائتمانه وأما إذا قامت قرينة تنافي حال الائتمان فقد اختل معنى الائتمان، وقوله البينة على المدعي واليمين على من أنكر إنما أريد به إذا ادعي على رجل ما يدعيه لنفسه وينكر أنه ادعاه عليه ولهذا قال في أول الحديث لو يعطي الناس بدعواهم لادعي رجال دماء قوم وأموالهم فأما من ادعي ما ليس له مدعي لنفسه منكر لدعواه فهذا أسهل من الأول ولابد للمدعي هنا من بينة ولكن يكتفي من البينة هنا بما لا يكتفي بها في الدعوى على المدعي لنفسه المنكر ويشهد لذلك مسائل منها اللقطة إذا جاء من وصفها فإنها تدفع إليه من غير بينة بالاتفاق لكن منهم من يقول يجوز الدفع إذا غلب على الظن صدقه ولا يجب كقول الشافعي وأبي حنيفة ومنهم من يقول يجب دفعها بذكر الوصف المطابق كقول مالك وأحمد ومنها الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئًا وأنه كان له واستولي عليه الكفار وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتفي به وسئل عن ذلك أحمد وقيل له فتريد على ذلك بينة قال لابد به من بيان يدل على أنه له وإن علم ذلك دفعه إليه الأمير وروى الخلال بإسناده عن الركين بن الربيع عن أبيه قال أحمس أي شرد لأخي فرس بعين القمر فرآه في مربط سعد فقال فرسي فقال سعد ألك بينة قال لا ولكن أدعوه فيحمحم فدعاه فحمحم فأعطاه إياه وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدو ثم ظهر عليه المسلمون ويحتمل أنه عرف أنه ضال فوضع بين الدواب الضالة فيكون كاللقطة ومنها المغصوب إذا علم ظلم الولاة فطلب ردها من بيت المال قال أبو الزناد كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة كان يكتفي باليسير إذا عرف صرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه ولم يكلفه تحقيق البينة لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس ولقد انقضت أموال العراق في رد المظالم حتى حمل إليها من الشام وذكر أصحابنا أن الأموال المغصوبة مع قطاع الطريق واللصوص يكتفي من مدعيها بالصفة كاللقطة ذكره القاضي في خلافه وأنه ظاهر كلام أحمد والله أعلم.

======

الحديث الرابع والثلاثون

النهي عن المنكر من الإيمان

عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد ومن رواية إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعنده في حديث طارق قال أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضي ما عليه ثم روى هذا الحديث وقد روى معناه من وجه آخر فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون مالًا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل وروى سالم المرادي عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه فذلك الذي سبقت له السوابق ورجل عرف دين الله وصدق به وللأول عليه سابقة ورجل عرف دين الله فسكت عليه فإن كان رأي من يعمل بخير أحبه عليه وإن رأي من يعمل بباطل أبغضه عليه فذلك الذي ينجو على إبطانه كله وهذا غريب وإسناده منقطع.

وخرج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي وهو ضعيف جدًا عن مولي لعمر عن عمر عن النبي ﷺ قال توشك هذه الأمة أن تهلك إلا ثلاثة نفر رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه فإن جبن بيده فبلسانه وقلبه فإن جبن بلسانه وبيده فبقلبه.

وخرج أيضًا من رواية الأوزاعي عن عمير بن هانئ عن على أنه سمع النبي ﷺ يقول سيكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير بيده ولا بلسانه قلت يا رسول الله وكيف ذلك قال ينكرونه بقلوبهم قلت يا رسول الله وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئًا قال لا إلا كما ينقص القطر من الصفا وهذا الإسناد منقطع.

وخرج الطبراني معناه من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ بإسناد ضعيف فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه وأما إنكاره بالقلب فلابد منه فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه وقد روي عن أبي جحيفة قال قال على إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بألسنتكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله وسمع ابن مسعود رجلًا يقول هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فقال ابن مسعود هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب الطاقة.

وقال ابن مسعود يوشك من عاش منكم أن يري منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره وفي سنن أبي داود عن العرس بن عميرة عن النبي ﷺ قال إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في كل حال من الأحوال.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها وهذا مثل الذي قبله فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة كما في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا إلا يوشك الله أن يعمهم بعقابه أخرجه أبو داود بهذا اللفظ وقال قال شعبة فيه ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله.

وخرج أيضًا من حديث جرير سمعت النبي ﷺ يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا وخرجه الإمام أحمد ولفظه ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعمله فلم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب.

وخرج أيضًا من حديث عدي بن عمير قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة.

وخرج أيضًا هو وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال سمعت النبي ﷺ يقول إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله عبدًا حجته قال يا رب رجوتك وفرقت من الناس فأما ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد أيضًا عن النبي ﷺ أنه قال في خطبة ألا لا يمنعن رجلًا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه وبكي أبو سعيد وقال قد والله رأينا أشياء فهبنا وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكر بعظيم، وكذلك خرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال لا يحقر أحدكم نفسه قالوا يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه قال يري أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه فيقول الله له ما منعك أن تقول في كذا وكذا فيقول خشيت الناس فيقول الله إياي كنت أحق أن تخشى فهذان الحديثان محمولان على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة دون الخوف المسقط للإنكار قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر قال إن خفت أن يقتلك فلا ثم عدت فقال لي مثل ذلك ثم عدت فقال لي مثل ذلك وقال إن كنت لابد فاعلا ففيما بينك وبينه وقال طاوس أتي رجل ابن عباس فقال ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره وأنهاه قال لا تكن له فتنة قال أفرأيت إن أمرني بمعصية الله قال ذلك الذي تريد فكن حينئذ رجلًا وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه يخلف من بعدهم خلوف فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن الحديث وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود وقال هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله ﷺ فيها بالصبر على جور الأئمة وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا يستلزم القتال وقد نص على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح فقال التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح فحينئذ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو ذلك أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك جائز وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتله الأمراء وحده وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين نعم إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو جيرانه لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره ومع هذا متي خاف على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى سقط أمرهم ونهيهم وقد نص الأئمة على ذلك منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم قال أحمد لا يتعرض إلى السلطان فإن سيفه مسلول.

وقال ابن شبرمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين ويحرم عليه الفرار منهما ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك فإن خاف السب أو سماع الكلام السيء لم يسقط عنه الإنكار بذلك نص عليه الإمام أحمد وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل نص عليه أحمد أيضًا وقيل له أليس قد جاء عن النبي ﷺ أنه قال ليس للمؤمن أن يذل نفسه أي يعرضها من البلاء ما لا طاقة له به قال ليس هذا من ذلك ويدل على ما قاله ما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.

وخرج ابن ماجه معناه من حديث أبي أمامة.

وفي مسند البزار بإسناد فيه جهالة عن أبي عبيدة بن الجراح قال قلت يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله قال رجل قام إلى إمام جائر فأمره بمعروف ونهاه عن المنكر فقتله وقد روى معناه من وجوه أخرى كلها فيها ضعف وأما حديث لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه فإنما يدل على أنه إذا علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه فإنه لا يتعرض حينئذ للأمراء وهذا حق وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر لذلك قاله الأئمة كسفيان وأحمد والفضيل بن عياض وغيرهم وقد روي عن أحمد ما يدل على الاكتفاء بالإنكار بالقلب قال في رواية أبي داود نحن نرجو إن أنكر بقلبه فقد سلم وإن أنكر بيده فهو أفضل وهذا محمول على أنه يخاف كما صرح بذلك في رواية غير واحد وقد حكي القاضي أبو يعلي روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه وصح القول بوجوبه وهذا قول أكثر العلماء وقد قيل لبعض السلف في هذا فقال يكون لك معذرة وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم أتعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون الأعراف وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به ففي سنن أبي داود وابن ماجه والترمذى عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له كيف تقول في هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} المائدة قال سألت عنها خبيرًا أما والله لقد سألت عنها رسول الله ﷺ فقال بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوي متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام.

وفي سنن أبي داود عن عبدالله بن عمر قال بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ذكر الفتنة فقال إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك أصابعه فقمت إليه فقلت له كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك فقال الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة، وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} المائدة قالوا لم يأت تأويلها بعد إنما تأويلها في آخر الزمان وعن ابن مسعود قال إذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فيأمر الإنسان حينئذ نفسه فهو حينئذ تأويل هذه الآية.

وعن ابن عمر قال هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة قالوا إذا رأيت شحا مطاعا وهوي متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت وعن مكحول قال لم يأت تأويلها بعد إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.

وعن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية قال يا لها من ثقة ما أوثقها ومن سعة ما أوسعها وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه.

وكلام ابن عمر يدل على أن من علم أنه لا يقبل منه لم يجب عليه كما حكي رواية عن أحمد وكذا قال الأوزاعي اأمر من تري أن يقبل منك.

وقوله ﷺ في الذي ينكر بقلبه وذلك أضعف الإيمان يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الإيمان ويدل على أن من قدر على خصلة من خصال الإيمان وفعلها كان أفضل ممن تركها عجزًا ويدل على ذلك أيضًا قوله ﷺ في حق النساء أما نقصان دينها فإنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي يشير إلى أيام الحيض مع أنها ممنوعة حينئذ من الصلاة وقد جعل ذلك نقصا في دينها فدل على أن من قدر على واجب وفعله فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه وإن كان معذورًا في تركه والله أعلم ما هو المنكر المراد بالحديث قوله صلى الله وآله وسلم من رأى منكم منكرا يدل على أن الإنكار متعلق بالرؤية فإن كان مستورا فلم يره ولكن علم به فالمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات أنه لا يتعرض له وأنه لا يفتش عما استراب به، وعنه رواية أخرى أنه يكشف المغطي إذا تحققه ولو سمع صوت غناء محرم أو آلات الملاهي وعلم المكان التي هي فيه فإنه ينكرها لأنه قد تحقق المنكر وعلم موضعه فهو كما رآه ونص عليه أحمد وقال أما إذا لم يعلم مكانه فلا شيء وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره مثل سفيان الثوري وغيره وهو داخل في التجسس المنهي عنه وقد قيل لابن مسعود إن فلانا تقطر لحيته خمرا فقال نهانا الله عن التجسس وقال القاضي أبو يعلي في كتاب الأحكام السلطانية إن كان في المنكر الذي غلب على ظنه الاستسرار به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل فله التجسس والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعا عليه فأما المختلف فيه فمن أصحابنا من قال لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا واستثني القاضي في الأحكام السلطانية ما ضعف فيه الخلاف وإن كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه وكنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنا وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحا عن ابن بطة قال لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلا إلا أن يكون قضي لرجل بعقد متعة أو طلق ثلاثًا في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج فحكمه مردود وعلي عله العقوبة والنكال والمنصوص عن أحمد الإنكار على الملاعب بالشطرنج وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ وفيه نظر فإن المنصوص عنه أنه يحد شارب النبيذ المختلف فيه وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك والله أعلم. وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل على رجاء ثوابه وتارة خوف العقاب في تركه وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لعقوبة الله وغضبه في الدنيا والآخرة وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته وأنه أهل أن يطاع ويذكر فلا ينسي ويشكر فلا يكفر وأنه يفتدي من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال كما قال بعض السلف وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض، وكان عبد الملك بن عمر بن عبدالعزيز يقول لأبيه وددت أني غلت بي وبك القدور في الله تعالى ومن لحظ هذا المقام والذي قبله هان عليه كل ما يلقي من الأذى في الله تعالى وربما دعا لمن آذاه كما قال ذلك النبي ﷺ لما ضربه قومه فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون وبكل حال فتبين الرفق في الإنكار قال سفيان الثوري لا يأمر بالمعروف ولا ينهي عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال رفيق بما يأمر رفيق بما ينهي عدل بما يأمر عدل بما ينهي عالم بما يأمر عالم بما ينهي وقال أحمد الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل ملعن بالفسق فلا حرمة له قال، وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون مهلا رحمكم الله مهلا رحمكم الله وقال أحمد يأمر بالرفق والخضوع فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه والله أعلم.

==

الحديث الخامس والثلاثون

أخوة الإسلام

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول ﷺ لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه . رواه مسلم

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي سعيد مولي عبدالله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة وأبو سعيد هذا لا يعرف اسمه وقد روى عنه غير واحد وذكره ابن حبان في ثقاته.

وقال ابن المديني هو مجهول وروى هذا الحديث سفيان الثوري فقال فيه سعيد بن يسار عن أبي هريرة ووهم في قوله سعيد بن يسار إنما هو أبو سعيد مولي ابن كريز قاله أحمد ويحيى والدارقطني وقد روى بعضه من وجه آخر وخرجه الترمذي من رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوى ههنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.

وخرج أبو داود من قوله كل المسلم على المسلم حرام إلى آخره وخرجه في الصحيحين من رواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا وخرجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة.

وخرج الإمام أحمد من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ قال كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله والتقوى هاهنا وأومأ بيده إلى القلب وحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم.

وخرج أبو داود آخره فقط.

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه وخرجه الإمام أحمد ولفظه المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره وحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ﷺ قال لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناويروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعًا وموقوفا فقوله ﷺ لا تحاسدوا يعني لا يحسد بعضكم بعضًا والحسد مركوز في طباع البشر وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه وهو شرهما وأخبثهما وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه وهو كان ذنب إبليس حيث كان حسد آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة بأن الله خلقه بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه في جواره فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرجه منها ويروى عن ابن عمر أن إبليس قال لنوح اثنان أهلك بهما بني آدم الحسد وبالحسد لعنت وجعلت شيطانا رجيما والحرص أبيح آدم الجنة كلها فأصبت حاجتي منه بالحرص خرجه ابن أبي الدنيا وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن كقوله تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} البقرة، وقوله {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} النساء.

وخرج الإمام أحمد والترمذى من حديث الزبير بن العوام عن النبي ﷺ دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضاء هي الحالقة حالقته الدين لا حالقة الشعر والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم.

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب.

وخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال سيصيب أمتي داء الأمم قالوا يا نبي الله وما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره لم يعمل بمقتضى حسده ولم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك وروى مرفوعًا من وجوه ضعيفة وهذا على نوعين أحدهما أن لا يمكنه إزالة ذلك الحسد عن نفسه ويكون مغلوبا على ذلك فلا يأثم به والثاني من يحدث نفسه بذلك اختيارا ويعيده ويبدئه في نفسه مستروحا إلى تمني زوال نعمة أخيه فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء وربما يذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى لكن هذا يبعد أن يسلم من البغي على المحسود بالقول فيأثم بل يسعى في اكتساب مثل فضائله ويتمني أن يكون مثله فإن كانت الفضائل دنيوية فلا خير في ذلك كما قال الله تعالى {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} القصص وإن كانت فضائل دينية فهو حسن وقد تمني النبي ﷺ الشهادة في سبيل الله.

وفي الصحيحين عنه ﷺ قال لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار وهذا هو الغبطة وسماه حسدًا من باب الاستعارة وقسم آخر إذا وجد في نفسه الحسد سعي في إزالته وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه والدعاء له ونشر فضائله وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبته أن يكون المسلم خيرًا منه وأفضل وهذا من أعلي درجات الإيمان وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

وقوله ﷺ ولا تناجشوا فسره كثير من العلماء بالنجش في البيع وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها إما لنفع البائع لزيادة الثمن له أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه.

وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه نهى عن النجش.

وقال ابن أبي أوفي الناجش آكل ربا خائن ذكره البخاري قال ابن عبد البر أجمعوا على أن فاعله عاص لله تعالى إذا كان بالنهي ععالمًا واختلفوا في البيع فمنهم من قال إنه فاسد وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ومنهم من قال إن الناجش هو البائع أو من واطأه البائع على النجش فقد فسد لأن النهي هنا يعود إلى العاقد نفسه وإن لم يكن كذلك لم يفسد لأنه يعود إلى أجنبي وكذا حكي عن الشافعي أنه علل صحة البيع بأن البائع غير الناجش وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقا وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك رحمه الله والشافعي رحمه الله وأحمد رحمه الله في رواية عنه إلا أن مالكا وأحمد أثبتا للمشتري الخيار إذا لم يعلم بالحال وغبن غبنا فاحشا يخرج عن العادة وقد رواه مالك وبعض أصحاب أحمد بثلث الثمن فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك وإن أراد الإمساك فإنه يحط ما غبن به من الثمن ذكره أصحابنا ويحتمل أن يفسر التناجش المنهي عنه في هذا الحديث بما هو أعم من ذلك فإن أصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة ومنه من سمي الناجش في البيع ناجشا ويسمي الصائد في اللغة ناجشا لأنه يصيد الصيد بحيلته عليه وخداعه له وحينئذ فيكون المعنى لا تخادعوا ولا يختل بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى المسلم إما بطريق الاحتيال وإما اجتلاب نفعه بذلك ويلزم منه وصول الضرر إليه ودخوله عليه وقد قال تعالى {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} فاطر.

وفي حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار.

وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي بكر الصديق المرفوع ملعون من ضار مسلمًا أو مكر به خرجه الترمذي فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه كتدليس العيوب وكتمانها وغش المبيع الجيد بالرديء وغبن المسترسل الذي لا يعرف المماكسة وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم وما أحسن قول أبي العتاهية:

ليس دنيا إلا بدين وليـ *** س الدين إلا مكارم الأخلاق

إنما المكر والخديعة في النا *** ر هما من خصال أهل النفاق

وإنما يجوز المكر بمن يجوز إدخال الأذى عليه وهم الكفار والمحاربون كما قال النبي ﷺ الحرب خدعة.

وقوله ﷺ ولا تباغضوا.

نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس فإن المسلمين جعلهم الله إخوة والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون وقال النبي ﷺ والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلمتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم خرجه مسلم وقد ذكرنا فيما تقدم أحاديث في النهي عن التباغض والتحاسد وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} المائدة وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} آل عمران وقال {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} الأنفال ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} وقال {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذى من حديث أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة.

وخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي ﷺ قال ألا أنبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت وأما البغض في الله فهو من أوثق الإيمان عري وليس داخلا في النهي ولو ظهر لرجل من أخيه شر فأبغضه عليه، وكان الرجل معذورا فيه في نفس الأمر أثيب المبغض له وإن عذر أخوه كما قال عمر إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله ﷺ بين أظهرنا وإذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم ألا وإن رسول الله ﷺ قد انطلق به وانقطع الوحي وإنما نعرفكم بما نخبركم ألا من أظهر منكم لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه ومن أظهر منكم شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه سرائركم بينكم وبين ربكم تعالى وقال الربيع بن خيثم لو رأيت رجلًا يظهر خيرًا ويسر شرًا أحببته عليه آجرك الله على حبك الخير ولو رأيت رجلًا يظهر شرًا ويسر خيرًا بغضته عليه آجرك الله على بغضك الشر ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظهر أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا بل يكون متبعا لهواه مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه فإن كثيرًا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن خطأ قطعا وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قولًا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه مأجورا على اجتهاده فيه موضوعا عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والي من يوافقه ولا عادي من خالفه ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده وأما هذا التابع فقد شابه انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم قوله ولا تدابروا قال أبو عبيد التدابر المصارمة والهجران مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه وهو التقاطع.

وخرج مسلم من حديث أنس عن النبي ﷺ قال لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى وخرجه أيضًا بمعناه من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ.

وفي الصحيحين عن أبي أيوب عن النبي ﷺ قال لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.

وخرج أبو داود من حديث أبي خراش السلمي عن النبي ﷺ قال من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة نص عليه الإمام أحمد واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي ﷺ بهجرانهم لما خاف منهم النفاق وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء وذكر الخطابي أن هجران الوالد لولده والزوج لزوجته وما كان في معنى ذلك تأديبا تجوز الزيادة فيه على الثلاث لأن النبي ﷺ هجر نساءه شهرا واختلفوا هل ينقطع الهجران بالسلام فقالت طائفة ينقطع بذلك وروى عن الحسن ومالك في رواية وهب وقاله طائفة من أصحابنا.

وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم.

وخرج المسلم من الهجر ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخر من الرد عليه فأما مع الرد إذا كان بينهما قبل الهجر مودة ولم يعودوا إليها ففيها نظر وقد قال أحمد في رواية الأثرم وسئل عن السلام يقطع الهجران فقال قد يسلم عليه وقد صد عنه ثم قال قال النبي ﷺ يلتقيان فيصد هذا فإذا كان قد عوده أي أن يكلمه أو يصافحه، وكذلك روي عن مالك أنه قال لا يقطع الهجران بدون العودة إلى المودة وفرق بعضهم بين الأقارب والأجانب فقال في الأجانب يزول الهجر بينهم بمجرد السلام بخلاف الأقارب وإنما قال هذا لوجوب صلة الرحم قوله ﷺ ولا يبيع بعضكم على بيع بعض وقد تكاثر النهي عن ذلك ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا يبيع المؤمن على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه وفي رواية لمسلم لا يسم المسلم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبته وخرجاه من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له ولفظه لمسلم.

وخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر وهذا دليل على أن هذا حق المسلم فلا يساويه الكافر في ذلك بل يجوز للمسلم أن يبتاع على بيع الكافر ويخطب على خطبته وهو قول الأوزاعي وأحمد كما لا يثبت للكافر على المسلم حق الشفعة عنده وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن النهي عام في حق المسلم والكافر واختلفوا هل النهي للتحريم أو التنزيه فمن أصحابنا من قال هو للتنزيه دون التحريم والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنه للتحريم واختلفوا هل يصح البيع على بيع أخيه والنكاح على خطبته فقال أبو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله وأكثر أصحابنا يصح وقال مالك في النكاح إنه إن لم يدخل بها فرق بينهما وإن دخل بها لا يفرق وقال أبو بكر من أصحابنا في البيع والنكاح إنه باطل على كل حال وحكاه عن أحمد ومعنى البيع على بيع أخيه أن يكون قد باع منه شيئًا فيبذل للمشتري سلعته ليشتريها ويفسخ بيع الأول وهل يختص ذلك بما إذا كان البذل في مدة الخيار بحيث يمكن المشتري من الفسخ فيه أم هو عام في مدة الخيار وبعدها فيه اختلاف بين العلماء وقد حكاه الإمام أحمد في رواية حرب ومال إلى القول بأنه عام في الحالين وهو قول طائفة من أصحابنا ومنهم من خصه بما إذا كان في مدة الخيار وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن مشيقس ومنصوص الشافعي والأول أظهر لأن المشتري وإن لم يتمكن من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار فإنه إذا رغب في رد السلعة الأولي على بائعها فإنه يتسبب في ردها عليه بأنواع من الطرق المستفيضة لضرره ولو بإلحاح عليه في المسألة وما أدي إلى ضرر المسلم كان محرما والله أعلم.

وقوله ﷺ وكونوا عباد الله إخوانا هكذا ذكره النبي ﷺ كالتعليل لما تقدم وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بعض كانوا إخوانا وفيه أمر باكتساب ما يصير المسلمون به إخوانا على الإطلاق وذلك يدخل فيه أداء حقوق المسلم على المسلم من رد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض وتشييع الجنازة وإجابة الدعوة والابتداء بالسلام عند اللقاء والنصح بالغيب وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر وخرجه غيره ولفظه تهادوا تحابوا.

وفي مسند البزار عن أنس عن النبي ﷺ قال تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة ويروى عن عمر بن عبد العزيز يرفع الحديث قال تصافحوا فإنه يذهب الشحناء وتهادوا وقال الحسن المصافحة تزيد في المودة وقال مجاهد بلغني أنه إذا تراءى المتحابان فضحك أحدهما إلى الآخر وتصافحا تحاتت خطاياهما كما يتحات الورق من الشجر فقيل له إن هذا ليسير من العمل قال يقولون يسير والله يقول لو أنفقت ما في الأرض جمعيا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم الأنفال، وقوله ﷺ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره هذا مأخوذ من قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فإذا كان المؤمنون إخوة أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها وهذا من ذلك وأيضا فإن الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفع ويكف عنه الضرر وهذا من أعظم الضرر الذي يجب كفه عن الأخ المسلم وهذا لا يختص بالمسلم بل هو محرم في حق كل أحد.

وقد سبق الكلام على الظلم مستوفي عند ذكر حديث أبي ذر الإلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ومن ذلك خذلان المسلم لأخيه فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه كما قال النبي ﷺ انصر أخاك ظعالمًا أو مظلوما قال يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظعالمًا قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه خرجه البخاري بمعناه من حديث أنس وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر وخرجه أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر ابن عبدالله عن النبي ﷺ قال ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته.

وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي ﷺ قال من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدره على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة.

وخرج البزار من حديث عمران بن حصين عن النبي ﷺ قال من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره الله في الدنيا والآخرة ومن ذلك كذب المسلم لأخيه فلا يحل له أن يحدثه ويكذبه بل لا يحدثه إلا صدقا.

وفي مسند الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن النبي ﷺ قال كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت به كاذب ومن ذلك احتقار المسلم لأخيه المسلم وهو ناشئ عن الكبر كما قال النبي ﷺ الكبر بطر الحق وغمط الناس خرجه مسلم من حديث ابن مسعود وخرجه الإمام أحمد وفي رواية له الكبر سفه الحق وازدراء الناس وفي رواية زيادة فلا يراهم شيئًا وغمط الناس الطعن عليهم وازدراؤهم قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} الحجرات فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلي غيره بعين النقص فيحتقرهم ويزدريهم ولا يراهم أهلا لأن يقوم بحقوقهم ولا أن يقبل من أحدهم الحق إذا أورده عليه، وقوله ﷺ التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات فيه إشارة إلى أن كرم الخلق عند الله بالتقوى فرب من يحقره الناس لضعفه وقلة حظه من الدنيا هو أعظم قدرا عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى كما قال الله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات.

وسئل النبي ﷺ من أكرم الناس قال أتقاهم لله تعالى وفي حديث آخر الكرم التقوى والتقوى أصلها في القلب كما قال الله تعالى {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج.

وقد سبق ذكر هذا المعنى في الكلام على حديث أبي ذر الإلهي عند قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا وإذا كان أصل التقوى في القلوب فلا يطلع أحد على حقيقتها إلا الله تعالى كما قال ﷺ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراب من التقوى ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوء من التقوى فيكون أكرم عند الله تعالى بل ذلك هو الأكثر وقوعا كما في الصحيحين عن حارثة بن وهب عن النبي ﷺ قال ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر.

وفي المسند عن أنس عن النبي ﷺ قال أما أهل الجنة فكل ضعيف مستضعف أشعث ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره وأما أهل النار فكل جعظري جواظ جماع مناع ذي تبع.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال تحاججت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي.

وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف وقالت الجنة يا رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين وذكر الحديث وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال مر رجل على رسول الله ﷺ فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا فقال رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع لقوله قال فسكت النبي ﷺ ثم مر رجل آخر فقال رسول الله ﷺ ما رأيك في هذا قال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال لا ويسمع لقوله فقال رسول ﷺ هذا خير من ملء الأرض مثل هذا وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} الواقعة قال تخفض رجالًا كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع رجالًا كانوا في الدنيا مخفوضين قوله ﷺ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه والكبر من أعظم خصال الشر وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر وفيه أيضًا عنه ﷺ قال تعالى: العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته.

فمنازعة الله تعالى في صفاته التي لا تليق بالمخلوق كفي بها شرًا وفي صحيح ابن حبان عن فضالة بن عبيد عن النبي ﷺ قال ثلاثة لا تسأل عنهم رجل ينازع الله إزاره ورجل ينازع الله رداءه فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز ورجل في شك من أمر الله تعالى والقنوط من رحمة الله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من قال هلك الناس فهو أهلكهم فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال مالك إذا قال ذلك تحزنا لما يري في الناس يعني في دينهم فلا أري به بأسًا وإذا قال ذلك تعجبا بنفسه وتصاغرا فهو المكروه الذي نهى عنه ذكره أبو داود في سننه قوله ﷺ كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وهذا مما كان النبي ﷺ يخطب به في المجامع العظيمة فإنه خطب به في حجة الوداع يوم النحر ويوم عرفة ويوم الثاني من أيام التشريق وقال إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وفي رواية للبخاري وغيره وأبشاركم وفي رواية وفي رواية ثم قال ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب وفي رواية للبخاري فإن الله حرم عليكم أموالكم وأعراضكم ودماءكم إلا بحقها وفي رواية دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مثل هذا اليوم وهذا البلد إلى يوم القيامة حتى دفعة يدفعها مسلم مسلمًا يريد بها سوء حرام وفي رواية المؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم لحمه عليه حرام أن يأكله أو يغتابه بالغيب وعرضه عليه حرام أن يخرقه ووجهه عليه حرام أن يلطمه ودمه عليه حرام أن يسفكه وحرام عليه أن يدفعه دفعة بغتة وفي سنن أبي داود عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبي ﷺ فقام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذها ففزع فقال النبي ﷺ لا يحل لمسلم أن يروع مسلما.

وخرج أحمد وأبو داود والترمذى عن السائب بن يزيد عن النبي ﷺ قال لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبا جادا فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه قال ابن أبي عبيد يعني أن يأخذ شيئًا لا يريد سرقته إنما يريد إدخال الغيظ عليه فهو لاعب في مذهب السرقة جاد في إدخال الروع والأذى عليه.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه ولفظه لمسلم.

وخرج الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يؤذي المؤمن والله يكره أذى المؤمن.

وخرج الإمام أحمد من حديث ثوبان عن النبي ﷺ قال لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوارتهم فإن من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه سئل عن الغيبة فقال ذكرك أخاك بما يكره قال أرأيت إن كان فيه ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته فتضمنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق وقد قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} الأحزاب وإنما جعل الله المؤمنين إخوة ليتعاطفوا ويتراحموا.

وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ قال مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر وفي رواية المؤمنون كرجل واحد إن اشتكي رأسه تداعي له سائر الجسد بالحمى.

وفي رواية له أيضًا المسلمون كرجل واحد إن اشتكي عينه اشتكي كله وإن اشتكي رأسه اشتكي كله وفيهما عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا. وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال المؤمن مرآة المؤمن المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه وخرجه الترمذي ولفظه إن أحدكم مرآة أخيه فمن رأي به أذى فليمطه عنه قال رجل لعمر بن عبد العزيز اجعل كبير المسلمين عندك أبا وصغيرهم ابنا وأوسطهم أخا فأي أولئك تحب أن تسيء إليه ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة إن لم تنفعه فلا تضره وإن لم تفرحه فلا تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه.

===========

الحديث السادس والثلاثون

فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه . رواه مسلم بهذا اللفظ

هذا الحديث خرجه مسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه منهم الفضل الهروي والدارقطني فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش قال حدثنا عن أبي صالح فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر من حدثه عنه ورجح الترمذي وغيره هذه الرواية وزاد بعض أصحاب الأعمش في متن الحديث ومن أقال لله مسلمًا أقال الله عثرته يوم القيامة وخرجه في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة.

وخرج الطبراني من حديث كعب بن عجرة عن النبي ﷺ قال من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته ومن فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربته.

وخرج الإمام أحمد من حديث سلمة بن مخلد عن النبي ﷺ قال من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة ومن نجي مكروبا فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته فقوله ﷺ من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى كقوله ﷺ إنما يرحم الله من عباده الرحماء، وقوله إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا والكربة هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب وتنفيسها أن يخفف عنه منها مأخوذ من تنفس الخناق كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نفسا والتفريج أعظم من ذلك وهو أن يزيل عنه الكربة فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه فجزاء التنفيس التنفيس وجزاء التفريج التفريج كما في حديث ابن عمر وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة.

وخرج الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة وأيما مؤمن سقي مؤمنا على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عري كساه الله من خضر الجنة وخرجه الإمام أحمد بالشك في رفعه وقيل إن الصحيح رفعه وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال يحشر الناس يوم القيامة أعري ما كانوا قط وأجوع ما كانوا قط وأظمأ ما كانوا قط وأنصب ما كانوا قط فمن كسا لله كساه الله ومن أطعم لله أطعمه الله ومن سقي لله سقاه الله ومن عفي لله أعفاه الله.

وخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعًا أن رجلًا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار يا فلان هل تعرفني فيقول لا والله ما أعرفك من أنت فيقول أنا الذي مررت بي في دار الدنيا فاستسقيتني شربة من ماء فسقيتك قال قد عرفت قال فاشفع لي بها عند ربك قال فيسأل الله تعالى فيقول شفعني فيه فيأمر به فيخرجه من النار، وقوله كربة من كرب يوم القيامة ولم يقل من كرب الدنيا والآخرة كما قيل في التيسير والستر وقد قيل في مناسبة ذلك إن الكرب هي الشدائد العظيمة وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى الستر فإن أحدًا لا يكاد يخلو من ذلك ولو بتعسر الحاجات المهمة وقيل لأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء فلذا ادخر الله جزاء تنفيس الكرب عنده لينفس به كرب الآخرة ويدل على ذلك قول النبي ﷺ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفدهم البصر وتدنو الشمس منهم فيبلغ الناس من الكرب والغم ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس بعضهم لبعض ألا ترون ما بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم وذكر حديث الشفاعة خرجاه بمعناه من حديث أبي هريرة وخرجاه من حديث عائشة عن النبي ﷺ قال تحشر الناس حفاة عراة غرلا قالت فقلت يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم بعضًا فقال الأمر أشد من أن يهمهم ذلك وخرجاه من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ في قوله تعالى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} المطففين قال يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف أذنيه وخرجاه من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم ولفظه للبخاري ولفظ مسلم إن العرق ليذهب في الأرض سبعين ذراعًا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم.

وخرج مسلم من حديث المقداد عن النبي ﷺ قال تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق قدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجامًا.

وقال ابن مسعود الأرض كلها يوم القيامة نار والجنة من ورائها تري أكوابها وكواعبها فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب قال فمم ذلك يا أبا عبد الرحمن قال مما يري الناس ما يصنع بهم.

وقال أبو موسى الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة فأعمالهم تظلهم أو تضحيتهم.

وفي المسند من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس قوله ﷺ ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة وهذا أيضًا يدل على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة وقد وصف الله يوم القيامة بأنه عسير وأنه على الكافرين غير يسير فدل على أن يسره على غيرهم وقال، وكان يومًا على الكافرين عسيرًا الفرقان والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين إما بإنظاره إلى الميسرة وذلك واجب كما قال تعالى {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} البقرة وتارة بالوضع عنه إن كان غريمًا وإلا فبإعطائه ما يزول به إعساره وكلاهما له فضل عظيم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال كان تاجر يداين الناس فإذا رأي معسرا قال لصبيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه.

وفيهما عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري سمعا النبي ﷺ يقول مات رجل فقيل له بم غفر الله لك فقال كنت أبايع الناس فأتجاوز عن الموسر وأخفف عن المعسر وفي رواية قال كنت أنظر المعسر وأتجوز في السكة أو قال في النقد فغفر له وخرجه مسلم من حديث أبي مسعود عن النبي ﷺ وفي حديثه قال الله نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه.

وخرج أيضًا من حديث أبي قتادة عن النبي ﷺ قال من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه.

وخرج أيضًا من حديث أبي اليسر عن النبي ﷺ قال من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

وفي المسند عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال من أراد أن تستجاب دعوته أو تكشف كربته فليفرج عن معسر، وقوله ﷺ ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة هذا مما تكاثرت النصوص بمعناه.

وخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته.

وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر سمع النبي ﷺ يقول من ستر على المؤمن عورته ستره الله يوم القيامة وقد روي عن بعض السلف أنه قال أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبا وأدركت قومًا كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم أو كما قال وشاهد هذا الحديث حديث أبي بردة عن النبي ﷺ أنه قال يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوارتهم فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته خرجه الإمام أحمد وأبو داود.

وخرج الترمذي معناه من حديث ابن عمر واعلم أن الناس على ضربين أحدهما من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها لأن ذلك غيبة محرمة وهذا هو الذي وردت فيه النصوص وفي ذلك قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} النور.

والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه واتهم به مما بريء منه كما في قضية الإفك قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام وأولي الأمور ستر العيوب ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقر بحده لم يفسره ولم يستفسر بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه كما أمر النبي ﷺ ماعزًا والغامدية وكما لم يستفسر الذي قال أصبت حدا فأقمه على ومثل هذا لو أخذ بجريمته ولم يبلغ الإمام فإنه يشفع له لا يبلغ الإمام.

وفي مثله جاء في الحديث عن النبي ﷺ أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم خرجه أبو داود والنسائى من حديث عائشة والثاني من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له هذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود وصرح بذلك بعض أصحابنا واستدل بقول النبي ﷺ واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ ولو لم يبلغ السلطان بل يترك حتى يقام عليه الحد ليكشف ستره ويرتدع به أمثاله قال مالك من لم يعرف منه أذى للناس وإنما كانت منه زلة فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام وأما من عرف بشر أو فساد فلا أحب أن يشفع له أحد ولكن يترك حتى يقام عليه الحد حكاه ابن المنذر وغيره وكره الإمام أحمد رفع الفساق إلى السلطان بكل حال وإنما كرهه لأنهم غالبًا لا يقيمون الحدود على وجوهها ولهذا قال إن علمت أنه يقيم عليه الحد فارفعه ثم ذكر أنهم ضربوا رجلًا فمات يعني أنه لم يكن قتله جائزا ولو تاب أحد من الضرب الأول كان الأفضل له أن يتوب فيما بينه وبين الله تعالى ويستر على نفسه وأما الضرب الثاني فقيل إنه كذلك وقيل بل الأولي له أن يأتي الإمام ويقر على نفسه بما يوجب الحد حتى يطهره قوله والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه وفي حديث ابن عمر ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته وقد سبق في شرح الحديث الخامس والعشرين والسادس والعشرين فضل قضاء الحوائج والسعي فيها.

وخرج الطبراني من حديث عمر مرفوعًا أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن كسوت عورته أو أشبعت جوعته أو قضيت له حاجته وبعث الحسن البصري قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم مروا بثابت البناني فخذوه معكم فأتوا ثابتا فقال أنا معتكف فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال قولوا يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وذهب معهم.

وخرج الإمام أحمد من حديث بنت الخباب بن الأرت قالت خرج خباب في سرية فكان النبي ﷺ يتعاهدنا حتى يحلب عنزة لنا في جفنة لنا فتمتلئ حتى تفيض فلما قدم خباب حلبها فعاد حلابها إلى ما كان، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم فلما استخلف قالت جارية منهم الآن لا يحلبها فقال أبو بكر بل وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله أو كما قال وإنما كانوا يقومون بالحلاب لأن العرب كانت لا تحلب النساء منهم وكانوا يستقبحون ذلك، وكان الرجال إذا غابوا احتاج النساء إلى من يحلب لهن وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال لقوم لا تسقوني حلب امرأة، وكان عمر يتعاهد الأرامل يستقي لهن الماء بالليل ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة فدخل إليها طلحة نهارًا فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها ما يصنع هذا الرجل عندك قالت هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة أعورات عمر تتبع، وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن وقال مجاهد صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني، وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر وصحب رجل قومًا في الجهاد فاشترط عليهم أن يخدمهم، وكان إذا أراد أحد منهم أن يغسل رأسه أو ثوبه قال هذا من شرطي فيفعله فمات فجردوه للغسل فرأوا على يده مكتوبا من أهل الجنة فنظروا فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم.

وفي الصحيحين عن أنس قال كنا مع النبي ﷺ في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر قال فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده قال فسقط الصوام وقام المفطرون وضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله ﷺ ذهب المفطرون اليوم بالأجر ويروى عن رجل من أسلم أن النبي ﷺ أتي بطعام في بعض أسفاره فأكل منه وأكل أصحابه وقبض الأسلمي يده فقال له رسول الله ﷺ مالك فقال إني صائم قال فما حملك على ذلك قال كان معي ابنان يرجلان لي ويخدماني فقال مازال لهم الفضل عليك بعد وفي مراسيل أبي داود عن أبي قلابة أن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قدموا يثنون على صاحب لهم خيرًا قالوا مارأينا مثل فلان قط ما كان في مسير إلا، وكان في قراءة ولا نزلنا منزلا إلا كان في صلاة قال فمن كان يكفيه ضيعته حتى ذكر من كان يعلف جمله أو دابته قالوا نحن قال فكلكم خير منه قوله ﷺ ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقا إلى الجنة وقد روى المعنى أبو الدرداء عن النبي ﷺ وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم مثل حفظه ومدارسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له ونحو ذلك من الطرق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم شرح قوله سهل الله له طريقا إلى الجنة، وقوله ﷺ سهل الله له طريقا إلى الجنة قد يراد بذلك أن الله يسهل له العلم الذي طلبه وسلك طريقه وييسره عليه فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة وهذا كقوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} القمر وقال بعض السلف هل من طالب علم فيعان عليه وقد يراد أيضًا أن الله ييسر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى والامتناع به والعمل بمقتضاه فيكون سببًا لهدايته ولدخول الجنة بذلك وقد ييسر الله لطالب العلم علوما أخر ينتفع بها وتكون موصلة إلى الجنة كما قيل من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم وكما قيل إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وقد دل على ذلك قوله تعالى {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} مريم، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} محمد وقد يدخل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنة الحسنى يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال فييسر ذلك على طالب العلم للانتفاع به فإن العلم يدل على الله من أقرب الطريق إليه فمن سلك طريقه ولم يعوج عنه وصل إلى الله تعالى وإلي الجنة من أقرب الطرق وأسهلها فسهلت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا والآخرة فلا طريق إلى معرفة الله وإلي الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فهو الدليل عليه وبه يهتدي في ظلمات الجهل والشبه والشكوك ولهذا سمي الله كتابه نورا يهتدي به في الظلمات وقال الله تعالى {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} المائدة.

ومثل النبي ﷺ حملة العلم الذي جاء به بالنجوم التي يهتدي بها في الظلمات ففي المسند عن أنس عن النبي ﷺ قال إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة وما دام العلم باقيا في الأرض فالناس في هدي وبقاء العلم ببقاء حملته فإذا ذهب حملته ومن يقوم به وقع الناس في الضلال كما في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وذكر النبي ﷺ يومًا رفع العلم فقيل له كيف يذهب العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه نساءنا وأبناءنا فقال النبي ﷺ هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم فسئل عبادة بن الصامت عن هذا الحديث فقال لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس الخشوع وإنما قال عبادة هذا لأن العلم قسمان أحدهما ما كان ثمرته في قلب الإنسان وهو العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله المقتضي لخشيته ومهابته وإجلاله والخضوع له ومحبته ورجائه ودعائه والتوكل عليه ونحو ذلك فهذا هو العلم النافع كما قال ابن مسعود إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع وقال الحسن العلم علمان علم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم كما في الحديث القرآن حجة لك أو عليك وعلم في القلب فذاك العلم النافع والقسم الثاني العلم الذي على اللسان وهو حجة لك أو عليك فأول ما يرفع من العلم العلم النافع وهو الباطن الذي يخالط القلوب ويصلحها ويبقي علم اللسان حجة فيتهاون الناس به ولا يعملون بمقتضاه لا حملته ولا غيرهم ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته فلا يبقي إلا القرآن في المصاحف وليس ثم من يعلم معانيه ولا حدوده ولا أحكامه ثم يسري به في آخر الزمان فلا يبقي في المصاحف ولا في القلوب منه شيء بالكلية وبعد ذلك تقوم الساعة كما قال ﷺ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس وقال لا تقوم الساعة وفي الأرض أحد يقول الله الله قوله ﷺ ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته وهذا إن حمل على تعلم القرآن وتعليمه فلا خلاف في استحبابه وفي صحيح البخاري عن عثمان عن النبي ﷺ قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه وقال أبو عبد الرحمن السلمي فذلك الذي أقعدني في مقعدي هذا، وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج بن يوسف فإن حمل على ما هو أعم من ذلك دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلقا وقد كان النبي ﷺ أحيانا يأمر من يقرأ القرآن ليسمع قراءته كما كان ابن مسعود يقرأ عليه وقال إني أحب أن أسمعه من غيري، وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلي أصحابه وهم يستمعون فتارة يأمر أبا موسى وتارة يأمر عقبة بن عامر وسئل ابن عباس أي العمل أفضل قال ذكر الله وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتعاطون فيه كتاب الله فيما بينهم ويتدارسونه إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك حتى يخوضوا في حديث غيره وروى مرفوعًا والموقوف أصح وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقا حلقا يقرءون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن ويذكرون الله تعالى وروى عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال ما من قوم صلوا صلاة الغداة ثم قعدوا في مصلاهم يتعاطون كتاب الله ويتدارسونه إلا وكل بهم ملائكة يستغفرون لهم حتى يخوضوا في حديث غيره وهذا يدل على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن ولكن عطية فيه ضعف وقد روى حرب الكرماني بإسناده عن الأوزاعي أنه سئل عن الدراسة بعد صلاة الصبح فقال أخبرني حسان بن عطية أن أول من أحدثها في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل المخزومي في خلافة عبد الملك بن مروان فأخذ الناس بذلك وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز وإبراهيم بن سليمان أنهما كانا يدرسان القرآن بعد صلاة الصبح ببيرون والأوزاعي في المسجد لا يغير عليهم وذكر حرب أنه رأي أهل دمشق وأهل حمص وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح ولكن أهل الشام يقرءون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية وأهل البصرة وأهل مكة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آيات والناس ينصتون ثم يقرأ آخر عشر آيات حتى يفرغوا قال حرب وكل ذلك حسن جميل وقد أنكر مالك على أهل الشام وقال زيد بن عبيد الدمشقي قال لي مالك بن أنس بلغني أنكم تجلسون حلقا تقرءون فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا فقال مالك عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا قال فقلت هذا طريف قال وطريف رجل يقرأ ويجتمع الناس حوله فقال هذا من غير رأينا قال أبو مصعب وإسحاق بن محمد القروي سمعنا مالك بن أنس يقول الاجتماع بكرة بعد صلاة الصبح لقراءة القرآن بدعة ما كان أصحاب رسول الله ﷺ ولا العلماء بعدهم علي هذا كانوا إذا صلوا يخلو كل بنفسه ويقرأ ويذكر الله تعالى ثم ينصرفون من غير أن يكلم بعضهم بعضًا اشتغالا بذكر الله فهذه كلها محدثة.

وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول لم تكن القراءة في المسجد من أمر الناس القديم وأول من أحدث في المسجد الحجاج بن يوسف قال مالك وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف وقد روى هذا كله أبو بكر النيسابوري في كتاب مناقب مالك رحمه الله واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذكر والقرآن أفضل أنواع الذكر ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك فيقول هل رأوني فيقولون لا والله ما رأوك فقال كيف لو رأوني فيقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأكثر لك تحميدا وتمجيدا وأكثر لك تسبيحا فيقول فما يسألوني قالوا يسألونك الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا والله يا رب ما رأوها فيقول كيف لو رأوها فيقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد حرصا عليها وأشد لها طلبا وأشد فيها رغبة قال فمم يتعوذون فيقولون من النار قال فيقول هل رأوها فيقولون لا والله يا رب ما رأوها فيقول كيف لو رأوها فيقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد لها مخافة فيقول الله تعالى أشهدكم أني قد غفرت لهم فيقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجته قال هم الجلساء لا يشقي جليسهم وفي صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله ﷺ خرج على حلقة من أصحابه فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده لما هدانا للإسلام ومن علينا به فقال آلله ما أجلسكم إلا ذلك قالوا آلله ما أجلسنا إلا ذلك قال أما أني لم أستحلفكم لتهمة لكم ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة.

وخرج الحاكم من حديث معاوية قال كنت مع النبي ﷺ يومًا فدخل المسجد فإذا هو بقوم في المسجد قعود فقال النبي ﷺ ما أقعدكم فقالوا صلينا الصلاة المكتوبة ثم قعدنا نتذاكر الله وسنة نبيه فقال رسول الله ﷺ إذا ذكر شيء تعاظم ذكره وفي المعنى أحاديث أخر متعددة وقد أخبر ﷺ أن جزاء الذين يجلسون في بيت الله يتدارسون كتاب الله أربعة أشياء أحدها تنزل السكينة عليهم.

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتي النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال تلك السكينة تنزل للقرآن وفيهما أيضًا عن أبي سعيد أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده إذ جالت فرسه فقرأ ثم جالت أخرى فقرأ ثم جالت أيضًا قال أسيد فخشيت أن تطأ يحيى يعني ابنه قال فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها فغدا على النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال تلك الملائكة كانت تسمع لك ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم واللفظ لمسلم فيهما وروى ابن المبارك عن يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن سعد بن مسعود أن رسول الله ﷺ كان في مجلس فرفع بصره إلى السماء ثم طأطأ بصره ثم رفعه فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى يعني أهل مجلس أمامه فنزلت عليهم السكينة تحملها الملائكة كالقبة فلما دنت منهم تكلم رجل منهم بباطل فرفعت عنهموهذا مرسل والثاني غشيان الرحمة قال الله تعالى {إِنَّ رَحْمةََ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف.

وخرج الحاكم من حديث سلمان أنه كان في عصابة يذكرون الله تعالى فمر بهم رسول الله ﷺ فقال ما كنتم تقولون فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها.

وخرج البزار من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا إليهم حفوا بهم ثم بعثوا رائدهم إلى السماء إلى رب العزة تعالى فيقولون ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك ويسألونك لآخرتهم ودنياهم فيقول الله تعالى اغشوهم برحمتي فيقولون ربنا إن فيهم فلانا الخطاء إنما اعتنقهم اعتناقا فيقول تعالى غشوهم برحمتي والثالث أن الملائكة تحف بهم وهذا مذكور في الأحاديث التي ذكرناها وفي حديث أبي هريرة المتقدم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا وفي رواية الإمام أحمد علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش وقال خالد بن معدان يرفع الحديث إن ملائكة في الهواء يسيحون بين السماء والأرض يلتمسون الذكر فإذا سمعوا قومًا يذكرون الله تعالى قالوا رويدا زادكم الله فينشرون أجنحتهم حولهم حتى يصعد كل منهم إلى العرش خرجه الخلال في كتاب السنة والرابع أن الله يذكرهم فيمن عنده.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال يقول الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وهذه الخصال الأربع لكل مجتمعين على ذكر الله تعالى كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد كلاهما عن النبي ﷺ قال إن لأهل ذكر الله تعالى أربعا تنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتحف بهم الملائكة ويذكرهم الرب فيمن عنده وقد قال الله تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة وذكر الله لعبده هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته ومباهاته به وتنويهه بذكره.

قال الربيع بن أنس إن الله ذاكر من ذكره وزائد من شكره ومعذب من كفره قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الأحزاب وصلاة الله على عبد هي ثناؤه عليه بين ملائكته وتنويهه بذكره كذا قال أبو العالية ذكره البخاري في صحيحه وقال رجل لأبي أمامة رأيت في المنام كأن الملائكة تصلي عليك كلما دخلت وكلما خرجت وكلما قمت وكلما جلست فقال أبو أمامة وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة ثم قرأ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرًا وسبحوه بكره وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته الأحزاب خرجه الحاكم قوله ﷺ ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه معناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة كما قال تعالى {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} الأنعام فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب كما قال تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ} المؤمنون وقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال كما قال تعالى {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران وقال {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ. وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ. أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} المؤمنون.

قال ابن مسعود يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرا زمرا أوائلهم كلمح البرق ثم كمر الريح ثم كمر المطر ثم كمر البهائم حتى يمر الرجل سعيا وحتى يمر الرجل مشيا حتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه فيقول يا رب لم أبطأت بي فيقول إني لم أبطئ بك إنما أبطأ بك عملك.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ حين أنزل عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا يا صفية عمة النبي ﷺ لا أغني عنك من الله شيئًا يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا وفي رواية خارج الصحيحين إن أوليائي منكم المتقون تأتي الناس بالأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول قد بلغت.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسب أقرب من نسب يأتي الناس بالأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا وهكذا فأعرض في كلا عطفيه.

وخرج البزار من حديث رفاعة بن رافع أن النبي ﷺ قال لعمر اجمع لي قومك يعني قريشا فجمعهم فقال إن أوليائي منكم المتقون فإن كنتم أولئك فذاك وإلا فانظروا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتوني بالأثقال فيعرض عنكم وخرجه الحاكم مختصرًا وصححه.

وفي المسند عن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه ثم التفت وأقبل بوجهه إلى المدينة فقال إن أولي الناس بي المتقون من كانوا حيث كانوا وخرجه الطبراني وزاد فيه إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولي الناس بي وليس كذلك إن أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا ويشهد لهذا كله ما في الصحيحين عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي ﷺ يقول إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء وإنما وليي الله وصالحو المؤمنين يشير إلى أن ولايته لا تنال بالنسب وإن قرب وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح فمن كان أكمل إيمانا وعملًا فهو أعظم ولاية له سواء كان له نسب قريب أو لم يكن وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

لعمرك ما الإنسان إلا بدينه *** فلا تترك التقوى اتكالا على النسب

لقد رفع الإسلام سلمان فارس *** وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب

==================

الحديث السابع والثلاثون

فضل الله تعالى ورحمته

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف

فانظر يا أخي وفقنا الله وإياك إلى عظيم لطف الله تعالى وتأمل هذه الألفاظ، وقوله عنده إشارة إلى الاعتناء بها، وقوله كاملة للتأكيد وشدة الاعتناء بها وقال في السيئة التي هم بها ثم تركها كتبها الله عنده حسنة كاملة فأكدها بكاملة وإن عملها كتبها سيئة واحدة فأكد تقليلها بواحدة ولم يؤكدها بكاملة فلله الحمد والمنة سبحانه لا نحصي ثناء عليه وبالله التوفيق

هذا الحديث خرجاه من رواية أبي عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس وفي رواية لمسلم زيادة في آخر الحديث وهي أو محاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك وفي هذا المعنى أحاديث متعددة فخرجا في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يقول الله للملائكة إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وهذا لفظ البخاري وفي رواية لمسلم قال الله تعالى إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها وقال ﷺ قالت الملائكة رب ذلك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به قال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعلمها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقي الله تعالى.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي وفي رواية لمسلم بعد قوله إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله وفي صحيح مسلم عن أبي ذرعن النبي ﷺ قال يقول الله من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفرها وفيه أيضًا عن أنس عن النبي ﷺ قال من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة.

وفي المسند عن خريم بن فاتك عن النبي ﷺ قال من هم بحسنة فلم يعملها وعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت له واحدة ولم تضاعف عليه ومن عمل حسنة كتبت له بعشر أمثالها ومن أنفق نفقة في سبيل الله كانت له سبعمائة ضعف وفي المعنى أحاديث أخر متعددة فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات والسيئات والهم بالحسنة والسيئة فهذه أربعة أنواع النوع الأول عمل الحسنات فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات وقد دل عليه قوله تعالى {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له فدل عليه قوله تعالى {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة فدلت هذه الآية على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فقال لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة.

وفي المسند بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي ﷺ قال من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله وعياله أو عاد مريضا أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها.

وخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه عن النبي ﷺ قال إن الصلاة والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف وروى ابن أبي حاتم بسنده عن الحسن عن عمران بن الحصين عن النبي ﷺ قال من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} البقرة.

وخرج ابن صحيحه من حديث عيسي بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال لما نزلت هذه الآية {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} البقرة قال رسول الله ﷺ رب زد أمتي فأنزل الله تعالى {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} البقرة فقال رب زد أمتي فأنزل الله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر.

وخرج الإمام أحمد من حديث على بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الله ليضاعف الحسنة ألفي حسنة ثم تلا أبو هريرة {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء وقال إذا قال الله {أَجْرًا عَظِيمًا} فمن يقدر قدره وروى عن أبي هريرة موقوفًا.

وخرج الترمذي من حديث ابن عمر موقوفًا من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو علي كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة.

ومن حديث تميم الداري مرفوعًا من قال أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدًا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له كفوا أحد عشر مرات كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة وفي كلا الإسنادين ضعف.

وخرج الطبراني بإسناد ضعيف أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا من قال سبحان الله كتب الله له مائة ألف حسنة، وقوله في حديث أبي هريرة إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى لأنه أفضل أنواع الصبر وإنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب الزمر وقد روى هذا المعنى عن طائفة من السلف منهم كعب وغيره وقد ذكرنا فيما سبق في شرح حديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أن مضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي هريرة وغيره ويكون بحسب كمال الإخلاص وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه وبحسب الحاجة إليه وذكرنا من حديث ابن عمر أن قوله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الأنعام نزلت في الأعراب وأن قوله وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما النساء نزلت في المهاجرين النوع الثاني عمل السيئات فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة كما قال الله تعالى {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} الأنعام.

وقوله كتبت له سيئة واحدة إشارة إلى أنها غير مضاعفة كما خرج في حديث آخر لكن السيئة تعظم أحيانا بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} التوبة قال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} التوبة في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرمًا وعظم حرمتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم.

وقال قتادة في هذه الآية اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوي ذلك وإن كان الظلم في كل حال غير طائل ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا.

وقد روى في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ولكن إسنادهما لا يصح وقال الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} البقرة.

قال ابن عمر الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدا كان أو غيره، وعنه قال الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم وقال تعالى {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الحج، وكان جماعة من الصحابة يتقون سكني الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه منهم ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبدالله بن عمرو بن العاص يقول الخطيئة فيه أعظم.

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأن أخطئ سبعين خطيئة يعني بغير مكة أحب إلى من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة وعن مجاهد قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.

وقال ابن جريح بلغني أن الخطيئة بمكة بمائة خطيئة والحسنة على نحو ذلك وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد في شيء من الحديث إن السيئة تكتب بأكثر من واحدة قال لا ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد ولو أن رجلًا بعدن أبين هم وقال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد، وقوله ولو أن رجلًا بعدن أبين هم من قول ابن مسعود وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها وقوة معرفته بالله وقربه منه فإن من عصي السطان على بساطه أعظم جرما ممن عصاه على بعد ولهذا توعد الله خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء وإن كان قد عصمهم منها ليبين لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك كما قال تعالى {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً. إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الإسراء وقال تعالى {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} إلى قوله {أَجْرًا عَظِيمًا} الأحزاب.

وكان على بن الحسين يتأول في آل النبي ﷺ من بني هاشم يقربهم لقربهم من النبي ﷺ النوع الثالث الهم بالحسنات فتكتب حسنة كاملة وإن لم يعملها كما في حديث ابن عباس وغيره وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم كما تقدم إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة والظاهر أن المراد بالتحدث حديث النفس وهو الهم وفي حديث خريم بن فاتك من هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة وهذا يدل على أن المراد بالهم هنا هو العزم المصمم الذي يوجد معه الحرص على العمل لا مجرد الخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم قال أبو الدرداء من أتي فراشه وهو ينوي أن يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح كتب له ما نوى وروي عنه مرفوعًا وخرجه ابن ماجه مرفوعًا قال الدارقطني المحفوظ الموقوف وروى معناه من حديث عائشة عن النبي ﷺ وروى عن سعيد بن المسيب قال من هم بصلاة أو صيام أو حج أو عمرة أو غزوة فحيل بينه وبين ذلك بلغه الله تعالى ما نوي وقال أبو عمران الجوني ينادي الملك اكتب لفلان كذا وكذا فيقول يا رب إنه لم يعمله فيقول الله إنه نواه وقال زيد ابن أسلم كان رجل يطوف على العلماء يقول من يدلني على عمل لا أزال منه لله عاملا فإني لا أحب أن يأتي على ساعة من الليل والنهار إلا وإني عامل لله تعالى فقيل له قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت فإذا فترت أو تركت فهم بعمله فإن الهام بفعل الخير كفاعله ومتي اقترن بالنية قول أو سعي تأكد الجزاء والتحق صاحبه بالعامل كما روى أبو كبشة عن النبي ﷺ قال إنما الدنيا أربعة نفر عبد رزقه الله مالًا وعلما فهو يتقي ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية فيقول لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجر هما سواء وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم فيه لله حقا فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا وهو يقول لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء وخرجه الإمام أحمد والترمذى وهذا لفظ ابن ماجه وقد حمل قوله وهما في الأجر سواء على استوائهما في أصل أجر العمل دون مضاعفته فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه ولم يعمله فإنهما لو استويا من كل وجه لكتب لمن هم بحسنة ولم يعملها عشر حسنات وهو خلاف النصوص كلها ويدل على ذلك قوله تعالى {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. دَرَجَاتٍ مِّنْهُ} قال ابن عباس وغيره القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجة القاعدون من أهل الأعذار والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجات هم القاعدون من غير أهل الأعذار النوع الرابع الهم بالسيئات من غير عمل لها.

ففي حديث ابن عباس أنها تكتب حسنة كاملة، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما أنها تكتب حسنة كاملة وفي حديث أبي هريرة إنما تركها من جرائي يعني من أجلي وهذا يدل على أن المراد من قدر على ما هم به من المعصية فتركه لله تعالى وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة لأن تركه المعصية بهذا المقصد عمل صالح فأما إن هم بمعصية ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل أنه يعاقب على تركها بهذه النية لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم، وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك وقد خرج أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس قال يا صاحب الذنب لا تأمنن من مدقق سوء عاقبته ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته وذكر كلاما وقال خوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا فعلته وقال الفضيل بن عياض كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء والعمل لهم شرك وأما إن سعي في حصولها بما أمكنه ثم حال بينه وبينها القدر فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقوله النبي ﷺ إن الله يتجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل ومن سعي في حصول المعصية بجهده ثم عجز عنها فقد عمل بها، وكذلك قول النبي ﷺ إذا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه، وقوله ما لم تتكلم به أو تعمل يدل على أن الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه فإنه يعاقب على الهم حينئذ لأنه قد عمل بجوارحه معصية وهو التكلم باللسان ودل على ذلك حديث الذي قال لو أن لي مالًا لعملت فيه ما عمل فلان يعني الذي يعصي الله في ماله قال فهما في الوزر سواء ومن المتأخرين من قال لايعاقب على التكلم بماهم به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولًا محرما كالقذف والغيبة والكذب فأما ما كان متعلقها العمل بالجوارح فلا يأثم بمجرد تكلم ما هم به وهذا قد يستدل به على حديث أبي هريرة المتقدم وإذا تحدث عبدي بما لم يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس جمعا بينه وبين قوله ما لم تتكلم به، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحا فإن قول القائل بلسانه لو أن لي مالًا لعملت فيه بالمعاصي كما عمل فلان ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها وإنما أخبر عما هم به فقط مما متعلقه إنقاق المال في المعاصي وليس له مال بالكلية وأيضا فالكلام بذلك محرم فكيف يكون معفوا عنه غير معاقب عليه وأما إن انفسخت نيته وفترت عزيمته من غير سبب منه فهل يعاقب على ما هم به من المعصية أم لا هذا على قسمين أحدهما أن يكون الهم بالمعصية خاطرا ولم يساكنه صاحبه ولم يعقد قلبه عليه بل تكرهه ونفر منه فهو معفو عنه وهو الوساوس الرديئة التي سئل النبي ﷺ عنها فقال ذلك صريح الإيمان ولما نزل قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} البقرة شق ذلك على المسلمين وظنوا دخول هذه الخواطر فيه فنزلت الآية بعدها وفيها قوله {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} البقرة فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذ به ولا يكلف به.

وقد سمي ابن عباس وغيره ذلك نسخًا ومرادهم أن هذه الآية أزالت الإبهام الواقع في النفوس من الآية الأولي وبين أن المراد بالآية الأولي العزائم المصمم عليها ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخا القسم الثاني العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم ويساكنها صاحبها فهذا أيضًا نوعان أحدهما ما كان عملًا مستقلًا بنفسه من أعمال القلوب كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث أو غير ذلك من الكفر واعتقاد تكذيب ذلك فهذا كله يعاقب عليه العبد ويصير بذلك كافرًا أو منافقًا وقد روي عن ابن عباس أنه حمل قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} البقرة على مثل هذا وروي عنه حملها على كتمان الشهادة لقوله ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كمحبة ما يبغضه الله وبغض ما يحب الله والكبر والعجب والحسد وسوء الظن بالمسلم من غير موجب مع أنه قد روي عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول أو فعل فهو معفو عنه، وكذلك روي عن الحسن أنه قال في الحسد ولعل هذا محمول من قولها على ما يجده الإنسان ولا يمكنه دفعه فهو يكرهه ويدفعه عن نفسه فلا يندفع إلا على ما يساكنه ويستروح إليه ويعيد حديث نفسه به ويبديه والنوع الثاني ما لم يكن من أعمال القلوب بل كان من أعمال الجوارح كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل والقذف ونحو ذلك إذا أصر العبد على إرادة ذلك والعزم عليه ولم يظهر له أثر في الخارج أصلًا فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء أحدهما الأخذ به قال ابن المبارك سألت سفيان الثوري أيؤاخذ العبد بالهم فقال إذا كانت عزما أوخذ ورجح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم واستدلوا له بنحو قوله تعالى {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} البقرة، وقوله تعالى {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} البقرة وبنحو قول النبي ﷺ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وحملوا قوله ﷺ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل على الخطرات وقالوا ما أكنه العبد وعقد عليه قلبه فهو من كسبه وعمله فلا يكون معفوا عنه ومن هؤلاء من قال إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم.

روي ذلك عن عائشة مرفوعًا وموقوفا وفي صحته نظر وقيل بل يحاسب العبد به يوم القيامة فيقفه الله عليه ثم يعفو عنه ولا يعاقبه فتكون عقوبته المحاسبة وهذا مروى عن ابن عباس والربيع بن أنس وهو اختيار ابن جرير واحتج له بحديث ابن عمر في النجوي وذلك ليس فيه عموم وأيضا فإنه وارد في الذنوب المستورة في الدنيا لا في وساوس الصدور والقول الثاني لايؤاخذ بمجرد النية مطلقا ونسب ذلك إلى نص الشافعي وهو قول ابن حامد من أصحابنا عملًا بالعمومات.

وروى العوفي عن ابن عباس ما يدل على مثل هذا القول وفيه قول ثالث أنه لا يؤاخذ بالهم بالمعصية إلا بأن يهم بارتكابها في الحرم كما روى السدي عن مرة عن عبدالله بن مسعود قال ما من عبد يهم بخطيئة فلم يعملها فتكتب عليه ولو هم بقتل الإنسان عند البيت وهو بعدن أبين أذاقه الله من عذاب أليم وقرأ ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم الحج خرجه الإمام أحمد وغيره وقد رواه عن السدي شعبة وسفيان فرفعه شعبة ووقفه سفيان والقول قول سفيان في وقفه.

وقال الضحاك إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو بأرض أخرى ولم يعملها فتكتب عليه وقد تقدم عن أحمد وإسحاق ما يدل على مثل هذا القول وكذا حكاه القاضي أبو يعلي عن أحمد وروى أحمد في رواية المروزي حديث ابن مسعود هذا ثم قال أحمد يقول ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم الحج قال أحمد لو أن رجلًا بعدن أبين هم بقتل رجل في الحرم هذا قول الله تعالى {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الحج هكذا قول ابن مسعود.

وقد أورد بعضهم هذا إلى ما تقدم من المعاصي التي متعلقها القلب وقال الحرم يجب احترامه وتحريمه وتعظيمه بالقلوب فالعقوبة على ترك هذا الواجب وهذا لا يصح فإن حرمة الحرم ليست بأعظم من حرمة محرمه سبحانه والعزم على معصية الله عزم على انتهاك محارمه ولكن لو عزم على ذلك قصدا كانتهاك حرمة الحرم واستخفافا بحرمته فهذا كما لو عزم على فعل معصية بقصد الاستخفاف بحرمة الخالق تعالى فيكفر بذلك وإنما ينتفي الكفر عنه إذ كان همه بالمعصية بمجرد نيل شهوته وغرض نفسه مع ذهوله عن قصد مخالفة الله والاستخفاف بهيبته وبنظره ومتي اقترن العمل بالهم فإنه يعاقب عليه سواء كان الفعل متأخرا أو متقدما فمن فعل محرما مرة ثم عزم على فعله متي قدر عليه فهو مصر على المعصية ومعاقب على هذه النية وإن لم يعد إلى عمله إلا بعد سنين عديدة وبذلك فسر ابن المبارك وغيره الإصرار على المعصية وبكل حال فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير فتكون العقوبة على المعصية ولا ينضم إليها الهم بها إذا لو ضم إلى المعصية الهم بها لعوقب على عمل المعصية عقوبتين ولا يقال فهذا يلزم مثله في عمل الحسنة فإنها إذا عملها بعد الهم بها أثيب على الحسنة دون الهم بها لأنا نقول هذا ممنوع فإن من عمل حسنة كتبت له عشر أمثالها فيجوز أن يكون بعض هذه الأمثال جزاء للهم بالحسنة والله أعلم.

وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم أو مجاهد يعني أن عمل السيئة إما أن تكتب لعاملها سيئة واحدة أو يمحوها الله بما شاء من الأسباب كالتوبة والاستغفار وعمل الحسنات وقد سبق الكلام فيما تمحي به السيئات في شرح حديث أبي ذر أتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وقوله بعد ذلك ولا يهلك على الله إلا هالك يعني بعد هذا الفضل العظيم من الله والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات والتجاوز عن السيئات لايهلك على الله إلا من هلك وألقي بيده إلى التهلكة وتجرأ على السيئات ورغب عن الحسنات وأعرض عنها ولهذا قال ابن مسعود ويل لمن غلبت وحداته عشراته وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مرفوعًا هلك من غلب واحده عشرا.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائى والترمذى من حديث عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة وهما يسير ومن يعمل بهما قليل تسبح الله دبر كل صلاة عشرا وتحمده عشرا وتكبره عشرا قال فذلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمسمائة في الميزان فإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة فتلك مائة باللسان وألف في الميزان فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة.

وفي المسند عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال لايدع أحدكم أن يعمل لله ألف حسنة حين يصبح يقول سبحان الله وبحمده مائة مره فإنها ألف حسنة فإنه لن يعمل إن شاء الله تعالى مثل ذلك في يومه من الذنوب ويكون ما عمل من خير سوي ذلك وافرا.

============

الحديث الثامن والثلاثون

العبادة لله تعالى وسيلة القرب والمحبة

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى قال من عادي لي وليًا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه . رواه البخاري

هذا الحديث انفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة قال حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان بن بلال قال حدثني شريك ابن عبدالله بن أبي تمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وذكر الحديث بطوله وزاد في آخره وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفسي عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته وهو من غرائب الصحيح تفرد به ابن كرامة عن خالد وليس في مسند أحمد مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه الإمام أحمد وغيره وقالوا له مناكير وعطاء الذي في إسناده قيل أنه ابن أبي رياح وقيل إنه ابن يسار وإنه وقع في بعض نسخ الصحيح منسوبا كذلك وقد روى هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال ورواه عبد الواحد بن ميمون أبو حمزه مولي عروة ابن الزبير عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال من آذي لي وليًا فقد استحل محاربتي وما تقرب إلى عبد بمثل أداء فرائضي وإن عبدي ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وفؤاده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن موته وذلك أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته خرجه ابن أبي الدنيا وغيره وخرجه الإمام أحمد بمعناه وذكر ابن عدي أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة وعبدا لواحد هذا قال فيه البخاري منكر الحديث ولكن خرجه الطبراني حدثنا هارون بن كامل قال حدثنا إبراهيم بن سويد المدني قال حدثنا أبو حرزة يعقوب بن مجاهد قال أخبرني عروة عن عائشة عن النبي ﷺ فذكره وهذا أيضًا إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيحين سوي شيخ الطبراني فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله ولعل الرواي قال حدثنا أبو حمزة يعني عبد الوهاب بن ميمون فخيل للسامع أنه قال أبو حرزة ثم سماه من عنده بناء على وهمه والله أعلم.

وخرج الطبراني وغيره من رواية عثمان بن أبي عاتكة عن على بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال يقول الله تعالى من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فأكون قلبه الذي يعقل به ولسانه الذي ينطق به وبصره الذي يبصر به فإذا دعاني أجبته وإذا سألني أعطيته وإذا استنصرني نصرته وأحب عبادة عبدي إلى النصيحة وعثمان وعلي بن زيد ضعيفان قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث هو منكر جدًا وقد روى من حديث على عن النبي ﷺ بسند ضعيف وخرجه الإسماعيلي في مسند علي وروى من حديث ابن عباس بسند ضعيف وخرجه الطبراني وفيه زيادة في لفظه ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو ضعيف أيضًا خرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني عن صدقة بن عبدالله الدمشقي عن هشام الكناني عن أنس عن النبي ﷺ عن جبريل عن ربه تعالى قال من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتنفل حتى أحبه ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك دعاني فأجبته وسألني فأعطيته ونصح لي فنصحت له وإن من عبادي من لايصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسطت له لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليم خبير والخشني وصدقة ضعيفان وهشام لا يعرف وسئل ابن معين عن هشام هذا من هو قال لا أحد يعني لا يعتبر به وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة بن عبد الكريم الجزري عن أنس.

وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش سمعت حذيفة يقول قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى أوحي إلى يا أخا المرسلين يا أخا المنذرين أنذر قومك لا يدخلوا بيتًا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائمًا بين يدي حتى يرد تلك الظلامة على أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وأكون بصر الذي يبصره به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري من النبيين والصديقين والشهداء في الجنة وهذا إسناد جيد وهو غريب جدًا ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري وقد قيل إنه أشرف حديث في ذكر الأولياء قوله تعالى من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب يعني فقد أعلمته بأني محارب له حيث كان محاربا لي بمعاداته أوليائي ولهذا جاء في حديث عائشة فقد استحل محاربتي وفي حديث أبي أمامة وغيره فقد بارزني بالمحاربة.

وخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذ بن جبل سمع النبي ﷺ يقول إن يسير الرياء شرك وإن من عادي لله وليًا فقد بارز الله بالمحاربة وأن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا مصابيح الهدي يخرجون من كل غبراء مظلمة فأولياء الله تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم كما أن أعداءه تجب معاداتهم وتحرم موالاتهم قال تعالى {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} الممتحنة وقال {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} المائدة.

ووصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن وهب بن منبه قال إن الله تعالى قال لموسي عليه السلام حين كلمه اعلم أن من أهان لي وليًا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وعاداني وعرض نفسه ودعاني إليها وإن أسرع شيء إلى نصرة أوليائي أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي أو يظن الذي يعاديني أنه يعجزني أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني ويفوتني وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة فلا أكل نصرتهم إلى غيري واعلم أن جميع المعاصي محاربة لله تعالى.

قال الحسن بن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقة فإن من عصي الله فقد حاربه لكن كلما كان الذنب أقبح كانت المحاربة لله أشد ولهذا سمي الله تعالى أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله تعالى ورسوله لعظم ظلمهم لعباده وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداة أوليائه فإنه تعالى يتولي نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم فمن عاداهم فقد عادي الله تعالى وحاربه وفي الحديث عن النبي ﷺ قال الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا فمن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي الله ومن آذي الله يوشك أن يأخذه خرجه الترمذي وغيره.

وقوله وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه لما ذكر أن معاداة أوليائه محاربة له ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم فذكر ما يقرب به إليه وأصل الموالاة القرب وأصل المعاداة البعد فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه وأعداؤه الذين أبعدهم منه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه فقسم أولياءه المقربين قسمين أحدهما من تقرب إليه بأداء الفرائض ويشمل ذلك فعل الواجبات وترك المحرمات لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده والثاني من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل فظهر بذلك أن دعوي طريق يوصل إلى التقرب إلى الله تعالى وموالاته ومحبته سوي طاعته التي شرعها على لسان رسوله ممن ادعي ولاية الله ومحبته بغير هذا الطريق تبين أنه كاذب في دعواه كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه كما حكي الله عنهم أنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفي الزمر وكما حكي الله عن اليهود والنصاري أنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه المائدة مع إصرارهم على تكذيب رسله وارتكاب نواهيه وترك فرائضه فلذلك ذكر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين أحدهما المقربون إليه بأداء الفرائض وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأعمال أداء ما افترض الله والورع عما حرم الله وصدق النية فيما عند الله تعالى وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته أفضل العبادات أداء الفرائض واجتناب المحارم وذلك أن الله تعالى إنما افترض على عباده هذه الفرائض فيقربهم عنده ويوجب لهم رضوانه ورحمته وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه الصلاة كما قال تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} العلق وقال النبي ﷺ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقال إذا كان أحدكم يصلي فإنما يناجي ربه وربه بينه وبين القبلة وقال إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى عدل الراعي في رعيته سواء كانت رعيه عامة كالحاكم أو خاصة كعدل آحاد الناس في أهله وولده كما قال ﷺ كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ قال إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما والوا وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال إن أحب العباد إلى الله يوم القيامة وأدناهم إليه مجلسًا إمام عادل الدرجة الثانية درجة السابقين المقربين وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في النوافل والطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ومن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته فأوجب له ذلك القرب منه والزلفي لديه والحظ عنده كما قال الله تعالى {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} المائدة ففي هذه الآية إشارة إلى أن من أعرض عن حبنا وتولي عن قربنا ولم يبال استبدلنا به من هو أولي بهذه المنحة منه وأحق فمن أعرض عن الله فما له عن بدل ولله منه أبدال.

مالي شغل سواه مالي شغل *** يصرف عن هواه قلبي عذل

ما أصنع إن جفا وخاب الأمل *** مني بدل وما لي منه بدل

وفي بعض الآثار يقول الله تعالى ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء، وكان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل كثيرًا:

اطلبوا لأنفسكم *** مثل ما وجدت أنا

قد وجدت لي سكنا *** ليس في هواه عنا

إن بعدت قربني *** وإن قربت منه دنا

من فاته الله فلو حصلت له الجنة بحذافيرها لكان مغبونا فكيف إذا لم يحصل له إلا نزر حقير يسير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة ولذا قيل:

من فاته أن يراك يومًا *** فكل أوقاته فوات

وحيثما كنت في بلاد *** فلي إلى وجهك التفات

ثم ذكر وصف الذين يحبهم الله ويحبونه فقال {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح ويعاملون الكافرين بالعزة والشدة عليهم والغلظ لهم فلما أحبوا أولياءه الذين يحبونه فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة وبغضوا أعداءه الذين يعادونه فعاملوهم بالشدة والغلظة كما قال تعالى {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} المائدة.

فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب وأيضا فالجهاد في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى الله فمن لم يجد الدعوة باللين والرفق احتاج بالدعوة إلى الشدة والعنف عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ولا يخافون لومة لائم ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه وسخط من سخط من خاف الملامة في هوي من يحبه فليس بصادق في المحبة.

وقف الهوي بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة *** حبا لذكرك فليلمني اللوم

وقوله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء المائدة يعني درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة والله واسع عليم المائدة واسع العطاء عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه ومن لا يستحقه فيمنعه ويروى أن داود عليه السلام كان يقول اللهم اجعلني من أحبابك فإنك إذا أحببت عبدًا غفرت ذنبه وإن كان عظيما وقبلت عمله وإن كان يسيرا، وكان داود يقول في دعائه اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد وقال النبي ﷺ أتاني ربي يعني في المنام فقال لي يا محمد قل اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك اللهم ما رزقتني ما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب وروي عنه ﷺ أنه كان يدعو اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي وخشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجة الدنيا بالشوق إلى لقائك فإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فاقرر عيني من عبادتك فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هم إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه قال بعض السلف العمل على المخافة قد يغير الرجاء والعمل على المحبة لا يدخله الفوز ومن كلام بعضهم إذا سئم البطالون من بطالتهم فلا يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك قال فرقد السنحي قرأت في بعض الكتب من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه ومن أحب الدنيا لم يكن عنده آثر من هوي نفسه فالحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء زمرته أول الزمر يوم القيامة ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك والمحبة منتهي القربة والاجتهاد ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه يمشون بين عباده بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم القيامة يوم تبدو الفضائح أولئك أولياؤه وأحباؤه وأهل صفوته أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه وقال فتح الموصلي المحب لا يجد مع حب الله للدنيا لذة ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين وقال محمد بن النضر الحارثي ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله وما يكاد يسأم من ذلك وقال بعضهم المحب لله طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دأبا وشوقا وأنشد بعضهم:

وكن لربك ذا حب لتخدمه *** إن المحبين للأحباب خدام

وأنشد آخر:

ما للمحب سوي إرادة حبه *** إن المحب بكل حال يصرع

ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم قال حبان بن الأرت لرجل تقرب إلى الله تعالى ما استطعت واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه وفي الترمذي عن أبي أمامة مرفوعًا ما تقرب العبد إلى الله تعالى بمثل ما خرج منه يعني القرآن لاشيء عندالمحبين أحلي من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم قال عثمان لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.

وقال ابن مسعود من أحب القرآن أحب الله ورسوله قال بعض العارفين لمريد أتحفظ القرآن قال لا واغوثاه بالله لمريد لا يحفظ القرآن فبنم يتنعم فبنم يترنم فبنم يناجي ربه تعالى كان بعضهم يكثر تلاوة القرآن ثم اشتغل عنه بغيره فرأي في المنام قائلا يقول له:

إن كنت تزعم حبي *** فلم جفوت كتابي

أما تأملت ما فيه *** من لطيف عتابي

ومن ذلك كثرة ذكر الله الذي يتوطأ عليه القلب واللسان.

وفي مسند البزار عن معاذ قال قلت يا رسول الله أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله تعالى قال أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى.

وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم وفي حديث آخر أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه وقال عز وجل {اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة ولما سمع النبي ﷺ الذين يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل وهم معه في سفر قال لهم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سمعيا قريبًا وهو معكم.

وفي رواية وهو أقرب إليكم من أعناق رواحلكم ومن ذلك محبة أحبابه وأوليائه فيه ومعاداة أعدائه فيه وفي سنن أبي داود عن عمر قال إن من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله تعالى قالوا يا رسول الله من هم قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلي منابر من نور ولا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا هذه الآية { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يونس وروى نحوه من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي ﷺ وفي حديث يغبطهم النبيون بقربهم ومقعدهم من الله تعالى.

وفي المسند عن عمرو بن الجموح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق ولاية من الله إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم وسئل المرتعش بم تنال المحبة قال بموالاة أولياء الله ومعادة أعدائه وأصله الموافقة.

وفي الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال قال موسي عليه السلام يارب من هم أهلك الذين تظلهم تحت ظل عرشك قال ياموسي هم البريئة أيديهم الطاهرة قلوبهم الذين يتحابون بجلالي الذين إذا ذكرت ذكروا بي وإذا ذكروا ذكرت بهم الذين يسبغون الوضوء في المكاره وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى أوكارها ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حورب قوله فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وفي بعض الروايات وقلبه الذي يعقل به ولسانه الذي ينطق به المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل قربه إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة كما قيل:

ساكن في القلب يعمره *** لست أنساه فأذكره

غاب عن سمعي وعن بصري *** فسويد القلب يبصره

قال الفضيل بن عياض إن الله تعالى يقول كذب من ادعي محبتي ونام عني أليس كل محب يحب خلوة محبوبه ها أنا مطلع على أحبابي وقد مثلوني بين أعينهم وخاطبوني على المشاهدة وكلموني بحضوره غدا أقر أعينهم في جناني ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوي حتى تمتلئ قلوبهم به فلا يبقي في قلوبهم غيره ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في قلوبهم.

ومن كان حاله هذا قيل فيه ما بقي في قلبه إلا الله والمراد معرفته ومحبته وذكره وفي هذا المعنى الأثر المشهور ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.

وقال بعض العارفين احذروه فإنه غيور لا يحب أن يري في قلب عبده غيره وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

ليس للناس موضع في فؤادي *** زاد فيه هواك حتى ملاه

وقال آخر:

قد صبغ قلبي على مقدار حبهم *** فما لحب سواهم فيه متسع

وإلي هذا المعنى أشار النبي ﷺ في خطبته لما قدم المدينة فقال أحبوا الله من كل قلوبكم كما ذكره ابن إسحاق في سيرته فمتي امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به فهذا هو المراد بقوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ومن أشار إلى غير هذا فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول والاتحاد والله ورسوله بريئان منه ومن هنا كان بعض السلف كسليمان التيمي يقولون إنه لا يحسن أن يعصي الله وأوصت امرأة من السلف أولادها فقالت لهم تعودوا حب الله وطاعته فإن المتقين ألفوا الطاعة فاستوحشت جوارحهم من غيرها فإن عرض لهم الملعون بمعصية مرت المعصية بهم محتشمة فهم لها منكرون ومن هذا المعنى قول على بن أبي طالب إن كنا نري أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاص فإن معنى لا إله إلا الله لا يؤله غيره حبا ورجاء وخوفا وطاعة فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله ولا كراهة لغير ما يكرهه الله ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله وذلك ينشأ من تقديم هوي النفس على محبة الله تعالى وخشيته وذلك يقدح في كمال التوحيد الواجب فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات فإن من تحقق قلبه بتوحيد الله فلا يبقي له هم إلا في الله وفيما يرضيه به وقد ورد في الحديث مرفوعًا من أصبح وهمه غير الله فليس من الله قال بعض العارفين من أخبرك أن لوليه هم في غيره فلا تصدقه، وكان داود الطائي ينادي بالليل همك عطل على الهموم وحال بيني وبين السهاد وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب وفي هذا المعنى يقول بعضهم قالوا:

تشاغل عنا واصطفي بدلا *** منا وذلك فعل الخائن السالي

وكيف أشغل قلبي عن محبتكم *** بغير ذكركم يا كل أشغالي

قوله ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وفي رواية أخرى إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته يعني أن هذا المحبوب المقرب له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله أعطاه شيئًا وإذا استعاذ به من شيء أعاذه منه وإن دعاه أجابه فيصير مجاب الدعوة لكرامته على الله تعالى وقد كان كثير من السلف الصالح معروفا بإجابه الدعوة.

وفي الصحيح أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبوا فطلبوا منهم العفو فأبوا فقضي بينهم رسول الله ﷺ بالقصاص فقال أنس ابن النضر أتكسر ثنية الربيع والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضي القوم وأخذوا الأرش فقال رسول الله ﷺ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره.

وفي صحيح الحاكم عن أنس عن النبي ﷺ قال كم من ضعيف متضاعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وإن البراء لقي زخفا من المشركين فقال له المسلمون اقسم على ربك فقال أقسمت عليك يارب لما منحتنا أكتافهم فمنحهم أكتافهم ثم التقوا مرة أخرى فقالوا اقسم على ربك فقال أقسمت عليك يارب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ﷺ فمنحوا أكتافهم وقتل البراء وعن أبي الدنيا بإسناد له أن النعمان بن نوفل قال يوم أحد اللهم إني أقسم عليك أن أقتل فأدخل الجنة فقتل فقال النبي ﷺ إن النعمان أقسم على الله فأبره.

وروى أبو نعيم بإسناده عن سعيد أن عبدالله بن جحش قال يوم أحد يارب إذا لقيت العدو غدا فلقني رجلًا شديدًا بأسه شديدًا حرده أقاتله فيك ويقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا قلت يا عبدالله من جدع أنفك وأذنك فأقول فيك وفي رسولك فتقول صدقت قال سعيد لقد لقيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط، وكان سعد ابن أبي وقاص مجاب الدعوة فكذب عليه رجل فقال اللهم إن كان كاذبا فاعم بصره وأطل عمره وعرضه للفتن فأصاب الرجل ذلك كله فكان يتعرض للجواري في السكك ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد ودعا علي رجل سمعه يشتم عليا فما برح من مكانه حتى جاء بعير ناد فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله ونازعته امرأة سعيد بن زيد في أرض له فادعت أنه أخذ منها أرضها فقال اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في أرضها فعميت فبينما هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت، وكان العلاء بن الحضرمي في سرية فعطشوا فصلي ثم قال اللهم ياعليم ياحكيم ياعلي ياعظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ ولا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا فساروا قليلًا فوجدوا نهرا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملأوا أوعيتهم ثم ساروا فرجع بعض أصحابه إلى موضع النهر فلم ير شيئًا وكأنه لم يكن في موضعه ماء قط وشكا أنس بن مالك عطش أرضه في البصرة فتوضأ.

وخرج إلى البرية وصلي ركعتين ودعا فجاء المطر وسقا أرضه ولم يجاوز المطر أرضه إلا يسيرا واحترقت خصاص بالبصرة في زمن أبي موسي الأشعري وبقي في وسطها خص لم يحترق فقال أبو موسي لصاحب الخص ما بال خصك لم يحترق فقال إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسي إني سمعت رسول الله ﷺ يقول في أمتي رجال طلس رؤوسهم دنس ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم، وكان أبو مسلم الخولاني مشهورا بإجابة الدعوة فكان يمر به الضب فيقول له الصبيان ادع الله لنا أن يحبس علينا هذا الضب فيدعو الله فيحبسه حتى يأخذوه بأيديهم ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأة له بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال فجاءته فجعلت تناشده بالله وتطلب من الله فرحمها ودعا الله تعالى فرد عليها بصرها ورجعت امرأته إلى حالها معه وكذب رجل على مطرف ابن عبدالله بن الشخير فقال له إن كنت كاذبا فعجل الله حتفك فمات الرجل مكانه، وكان رجل من الخوارج يغشي مجلس الحسن البصري فيؤذيهم فلما ازداد أذاه قال الحسن اللهم قد عملت أذاه لنا فاكفناه بما شئت فخر الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سريره، وكان صلة بن أشيم في سرية فذهبت بغلته بثقلها وارتحل الناس فقام يصلي فقال اللهم إني أقسم عليك أن ترد على بغلتي وثقلها فجاءت حتى قامت بين يديه، وكان مرة في برية فقرأ فجاع فاستطعم الله وجبة خلفه فإذا هو بثوب أو منديل فيه دوخلة رطب طري فأكل منه وبقي الثوب عند امرأته معاذة العدوية وكانت من الصالحات، وكان محمد بن المنكدر في غزاة فقال له رجل من رفقائه اشتهي رطبًا جنيا فقال ابن المنكدر استطعموا الله يطعمكم فإنه القادر فدعا القوم فلم يسيروا إلا قليلًا حتى رأوا مكتلا مخيطا فإذا هو خير رطب فقال بعض القوم لو كان عسلا فقال ابن المنكدر إن الذي أطعمكم رطبًا جنيا ها هنا قادر على أن يطعمكم عسلا فاستطعموه فدعوا فساروا قليلًا فوجدوا ظرف عسل على الطريق فنزلوا وأكلوا، وكان حبيب العجمي أبو محمد معروفا بإجابة الدعوة دعا لغلام أقرع الرأس وجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام فما قام حتى اسود رأسه وعاد كأحسن الناس شعرا وأوتي برجل زمن في محمل فدعا له فقام الرجل على رجليه فحمل محمله على عنقه ورجع إلى عياله واشتري في زمن مجاعة طعامًا كثيرًا فتصدق به على المساكين ثم خاط أكيسة فوضعها تحت فراشه ثم دعا الله تعالى فجاء أصحاب الطعام يطلبون ثمنه فأخرج تلك الأكيسة فإذا هي مملوءة دراهم فوزنها فإذا هي قدر حقوقهم فدفعها إليهم، وكان رجل يعبث به كثيرًا فدعا عليه حبيب فبرص، وكان مرة عند مالك بن دينار فجاء رجل فأغلظ لمالك من أجل دراهم قسمها مالك فلما طال ذلك من أمره رفع حبيب يده إلى السماء فقال اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منه كيف شئت فسقط الرجل على وجهه ميتا.

وخرج قوم في غزاة في سبيل الله، وكان لبعضهم حمار فمات وارتحل أصحابه فقام فتوضأ وصلي وقال اللهم إني خرجت مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك وأشهد أنك تحيي الموتي وتبعث من في القبور فأحي لي حماري فقام إلى الحمار فضربه فقام الحمار ينفض أذنيه فركبه ولحق أصحابه ثم باع الحمار بعد ذلك بالكوفة وخرجت سرية في سبيل الله فأصابهم برد شديد حتى كادوا أن يهلكوا فدعوا الله تعالى وإلي جانبهم شجرة عظيمة فإذا هي تلتهب نارا فجففوا ثيابهم ودفئوا بها حتى طلعت عليهم الشمس فانصرفوا وردت الشجرة إلى هيئتها.

وخرج أبو قلابة صائما حاجا فتقدم أصحابه في يوم صائف فأصابه عطش شديد فقال اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر فأظلته سحابة فأمطرت عليه حتى بلت ثوبه وذهب العطش عنه فنزل فحوض حياضا فملأها فانتهي إليه أصحابه فشربوا وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء ومثل هذا كثير جدًا ويطول استقصاؤه وأكثر من كان مجاب الدعوة من السلف كان يصبر على البلاء ويختار ثوابه ولا يدعو لنفسه بالفرج منه وقد روى أن سعد بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة الدعوة فقيل له لو دعوت الله لبصرك، وكان قد أضر فقال قضاء الله أحب إلى من بصري وابتلي بعضهم بالجذام فقيل له بلغنا أنك تعرف اسم الله الأعظم فلو سألته أن يكشف ما بك فقال يا ابن أخي إنه هو الذي ابتلاني وأنا أكره أن أرده وقيل لإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج لو دعوت الله تعالى فقال أكره أن أدعوه أن يفرج عني مالي فيه أجر، وكذلك سعيد بن جبير صبر على أذي الحجاج حتى قتله، وكان مجاب الدعوة كان له ديك يقوم بالليل بصياحه إلى الصلاة فلم يصح ليلة في وقته فلم يقم سعيد إلى الصلاة فشق عليه فقال ماله قطع صوته فما صاح الديك بعد ذلك فقالت له أمه يابني لا تدع بعد هذا على شيء وذكر لرابعة رجل له منزلة عند الله وهو يقتات بما يلتقطه من المنبوذات على المزابل فقال رجل ما ضر هذا أن يدعو الله أن يغنيه عن هذا فقالت رابعة إن أولياء الله إذا قضي الله لهم قضاء لم يستسخطوه، وكان حيوة بن شريح ضيق العيش جدًا فقيل له لو دعوت الله أن يوسع عليك فأخذ حصاة من الأرض فقال اللهم اجعلها ذهبا فصارت تبرة في كفه وقال ما خير في الدنيا إلا الآخرة ثم قال هو أعلم بما يصلح عباده وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم الله الخيرة له في غيره قال فلا يجيبه إلى سؤاله ويعوضه مما هو خير له إما في الدنيا أو في الآخرة وقد تقدم في حديث أنس المرفوع إن الله يقول إن من عبادي من يسألني بابًا من العبادة فأكفه كيلا يدخله العجب.

وخرج الطبراني من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن النبي ﷺ قال إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله دينارا يعطه ولو سأله درهما لم يعطه ولو سأله فلسا لم يعطه ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وخرجه غيره من حديث سالم مرسلًا وزاد فيه ولو سأل الله شيئًا من الدنيا ما أعطاه تكرمة له، وقوله ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته المراد بهذا أن الله تعالى قضي على عباده بالموت كما قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} آل عمران هو مفارقة الروح للجسد ولا يحصل ذلك إلا بألم عظيم جدًا وهو أعظم الآلام التي تصيب العبد في الدنيا قال عمر لكعب أخبرني عن الموت قال: يا أمير المؤمنين هو مثل شجرة كثيرة الشوك في جوف ابن آدم فليس منه عرق ولا مفصل وهو كرجل شديد الذراعين فهو يعالجها ينتزعها فبكي عمر.

ولما احتضر عمرو بن العاص سأله ابنه عن صفة الموت فقال والله لكأن جنبي في تخت ولكأني أتنفس من سم إبرة، وكان غصن شوك يجر به من قدمي إلى هامتي.

وقيل لرجل عند الموت كيف تجدك فقال أجدني أجتذب اجتذابا، وكان الخناجر مختلفة في جوفي، وكان جوفي في تنور محمي يلتهب توقدا وقيل لآخر كيف تجدك قال أجدني كأني السموات منطبقة على الأرض علي وأجد نفسي كأنها تخرج من ثقب إبرة.

فلما كان الموت بهذه الشدة والله قد حتمه على عباده كلهم ولابد لهم منه والله تعالى يكره أذي المؤمن ومساءته سمي ترددا في حق المؤمن وأما الأنبياء فلا يقبضون حتى يخيروا.

قال الحسن لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقائه لما أحبوه من تحفة وكرامة حتى إن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له.

وقالت عائشة ما أغبط أحدًا يهون الله عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله ﷺ قالت كانت عنده قدح من ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول اللهم أعني على سكرات الموت قالت وجعل يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات وجاء في حديث مرسل أنه ﷺ كان يقول اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل اللهم فأعني على الموت وهونه على وقد كان بعض السلف يستحب أن يجتهد عند الموت كما قال عمر بن عبد العزيز ما أحب أن تهون على سكرات الموت إنه لآخر ما يكفر به عن المؤمن وقال النخعي كانوا يستحبون أن يجتهدوا عند الموت، وكان بعضهم يخشي من تشديد الموت أن يفتن وإذا أراد الله أن يهون على العبد الموت هونه عليه.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله وكرامة فليس شيءأحب إليه مما أمامه وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه قال ابن مسعود إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال له إن ربك يقرئك السلام وقال محمد بن كعب يقول له ملك الموت السلام عليك ياولي الله والله يقرئك السلام ثم قال الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم النحل وقال زيد بن أسلم تأتي الملائكة للمؤمن إذا احتضر وتقول له لا تخف مما أنت قادم عليه فيذهب الله خوفه ولا تحزن على الدنيا وأهلها وأبشر بالجنة فيموت وقد جاءته البشري. وخرج البزار من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ إن الله أضن بموت عبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى يقبضه على فراشه وقال زيد بن أسلم قال رسول الله ﷺ إن لله عبادا هم أهل المعافاة في الدنيا والآخرة وقال ثابت البناني إن لله عبادا يضن بهم في الدنيا عن القتل والأوجاع يطيل الله أعمارهم ويحسن أرزاقهم ويميتهم على فرشهم ويطبعونهم بطابع الشهداء وخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني مرفوعًا من وجوه ضعيفة وفي بعض ألفاظها إن لله ضنائن من خلقه يأبي بهم عن البلاء يحييهم في عافيه ويميتهم في عافية ويدخلهم الجنة في عافية قال ابن مسعود وغيره إن موت الفجأة تخفيف عن المؤمن وقال أبو ثعلبة الخشني إني لأرجو أن لا يخنقني كما أراكم تخنقون عند الموت، وكان ليلة في داره فسمعوه ينادي يا عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن قد قتل مع رسول الله ﷺ ثم أتي مسجد بيته فصلي فقبض وهو ساجد وقبض جماعة من السلف في الصلاة وهم سجود، وكان بعضهم يقول لأصحابه إني لا أموت موتكم ولكن أدعي فأجيب، وكان يومًا قاعدا مع أصحابه فقال لبيك ثم خر ميتا، وكان بعضهم جالسًا مع أصحابه فسمعوا صوتا يقول يا فلان أجب فهذه والله آخر ساعتك من الدنيا فوثب فقال هذا والله منادي الموت فودع أصحابه وسلم عليهم ثم انطلق نحو الصوت وهو يقول سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثم انقطع عنهم الصوت فتتبعوا أثره فوجدوه ميتا، وكان بعضهم جالسًا يكتب في مصحف فوضع القلم من يده وقال إن كان موتكم هكذا فوالله إنه لموت طيب ثم سقط ميتا، وكان آخر جالسًا يكتب الحديث فوضع القلم من يده ورفع يديه يدعو الله فمات رحمه الله تعالى.

==================

الحديث التاسع والثلاثون

التجاوز عن المخطى والناسي والمكره

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول ﷺ قال إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما

هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي ﷺ وخرجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني وعندهما عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي ﷺ وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمرو رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين وقد خرجه الحاكم وقال صحيح على شرطهما كذا قال ولكن له علة وقد أنكره الإمام أحمد جدًا وقال ليس يروى فيه إلا عن الحسن عن النبي ﷺ مرسلًا وقيل لأحمد أن الوليد بن مسلم روي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله فأنكره أيضًا وذكر لابن أبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي، وحديث مالك وقيل له إن الوليد روى أيضًا عن ابن لهيعة عن موسي بن وردان عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ مثله فقال أبو حاتم هذه أحاديث منكرةكأنها موضوعة وقال لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث عن عطاء وإنما سمعه من رجل لم يسمه توهم أنه عبدالله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم قال ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده قلت وقد روي عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير مرسلًا من غير ذكر ابن عباس وروى يحيى بن سليم عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه خرجه الجوزجاني وهذا بالمرسل أشبه وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا رواه مسلم ابن خالد الزنجي عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى تجوز لأمتي عن ثلاث الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني وسعيد العلاف وهو سعيد بن أبي صالح قال أحمد وهو مكي قيل له كيف حاله قال لا أدري وما علمت أحدًا روى عنه غير مسلم بن خالد قال أحمد وليس هذا مرفوعًا إنما هو عن ابن عباس قوله نقل ذلك عنه مهنا ومسلم بن خالد ضعفوه وروى من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد عن على الهمداني عن أبي حمزة عن ابن عباس مرفوعًا خرجه حرب ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئًا وروى من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد الأعمي عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ وعبد الرحيم هذا ضعيف وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه أخر وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا وصححه الحاكم وغربه وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم وكانا يقولان عن الوليد إنه كثير الخطأ ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود قال روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل منها عن نافع أربعة قلت والظاهر أن منها هذا الحديث والله أعلم.

وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان عن النبي ﷺ قال إن الله تجاوز عن أمتي عن ثلاث الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ويزيد بن ربيعة ضعيف جدًا.

وخرج ابو حاتم من رواية أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن النبي ﷺ قال إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والاستكراه قال أبو بكر فذكرت ذلك للحسن فقال أجل أما تقرأ بذلك قرآنا ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا البقرة وأبو بكر الهذلي متروك الحديث وخرجه ابن ماجه ولكن عنده عن شهر عن أبي ذر الغفاري عن النبي ﷺ قال إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكر هوا عليه ولم يذكر كلام الحسن وأما الحديث المرسل عن الحسن فرواه عنه هشام بن حبان ورواه منصور وعوف عن الحسن من قوله لم يرفعه ورواه جعفر بن حبيش بن الحسن عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعًا وجعفر وأبوه ضعيفان قال محمد بن نصر المروزي ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه البيهقي وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزل قوله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة قال الله تعالى قد فعلت وعن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنها لما نزلت قال نعم وليس واحد منهما مصرحًا برفعه.

وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها وما أكرهوا عليه إلا أن يتكلموا به أو يعملوا وهو لفظ غريب.

وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وزاد فيه وما استكرهوا عليه خرجه ابن ماجه وقد أنكرت هذه الزيادات على ابن عيينة ولم يتابعه عليها أحد والحديث مخرج من رواية أبي قتادة في الصحيحين والسنن والأسانيد بدونها ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع.

فقوله إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان إلى آخره تقديره إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ أو ترك ذلك عنهم فإن تجاوز لا يتعدي بنفسه، وقوله الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فأما الخطأ والنسيان فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما قال الله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة وقال تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الأحزاب.

وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص سمع النبي ﷺ يقول إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وحكم فأخطأ فله أجر.

وقال الحسن لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين يعني داود وسلمان لرأيت أن القضاة قد هلكوا فإنه أثني على هذا بعمله وعلي هذا باجتهاده يعني قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم الأنبياء وأما الإكراه فصرح القرآن أيضًا بالتجاوز عنه قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} النحل وقال تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} آل عمران الآية ونحن نتكلم إن شاء الله في هذا الحديث في فصلين أحدهما في حكم الخطأ والنسيان والثاني في حكم الإكراه.

الفصل الأول: في الخطأ والنسيان

الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئًا فيصادف فعله غير ما قصده مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلمًا والنسيان أن يكون ذاكرًا لشيء فينساه عند الفعل وكلاهما معفو عنه يعني أنه لا إثم فيه ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم كما أن من نسي الوضوء وصلي ظانا أنه متطهر فلا إثم عليه بذلك ثم إن تبين له أنه كان قد صلى محدثا فإن عليه الإعادة ولو ترك التسمية على الوضوء نسيانا وقلنا بوجوبها فهل يجب عليه إعادة الوضوء فيه روايتان عن الإمام أحمد وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسيانا فيه عنه روايتان وأكثر الفقهاء على أنها تؤكل ولو ترك الصلاة نسيانا ثم ذكر فإن عليه القضاء كما قال النبي ﷺ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ولو صلى حاملا في صلاته نجاسة لا يعفي عنها ثم علم بها بعد أو في أثنائها فأزالها فهل يعيد صلاته أم لا فيه قولان وهما روايتان عن أحمد وقد روي عن النبي ﷺ أنه خلع نعليه في صلاته وأتمها وقال إن جبرائيل أخبرني أن فيهما أذي ولم يعد صلاته ولو تكلم في صلاته ناسيا لأنه في صلاة ففي بطلان صلاته بذلك قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد ومذهب الشافعي أنها تبطل بذلك ولو أكل في صيامه ناسيا فالأكثرون على أنه يبطل صيامه عملًا بقوله ﷺ من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطمعه الله وسقاه.

وقال مالك عليه الإعادة لأنه بمنزلة من ترك الصلاة ناسيا والجمهور يقولون أنه أتي بنية الصيام وإنما ارتكب بعض محظوراته ناسيا فيعفي عنه ولو جامع ناسيا فهل حكمه حكم الآكل نسيانا أم لا فيه قولان أحدهما وهو المشهور عن أحمد أنه يبطل صيامه بذلك وعليه القضاء وفي الكفارة عنه روايتان والثاني لايبطل صيامه بذلك كالأكل وهو مذهب الشافعي وحكي رواية عن أحمد وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسيا هل يبطل به النسك أم لا ولو حلف لا يفعل شيئًا ففعله ناسيا ليمينه أو مخطئا ظانا أنه غير المحلوف عليه فهل يحنث في يمينه أم لا فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد أحدها لا يحنث بكل حال ولو كانت اليمين بالطلاق والعتاق وأنكر هذه الرواية عن أحمد الخلال وقال هي سهو من ناقلها وهو قول الشافعي في أحد قوليه وإسحاق وأبي ثور وابن أبي شيبة وروى عن عطاء قال إسحاق يستخلف أنه كان ناسيا والثاني يحنث بكل حال وهو قول جماعة من السلف ومالك والثالث يفرق بين أن يكون يمينه بطلاق أوعتاق أو بغيرهما وهو المشهور عن أحمد رحمه الله وهو قول أبي عبيد وكذا قال الأوزاعي في الطلاق قال وإنما الحديث الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسيا وأقام على امرأته فلا إثم عليه فإذا ذكر فعليه اعتزال امرأته فإن نسيانه قد زال وحكي إبراهيم الحربي إجماع التابعين على وقوع الطلاق بالناسي ولو قتل مؤمنا فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب وكذا لو أتلف مال غيره خطأ بظنه أنه مال نفسه وكذا قال الجمهور في المحرم يقتل الصيد خطأ أو ناسيا لإحرامه أن عليه جزاءه ومنهم من قال لا جزاء عليه إلا أن يكون متعمدًا لقتله تمسكا بظاهر قوله تعالى {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} المائدة الآية وهو رواية عن أحمد وأجاب الجمهور عن الآية بأنه رتب على قاتله متعمدًا الجزاء وانتقام الله تعالى ومجموعهما يختص بالعامد وإذا انتفي العمد انتفي الانتفام وبقي الجزاء ثابتًا بدليل الآخر والأظهر والله أعلم أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما لأن الأمر مرتب على المقاصد والنيات والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما وأما رفع الأحكام عنهما فليس مرادا من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.

الفصل الثاني: في حكم المكره

وهو نوعان

أحدهما من لا اختيار له باللية ولا قدرة له على الامتناع كمن حمل كرها وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله أو حمل كرها وضرب به غيره حتى مات ذلك الغير ولا قدرة له على الامتناع أو أضجعت ثم زني بها من غير قدرة لها على الامتناع فهذا لا إثم عليه بالاتفاق ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء وقد حكي عن بعض السلف كالنخعي فيه خلاف ووقع في كلام بعض أصحاب الشافعي وأحمد والصحيح عندهم أنه لايحنث بحال وروى عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء وأحنثها زوجها كرها أن كفارتها عليه وعن أحمد رواية كذلك فيما إذا وطيء امرأته مكرهة في صيامها أو إحرامها أن كفارتها عليه والمشهور عنه أنه يفسد صيامها بذلك وحجها والنوع الثاني من أكره بضرب أو غيره حتى فعل هذا الفعل يتعلق به التكليف فإن أمكنه أن لا يفعل فهو مختار للفعل ليس غرضه نفس الفعل بل دفع الضرر عنه فهو مختار من وجه غير مختار من وجه آخر ولهذا اختلف الناس هل هو مكلف أم لا واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يصح له أن يقتله فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل هذا إجماع من العلماء المعتد بهم، وكان في زمن الإمام أحمد يخالف فيه من لا يعتد به فإذا قتله في هذه الحال فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود المكره والمكره لاشتراكهما في القتل وهو قول مالك والشافعي وفي المشهور عن أحمد وقيل يجب على المكره وحده لأن المكره صار كالآلة وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وروى عن زفر كالأول وروي عنه أنه يجب على المكرة لمباشرته وليس هو كالآلة لأنه آثم بالاتفاق وقال أبو يوسف لا قود على واحد منهما وخرجه بعض أصحابنا وجهان من رواية لا يوجب فيها قتل الجماعة بالواحد وأولي لو أكره بالضرب ونحوه على إتلاف مال الغير والمعصوم فهل يباح له ذلك فيه وجهان لأصحابنا فإن قلنا يباح له ذلك فضمنه المالك رجع بما ضمنه على المكره وإن قلنا لا يباح له ذلك فالضمان عليهما معا كالقود وقيل على المباشر المكره وحده وهو ضعيف ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة ففي إباحته قولان أحدهما يباح له ذلك استدلالا بقوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} النور وهذه نزلت في عبدالله بن أبي بن سلول كانت له أمتان، وكان يكرههما على الزنا وهما يأبيان ذلك وهذا قول الجمهور كالشافعي وأبي حنيفة وهو المشهور عن أحمد. وروى نحوه عن الحسن ومكحول ومسروق وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يدل عليه وأهل هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرجل على الزنا فمنهم من قال لا يصح إكراههم عليه ولا إثم عليه وهو قول الشافعي وابن عقيل من أصحابنا ومنهم من قال لا يصح إكراههم عليه وعليه الإثم والحد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومنصوص أحمد وروى عن الحسن والقول الثاني إن التقاة تكون في الأموال ولا تقاة في الأفعال ولا إكراه عليها وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأبي العالية وأبي الشعثاء والربيع بن أنس والضحاك وهو رواية عن أحمد وروى عن سحنون أيضًا وعلي هذا لو شرب الخمر أو سرق مكرها حد ولو على الأول ولو شرب الخمر مكرها ثم طلق أو أعتق فهل يكون حكمه حكم المختار لشربها أم لابل يكون طلاقه وإعتاقه لغوا فيه لأصحابنا وجهان وروى عن الحسن فيمن قيل له اسجد لصنم وإلا قتلناك قال إن كان الصنم تجاه القبلة فليسجد ويجعل نيته لله وإن كان إلى غير القبلة فلا يفعل وإن قتلوه قال ابن حبيب المالكي وهذا قول حسن قال أبو عطية وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير القبلة وفي كتاب الله فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة وأما الإكراه على الأقوال فاتفق العلماء على صحته وإن من أكره على قول محرم إكراها معتبرا أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه وقد دل عليه قول الله تعالى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} النحل وقال النبي ﷺ لعمار وإن عادوا فعد، وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدون من الكفر ففعل وأما ما ورد عن النبي ﷺ أنه أوصي طائفة من أصحابه وقال لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم فالمراد الشرك بالقلوب كما قال تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} لقمان وقال تعالى {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} النحل وسائر الأقوال متصور عليها الإكراه فإذا أكره بغير حق قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام، وكان لغوا فإن كلام المكره صدر منه وهو غير راض به فلذلك عفي عنه ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة وبهذا فارق الناسي والجاهل وسواء في ذلك العقود كالبيع والنكاح أو الفسوخ كالخلع والطلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنذور وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك والشافعي وأحمد وفرق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عنده ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه فقال لا يلزم مع الإكراه وماليس كذلك كالنكاح والطلاق والعتاق والأيمان فألزم بها مع الإكراه ولو حلف لا يفعل شيئًا ففعله مكرها فعلي قول أبي حنيفة يحنث وعلي قول الجمهور ففيه قولان أحدهما لايحنث كما لايحنث إذا فعل به ذلك كرها ولم يقدر على الامتناع كما سبق وهذا قول الأكثرين منهم والثاني يحنث هاهنا لأنه فعله باختياره بخلاف ما إذا حمل ولم يمكنه الامتناع وهو رواية عن أحمد وقول الشافعي ومن أصحابه وهو القفال من فرق بين اليمين والطلاق والعتاق وغيرهما كما قلنا نحن في الناسي وخرجه بعض أصحابنا وجهالنا ولو أكره على أداء ماله بغير حق فباع عقاره ليؤدي ثمنه فهل يصح الشراء منه أم لا فيه روايتان عن أحمد، وعنه رواية ثالثة إن باعه بثمن المثل اشتري منه وإن باعه بدونه لم يشتر منه ومتي رضي المكره بما أكره عليه لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراه والإكراه قائم صح ما صدر منه من العقود وغيرها بهذا القصد هذا هو المشهور عند أصحابنا وفيه وجه آخر أنه لا يصح أيضًا وفيه بعد وأما الإكراه بحق فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه فلو أكره الحربي على الإسلام فأسلم صح إسلامه كذا لو أكره الحاكم أحدًا على بيع ماله ليوفي دينه أو أكره موليا بعد مدة الإيلاء وامتناعه من الفيئة على الطلاق ولو حلف لايوفي دينه فأكرهه الحاكم على وفائه فإنه يحنث بذلك لأنه فعل ماحلف عليه حقيقة على وجه لايعذر فيه ذكره أصحابنا بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء فأدي عنه الحاكم فإنه لايحنث لأنه لم يوجد منه فعل المحلوف عليه.

=================

الحديث الأربعون

الدنيا وسيلة ومزرعة الآخرة

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك . رواه البخاري

هذا الحديث خرجه البخاري عن على بن المدنيي حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد عن ابن عمر فذكره وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في قوله حدثنا مجاهد وقالوا هي غير ثابتة وأنكروها على ابن المديني وقالوا لم يسمع الأعمش هذا الحديث عن مجاهد إنما سمعه من ليث بن أبي سليم وقد ذكره العقيلي وغيره وأخرجه الترمذي من حديث ليث عن مجاهد وزاد فيه وعد نفسك من أهل القبور وزاد في كلام ابن عمر فإنك لا تدري ياعبد الله ما اسمك غدا وخرجه ابن ماجه ولم يذكر قول ابن عمر.

وخرج الإمام أحمد والنسائى من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عمر قال أخذ النبي ﷺ ببعض جسدي وقال اعبد الله كأنك تراه وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعبدة بن أبي لبابة أدرك ابن عمر واختلف في سماعه منه وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا فيطمئن فيها ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يعني جهازه للرحيل وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} غافر، وكان النبي ﷺ يقول مالي ولي الدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه أنه قال لهم اعبروها ولا تعمروها وروي عنه أنه قال من ذا الذي يبني على موج البحر دارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته فقال يا أبا ذر أين متاعكم فقال إن لنا بيتًا نتوجه إليه فقال إنه لا بد لك من متاع مادمت هاهنا فقال إن صاحب المنزل لا يدعنا هاهنا ودخلوا على بعض الصالحين فقلبوا بصرهم في بيته فقالوا إنا نري بيتك بيت رجل مرتحل فقال لا أرتحل ولكن أطرد طردا، وكان على بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولاحساب وغدا حساب ولا عمل قال بعض الحكماء عجبت ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة إليه يشغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة وقال عمر بن عبدالعزيز في خطبته إن الدنيا ليست بدار قراركم كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها منها الظعن فكم من عامر موثق عن قليل يخرب وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن مابحضرتكم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوي وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولاوطنا فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين إما أن يكون كأنه غريب مقم في بلد غربة همه التزود للرجوع إلى وطنه أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة فلهذا وصي النبي ﷺ ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين فأحدهما أن يترك المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة لكن في بلد غربة فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه قال الفضيل بن عياض المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مرمة جهازه ومن كان في الدنيا كذلك فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ولا يجزع من الذل عندهم قال الحسن المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها له شأن وللناس شأن لما خلق الله آدم عليه السلام أسكن هو وزوجته الجنة ثم أهبط منها ووعد بالرجوع إليها وصالحوا ذريتهما فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول وحب الوطن من الإيمان كما قيل:

كم منزل للمرء يألفه الفتي وحنينه أبدًا لأول منزل

ولبعض شيوخنا:

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولي وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل تري *** نعود إلى أوطاننا ونسلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأي *** وشطت به أوطانه فهو مغرم

وأي اغتراب فوق غربتنا التي *** لها أضحت الأعداء فينا تحكم

وكان عطاء السلمي يقول في دعائه اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم موقفي غدا بين يديك قال الحسن بلغني أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي أنفدوا الزاد وحسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل يقطر رأسه ماء فقالوا إن هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال علام أنتم قالوا على ما تري قال أرأيتكم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئًا قال أعطوني عهودكم ومواثيقكم بالله قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئًا قال فأوردهم ماء ورياضا خضرا فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم وإلي رياض ليست كرياضكم فقال جل القوم وهم أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئًا وقد صدقكم في أول حديثه فو الله ليصدقنكم في آخره قال فراح فيمن تبعه وتخلف بقيتهم فنزل بهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل خرجه ابن أبي الدنيا وخرجه الإمام أحمد من حديث على بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن النبي ﷺ بمعناه مختصرًا فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي ﷺ مع أمته فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس وأقلهم وأسوأهم عيشا في الدنيا وحالا في الآخرة فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة وظهر لهم من براهين صدقه كما ظهر من صدق أمر الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة وقد نفد ماؤهم وهلك ظهرهم برؤيته في حلة رجلًا يقطر رأسه ماء ودلهم على الماء والرياض المعشبة فاستدلوا بهيئته وجماله وحاله على صدق مقالته فاتبعوه ووعد من اتبعوه بفتح بلاد فارس والروم وأخذ كنوزها وحذرهم من الاغترار بذلك والوقوف معهم وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ والجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها فوجدوا ما وعدهم به حقا كله فلما فتحت عليهم الدنيا كما وعدهم اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها والمنافسة فيها ورضوا بالإقامة فيها والتمتع بشهواتها وتركوا الآخرة الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب والاستعداد لها فهذه الطائفة القليلة نجت ولحقت نبيها ﷺ في الآخرة حيث سلكت طريقته في الدنيا وقبلت وصيته وامتثلت ماأمرت به وأما أكثر الناس فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة على هذه الغرة فهلكوا وأصبحوا مابين قتيل وأسير وماأحسن قول يحيى بن معاذ الرازي الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادمًا مع الخاسرين الحال الثاني أن يترك المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره وهو الموت ومن كانت هذه حاله في الدنيا فهمته تحصيل الزاد للسفر فليس له همة للاستكثار من طلب متاع الدنيا ولهذا وصي النبي ﷺ جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب قيل لمحمد بن واسع كيف أصبحت قال ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة وقال الحسن إنما أنت أيام مجموعة كلما مضي يوم مضي بعضك.

وقال ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك يوضعك الليل إلى النهار والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرا وقال الموت معقود بنواصيكم والدنيا تطوي من ورائكم قال داود الطائي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادا لما بين يديها فافعل فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك وكتب بعض السلف إلى أخ له ياأخي يخيل لك أنك مقيم بل أنت دائب السير تساق مع ذلك سوقا حثيثا الموت متوجه إليك والدنيا تطوي من ورائك ومامضي من عمرك فليس بكار عليك يوم الغابن.

سبيلك في الدنيا سبيل مسافر *** ولا بد من زاد لكل مسافر

ولا بد للإنسان من حمل عُدة *** ولا سيما إن خاف صولة قاهر

وقال بعض الحكماء كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته.

وقال الفضيل بن عياض لرجل كم أتت عليك قال ستون سنة قال فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ فقال الرجل إنا لله وإنا إليه راجعون فقال الفضيل أتعرف تفسيره تقول إنا لله وإنا إليه راجعون فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا ، فقال الرجل فما الحيلة قال يسيرة قال ما هي قال تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضي فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضي وما بقي وفي هذا المعنى قال بعضهم:

وإن المرء قد سار ستين حجة *** إلى منهل من ورده لقريب

قال بعض الحكماء من كانت الأيام والليالي مطاياه سارت به وإن لم يسر وفي هذا قال بعضهم:

وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داع إلى الموت قاصد

وأعجب شيء لو تأملت أنها *** منازل تطوي والمسافر قاعد

وقال آخر:

و يا ويح نفس من نهار يقودها *** إلى عسكر الموتي وليل يذودها

قال الحسن: لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال هيهات قد صحبا نوحًا وعادًا وثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا فأصبحوا قد أقدموا على ربهم ووردوا على أعمالهم وأصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرا به مستعدين لمن بقي بمثل ما أصاب به من مضي.

وكتب الأوزاعي إلى أخ له أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة فاحذر الله والمقام بين يديه وأن يكون آخر عهدك به والسلام.

نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأيامنا تطوي وهن مراحل

ولم أر مثل الموت حقا كأنه *** إذا ما تخطته الأماني باطل

وما أقبح التفريط في زمن الصبا *** فكيف به والشيب للرأس شاعل

ترحل من الدنيا بزاد من التقي *** فعمرك أيام وهن قلائل

وأما وصية ابن عمر فهي مأخوذه من هذا الحديث الذي رواه وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل وإن الإنسان إذا أمسي لم ينتظر الصباح وإذا أصبح لم ينتظر المساء بل يظن أن أجله يدرك قبل ذلك وبهذا فسر غير واحد من العلماء الزهد في الدنيا قال المروزي قيل لأبي عبدالله يعني أحمد أي شيء الزهد في الدنيا قال قصر الأمل من إذا أصبح قال لا أمسي قال وهكذا قال سفيان قيل لأبي عبدالله بأي شيء نستعين على قصر الأمل قال ما ندري إنما هو توفيق قال الحسن اجتمع ثلاثة من العلماء فقالوا لأحدهم ما أملك قال ما أتي على شهر إلا ظننت أني سأموت فيه قال فقال صاحباه إن هذا هو الأمل فقالا لأحدهم فما أملك قال ما أتت على جمعة إلا ظننت أني سأموت فيها قال فقال صاحباه إن هذا هو الأمل فقالا للآخر فما أملك قال ما أمل من نفسه في يد غيره قال داود الطائي سألت عطوان بن عمرو التيمي قلت ما قصر الأمل قال ما بين تردد النفس فحدث بذلك الفضيل بن عياض فبكي وقال يقول يتنفس فيخاف أن يموت قبل أن ينقطع نفسه لقد كان عطوان من الموت على حذر وقال بعض السلف مانمت نوما قط فحدثت نفسي أني أستيقظ منه، وكان حبيب أبو محمد كل يوم يوصي بما يوصي به المحتضر عند موته من يغسله ونحوه، وكان يبكي كلما أصبح أو أمسي فسألت امرأته عن بكائه فقالت يخاف الله إذا أمسي أن لايصبح وإذا أصبح أن لايمسي، وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله أستودعكم الله فلعلها أن تكون منيتي لاأقوم منها، وكان هذا دأبه إذا أراد النوم وقال بكر المزني إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب فليفعل فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ويصبح في أهل الآخرة، وكان أويس إذا قيل له كيف الزمان عليك قال كيف الزمان على رجل إن أمسي يظن أنه لايصبح وإن أصبح ظن أنه لايسمي فمبشر بالجنة أو النار وقال عون بن عبدالله ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله كم من مسقبل يومًا لايستكمله وكم من مؤمل لغد لا يدركه إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لبغضتم الأمل وغروره، وكان يقول إن من أنفع أيام المؤمن له في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره وكانت امرأة متعبدة بمكة إذا أمست قالت يا نفس الليلة ليلتك لا ليلة لك غيرها فاجتهدت فإذا أصبحت قالت يانفس اليوم يومك لا يوم لك غيره فاجتهدت وقال بكر المزني إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل لعلي لا أصلي غيرها وهذا مأخوذ مما روي عن النبي ﷺ أنه قال صل صلاة مودع وأقام معروف الكرخي الصلاة ثم قال لرجل تقدم فصل بنا فقال الرجل إني إن صليت بكم هذه الصلاة لم أصل بكم غيرها فقال معروف وأنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل وطرق بعضهم باب أخ له فسأل عنه فقيل له ليس هو في البيت فقال متي يرجع فقالت له جارية من البيت من كانت نفسه في يد غيره من يعلم متي يرجع ولأبي العتاهية:

وما أدري وإن أملت عمرا *** لعلي حين أصبح لست أمسي

ألم تر أن كل صباح يوم *** وعمرك فيه أقصر منه أمس

وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا : ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ومما أنشد بعض السلف:

إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضي يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا *** فإنما الربح والخسران في العمل

قوله وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك يعني اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت وفي رواية فإنك ياعبد الله لا تدري ما اسمك غدا يعني لعلك غدا من الأموات دون الأحياء وقد روى معنى هذه الوصية عن النبي ﷺ من وجوه ففي صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ وفي صحيح الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لرجل وهو يعظه اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك وقال غنيم بن قيس كنا نتواعظ في أول الإسلام ابن آدم اعمل في فراغك قبل شغلك وفي شبابك لكبرك وفي صحتك لمرضك وفي دنياك لآخرتك وفي حياتك لموتك وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بادروا بالأعمال ستا طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة وفي الترمذي عنه عن النبي ﷺ قال بادروا بالأعمال سبعا هل تنظرون إلا إلى فقر منس أو غني مطغ أو مرض مفسد أو هرم مفند أو موت مجهز أو الدجال فشر غائب منتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال فبعضها يشغل عنه إما في خاصة الإنسان كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته وبعضها عام كقيام الساعة وخروج الدجال، وكذلك الفتن المزعجة كما جاء في حديث آخر بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل كما قال تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الأنعام.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض وفيه أيضًا عن النبي ﷺ قال من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه وعن أبي موسى عن النبي ﷺ قال إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.

وخرج الإمام أحمد والنسائى والترمذى وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال عن النبي ﷺ قال إن الله فتح بابًا قبل المغرب عرضه سبعون عامًا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه.

وفي المسند عن عبد الرحمن بن عوف عن عبدالله بن عمرو عن معاوية عن النبي ﷺ قال لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل وروى عن عائشة قالت إذا خرج أول الآيات طرحت الأقلام وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال خرجه ابن جرير الطبري وكذا قال كثير بن مرة ويزيد بن شريح وغيرهما من السلف إذا طلعت الشمس من مغربها طبع على القلوب بما فيها وترفع الحفظة الأعمال وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملًا وقال سفيان الثوري إذا طلعت الشمس من مغربها طوت الملائكة صحائفها ووضعت أقلامها فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينها وبينه إما بمرض أو موت أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا يقبل معها عمل قال أبو حازم إن بضاعة الآخرة كاسدة يوشك أن تنفق فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير ومتي حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه ويتمني الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية قال تعالى {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ. أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الزمر وقال تعالى {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المؤمنون وقال عز وجل {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا} المنافقون.

وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا ما من ميت يموت إلا ندم قالوا وما ندامته قال إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب فإذا كان الأمر على هذا فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقي من عمره ولهذا قيل إن بقية عمر المؤمن لا قيمة له وقال سعيد بن جبير كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة وقال بكر المزني ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول يا ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي ولا ليلة إلا تنادي ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي ولبعضهم:

اغتنم في الفراغ فضل ركوع *** فعسي أن يكون موتك بغتة

كم صحيح مات من غير سقم *** ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

وقال محمود الوراق:

مضي أمسك الماضي شهيدا معدلا *** وأعقبه يوم عليك جديد

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة *** فثن بإحسان وأنت حميد

فيومك إن أعقبته عاد نفعه *** عليك وماضي الأمس ليس يعود ولا ترج فعل الخير يومًا إلى غد *** لعل غدا يأتي وأنت فقيد

====================

الحديث الحادي والأربعون

علامة الإيمان

عن أبي محمد عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به . حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح

يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق وكتابه هذا هو كتاب الحجة على تاركي سلوك طريق المحجة يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب الأربعين وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه وخرجته الأئمة في مسانيدهم ثم خرجه عن الطبراني حدثنا الوزير عبد الرحمن بن حاتم المرادي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ولا يزيغ عنه ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني عن ابن واره عن نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا بعض مشايخنا هشام أو غيره عن ابن سيرين فذكره وليس عنده ولا يزيغ عنه قال الحافظ أبو موسى المديني هذا الحديث مختلف فيه على نعيم وقيل فيه حدثنا بعض مشيختنا مثل هشام وغيره قلت تصحيح هذا الحديث بعيد جدًا من وجوه منها أنه حديث ينفرد به نعيم بن حماد المروزي ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة.

وخرج له البخاري فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن لصلابته في السنة وتشدده على أهل الرد في الأهواء وكانوا ينسبونه إلى أنه يهم ويشبه عليه في بعض الأحاديث فلما كثر عثورهم على مناكيره حكموا عليه بالضعف فروى صالح بن محمد الحافظ عن ابن معين أنه سئل عنه فقال ليس بشيء إنما هو صاحب سنة قال صالح، وكان يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها وقال أبو داود عند نعيم نحو عشرين حديثًا عن النبي ﷺ ليس لها أصل وقال النسائي ضعيف وقال مرة ليس ثقة وقال مرة قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرة فصار في حد من لا يحتج به وقال أبو زرعة الدمشقي يصل أحاديث يوقفها الناس يعني أنه يرفع الموقوفات وقال أبو عروبة الخوافي هو مظلم الأمر وقال أبو سعيد بن يونس روى أحاديث مناكير عن الثقات ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث وأين كان أصحاب عبد الوهاب الثقفي وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى ينفرد به نعيم ومنها أنه قد اختلف على نعيم في إسناده فروى عنه الثقفي عن هشام وروي عنه الثقفي حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره وعلي هذه الرواية يكون الشيخ الثقفي غير معروف عنه وروى عن الثقفي حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره وعلي هذه الرواية فالثقفي رواه عن شيخ مجهول وشيخه رواه عن غير معين فتزداد الجهالة في إسناده ومنها أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري ويقال فيه يعقوب بن أوس أيضًا وقد خرج له أبو داود والنسائى وابن ماجه حديثًا عن عبدالله بن عمرو ويقال عبدالله بن عمر وقد اضطرب في إسناده وقد وثقه العجلي وابن سعد وابن حبان.

وقال ابن خزيمة روى عنه ابن سيرين مع جلالته.

وقال ابن عبد البر هو مجهول وقال الغلابي في تاريخه يزعمون أنه لم يسمع من عبدالله بن عمرو وإنما يقول قال عبدالله بن عمرو فعلي هذا تكون رواياته عن عبدالله بن عمرو منقطعة والله أعلم.

شرح الحديث

وأما معنى الحديث من الأوامر والنواهي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع قال تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} النساء وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الأحزاب وذم سبحانه من كره ما أحبه الله وأحب ما كرهه الله قال الله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} محمد وقال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} محمد فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه فإن زادت المحبة حتى أتي بما ندب إليه منه كان ذلك فضلًا وأن يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلًا.

وقد ثبت في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات قال تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} التوبة وقال تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} آل عمران.

قال الحسن قال أصحاب النبي ﷺ يا رسول الله إنا نحب ربنا حبا شديدًا فأحب الله أن يجعل لحبه علمًا فأنزل الله هذه الآية.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ويرضي ما يرضي الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة.

قال أبو يعقوب النهرجوري كل من ادعي محبة الله تعالى ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطل وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور.

وقال يحيى بن معاذ ليس بصادق من ادعي محبة الله ولم يحفظ حدوده وسئل رويم عن المحبة فقال الموافقة في جميع الأحوال وأنشد:

ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة *** وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا

ولبعضهم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس شنيع

لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوي النفوس على محبة الله ورسوله وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} القصص.

وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوي على الشرع ولهذا يسمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوي على محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول ﷺ فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما ولهذا كان من علامات وجوده حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله وتحريم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عمومًا.

وقد سبق ذلك في مواضع أخر وبهذا يكون الدين كله لله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوي نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب فيجب عليه التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول ﷺ من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوي النفس ومراداتها كلها.

قال وهيب بن الورد بلغنا والله أعلم أن موسي عليه السلام قال يارب أوصني قال أوصيك بي قالها ثلاثًا حتى قال في الأخري أوصيك بي أن لا يعرض لك أمر إلا آثرت فيه محبتي على ما سواها فمن لم يفعل ذلك لم أزكه ولم أرحمه والمعروف في استعمال الهوي عند الإطلاق أنه الميل إلى خلاف الحق كما في قوله تعالى {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} ﷺ وقال تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات.

وقد يطلق الهوي بمعنى المحبة والميل مطلقا فيدخل فيه الميل إلى الحق وغيره وربما استعمل بمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه وسئل صفوان بن عسال هل سمعت النبي ﷺ يذكر الهوي فقال سأله أعرابي عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم قال المرء مع من أحب ولما نزل قوله تعالى {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} الأحزاب قالت عائشة للنبي ﷺ ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

وقال عمر في قصة المشاورة في أساري بدر فهوى رسول الله ﷺ قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وهذا الحديث مما جاء في استعمال الهوي بمعنى المحبة المحمودة وقد وقع مثل ذلك في الآثار الإسرائيلية كثيرًا وكلام مشايخ القوم وإشاراتهم نظمًا ونثرًا يكثر في هذا الاستعمال وممايناسب معنى الحديث من ذلك قول بعضهم:

إن هواك الذي بقلبي *** صيرني سامعًا مطيعًا

أخذت قلبي وغمض عيني *** سلبتني النوم والهجوعًا فذر فؤادي وخذ رقادي *** فقال لا بل هما جميعًا

================

الحديث الثاني والأربعون

سعة مغفرة الله تعالى

عن أنس بن مالك رضي عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

هذا الحديث تفرد به الترمذي خرجه من طريق كثير بن فائدة حدثنا سعيد بن عبيد سمعت بكر بن عبدالله المزني يقول حدثنا أنس فذكره قال وحسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه انتهى وإسناده لا بأس به وسعيد بن عبيد هو الهنائي قال أبو حاتم شيخ وذكره ابن حبان في الثقات ومن زعم أنه غير الهنائي فقد وهم وقال الدارقطني تفرد به كثير بن فائدة عن سعيد مرفوعًا ورواه مسلم بن قتيبة عن سعيد بن عبيد فوقفه أنس قلت قد روى عنه مرفوعًا وموقوفا وتابعه على رفعه أبو سعيد أيضًا مولي بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعًا أيضًا وقد روى أيضًا من حديث ثابت عن أنس مرفوعًا ولكن قال أبو حاتم هو منكر وقد روى أيضًا عن سعيد بن عبيد مرفوعًا أيضًا من حديث أبي ذر خرجه الإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب عن معديكرب عن أبي ذر عن النبي ﷺ يرويه عن ربه تعالى فذكره بمعناه ورواه بعضهم عن شهر عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر وقيل عن شهر عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ ولا يصح هذا القول وروى من حديث ابن عباس خرجه الطبراني من رواية قيس بن الربيع عن جيد بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ وروى بعضه من وجوه أخر فخرج مسلم في صحيحه من حديث معرور بن سويد عن أبي ذر عن النبي ﷺ قال يقول الله تعالى من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بقرابها مغفرة.

وخرج الإمام أحمد من رواية أخشن السدوسي قال دخلت على أنس فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم وقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة أحدها الدعاء مع الرجاء فإن الدعاء مأمور به وموعود عليه بالإجابة كما قال تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر.

وفي السنن الأربعة عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ قال إن الدعاء هو العباده ثم تلا هذه الآية وفي حديث آخر خرجه الطبراني مرفوعًا من أعطي الدعاء أعطي الإجابة لأن الله تعالى يقول ادعوني أستجب لكم.

وفي حديث آخر ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه وآدابه وقد سبق ذكر بعض شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر ومن أعظم شرائطه حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى.

كما خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة وإن الله تعالى لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه.

وفي المسند عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إن هذه القلوب أوعية فبعضها أوعي من بعض فإذا سألتم الله فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من مظهر قلب غافل ولهذا نهى العبد أن يقول في دعائه الله م اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ونهي أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء وجاء في الآثار إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه قال يا جبريل لا تعجل بقضاء حاجة عبدي فإني أحب أن أسمع صوته وقال تعالى {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمةََ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} الأعراف فما دام العبد يلح في الدعاء ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء فهو قريب من الإجابة ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له وفي صحيح الحاكم عن أنس مرفوعًا لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد ومن أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه وما يستلزم ذلك كالنجاة من النار ودخول الجنة وقد قال النبي ﷺ حولها ندندن يعني حول سؤال الجنة والنجاة من النار وقال أبو مسلم الخولاني ما عرضت لي دعوة فذكرت النار إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجه من الدنيا فيصرفها عنه يعوضه خيرًا منها إما أن يصرف عنه بذلك سوءا أو يدخرها له في الآخرة أو يغفر له بها ذنبا كما في المسند والترمذى من حديث جابر عن النبي ﷺ قال ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ماسأل أو كف عنه من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم.

وفي المسند وصحيح الحاكم عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال مامن مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدي ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها قالوا إذا نكثر قال الله أكثر وخرجه الطبراني وعنده أويغفر له بها ذنبا قد سلف بدل قوله أو يكشف عنه من السوء مثلها.

وخرج الترمذي من حديث عبادة مرفوعًا نحو حديث أبي سعيد أيضًا وبكل حال فالإلحاح بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجب للمغفرة والله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ماشاء وفي رواية فلا تظنوا بالله إلا خيرًا ويروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعًا يأتي الله بالمؤمن يوم القامة فيقربه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق فيقول له أقرأ فيعرفه ذنبا ذنبا أتعرف أتعرف فيقول نعم نعم ثم يلتفت العبد يمنة ويسرة فيقول الله تعالى لا بأس عليك ياعبدي أنت في ستري من جميع خلقي ليس بيني وبينك اليوم أحد يطلع على ذنوبك غيري غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به قال ما هو يارب قال كنت لا ترجو العفو من أحد غيري فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبا لم يرج مغفرته من غير ربه ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره وقد سبق ذكر ذلك في شرح حديث أبي ذر ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وقوله إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي يعني على كثرة ذنوبك وخطاياك ولا يتعاظمني ذلك ولا أستكثره.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء فذنوب العبد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته وفي صحيح الحاكم عن جابر أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ وهو يقول واذنوباه مرتين أو ثلاثًا فقال له النبي ﷺ قل الله م مغفرتك أوسع من ذنوبي ورحمتك أرجي عندي من عملي فقالها ثم قال له عد فعاد ثم قال له عد فعاد له قم قد غفر الله لك وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

يا كبير الذنب عفو الله *** من ذنبك أكبر

أعظم الأشياء في *** جانب عفو الله تغفر

وقال آخر:

يارب إن عظمت ذنوني كثرة *** فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن *** فمن ذا الذي يدعو ويرجو المجرم

مالي إليك وسيلة إلا الرجا *** وجميل عفوك ثم إني مسلم

السبب الثاني للمغفرة الاستغفار ولو عظمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء وهو السحاب وقيل ما انتهى إليه البصر منها وفي الرواية الأخري لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله لغفر لكم والاستغفار طلب المغفرة والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار فتارة يؤمر به كقوله تعالى {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} المزمل، وقوله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} هود وتارة يمدح أهله كقوله تعالى {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} آل عمران، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} آل عمران وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره كقوله تعالى {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} النساء وكثيرًا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان والتوبة عبارةعن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح وتارة يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة كما ذكر في هذا الحديث وما أشبهه فقد قيل إنه أريد به الاستغفار المقترن بالتوبة وقيل إن نصوص الاستغفار كلها المفردة مطلقة تقيد بما ذكر في آية آل عمران من عدم الإصرار فإن الله وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يصر على فعله فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا القيد ومجرد قول القائل اللهم اغفر لي طلب منه للمغفرة ودعاء بها فيكون حكمه حكم سائر الدعاء فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه لاسيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنوب أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات ويروى عن لقمان أنه قال لابنه يابني عود لسانك الله م اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا وقال الحسن أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلي موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم فإنكم ما تدرون متي تنزل المغفرة.

وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن من حديث أبي هريرة مرفوعًا بينما رجل مستلق إذ نظر إلى السماء وإلي النجوم فقال إني لأعلم أن لك ربا خالقا الله م اغفر لي فغفر له وعن مورق قال كان رجل يعمل السيئات فخرج إلى البرية فجمع ترابا فاضطجع مستلقيا عليه فقال ربي اغفر لي ذنوبي فقال إن هذا ليعرف أن له ربا يغفر ويعذب فغفر له وعن مغيث بن سمي قال بينما رجل خبيث فتذكر يومًا فقال الله م غفرانك الله م غفرانك ثم مات فغفر له ويشهد لهذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ إن عبدًا أذنب فقال رب أذنبت ذنبا فاغفر لي قال الله تعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخرتين وفي رواية لمسلم أنه قال في الثالثة قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء والمعنى مادام على هذا الحال كلما أذنب استغفر والظاهر أن مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار ولهذا في حديث أبي بكر الصديق عن النبي ﷺ قال ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة خرجه أبو داود والترمذى والاستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب فهو دعاء مجرد إن شاء الله أجابه وإن شاء رده وقد يكون الإصرار مانعا من الإجابة.

وفي المسند من حديث عبدالله بن عمر مرفوعًا ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعملون.

وخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزي بربه ورفعه منكر ولعله موقوف قال الضحاك ثلاثة لا يستجاب لهم فذكر منهم رجلًا مقيما على امرأة زنا قضي منها شهوته قال رب اغفر لي ما أصبت من فلانة فيقول الرب تحول عنها وأغفر لك وأما ما دمت عليها مقيما فإني لا أغفر لك ورجلا عنده مال قوم يري أهله فيقول رب اغفرلي ما آكل من فلان فيقول تعالى رد إليهم مالهم وأغفر لك وأما ما لم ترد إليهم فلا أغفر لك وقول القائل أستغفر الله معناه أطلب مغفرته فهو كقوله الله م اغفر لي فالاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله ووعدهم بالمغفرة قال بعض العارفين من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضهم يقول استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير وفي ذلك يقول بعضهم:

أستغفر الله من أستغفر الله *** من لفظة بدرت خالفت معناها

وكيف أرجو إجابات الدعاء وقد *** سددت بالذنب عند الله مجراها

فأفضل الاستغفار ما قرن به ترك الإصرار وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحا وإن قال بلسانه أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه فهو داع لله بالمغفرة كما يقول اللهم اغفر لي وهو حسن وقد يرجي له الإجابة وأما من تاب توبة الكذابين فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعض الناس وهذا حق فإن التوبة لا تكون مع الإصرار وإن قال أستغفر الله وأتوب إليه فله حالتان إحداهما أن يكون مصرا بقلبه على المعصية فهو كاذب في قوله وأتوب إليه لأنه غير تائب فلا يجوز له أن يخبر عن نفسه بأنه تائب وهو غير تائب والثانية أن يكون مقلعا عن المعصية بقلبه فاختلف الناس في جواز قوله وأتوب إليه فكرهه طائفة من السلف وهو قول أصحاب أبي حنيفة حكاه عنهم الطحاوي وقال الربيع بن خيثم يكون قوله وأتوب إليه كذبة وذنبا ولكن ليقل الله م إني أستغفرك فتب علي وهذا قد يحمل على من لم يقلع بقلبه وهو بحاله أشبه، وكان محمد بن سوقة يقول في استغفاره استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله توبة نصوحا وروى عن حذيفة أنه قال يحسب من الكذب أن يقول أستغفر الله ثم يعود وسمع مطرف رجلًا يقول أستغفر الله وأتوب إليه فتغيظ عليه وقال لعلك لا تفعل وهذا ظاهره يدل على أنه إنما كره أن يقول وأتوب إليه لأن التوبة النصوح أن لا يعود إلى الذنب أبدًا فمتي عاد إليه كان كاذبا في قوله وأتوب إليه، وكذلك سئل محمد بن كعب القرظي عمن عاهد الله أن لا يعود إلى معصيةأبدا فقال من أعظم منه إثما يتألي على الله أن لا ينفذ فيه قضاءه ورجح قوله في هذا أبو الفرج بن الجوزي وروى عن سفيان بن عيينة نحو ذلك وجمهور العلماء على جواز أن يقول التائب أتوب إلى الله وأن يعاهد العبد ربه على أن لا يعود إلى المعصية فإن العزم على ذلك واجب عليه في الحال لهذا قال ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة وقال في المعاود للذنب قد غفرت لعبدي فليعمل ماشاء وفي حديث كفارة المجلس أستغفرك اللهم وأتوب إليك وقطع النبي ﷺ يدي سارق ثم قال له استغفر الله وتب إليه فقال أستغفر الله وأتوب إليه فقال اللهم تب عليه خرجه أبو داود واستحب جماعة من السلف الزيادة على قوله أستغفر الله وأتوب إليه فروى عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول أستغفر الله وأتوب إليه فقال له قل ياحميق قل توبة من لا يملك لنفسه نفغا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وسئل الأوزاعي عن الاستغفار يقول أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه فقال إن هذا لحسن ولكن يقول رب اغفرلي حتى يتم الاستغفار وأفضل أنواع الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثني بالاعتراف بذنبه ثم يسأل الله المغفرة كمافي حديث شداد بن أوس عن النبي ﷺ قال سيد الاستغفار أن يقول العبد الله م أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت خرجه البخاري.

وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو أن أبا بكر الصديق قال يارسول الله علمني دعاء أدعوبه في صلاتي قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ومن أنواع الاستغفار أن يقول العبد أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وقد روي عن النبي ﷺ إن من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف خرجه أبو داود والترمذى وفي كتاب اليوم والليلة للنسائي عن خباب بن الأرت قال قلت يارسول الله كيف نستغفر قال قل الله م اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال مارأيت أحدًا أكثر أن يقول أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى عليه وآله وسلم وفي الأربعة عن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة يقول رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي ﷺ قال إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.

وفي المسند عن حذيفة قال قلت يارسول الله إني ذرب اللسان وإن عامة ذلك على أهلي فقال أين أنت من الاستغفار إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وفي سنن أبي داود عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقة من حيث لا يحتسب قال أبو هريرة إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة وذلك على قدر ديتي وقالت عائشة رضي الله عنها طوبي لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرًا قال أبو المنهال ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير وبالجملة فدواء الذنوب الاستغفار وروينا من حديث أبي ذر مرفوعًا إن لكل داء دواءا وإن دواء الذنوب الاستغفار قال قتادة إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار وقال بعضهم إنما معول المذنبين البكاء والاستغفار فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار قال رباح القيسي لي نيف وأربعون ذنبا قد استغفرت الله لكل ذنب مائة ألف مرة وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه فإذا زلاته لا تجاوز ستا وثلاثين فاستغفر الله لكل زلة مائة ألف مرة وصلي لكل زلة ألف ركعة وختم في كل ركعة منها ختمة قال ومع ذلك فإني غير آمن من سطوة ربي أن يأخذني بها فأنا على خطر من قبول التوبة ومن زاد اهتمامه بذنوبه فربما تعلق بأذيال من قلت ذنوبة فالتمس منهم الاستغفار، وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول إنكم لم تذنبوا، وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكتاب قولوا الله م اغفر لأبي هريرة فيؤمن على دعائهم قال بكر المزني لو كان رجل يطوف على الأبواب كما يطوف المسكين يقول استغفروا لي لكان قبوله أن يفعل ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاقت العدد والإحصاء فليستغفر الله مما علم فإن الله قد علم كل شيء وأحصاه كما قال تعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} وفي حديث شداد بن أوس عن النبي ﷺ أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب وفي مثل هذا يقول بعضهم:

أستغفر الله مما يعلم الله *** إن الشقي لمن لا يرحم الله

ما أحلم الله عمن لا يراقبه *** كل مسيء ولكن يحلم الله

فاستغفر الله مما كان من زلل *** طوبي لمن كف عما يكره الله

طوبي لمن حسنت منه سريرته *** طوبي لمن ينهي عما نهى الله

السبب الثالث من أسباب المغفرة التوحيد وهو السبب الأعظم فمن فقدة فقد المغفرة ومن جاء به فقد أتي بأعظم أسباب المغفرة قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء.

فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة قال بعضهم الموحد لا يلقي في النار كما يلقي الكفار ولا يبقي فيها كما يبقي الكفار فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوي الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية ورجاء وتوكلا وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر وربما قلبتها حسنات كما سبق ذكره في تبديل السيئات حسنات فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات كما في المسند وغيره عن أم هانئ عن النبي ﷺ قال لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل.

وفي المسند عن شداد بن أوس وعبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال لأصحابه ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله فرفعنا أيدينا ساعة ثم وضع رسول الله ﷺ يده ثم قال الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني الجنة عليها وإنك لاتخلف الميعاد ثم قال أبشروا فإن الله قد غفر لكم قال الشبلي من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها فصار رمادا تذوره الرياح ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها فصار ذهبا أحمر ينتفع به ومن ركن إلى الله أحرقه نور التوحيد فصار جوهرا لا قيمة له إذا علقت نار المحبة بالقلب أحرقت منه كل شيء ما سوي الرب عز وجل فطهر القلب حينئذ من الأغيار وصلح غرسا للتوحيد ماوسعني سمائي ولاأرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن.

غصني الشوق إليهم بريقي *** واحريقي في الهوي وا حريقي

قد رماني الحب في لج بحر *** فخذوا بالله كف الغريق

حل عندي حبكم في شغافي *** حل مني كل عهد وثيق فهذا آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى من الأحاديث في هذا الكتاب ونحن بعون الله ومشيئته نذكر تتمة الخمسين حديثًا من الأحاديث الجامعة لأنواع العلوم والآداب والحكم الموعود بها في أول الكتاب والله الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل وإليه المآب.

=================

الحديث الثالث والأربعون

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولي رجل ذكر . خرجه البخاري ومسلم

هذا الحديث الذي زعم بعض شراح هذه الأربعين أن الشيخ رحمه الله تعالى أغفله فإنه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها وهذا الحديث خرجاه من رواية وهيب وروح ابن القاسم عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وخرجه مسلم من رواية معمر ويحيى ابن أيوب عن ابن طاوس أيضًا وقد رواه الثوري وابن عيينة وابن جريج وغيرهم عن ابن طاوس عن أبيه مرسلًا من غير ذكر ابن عباس ورجح النسائي إرساله وقد اختلف العلماء في معنى قوله ألحقوا الفرائض بأهلها فقالت طائفة المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى والمراد أعطوا الفرائض المقدرة لمن سماها الله لهم فما بقي بعد هذه الفروض فيستحقه أولي الرجال والمراد بالأولي الأقرب كما يقال هذا يلي هذا أي يقرب منه فأقرب الرجال هو أقرب العصبات فيستحق الباقي بالتعصيب وبهذا المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه نقله عنهما إسحاق بن منصور وعلي هذا فإذا اجتمع بنت وأخت وعم وابن عم أو ابن أخ فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة وهذا قول ابن عباس، وكان يتمسك بهذا الحديث ويقر بأن الناس كلهم على خلافه وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضًا وقال إسحاق إذا كان مع البنت والأخت عصبة فالعصبة أولي وإن لم يكن معها أحد فالأخت لها الباقي وحكي عن ابن مسعود أنه قال البنت عصبة من لاعصبة له ورد بعضهم هذا وقال لا يصح عن ابن مسعود، وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس ثم رجعا عنه وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها مافضل منهم عمر وعلى وعائشة وزيد وابن مسعود ومعاذ بن جبل وتابعهم سائر العلماء وروى عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج سألت ابن طاوس عن ابنة أخت فقال كان أبي يذكر عن ابن عباس عن رجل عن النبي ﷺ فيها شيئًا، وكان طاوس لا يرضي بذلك الرجل قال، وكان أبي يشك فيها ولا يقول شيئًا وقد كان يسئل عنها والظاهر والله أعلم أن مراد طاوس هو هذا الحديث فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي ﷺ في ميراث الأخت البنت إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا الحديث وما ذكر طاوس أن ابن عباس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه فابن عباس أكثر رواياته للحديث عن الصحابة والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم وأثني عليهم فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاوس وفي صحيح البخاري عن أبي قيس الأودي عن هرقل بن شرحبيل قال جاء رجل إلى أبي موسي فسأله عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقال للابنة النصف وللأخت ما بقي ائت ابن مسعود فسيتابعني فأتي ابن مسعود فذكر ذلك له فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين لأقضين فيها بقضاء رسول الله ﷺ للابنة النصف ولابنه الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت قال فأتينا أبا موسي فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم وفيه أيضًا عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد قال قضي فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله ﷺ النصف للابنة والنصف للأخت ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله ﷺ فلم يذكره وخرجه أبو داود من وجه آخر عن الأسود وزاد فيه ونبي الله ﷺ يومئذ حي واستدل ابن عباس لقوله بقول الله عز وجل {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} النساء، وكان يقول {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} يعني أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت والصواب قول عمر والجمهور ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك لأن المراد بقوله فلها نصف ما ترك بالفرض وهذا مشروط بعدم الولد بالكلية ولهذا قال بعده فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك النساء يعني بالفرض والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثي فكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثي فإن كان هناك ولد فإن كان ذكرا فهو مقدم على الإخوة مطلقا ذكورهم وإناثهم وإن لم يكن هناك ولد ذكر بل أنثي فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطا لها فيتعين تقديمها عليه لامتناع مشاركته لها فمفهو م الآية أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض وهو حق ليس مفهومها أن الأخت تسقط بالبنت ولا تأخذ ما فضل من ميراثها يدل عليه قوله تعالى {وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ} النساء وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثي لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات وإنما وجود الولد الأثني يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كله فكما أن الولد إن كان ذكرا منع الأخ من الميراث فإن كان أنثي لم يمنعه الفاضل عن ميراثها وإن منعه حيازة الميراث فكذلك الولد إن كان ذكرا منع الأخت الميراث بالكلية وإن كان أنثي منعت الأخت أن يفرض لها النصف ولم يمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها والله أعلم.

وأما قوله فما أبقت الفرائض فلأولي رجل ذكر فقد قيل أن المراد به العصبة البعيد خاصة كبني والأعمام وبنيهم دون العصبة القريب بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكروالأنثي إذا كان العصبة قريبًا كالأولاد والإخوة بالاتفاق فكذلك الأخت مع البنت بالنص الدال عليه وأيضا فإنه يخص منه الصورة بالاتفاق، وكذلك يخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق فتخص منه صورة الأخت مع البنت بالنص وقالت طائفة أخرى المراد بقوله ألحقوا الفرائض بأهلها ما يستحقه ذوو الفروض في الجملة سواء أخذوه بفرض أو تعصيب طرأ لهم والمراد بقوله فما بقي فلأولي رجل ذكر العصبة الذي ليس له فرض بحال ويدل عليه أنه قد روى الحديث بلفظ آخر وهو اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فدخل في ذلك كل من كان من أهل الفروض بوجه من الوجوه وعلي هذا فما تأخذه الأخت مع أخيها أو ابن عمها إذا عصبها هو داخل في هذه القسمة لأنها من أهل الفرائض في الجملة فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت وقالت فرقة أخرى المراد بأهل الفرائض في قوله ألحقوا الفرائض بأهلها، وقوله اقسموا المال بين أهل الفرائض جملة من سماه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلهم فإن كل ما يأخذه الورثة فهو فرض فرضه الله لهم سواء كان مقدرا أو غير مقدر كما قال بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد فريضة من الله النساء وفيهم ذو فرض وعصبة وكما قال للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا النساء وهذا يشمل العصبات وذوي الفروض فذلك قوله اقسموا الفرائض بين أهلها على كتاب الله يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على مافي كتاب الله فإن قسم على ذلك فضل منه شيء فنخص بالفاضل أقرب الذكور من الورثة ولذلك إن لم يوجد في كتاب الله تصريح بقسمته بين من سماه الله من الورثة فيكون المال حينئذ لأولي رجل ذكر منهم فهذا الحديث مبين لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ومبين لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة مما لم يصرح به القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم ومبين أيضًا لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن فإذا ضم هذا الحديث إلى آيات القرآن انتظم ذلك كله معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات ونحن نذكر حكم توريث الأولاد والوالدين كما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء حكم توريث الإخوة من الأبوين أو من الأب كما ذكره الله تعالى في آخر السورة المذكورة فأما الأولي فقد قال الله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} النساء فهذا حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين يدخل في ذلك الأولاد وأولاد البنين باتفاق العلماء فمتي اجتمع من الأولاد إخوة وأخوات اقتسموا الميراث على هذا الوجه عند الأكثرين فلو كان هناك بنت للصلب أو ابنتان، وكان هناك ابن ابن مع أخته اقتسما الباقي أثلاثا لدخولهم في هذا العموم هذا قول جمهور العلماء منهم عمر رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه وزيد رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنه وذهب إليه عامة العلماء والأئمة الأربعة وذهب ابن مسعود إلى أن الباقي بعد استكمال بنات الصلب الثلثين كله لابن ابن ولا يعصب أخته وهو قول علقمة وأبي ثور وأهل الظاهر فلا يعصب الولد عندهم أخته إلا أن يكون لها فريضة لو انفردت عنه، وكذلك قالوا فيما إذا كان هناك بنت وأولاد ابن ذكور وإناث أن الباقي لجميع ولد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين.

وقال ابن مسعود في بنت وبنات ابن وبني ابن للبنت النصف والباقي بين ولد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين إلا أن تزيد المقاسمة بنات الابن على السدس فيفرض لهن السدس ويجعل الباقي لبني الابن وهذا قول أبي ذر وأما الجمهور فقالوا النصف الباقي لولد الابن للذكر مثل حظ الأنثيين عملًا بعموم الآية وعندهم أن الولد وإن ترك يعصب من في درجته بكل حال سواء كان للأنثي فرض بدونه أو لم يكن لايعصب من هو أعلي منه من الإناث إلا بشرط أن لا يكون له فرض بدونه ولا يعصب من أسفل منه بكل حال ثم قال تعالى {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فهذا حكم انفراد الإناث من الأولاد أن للواحدة النصف ولما فوق الأنثيين الثلثان ويدخل في ذلك بنات الصلب وبنات الابن عند عدمهن فإن اجتمعن فإن استكمل بنات الصلب الثلثين فلا شيء لبنات الابن المنفردات وإن لم يستكمل البنات الثلثين بل كان ولد الصلب بنتا واحدة ومعها بنات ابن فللبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين لئلا يزيد فرض البنات على الثلثين وبهذا قضي النبي ﷺ في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره وهو قول عامة العلماء إلا ما روي عن ابن مسعود وسلمان بن ربيعة أنه لا شيء لبنات الابن وقد رجع أبو موسي إلى قوله ابن مسعود لما بلغه قوله في ذلك وإنما أشكل على العلماء حكم ميراث البنتين فإن لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابن المنذر وغيره وما حكي فيه عن ابن عباس أن لهما النصف فقد قيل إن إسناده لا يصح والقرآن يدل على خلافه حيث قال وإن كانت واحدة فلها النصف فكيف تورث أكثر من واحدة النصف، وحديث ابن مسعود في توريث البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين يدل على توريث البنت الثلثين بطريق الأولي.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذى من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين ولكن أشكل فهم ذلك من القرآن لقوله تعالى {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} النساء فلهذا اضطربت الناس في هذا وقال كثير من الناس فيه أقوالا متعددة ومنهم من قال استفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين فإنه قال تعالى {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} النساء.

واستفيد حكم ميراث أكثر من الأختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين ومنهم من قال البنت مع أخيها لها الثلث بنص القرآن فلأن يكون لها الثلث مع أختها أولي وسلك بعضهم مسلكا آخر وهو أن الله تعالى ذكر حكم توريث اجتماع الذكور والإناث من الأولاد وذكر حكم توريث الإناث إذا انفردن عن الذكور ولم ينص على حكم انفراد الذكور منهم عن الإناث وجعل حكم الاجتماع أن الذكر له مثل حظ الأنثتين فإن اجتمع مع الابن ابنتان فصاعدا فله مثل نصيب اثنتين منهن وإن لم يكن معه إلا ابنة واحدة فله الثلثان ولها الثلث وقد سمي الله ما يستحقه الذكر حظ الانثيين مطلقا وليس الثلثان حظ الأنثيين في حال اجتماعهما مع الذكر لأن حظهما حينئذ النصف فتعين أن يكون الثلثان حظهما حال الانفراد وبقي هاهنا قسم ثالث لم يصرح القرآن بذكره وهو حكم انفراد الذكور من الولد وهذا مما يمكن إدخاله في حديث ابن عباس فما بقي فلأولي رجل ذكر فإن هذا القسم قد بقي ولم يصرح بحكمه في القرآن فيكون المال حينئذ لأقرب الذكور من الولد والأمر على هذا فإنه لو اجتمع ابن وابن الابن لكان المال كله للابن ولو كان ابن ابن وابن ابن ابن لكان المال كله لابن الابن على مقتضي حديث ابن عباس رضي الله عنهما والله أعلم.

ثم ذكر تعالى حكم ميراث الأبوين فقال {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} النساء فهذا حكم ميراث الأبوين إذا كان الولد المتوفي ولدا وسواء في الولد الذكر والأنثي وسواء فيه ولد الصلب وولد الابن هذا كالإجماع من العلماء.

وقد حكي بعضهم عن مجاهد خلافًا فيه فمتي كان للميت ولد أو ولد ابن وله أبوان فلكل واحد من أبويه السدس فرضًا ثم إن كان الولد ذكرا فالباقي بعد سدس الأبوين له وربما دخل هذا في قوله ﷺ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر وأقرب العصبات الابن وإن كان الولد أنثي فإن كانتا اثنتين فصاعدا فالثلثان لهن ولا يفضل من المال شيء وإن كانت بنتا واحدة فلها النصف ويفضل من المال سدس آخر فيأخذه الأب بالتعصيب عملًا بقوله ﷺ ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر فهو أولي رجل ذكر عند فقد الابن إذ هو أقرب من الأخ وابنه والعم وابنه ثم قال تعالى {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} النساء يعني إذا لم يكن للميت ولد وله أبوان يرثانه فلأمه الثلث فيفهم من ذلك أن الباقي بعد الثلث للأب لأنه أثبت ميراثه لأبويه وخص الأم من الميراث بالثلث فعلم أن الباقي للأب ولم يقل فللأب مثلًا ما للأم لئلا يوهم أن اقتسامهما المال هو بالتعصيب كالأولاد والأخوة إذا كان فيهم ذكور وإناث، وكان ابن عباس يتمسك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين وهما زوجة وأبوان فإن عمر قضي أن الزوجين يأخذان فرضهما من المال وما بقي فرضهما في المسئلتين فللأم ثلث والباقي للأب وتابعه على ذلك جمهور الأمة.

وقال ابن عباس بل للأم الثلث كاملا تمسكا بقوله تعالى {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} النساء وقد قيل في جواب هذا إن الله إنما جعل للأم الثلث بشرطين أحدهما أن لا يكون للولد المتوفي ولد والثاني أن يرثه أبواه أي أن ينفرد أبواه بميراثه فما لم ينفرد أبواه بميراثه فلا تستحق الأم الثلث وإن لم يكن للمتوفي ولد وقد يقال وهو أحسن إن قوله وورثه أبواه فلأمه الثلث أي مما ورثه الأبوان ولم يقل فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السدس فالمعنى أنه إذا لم يكن له ولد، وكان لأبويه من ماله ميراث فللأم ثلث ذلك الميراث الذي يختص به الأبوان ويبقي الباقي للأب ولهذا السر والله أعلم حيث ذكر الله الفروض المقدرة لأهلها قال فيها مما ترك أو ما يدل على ذلك كقوله تعالى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} النساء ليبين أن ذا الفرض حقه ذلك الجزء المفروض المقدر له من جميع المال بعد الوصايا والديون وحيث ذكر ميراث العصبات أو ما يقتسمه الذكور والإناث على وجه التعصيب كالأولاد والإخوة لم يقيده بشيء من ذلك ليبين أن المال المقتسم بالتعصيب ليس هو المال كله بل تارة يكون جميع المال وتارة يكون هو الفاضل عن الفروض المفروضة المقدرة وهنا لما ذكر ميراث الأبوين من ولدهما الذي لا ولد له ولم يكن اقتسامهما المال بالفرض المحض كما في ميراثهما مع الولد ولاكان بالتعصيب المحض الذي يعصب فيه الذكر والأنثي ويأخذ مثلي ما تأخذه الأنثي بل كانت الأم تأخذ ما تأخذه بالفرض والأب يأخذ ما يأخذه بالتعصيب قال وورثه أبواه فلأمه الثلث النساء يعني أن القدر الذي يستحقه الأبوان من ميراثه تأخذ الأم ثلثه فرضًا والباقي يأخذه الأب بالتعصيب وهذا مما فتح الله به ولا أعلم أحدًا سبق إليه ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} النساء يعني للأم السدس مع الأخوة من جميع التركة الموروثة التي تقسمها الورثة ولم يذكر هنا ميراث الأب مع الأم ولا شك أنه إذا اجتمع أم وإخوة ليس معهم أب فإن للأم السدس والباقي للإخوة ويحجبها الأخوان فصاعدا عند الجمهور وأما إن كان مع الأم والإخوة أب فقال الأكثرون يحجب الإخوة الأب ولا يرثون وروى عن ابن عباس أنهم يرثون السدس الذي حجبوا عنه الأم بالفرض كما يرث ولد الأم مع الأم بالفرض وقد قيل إن هذا مبني على قوله إن الكلالة من لا ولد له خاصة ولا يشترط للكلالة فقد الوالد فيرث الإخوة مع الأب بالفرض ومن العلماء المتأخرين من قال إذا كان الإخوة محجوبين بالأب فلا يحجبون الأم عن شيء بل لها حينئذ الثلث ورجحه الإمام أبو العباس بن تيمية وقد يؤخذ من عموم قول عمر وغيره من السلف من لا يرث عولا لا يحجب وقد قال نحوه أحمد الخرقي لكن أكثر العلماء يحملون ذلك على أن المراد من ليس له أهلية بالكلية كالكافر والرقيق دون من لايرث لإحجابه بمن هو أقرب منه والله أعلم.

وقد يشهد للقول بأن الإخوة إذا كانوا محجوبين لا يحجبون الأم أن الله تعالى قال فإن كان له إخوة فلأمه السدس النساء ولم يذكر الأب فدل على أن ذلك حكم انفراد الأم مع الإخوة فيكون الباقي بعد السدس كله لهم وهذا ضعيف فإن الإخوة قد يكونون من أم فلا يكون لهم سوي الثلث والله أعلم.

اعلم أن الله تعالى ذكر حكم ميراث الأبوين ولم يذكر الجد ولا الجدة فأما الجدة فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنه ليس لهما في كتاب الله شيء وقد حكي بعض العلماء الإجماع على ذلك وأن فرضها إنما ثبت بالسنة وقيل إن السدس طعمة أطعمها رسول الله ﷺ وليس بفرض كذا روي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وقد روي عن ابن عباس من وجوه فيها ضعف أنها بمنزلة الأم عند فقد الأم ترث ميراث الأم فترث الثلث تارة والسدس أخرى وهذا شذوذ ولا يصح إلحاق الجدة بالجد لأن الجد عصبة يدلي بعصبة والجدة ذات فرض تدلي بذات فرض فضعفت وقد قيل إنه ليس لها فرض بالكلية وإنما السدس طعمة أطعمها النبي ﷺ ولهذا قالت طائفة ممن يري الرد على ذوي الفروض إنه لا يرد على الجدة لضعف فرضها وهو رواية عن أحمد وأما الجد فاتفق العلماء على أنه يقوم مقام الأب في أحواله المذكورة من قبل فيرث مع الولد السدس بالفرض ومع عدم الولد يرث بالتعصيب وإن بقي شيء مع إناث الولد أخذه بالتعصيب أيضًا عملًا بقوله فما أبقت الفرائض فلأولي رجل ذكر ولكن اختلفوا إذا اجتمع أم وجد مع أحد الزوجين فروى عن طائفة من الصحابة أن للأم ثلث الباقي كما لو كان معها الأب كما سبق وروى ذلك عن عمر وابن مسعمود كذا نقله بعضهم ومنهم من قال إنما روي عن عمر وابن مسعود في زوج وأم وجد أن للأم ثلث الباقي وروى عن ابن مسعود رواية أخرى أن النصف الفاضل بين الجد والأم نصفان وأما في زوجة وأم وجد فروى عن ابن مسعود رواية شاذة إن للأم ثلث الباقي والصحيح عنه كقول الجمهور إن لها الثلث كاملا وهذا يشبه تفريق ابن سيرين في الأم مع الأب أنه إن كان معهما زوج للأم الثلث وجمهور العلماء على أن الأم لها الثلث مع الجد مطلقا وهو قول على وزيد وابن عباس والفرق بين الأم مع الأب والجد أنها مع الأب شملها اسم واحد وهما في القرب سواء إلى الميت فيأخذ الذكر منهما مثل حظ الأنثيين كالأولاد والإخوة وأما الأم مع الجد فليس يشملها اسم واحد والجد أبعد من الأب فلا يلزم مساواته به في ذلك وأما إن اجتمع الجد مع الإخوة فإن كانوا لأم سقطوا به لأنهم إنما يرثون من الكلالة والكلالة من لا ولد له ولا والد إلا رواية شذت عن ابن عباس وأما إن كانوا لأب أو لأبوين فقد اختلف العلماء في حكم ميراثهم قديما وحديثًا فمنهم من أسقط الإخوة بالجد مطلقا كما أسقطوه بالأب وهذا قول الصديق رضي الله عنه ومعاذ وابن عباس وغيرهم واستدلوا بأن الجد أب في كتاب الله عز وجل فيدخل في مسمي الأب في المواريث كما أن ولد الولد ولد ويدخل في مسمي الولد عند عدم الولد بالاتفاق وبأن الإخوة إنما يرثون مع الكلالة فيحجبهم الجد كالإخوة من الأب وبأن الجد أقوي من الإخوة لاجتماع الفرض والتعصيب له من جهة واحدة فهو كالأب وحينئذ فيدخل في عموم قوله ﷺ فما بقي فلأولي رجل ذكر ومنهم من شرك بين الإخوة والجد وهو قول كثير من الصحابة وأكثر الفقهاء بعدهم على اختلاف طويل بينهم في كيفية التشريك بينهم في الميراث، وكان من السلف من يتوقف في حكمهم ولا يجيب فيهم بشيء لاشتباه أمرهم وإشكاله ولولا خشية الإطالة لبسطت القول في هذه المسئلة ولكن ذلك يؤدي إلى الإطالة جدًا وأما حكم ميراث الإخوة للأبوين أو للأب فقد ذكره الله تعالى في آخر سورة النساء في قوله تعالى {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} والكلالة مأخوذة من تكلل النسب وإحاطته بالميت وذلك يقتضي انتفاء الانتساب مطلقا من العمودين الأعلي والأسفل وتنصيصه سبحانه وتعالى على انتفاء الوالد تنبيه على انتفاء الولد بطريق الأولي لأن انتساب الولد إلى والده أظهر من انتسابه إلى ولده فإن ذكر عدم الولد تنبيها على عدم الوالد بطريق الأولي وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الكلالة من لا ولد له ولا والد وتابعه جمهور الصحابة والعلماء بعدهم وقد روى ذلك مرفوعًا من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمن عن النبي ﷺ وخرجه أبو داود في المراسيل وخرجه الحاكم من رواية عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا وصححه ووصله بذكر أبي هريرة ضعيف فقوله إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك النساء يعني إذا لم يكن للميت ولد بالكلية لا ذكر ولا أنثي فللأخت حينئذ النصف مما ترك فرضًا ومفهوم هذا أنه إذا كان له ولد فليس للأخت النصف فرضًا ثم إن كان الولد ذكرا فهو أولي بالمال كله لما سبق تقريره في ميراث الأولاد الذكور إذا انفردوا فإنهم أقرب العصبات وهم يسقطون الإخوة فكيف لا يسقطون الأخوات وأيضا فقد قال تعالى {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} النساء وهذا يدخل فيه ما إذا كان هناك ذو فرض كالبنات وغيرهن فإذا استحق الفاضل ذكور الإخوة مع الأخوات فإذا انفردوا فكذلك يستحقونه وأولي وإن كان الولد أنثي فليس للأخت هنا النصف بالفرض ولكن لها الباقي بالتعصيب عند جمهور العلماء وقد سبق ذكر ذلك والاختلاف فيه فلو كان هناك ابن لا يستوعب المال كله وأخت مثل ابن نصفه حر عند من يورثه نصف الميراث وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء فهل يقال إن الابن هنا يسقط نصف فرض الأخت فترث معه الربع فرضًا أم يقال أنه يصير كالبنت فتصير الأخت معه عصبة كما يصير مع الأخت لكنه يسقط نصف تعصيبها وتأخذ معه النصف الباقي بالتعصيب هذا محتمل وفي هذه المسألة لأصحابنا وجهان، وقوله تعالى {وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ} النساء يعني أن الأخ يستقل بميراث أخته إذا لم يكن لها ولد ذكر أو أنثي فإن كان لها ولد ذكر فهو أولي من الأخ بغير إشكال فإنه أولي رجل ذكر وإن كان أنثي فالباقي بعد فرضها يكون للأخ لأنه أولي رجل ذكر لكن لا يستقل بميراثها حينئذ لأنه كما إذا لم يكن لها ولد، وقوله تعالى {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} النساء يعني أن فرض البنتين الثلثان كما أن فرض الواحدة النصف فهذا كله في حكم انفراد الإخوة والأخوات وأما حكم اجتماعهم فقد قال تعالى {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} النساء فدخل في ذلك ما إذا كانوا منفردين وأما إذا كان هناك ذو فرض من الأولاد أو غيرهم كأحد الزوجين أو الأم أو الإخوة من الأم فيكون الفاضل عن فروضهم للأخوة والأخوات بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين فقد تبين بما ذكرناه أن وجود الولد إنما يسقط فرض الأخوات من الأبوين أو الأب ولا يسقط توريثهن بالتعصيب مع أخواتهن بالإجماع ولا يعصبهن بانفرادهن مع البنات عند الجمهور فالكلالة شرط لثبوت فرض الأخوات لا لثبوت ميراثهن كما أنه ليس بشرط لميراث ذكورهم بالإجماع وهذا بخلاف ولد الأم فإن انتفاء الكلالة أسقطت فروضهم وإذا أسقطت فروضهم سقطت مواريثهم لأنه لا تعصيب لهم بحال لإدلائهم بأنثي وللأخوات للأبوين أو للأب يدلون بذكر فيرثان بالتعصيب مع أخواتهن بالاتفاق وبانفرادهن مع البنات عند الجمهور وإذا كان الولد مسقطا لفرض ولد الأبوين أو للأب دون أصل توريثهم بغير الفرض فقد يقال إن الله تعالى إنما خص انتفاء الولد في قوله ليس له ولد النساء ولم يذكر انتفاء الوالد والأب لأنه كان يدخل فيه الجد والجد لا يسقط الميراث الإخوة بالكلية وإنما يشتركون معه في ميراث تارة بالفرض وتارة بغيره وهذا على قول من يقول إن الجد لا يسقط الإخوة وهم الجمهور ظاهر وهذا كله في انفراد ولد الأبوين والأب فإن اجتمعوا فإن العصبات ولد الأبوين يسقطون ولد الأب كلهم بغير خلاف حتى في الأخت من الأبوين مع البنت عند من يجعلها عصبة يسقط بها الأخ من الأبوين. وفي المسند والترمذى وابن ماجه عن علي رضي الله عنه قال قضي رسول الله صلس الله عليه وآله وسلم أن أعيان بني الأم يرثون دون بني العلات يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه وقال عمرو بن شعيب قضي رسول الله ﷺ أن الأخ للأب والأم أولي الكلالة بالميراث ثم الأخ للأب وهذا أيضًا مما يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام فما بقي فلأولي رجل ذكر والتحقيق في ذلك أن كل ما دل عليه القرآن ولو بالتنبيه فليس هو مما أبقته الفرائض بل هو من إلحاق الفرائض المذكورة في القرآن بأهلها كتوريث الأولاد ذكورهم وإناثهم الفاضل عن الفروض للذكر مثل حظ الأنثيين وتوريث الإخوة ذكورهم وإناثهم كذلك ودل ذلك بطريق التنبيه على أن الباقي يأخذه الذكر منهم عند الانفراد بطريق الأولي ودل أيضًا بالتنبيه عليه أن الأخت تأخذ الباقي مع البنت كما كانت تأخذه مع أخيها ولا يقدم عليها من هو أبعد منه كابن الأخ والعم وابنه فإن أخاها إذا لم يسقطها فكيف يسقطها من هو أبعد منه فهذا كله من باب إلحاق الفرائض بأهلها ومن باب قسمة المال بين أهل الفرائض على كتاب الله وأما من لم يذكر باسمه من العصبات في القرآن كابن الأخ والعم وابنه فإنما دخل في عمومات مثله قوله تعالى {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} الأنفال، وقوله {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} النساء فهذا يحتاج في توريثهم إلى هذا الحديث أعني حديث ابن عباس فإذا لم يوجد للمال وارث غيرهم انفردوا به ويقدم منهم الأقرب فالأقرب لأنه أولي رجل ذكر وإن وجدت فروض لا تستغرق المال كأحد الزوجين أو الأم أو ولد الأم أو بنات منفردات أو أخوات منفردات فالباقي كله لأولي ذكر من هؤلاء ولهذا لو كان هؤلاء إخوة رجالًا ونساء لاختص به رجالهم دون نسائهم بخلاف الأولاد والإخوة فإنه يشترك في الباقي أو في المال كله ذكورهم دون إناثهم وهم من عدا الأولاد والإخوة فهذا حكم العصبات المذكورين في كتاب الله تعالى وفي حديث ابن عباس وأما ذوو الفروض فقد ذكرنا حكم مواريثهم ولم يبق منهم إلا الزوجات والإخوة للأم فأما الزوجات فيرثن بسبب عقد النكاح ولما كان بين الزوجين من الألفة والمودة والتناصر والتعاقب ما بين الأقارب جعل ميراثهما كميراث الأقارب وجعل للذكر منهما مثلًا ما للأنثي لامتياز الذكر على الأنثي بمزيد النفع بالإنفاق والنصرة وأما ولد الأم فإنهم ليسوا من قبيلة الرجل ولا عشيرته وإنما هم في المعنى من ذوي رحمه ففرض الله لواحدهم السدس ولجماعتهم الثلث صلة وسوي فيه بين ذكورهم وإناثهم حيث لم يكن لذكرهم زيادة على أنثاهم من المعاضدة والمناصرة كمابين أهل القبيلة والعشيرة الواحدة فسوي بينهم في الصلة ولهذا لم تشرع الوصية للأجانب بزيادة على الثلث بل كان الثلث كثيرًا في حقهم لأنهم أبعد من ولد الأم فينبغي أن لا يزادوا على ما يوصل به ولد الأم بل ينقصون منه واستدل بعضهم بقوله فما بقي فلأولي رجل ذكر على أنه لا ميراث لذوي الأرحام لأنه لم يجعل حق الميراث لمن لم يذكر في القرآن إلا لأقرب الذكور وهذا الحكم يختص بالعصبات دون ذوي الأرحام فإن من ورث ذوي الأرحام ورث ذكورهم وإناثهم وأجاز من يري توريث ذوي الأرحام بأن هذا الحديث دل على توريث العصبات لا على نفي توريث غيرهم وتوريث ذوي الأرحام مأخوذ من أدلة أخرى فيكون ذلك زيادة على ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأما قوله فلأولي رجل ذكر مع أن الرجل لا يكون إلا ذكرا فالجواب الصحيح عنه أنه يطلق الرجل ويراد به الشخص كقوله من وجد ماله عند رجل قد أفلس ولافرق بين أن يجده عند رجل أو امرأة فتقييده بالذكر ينفي هذا الاحتمال وتخلصه للذكر دون الأنثي وهو المقصود، وكذلك الابن لما كان قد يطلق ويراد به أعم من الذكر كقوله ابن السبيل جاء تقييد ابن اللبون في نصاب الزكاة بالذكر وللسهيلي كلام على هذا الحديث فيه تكليف وتعسف شديد ولا طائل تحته وقد رده عليه جماعة ممن أدركناهم والله أعلم.

================

الحديث الرابع والأربعون

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال ( الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) . خرجه البخاري ومسلم

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية عمرة عن عائشة وخرجه مسلم أيضًا من رواية عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

وخرجاه أيضًا من رواية عروة عن عائشة من قولها وخرجاه من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ وخرجه الترمذي من حديث على عن النبي ﷺ. وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة وإن الرضاع يحرم مايحرمه النسب ولنذكر المحرمات من النسب كلهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من الرضاع فنقول الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح وهو على قسمين أحدهما تحريم مؤبد على الانفراد وهو نوعان أحدهما ما يحرم بمجرد النسب فيحرم على الرجل أصوله وإن علون وفروعه وإن سفلن وفروع أصله الأدني وإن سفلن فروع أصوله البعيدة دون فروعهن فدخل في أصوله أمهاته وإن علون من جهة أبيه وأمه وفي فروعه بناته وبنات أولاده وإن سفلن وفي فروع أصله الأدني أخواته من الأبوين أو من أحدهما وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن ودخل في فروع أصوله البعيدة العمات والخالات وعمات الأبوين وخالاتهما وإن علون فلم يبق من الأقارب حلالًا للرجل سوي فروع أصوله البعيدة وهن بنات العم وبنات العمات وبنات الخال وبنات الخالات والنوع الثاني مايحرم من النسب مع سبب آخر وهو المصاهرة فيحرم على الرجل حلائل آبائه وحلائل أبنائه وأمهات نسائه وبنات نسائه المدخول بهن فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون ويحرم عليه بنات امرأته وهن الربائب وبناتهن وإن سفلن، وكذلك بنات بني زوجته وهن بنات الربائب نص عليه الشافعي رحمه الله وأحمد رحمه الله ولا يعلم فيه خلاف ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه وإن علا وبامرأة ابنه وإن سفل ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل بسبب المصاهرة وأما أمهات نسائه وبناتهن فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة فلم يخرجه التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة فإن التحريم بالسبب المجرد والنسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال والنساء فيحرم على المرأة أن تتزوج أصولها وإن علوا وفروعها وإن سفلوا وفروع أصولها الأدني وإن سفلوا من أخواتها وأولاد الإخوة وإن سفلوا وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم فهذا كله بالنسب المجرد وأما النسب المضاف إلى المصاهرة فيحرم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا ونكاح ابنه وإن سفل بمجرد العقد ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد وزوج أمها وإن علت لكن بشرط الدخول بها والقسم الثاني التحريم المؤبد على الاجتماع دون الانفراد وتحريمه يختص بالرجال لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين فكل امرأتين بينهما رحم محرم يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له التزوج بالأخري فإنه يحرم الجمع بينهما بعقد النكاح قال الشعبي كان أصحاب محمد ﷺ يقولون لا يجمع الرجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يصلح له أن يتزوجها وهذا إذا كان التحريم لأجل النسب وبذلك فسره سفيان الثوري وأكثر العلماء فلو كان لغير النسب مثل أن يجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها فإنه يباح عند الأكثرين وكرهه بعض السلف فإذا علم ما يحرم من النسب وكل ما يحرم منه فإنه يحرم من الرضاع نظيره فيحرم على الرجل أن يتزوج أمهاته من الرضاعة وإن علون وبناته من الرضاعة وإن سفلن وأخواته من الرضاعة وبنات أخواته من الرضاعة وعماته وخالاته من الرضاعة وإن علون دون بناتهن ومعنى هذا أن المرأة إذا أرضعت طفلا الرضاع المعتبر في المدة المعتبرة صارت أما له بنص كتاب الله فتحرم عليه هي وأمهاتها وإن علون من نسب أو رضاع وتصير بناتها كلهن أخوات له من الرضاعة فيحرمن عليه بنص القرآن وبقية التحريم من الرضاعة استفيد من السنة كما استفيد من السنة أن تحريم الجمع لا يختص بالأختين بل المرأة وعمتها والمرأة وخالتها كذلك وإذا كان أولاد المرضعة من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع فيحرم عليه بنات إخوته أيضًا وقد امتنع النبي ﷺ من تزويج ابنة عمه حمزة وابنة أبي سلمة وعلل بأن أبو يهما كانا أخوين له من الرضاعة وتحرم عليه أيضًا أخوات المرضعة لأنهن خالاته وينتشر التحريم أيضًا إلى الفحل صاحب اللبن الذي ارتضع منه الطفل فيصير صاحب اللبن أبا للطفل وتصير أولاده كلهم من المرضعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع وتصير إخوته أعماما للطفل المرتضع وهذا قول الجمهور من السلف وأجمع عليه الأئمة الأربعة ومن بعدهم وقد دل على ذلك من السنة ما روت عائشة رضي الله عنها أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها بعد ما أنزل الحجاب قالت عائشة فقلت والله لا آذن له حتى أستأذن رسول ﷺ فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته قالت فلما دخل رسول الله ﷺ ذكرت ذلك له فقال ائذني له فإنه عمك تربت يمينك، وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها خرجاه في الصحيحين بمعهناه وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية والأخري غلامًا أيحل للغلام أن يتزوج الجارية فقال لا اللقاح واحد ولو كان اللبن الذي ارتضع به الطفل قد ثاب للمرأة من غير وطئ فحل بأن تكون امرأة لا زوج لها قد ثاب لها لبن أو هي بكر أو آيسة فأكثر العلماء على أنه يحرم الرضاع به وتصير المرضعة أما للطفل قد حكاه ابن المندر إجماعا عمن يحفظ عنه من أهل العلم وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وغيرهم وذهب الإمام أحمد في المشهور المنصوص عنه إلى أنه لا ينشر التحريم به بحال حتى يكون له فحل يدر اللبن من رضاعه وحكي عن الشافعي قول مثله ولو انقطع نسبه من جهة صاحب اللبن كولد الزنا فهل ينشر الحرمة إلى الزاني صاحب اللبن هذا ينبني على أن البنت من الزنا هل تحرم على الزاني أم لا ومذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه تحريمها عليه خلافًا للشافعي وبالغ الإمام أحمد في الإنكار على من خالف في ذلك فعلي قولهم هل ينشر التحريم إلى الزاني صاحب اللبن فيكون أبا للمرتضع أم لا فيه قولان هما وجهان لأصحابنا واختار ابن حامد أن التحريم لا ينتشر إليه واختار أبو بكر والقاضي أبو يعلي أن التحريم ينتشر إلى الزاني وهو نص أحمد وحكاه عن ابن عباس وهو قول إسحاق بن راهويه نقله عنه حرب وينتشر التحريم بالرضاع إلى ما حرم بالنسب مع الصهر أما من جهة نسب الرجل كامرأة أبية وابنه أو من جهة نسب الزوجة كأمها وابنتها وإلي ماحرم جمعه لأجل نسب المرأة أيضًا كالجمع بين الأختين والمرأة وعمتها أو خالتها فيحرم ذلك كله من الرضاع كما يحرم من النسب لدخوله في قوله ﷺ يحرم من الرضاع مايحرم من النسب ويحرم هذا كله للنسب فبعضه لنسب الزوج وبعضه لنسب الزوجة وقد نص على ذلك أئمة السلف ولايعلم بينهم اختلاف ونص عليه الإمام أحمد واستدل بعموم قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وأما قوله عز وجل {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} النساء فقالوا لم يرد بذلك أنه لا يحرم حلائل الأبناء من الرضاع إنما أراد إخراج حلائل الذين تبنوا ولم يكونوا أبناء من النسب كما تزوج النبي ﷺ زوجة زيد بن حارثة بعد أن كان قد تبناه وهذا التحريم بالرضاع يختص بالمرتضع نفسه وينتشر إلى أولاده ولا ينتشر تحريمه إلى من في درجة المرتضع من إخوته وأخواته ولا إلى من هو أعلي منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته فتباح المرضعة نفسها لأبي المرتضع من النسب ولأخيه وتباح أم المرتضع وأخته منه لأبي المرتضع من الرضاع ولأخيه هذا قوله جمهور العلماء وقالوا يباح أن يتزوج أخت أخته من الرضاعة وأخت ابنته من الرضاعة حتى قال الشعبي هي أحل من ماء قدس وصرح بإباحتها حبيب بن أبي ثابت وأحمد وروى الأشعث عن الحسن أنه كره أن يتزوج الرجل بنت ظئر ابنه ويقول أخت ابنه ولم ير بأسًا أن يتزوج أمها يعني ظئر ابنه وروى سليمان التيمي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتزوج أخت أخته من الرضاعة فلم يقل فيه شيئًا وهذا يقتضي توقفه فيه ولعل الحسن إنما كان يكره ذلك تنزيها لا تحريما لمشابهته للمحرم بالنسب في الاسم وهذا بمجرده لا يوجب تحريما وقد استثني كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم مما يحرم من النسب صورتين فقالوا لايحرم نظيرها من الرضاع إحداهما أم الأخت فتحرم من النسب ولاتحرم من الرضاع والثانية أخت الابن فتحرم من النسب دون الرضاع ولاحاجة إلى استثناء هذين ولا أحدهما أما أم الأخت فإنما تحرم من النسب لكونها أما أو زوجة أب لا لمجرد كونها أم أخت فلا يعلق التحريم بما لم يعلقه الله به وحينئذ فيوجد في الرضاع من هي أم أخت ليست أما ولا زوجة أب فلا يحرم لأنها ليست نظيرا لذات النسب وأما أخت الابن فإن الله تعالى إنما حرم الربيبة المدخول بأمها فتحرم لكونها ربيبة دخل بأمها لا لكونها أخت ابنه والدخول في الرضاع منتف فلا تحرم به أولاد المرضعة ومما قد يدخل في عموم قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لو ظاهر من امرأته فشبهها بمحرمة من الرضاع فقال لها أنت على كأمي من الرضاع فهل يثبت بذلك تحريم الظهار أم لا فيه قولان أحدهما أنه يثبت به تحريم الظهار وهو قول الجمهور منهم مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والحسن بن صالح وعثمان التيمي وهو المشهور عن أحمد والثاني لا يثبت به التحريم وهو قول الشافعي وتوقف فيه أحمد في رواية ابن منصور.

===================

الحديث الخامس والأربعون

عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ عام الفتح وهو بمكة يقول إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس قال لا هو حرام ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فأجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه . خرجه البخاري ومسلم.

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث يزيد بن أبي حبيب عن عطاء عن جابر وفي رواية لمسلم أن يزيد قال كتب إلى عطاء فذكره ولهذا قال أبو حاتم الرازي لا أعلم يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئًا يعني أنه إنما يروى عنه كتابة وقد رواه أيضًا يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد بن عبدة عن عبدالله بن عمر وعن النبي صلى الله عليه وآله بنحوه.

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال بلغ عمر أن رجلًا باع خمرا فقال قاتله الله ألم يعلم أن رسول الله ﷺ قال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وفي رواية وأكلوا أثمانها وخرجه أبو داود من حديث عباس عن النبي ﷺ نحوه وزاد فيه وإن الله إذا حرم أكل شيء حرم عليهم ثمنه وخرجه ابن أبي شيبة ولفظه إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وآله وسلم قال قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها.

وفي الصحيحين عن عائشة قالت لما أنزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله ﷺ فاقترأهن على الناس ثم نهى عن التجارة في الخمر وفي رواية لمسلم لما نزلت الآية من آخر سورة البقرة في الربا فخرج رسول الله ﷺ إلى المسجد فحرم التجارة في الخمر وخرجه مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولايبع فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينه فسفكوها وخرجه أيضًا من حديث ابن عباس أن رجلًا أهدي لرسول الله ﷺ راوية خمر فقال له رسول الله ﷺ هل علمت أن الله قد حرمها قال لا قال فسار إنسانا فقال له رسول الله ﷺ بم ساررته قال أمرته ببيعها قال إن الذي حرم شربها حرم بيعها قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم الله الانتفاع به فإنه يحرم بيعه وأكل ثمنه كما جاء مصرحا به في الرواية المتقدمة إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه وهذه كلمة عامة جامعة تطرد في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حرامًا وهو قسمان أحدهما ما كان الانتفاع به حاصلا مع بقاء عينه كالأصنام فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله وهو أعظم المعاصي على الإطلاق ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال، وكذلك الصور المحرمة وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور، وكذلك شراء الجواري للغناء.

وفي المسند عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال إن الله بعثني رحمة وهدي للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكتارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية وأقسم ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ولا يسقاها صبيا صغيرًا إلاسقيته مكانها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه في حظيرة القدس ولا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا تجارة فيهن وأثمانهم حرام المغنيات وخرجه الترمذي ولفظه لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام وفي مثل ذلك أنزل الله ومن الناس من يشتري لهو الحديث لقمان الآيه وخرجه ابن ماجه أيضًا وفي إسناد الحديث مقال وقد روى نحوه من حديث عمر رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه بإسنادين فيهما ضعف أيضًا ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك فإنهما يقولان إذا بيعت الأمة المغنية تباع على أنها ساذجة ولا يؤخذ لغنائها ثمن ولو كانت الجارية ليتيم ونص ذلك أحمد ولا يمنع الغناء من أصل بيع العبد والأمة لأن الانتفاع به في غير الغناء حاصل بالخدمة وغيرها وهو من أعظم مقاصد الرقيق نعم لو علم أن المشتري لا يشتريه إلا للمنفعة المحرمة منه لم يجز بيعه له عند الإمام أحمد وغيره من العلماء كما لا يجوز بيع العصير ممن يتخذه خمرا ولا بيع السلاح في الفتنة ولا بيع الرياحين والأقداح لمن يعلم أنه يشرب عليها الخمر والغلام لمن يعلم منه الفاحشة والقسم الثاني ما لا ينتفع به مع إتلاف عينه فإذا كان المقصود الأعظم منه محرما فإنه يحرم بيعه كما يحرم بيع الخنزير والخمر والميتة مع أن في بعضها منافع غير محرمة كأكل الميتة للمضطر ودفع الغصة بالخمر وإطفاء الحريق به والخرز بشعر الخنزير عند قوم والانتفاع بشعره وجلده عند من يري ذلك ولكن لما كانت هذه المنافع غير مقصودة لم يعبأ بها وحرم البيع ولكن المقصود الأعظم من الخنزير والميتة أكلها ومن الخمر شربها ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك وقد أشار ﷺ إلى هذا المعنى لما قيل له أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلي بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام وقد اختلف الناس في تأويل قوله ﷺ هو حرام فقالت طائفة أراد أن الانتفاع المذكور بشحوم الميتة حرام وحينئذ يكون ذلك تأكيدا للمنع من بيع الميتة حيث لم يجعل شيئًا من الانتفاع بها مباحًا وقالت طائفة بل أراد أن بيعها حرام وإن كان قد ينتفع بها لهذه الوجوه لكن المقصود الأعظم من الشحوم هو الأكل ولايباح بيعها لذلك وقد اختلف العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة فرخص فيها عطاء، وكذلك نقل ابن منصور عن أحمد وإسحقاق إلا أن إسحاق قال إذا احتج إليه وأما إذا وجد عنه مندوحة فلا وقال أحمد يجوز إذا لم يمسه بيده وقالت طائفة لايجوز ذلك وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وحكاه ابن عبد البر إجماعا من غير عطاء وأما الأدهان الطاهرة إذا تنجست بما وقع فيها من النجاسات ففي جواز الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلاف مشهور في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما وفيه روايتان عن أحمد وأما بيعها فالأكثرون على أنه لايجوز بيعها وعن أحمد رواية بجواز بيعها من كافر ويعلم نجاستها وهو مروى عن أبي موسي الأشعري ومن أصحابنا من خرج جواز بيعها على جواز الاستصباح وهو ضعيف مخالف لنص أحمد بالتفرقة فإن شحوم الميتة لا يجوز بيعها وإن قيل بجواز الانتفاع بها ومنهم من خرجه على القول بطهارتها بالغسل فيكون حينئذ كالثوب المتضمخ بنجاسة وظاهر كلام أحمد منع بيعها مطلقا لأنه علل بأن الدهن المتنجس فيه ميتة والميتة لا يؤكل ثمنها وأما بقية أجزاء الميتة فما حكم بطهارته منها جاز بيعه لجواز الانتفاع به وهذا كالشعر والقرن عند من يقول بطهارتهما، وكذلك الجلد عند من يري أنه طاهر بغير دباغ كما حكي عن الزهري وتبويب البخاري يدل عليه واستدل بقوله إنما حرم من الميتة أكلها وأما الجمهور الذين يرون نجاسة الجلد قبل الدباغ فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذ لأنه جزء من الميتة وشذ بعضهم فأجاز بيعه كالثوب النجس ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسة وجلد الميتة جزء منها وهو نجس العين وقال سالم بن عبدالله بن عمر هل بيع جلود الميتة إلا كأكل لحمها وكرهه طاوس وعكرمة وقال النخعي كانوا يكرهون أن يبيعوها فيأكلون أثمانها وأما إذا دبغت فمن قال بطهارتها بالدبغ أجاز بيعها ومن لم ير طهارتها بذلك لم يجز بيعها ونص أحمد على منع بيع القمح إذا كان فيه بول الحمار حتى يغسله ولعله أراد بيعه ممن لا يعلم بحاله خشية أن يأكله ولا يعلم نجاسته وأما الكلب فقد ثبت في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله ﷺ نهى عن ثمن الكلب وفي صحيح مسلم عن رافع بن خديج سمع النبي ﷺ يقول شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام وفيه عن معقل الجزري عن أبي الزبير قال سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور فقال زجر النبي ﷺ عن ذلك وهذا مما يعرف عن ابن لهيعة عن أبي الزبير وقد استنكر الإمام أحمد روايات معقل عن أبي الزبير وقال هي تشبه أحاديث ابن لهيعة وقد تتبع ذلك فوجد كما قاله أحمد رحمه الله وقد اختلف العلماء في بيع الكلب فأكثرهم حرموه منهم الأوزاعي ومالك في المشهور عنه والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم وقال أبو هريرة هو سحت.

وقال ابن سيرين هو أخبث الكسب وقال عبد الرحمن بن أبي ليلي ما أبالي ثمن كلب أكلت أو ثمن خنزير وهؤلاء لهم مآخذ أحدها أنه إنما نهى عن بيعها لنجاستها وهؤلاء التزموا تحريم بيع كل نجس العين وهذا قول الشافعي وابن جرير الطبري ووافقهم جماعة من أصحابنا كابن عقيل وغيره التزموا أن البغل والحمار إنما يجيز بيعهما إذا لم نقل بنجاستهما وهذا مخالف للإجماع والثاني أن الكلب لم يبح الانتفاع به واقتناؤه مطلقا كالبغل والحمار وإنما أبيح اقتناؤه لحاجات مخصوصة وذلك لا يبيح بيعه كما لا يبيح الضرورة إلى الميتة والدم بيعهما وهذا مأخذ طائفة من أصحابنا وغيرهم والثالث أنه إنما نهى عن بيعه لخسته ومهانته فإنه لا قيمة له إلا عند ذوي الشح والمهانة وهو متيسر الوجود فنهي عن أخذ ثمنه ترغيبا في المواساة بما يفضل منه عن الحاجة وهذا مأخذ حسن البصري وغيره من السلف وكذا قال بعض أصحابنا في النهي عن بيع السنور ورخصت طائفة في بيع ما يباح اقتناؤه من الكلاب وككلب الصيد وهو قول عطاء والنخعي وأبي حنيفة رحمه الله تعالى وأصحابه ورواية عن مالك قالوا إنما نهى عن بيع ما يحرم اقتناؤه منها وروى حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي ﷺ نهى عن ثمن مكررة الكلب والسنور إلا كلب صيد خرجه النسائي وقال هو حديث منكر قال أيضًا ليس بصحيح وذكر الدارقطني إن الصحيح وقفه على جابر وقال أحمد لم يصح عن النبي ﷺ رخصة في كلب الصيد وأشار البيهقي وغيره إلى أنه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء فظنه من البيع وإنما هو من الاقتناء وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بالقوي ومن قال إن هذا الحديث على شرط مسلم كما ظنه طائفة من المتأخرين فقد أخطأ لأن مسلمًا لم يخرج لحماد بن سلمة عن أبي الزبير شيئًا وقد بين في كتاب التمييز أن رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غير قوية فأما بيع الهر فقد اختلف العلماء في كراهته فمنهم من كرهه وروى ذلك عن أبي هريرة وجابر وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والأوزاعي وأحمد في رواية عنه وقال هو أهون من جلود السباع وهذا اختيار أبي بكر من أصحابنا ورخص في بيع الهر ابن عباس وعطاء في رواية الحسن وابن سيرين والحكم وهناد وهو قول الثوري وأبي حنيفة رحمه الله تعالى ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه وعن إسحاق روايتان وعن الحسن أنه كره بيعها ورخص في شرائها للانتفاع بها وهؤلاء منهم من لم يصحح النهي عن بيعها قال أحمد ما أعلم فيه شيئًا يثبت أو يصح وقال أيضًا الأحاديث فيه مضطربة ومنهم من حمل النهي على ما لا يقع فيه كالبري ونحوه ومنهم من قال إنما نهى عن بيعها لأنه دناءة وقلة مروءة لأنها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية فهي مرافق الناس التي لاضرر عليهم في بذل فضلها فالشح بذلك من أقبح الأخلاق الذميمة فلذلك زجر عن أخد ثمنها وأما بقية الحيوانات التي لاتؤكل فما لانفع فيه كالحشرات ونحوه لا يجوز بيعه وما يذكر من نفع في بعضها فهو قليل فلا يكون مبيحا للبيع كما لم يبح النبي ﷺ بيع الميتة لما ذكر له ما فيها من الانتفاع ولهذا كان الصحيح أنه لا يباح العلق لمص الدم ولا الديدان للاصطياد ونحو ذلك وأما ما فيه نفع للاصطياد منها كالفهد والبازي والصقر فحكي أكثر الأصحاب في جواز بيعها روايتين عن أحمد ومنهم من أجاز بيعها وذكر الإجماع عليه وتأول رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلي في المجرد ومنهم من قال لا يجوز بيع الفهد والنسر وحكي فيه وجها آخر بالجواز وأجاز بيع البزاة والصقور ولم يحك فيه خلافًا وهو قول أبي موسي وأجاز بيع الصقر والبازي والعقاب ونحو أكثر العلماء منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جواز بيعها وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن معلمة قال الخلال العمل على ما رواه الجماعة أنه يجوز بيعها بكل حال وجعل بعض أصحابنا الفيل حكمه حكم الفهد ونحوه وفيه نظر والمنصوص عن أحمد في رواية حنبل أنه لا يحل بيعه ولا شراؤه وجعله كالسبع وحكي عن الحسن أنه قال لا يركب ظهره وقال هو مسخ وهذا كله يدل على أنه لا منفعة فيه ولا يجوز بيع الدب قاله القاضي في المجرد. وقال ابن أبي موسي لايجوز بيع القرد قال ابن عبد البر لا أعلم في ذلك خلافًا بين العلماء وقال القاضي في المجرد إن كان ينتفع به في موضع لحفظ المتاع فهوكالصقر والبازي وإلا فهو كالأسد لا يجوز بيعه والصحيح المنع مطلقا وهذه المنفعة يسيرة وليست هي المقصودة منه فلا يبيح البيع كمنافع الميتة ومما نهى عن بيعه جيف الكفار إذا قتلوا خرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال قتل المسلمون يوم الخندق رجلًا من المشركين فأعطوا بجيفته مالًا فقال رسول الله ﷺ ادفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية فلم يقبل منهم شيئًا وخرجه الترمذي ولفظه أن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من المشركين فأبي النبي ﷺ أن يبيعهم وخ

=رجه وكيع في كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلًا ثم قال وكيع الجيفة لا تباع وقال حارثة قلت لإسحاق ماتقول في بيع جيف المشركين من المشركين قال لا وروى أبو عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد تنصر فاستتابه فأبي أن يتوب فقتله فطلبت النصاري جيفته بثلاثين ألفًا فأبي علي فأحرقه. =============

الحديث السادس والأربعون

عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسي الأشعري أن النبي ﷺ بعثه إلى اليمن فسأله عن الأشربة تصنع بها فقال وما هي قال البتع والمزر فقيل لأبي بردة ما البتع قال نبيذ العسل والمزر نبيذ الشعير فقال كل مسكر حرام . خرجه البخاري

وخرجه مسلم ولفظه قال بعثني رسول الله ﷺ أنا ومعاذ إلى اليمين فقلت يارسول الله إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له المزر من الشعير وشراب يقال له البتع من العسل فقال كل مسكر حرام وفي رواية لمسلم فقال كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام وفي رواية له قال، وكان رسول الله ﷺ قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال أنهي عن كل مسكر أسكر عن الصلاة فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات المغطية للعقل وقد ذكر الله تعالى في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات، وكان أول ما حرمت الخمر عند حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين وقرأ في صلاته فخلط في قراءته فنزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} النساء وكان منادي رسول الله ﷺ ينادي لا يقرب الصلاة سكران ثم إن الله حرمها على الإطلاق بقوله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون المائدة فذكر علة تحريم الخمر والميسر وهو القمار وهو أن الشيطان يوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن من سكر اختل عقله فربما تسلط على أذي الناس في أنفسهم وأموالهم وربما بلغ إلى القتل وهي أم الخبائث فمن شربها قتل النفس وزني وربما كفر وقد روى هذا المعنى عن عثمان وغيره وروى مرفوعًا أيضًا ومن قامر فربما قهر وأخذ ماله قهرا فلم يبق له شيء فيشتد حقده على من أخذ ماله وكل ما أدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حرامًا وأخبر أن الشيطان يصدكم بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة فإن السكران يزول عقله أو يختل فلا يستطيع أن يذكر الله ولا أن يصلي ولهذا قالت طائفة من السلف إن شارب الخمر تمر عليه ساعة لا يعرف فيها ربه والله سبحانه وتعالى إنما خلقهم ليعرفوه ويذكروه ويعبدوه ويطيعوه فما أدي إلى الامتناع من ذلك وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته كان محرما وهو السكر وهذا بخلاف النوم فإن الله تعالى جبل العباد عليه واضطرهم إليه ولا قوام لأبدانهم إلا به إذ هو راحة لهم من السعي والنصب فهو من أعظم أنعم الله على عباده فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة ثم استيقظ إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه كان نومه عونا له على الصلاة والذكر ولهذا قال بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن صاحبه يعكف بقلبه عليه ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه فيه ولهذا قال على لما فشبههم على قوم يلعبون بالشطرنج ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون فشبهم بالعاكفين على التماثيل وجاء في الحديث إن مدمن الخمر كعابد الوثن فإن يتعلق قلبه به فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته وهذا كله مضاد لما خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته ومحبته وخشيته وذكره ومناجاته ودعائه والابتهال إليه فما حال بين بالعبد وبين ذلك ولم يكن العبد إليه ضرورة بل كان ضررا محضا عليه كان محرما وقد روي عن على أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج ما لهذا خلقتم ومن هنا يعلم أن الميسر محرم سواء كان بعوض أو بغير عوض وإن الشطرنج كالنرد أو شر منه لأنها تشغل أصحابها عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد والمقصود أن النبي ﷺ قال كل مسكر حرام وكل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي ﷺ فخرجا في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال كل مسكر خمر وكل خمر حرام ولفظ مسلم وكل مسكر حرام.

وخرج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ سئل عن البتع فقال كل شراب مسكر حرام وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن معين وأصحابه واحتجابه ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء يروى النبي ﷺ في تحريم المسكر وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه فلا يثت ذلك عنه.

وخرج مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ قال كل مسكر حرام وإلي هذا القول ذهب جمهور من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وغيرهم وهو مما أجمع على القول به أهل المدينة كلهم وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة وقالوا إن الخمر إنما هو خمر العنب خاصة وما عداها فإنما محرم منه القدر الذي يسكر ولا يحرم مادونه ومازال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورا لهم وفيهم خلق من أئمة العلم والدين قال ابن المبارك ما وجدت في النبيذ رخصة عن أحد صحيح إلا عن إبراهيم يعني النخعي ولذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح وقد صنف كتاب الأشربة ولم يذكر فيه شيئًا من الرخصة وصنف كتابًا في المسح على الخفين وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره فقيل له كيف لم تجعل في كتاب الأشربة الرخصة كما جعلت في المسح فقال ليس في الرخصة في السكر حديث صحيح ومما يدل على أن كل مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة ولم يكن بها خمر العنب فلو لم تكن آية تحريم الخمرشاملة لما عندهم لما كان فيها بيان لما سألوا عنه ولكان محمل السبب خارجا من عموم الكلام وهو ممتنع ولما نزل تحريم الخمر أن أقواما أهرقوا ما عندهم من الأشربة فدل على أنهم فهموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه وفي صحيح البخاري عن أنس قال حرمت علينا الخمر حين حرمت ومانجد خمر الأعناب إلا قليلًا وعامة خمرنا البسر والتمر، وعنه أنه قال إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء خليط بسر وتمر إذ حرمت الخمر فقذفتها وأنا ساقيهم وأصغرهم وإنا لنعدها حينئذ الخمر.

وفي الصحيحين عنه قال ماكان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ وفي صحيح مسلم عنه قال لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها الخمر وما بالمدينة شراب يشرب إلا من تمر وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ الخمسة أشربة ما منها شراب العنب.

وفي الصحيحين عن الشعبي عن ابن عمر قال قام عمر رضي الله عنه على المنبر فقال أما بعد نزل تحريم الخمر وهي من خمس العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذى من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه آله وسلم وذكر الترمذي أن قول من قال عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر صح وكذا قال ابن المديني وروى أبو إسحاق عن أبي هريرة قال قال عمر ما خمرته فعتقته فهو خمر وأني كانت لنا الخمر خمر العنب.

وفي مسند الإمام أحمد عن المختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن الشرب في الأوعية قال نهي رسول الله ﷺ عن المزفت فقال كل مسكر حرام قلت له صدقت فالشربة والشربتان على طعامنا قال المسكر قليله وكثيره حرام وقال الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة فما خمرت من ذلك فهو الخمر خرجه أحمد عن عبدالله بن إدريس سمعت المختار يقول فذكر ه وهذا إسناد على شرط مسلم وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة وهذا صريح في أن نبيذ التمر خمر وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره كما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذى وحسنه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال ماأسكر كثيره فقليله حرام.

وخرج أبو داود والترمذى وحسنه من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال كل مسكر حرام وماأسكر الفرق فملء الكف منه حرام وفي رواية الحسوة منه حرام وقد احتج به أحمد وذهب إليه وسئل عمن قال إنه لايصح فقال هذا رجل مغل يعني أنه قد غلا في مقالته وقد أخرج النسائي هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه كثيرة يطول ذكرها وروى ابن عجلان عن عمرو بن شعيب حدثني أبو وهيب الجيشاني عن وفد أهل اليمن أنهم قدموا على النبي ﷺ فسألوه عن أشربة تكون باليمن فسموا له البتع من العسل والمزر من الشعير قال النبي ﷺ هل تسكرون منها قالوا إن أكثرنا من اسكرنا قال فحرام قليله ما أسكر كثيره خرجه القاضي إسماعيل وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم تحتج بقول النبي ﷺ كل مسكر حرام على تحريم جميع أنواع المسكرات ماكان موجودًا منها على عهد النبي ﷺ وآله وسلم وما حدث بعده كما سئل ابن عباس عن الباذق فقال سبق محمد ﷺ الباذق فما أسكر فهو حرام خرجه البخاري يشير إلى أنه إن كان مسكرا فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة واعلم أن المسكر المزيل للعقل نوعان أحدهما ما كان فيه لذة وطرب فهذا هو الخمر المحرم شربه.

وفي المسند عن طلق الحنفي أنه كان جالسًا عند النبي ﷺ فقال رجل يا رسول الله ما تري في شراب نصنعه بأرضنا من ثمارنا فقال ﷺ من سائل عن المسكر فلا تشربه ولا تسقه أخاك المسلم فو الذي نفسي بيده أوبالذي يحلف به لايشربه رجل ابتغاء لذة مسكرة فيسقيه الله الخمر يوم القيامة قالت طائفة من العلماء وسواء كان هذا المسكر جامدا أو مائعا وسواء كان مطعوما أو مشروبا وسواء كان من حب أوتمر أو لبن أو غير ذلك وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره وفي سنن أبي داود من حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله ﷺ عن كل مسكر ومفتر والمفتر هو المخدر للجسد وإن لم ينته إلى حد الإسكار والثاني ما يزيل العقل ويسكره لا للذة فيه ولا طرب كالبنج ونحوه فقال أصحابنا إن تناوله لحاجة التداوي، وكان الغالب منه السلامة جاز وقد روي عن عروة بن الزبير لما وقعت الأكلة في رجله وأرادوا قطعها قال له الأطباء نسقيك دواءا حتى يغيب عقلك ولا تحس بألم القطع فأبي وقال ما ظننت أن خلقا يشرب شرابا يزول منه عقله حتى لا يعرف ربه وروي عنه أنه قال لا أشرب شيئًا يحول بيني وبين ذكر ربي عز وجل وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي فقال أكثر أصحانبا كالقاضي وابن عقيل وصاحب المغني إنه محرم لأنه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة فحرم شرب المسكر وروى حبيش الرحبي وفيه ضعف عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا فقد أتي بابًا من أبواب الكبائر وقالت طائفة منهم ابن عقيل في فنونه لا يحرم ذلك لأنه لا لذة فيه والخمر إنما حرمت لما فيها من الشدة المطربة ولا اطراب في الينج ونحوه ولا شدة فعلي قول الأكثرين لو تناول ذلك لغير حاجة وسكر به فطلق فحكم طلاقه حكم طلاق السكران قاله أكثر أصحابنا كابن حامد والقاضي وأصحاب الشافعي وقالت الحنفية لا يقع طلاقه وعللوا بأنه ليس فيه لذة وهذا يدل على أنهم لم يحرموه وقالت الشافعية هو محرم وفي وقوع الطلاق معه وجهان وظاهر كلام أحمد أنه لايقع طلاقه بخلاف السكران وتأوله القاضي وقال إنما قال ذلك إلزاما للحنفية لا اعتقادا له وسياق كلامه محتمل لذلك وأما الحد فإنما يجب بتناول ما فيه شدة وطرب من المسكرات لأنه هو الذي تدعو النفوس إليه فجعل الحد زاجرا عنه فأما ما فيه سكر بغير طرب ولا لذة فليس فيه سوي التعزير لأنه ليس في النفوس داع إليه حتى يحتاج إلى حد مقدر زاجر عنه فهو كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الدم وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حد من شرب ما يسكر كثيره وإن اعتقد حله متأولا وهو قول الشافعي وأحمد خلافًا لأبي ثور فإنه قال لا يحد لتأوله فهو كالناكح بلا ولي وفي حد الناكح بلا ولي خلاف أيضًا ولكن الصحيح أنه لا يحد وقد فرق بينه وبين شرب النبيذ متأولا بأن شرب النبيذ المختلف فيه داع إلى شرب الخمر المجمع على تحريمه بخلاف النكاح بغير ولي فإنه مغن عن الزنا المجمع على تحريمه وموجب للاستعفاف عنه والمنصوص عن أحمد أنه إنما حد شارب النبيذ متأولا أن تأويله ضعيف لا يدرأ عنه الحد به فإنه قال في رواية للأثرم يحد من شرب النبيذ متأولا ولو رفع إلى الإمام من طلق البتة ثم راجعها متأولا أن طلاق البتة واحدة والإمام يري أنها ثلاث لا يفرق بينهما وقال هذا غير ذاك وأمره بين في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ ونزل تحريم الخمر وشرابهم الفضيخ وقال النبي ﷺ كل مسكر خمر فهذا بين وطلاق البتة إنما هو شيء اختلف الناس فيه.

================

الحديث السابع والأربعون

عن المقدام بن معدي كرب قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ماملأ ابن آدم وعاء شرًا من بطن بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه . رواه الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن

هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذى من حديث يحيى بن جابر الطائي عن المقدام وخرجه النسائي من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده وخرجه ابن ماجه من وجه آخر عنده وله طرق أخر وقد روى هذا الحديث مع ذكر سببه فروى أبو القاسم البغوي في معجمه من حديث عبد الرحمن بن المرقع قال فتح رسول الله ﷺ خيبر وهي مخضرة من الفواكة فوقع الناس في الفاكهة فغشيتهم الحمي فشكوا إلى رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ إنما الحمي رائد الموت وسجن الله في الأرض وهي قطعة من النار فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان فصبوها عليكم بين الصلاتين يعني المغرب والعشاء قال فعلوا فذهبت عنهم فقال رسول الله ﷺ لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرًا من بطن فإذا كان لابد فاجعلوا ثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للريح وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها وقد روى أن ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام ولتعطلت المارشايات ودكاكين الصيادلة وإنما قال هذا لأن أصل كل داء التخم كما قال بعضهم أصل كل داء البردة وروى مرفوعًا ولا يصح رفعه وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء ورفعه بعضهم ولا يصح أيضًا وقال الحارث أيضًا الذي قتل البرية وأهلك السابع في البرية إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام وقال غيره لو قيل لأهل القبور ما كان سبب آجالكم لقالوا التخم فهذا بعض منافع قليل الغذاء وترك التملؤ من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوي والغضب وكثرة الغذاء يوجب ضد ذلك قال الحسن يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلثه ودع ثلث بطنك يتنفس ويتفكر وقال المروزي جعل أبو عبدالله يعني الإمام أحمد يعظم من الجوع والفقر فقلت له يؤجر الرجل في ترك الشهوات فقال وكيف لا يؤجر وابن عمر يقول ما شبعت منذ ثلاثة أشهر قلت لأني عبدالله يجد الرجل من قلبه رقة وهو شبع قال ما أري ثم روى المروزي عن أبي عبدالله قول ابن عمر هذا من وجوه فروى بإسناده عن ابن سيرين قال قال رجل لابن عمر ألا أجيئك بجوارش قال وأي شيء هو قال شيء يهضم الطعام إذا أكلته قال ما شبعت منذ أربعة أشهر وليس ذاك لأبي لا أقدر عليه ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون وبإسناده عن نافع قال جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر فقال ما هذا قال شيء يهضم به الطعام قال ما أصنع به إني ليأتي على الشهر ما أشبع فيه من الطعام وبإسناده عن رجل قال قلت لابن عمر يا أبا عبد الرحمن رقت مضغتك وكبر سنك وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئًا يلطفونك إذا رجعت إليهم قال ويحك والله ما شبعت منذ إحدي عشرة سنة ولا اثنتي عشرة سنة ولا ثلاثة عشر سنة ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة فكيف بي وإنما بقي مني ما بقي وبإسناده عن عمرو ابن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرًا من الشبع مخافة الأشر وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع بإسناده عن نافع عن ابن عمر قال ماشبعت منذ أسلمت وروى بإسناده عن محمد بن واسع قال من قل طعمه فهم وأفهم وصفا ورق وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد وعن أبي عبيدة الخواص قال حتفك في شبعك وحفظك في جوعك وإذا أنت شبعت ثقلت فنمت واستمكن منك العدو فجثم عليك وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد وعن عمرو بن قيس قال إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب وعن سلمة بن سعيد قال إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعلمه وعن بعض العلماء قال إذا كنت بطينا فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص وعن ابن الأعرابي قال كانت العرب تقول ما بات رجل بطينا فتم غرمه وعن أبي سليمان الداراني قال إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فلا تأكل حتى تقضيها فإن الأكل يغير العقل وعن مالك بن دينار قال ما ينبغي للمؤمن أن تكون بطنه أكبر همه وأن تكون شهوته هي الغالبة قال وحدثني الحسن بن عبد الرحمن قال قال الحسن أو غيره كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة وهي بليتكم إلى يوم القيامة قال، وكان يقال من ملك بطنه ملك الأعمال الصالحة كلها، وكان يقال لا تسكن الحكمة معدة ملأي وعن عبد العزيز بن أبي داود قال كان يقال ثلث الطعام عون على التسرع إلى الخيرات وعن قثم العابد قال كان يقال ما قل طعم امريء قط إلا رق قلبه ونديت عيناه وعن عبدالله بن مرزوق قال لم نر للأشر مثل دوام الجوع فقال له أبو عبد الرحمن العمري الزاهد وما دوامه عندك قال دوامه أن لا يشبع أبدًا قال وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا قال ما أيسر يا أبا عبد الرحمن على أهل ولا يته ومن وفقه لطاعته لا يأكل إلا دون الشبع وهو دوام الجوع ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه فقال له أكلت حتى لا أستطيع أن آكل فقال الحسن سبحان الله وما يأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل وروى أيضًا بإسناده عن أبي عمران الجوني قال كان يقال من أحب أن ينور قلبه فليقل طعمه وعن عثمان بن زائدة قال كتب إلى سفيان الثوري إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل وعن ابن السماك قال خلا رجل بأخيه فقال أي أخي نحن أهون على الله من أن يجيعنا إنما يجيع أولياءه ومن عبدالله بن أبي الفرج قال قلت لأبي سعيد التميمي الخائف يشبع قال لا قلت المشتاق يشبع قال لا وعن رباح القيسي أنه قرب إليه طعام فأكل منه فقيل له ازدد فما أراك شبعت فصاح صيحة فقال كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين يدي فرفع الرجل الطعام من بين يديه وقال أنت في شيء ونحن في شيء قال المروزي قال لي رجل كيف ذاك المتنعم يعني أحمد قلت له وكيف هو متنعم قال أليس يجد خبزا يأكل وله امرأة يسكن إليها ويطأها فذكرت ذلك لأبي عبدالله فقال صدق وجعل يسترجع فقال إنا لنشبع وقال بشر بن الحارث ما شبعت منذ خمسين سنة وقال ما ينبغي للرجل أن يشبع اليوم من الحلال لأنه إذا شبع من الحلال دعته نفسه إلى الحرام فكيف من هذه الأقذار وعن إبراهيم بن أدهم قال من ضبط بطنه ضبط دينه ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان والشبع يميت القلب ومنه يكون الفرح والمرح والضحك وقال ثابت البناني بلغنا أن إبليس لعنه الله ظهر ليحيي بن زكريا عليهما السلام فرأي عليه معاليق من كل شيء فقال له يحيى عليه السلام يا إبليس ما هذه المعاليق التي أري عليك قال هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم قال فهل لي فيها شيء قال ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر قال فهل غير هذا قال لا قال لله على أن لا أملأ بطني من طعام أبدًا قال فقال إبليس لعنه الله لله على أن لا أنصح مسلمًا أبدًا وقال أبو سليمان الداراني إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق وإذا شبعت ورويت عمي القلب وقال مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل وإن الله ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب وإن الحق عنده في خزائن مدخرة فلا يعطي إلا من أحب خاصة ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلى من أن آكلها ثم أقوم من أول الليل إلى آخره وقال الحسن بن يحيى الخشني من أراد أن يغزر دموعه ويرق قلبه فليأكل وليشرب في نصف بطنه.

وقال أحمد بن أبي الحواري فحدثت بهذا أبا سليمان فقال إنما جاء الحديث ثلث طعام وثلث شراب وأري هؤلاء قد حاسبوا أنفسهم فربحوا سدسا.

وقال محمد بن النضر الحارثي الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على الأشر.

وعن الشافعي قال ما شبعت منذ ستة عشر سنة إلا شبعة أطرحها لأن الشبع يثقل البدن ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة وقد ندب النبي ﷺ إلى التقلل من الأكل في حديث المقدام وقال حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه.

وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء والمراد أن المؤمن يأكل بآداب الشرع فيأكل في معي واحد والكافر يأكل بمقتضي الشهوة والشرة والنهم فيأكل في سبعة أمعاء وندب ﷺ مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام إلى الإيثار بالباقي منه فقال طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة وطعام الثلاثة يكفي الأربعة فأحسن ما كل المؤمن في ثلث بطنه وشرب في ثلث وترك للنفس ثلثا كما ذكره النبي ﷺ في حديث المقدام فإن كثرة الشرب تجلب النوم وتفسد الطعام قال سفيان كل ماشئت ولا تشرب فإذا لم تشرب لم يجئك النوم وقال بعض السلف كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فتناموا كثيرًا فتخسروا كثيرًا وقد كان النبي ﷺ وأصحابه يجوعون كثيرًا ولا يشربون كثيرًا يتقللون من أكل الشهوات وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها ولهذا كان ابن عمر يتشبه به في ذلك مع قدرته على الطعام، وكذلك أبوه من قبله ففي الصحيحين عن عائشة قالت ماشبع آل محمد ﷺ منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى قبض ولمسلم قالت ما شبع رسول الله ﷺ من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض.

وخرج البخاري عن أبي هريرة قال ما شبع رسول الله ﷺ من طعام ثلاثة أيام حتى قبض، وعنه قال خرج رسول الله ﷺ من الدنيا ولم يشبع من خبز شعير وفي صحيح مسلم عن عمر أنه خطب فذكر ما أصاب الناس من الدنيا فقال لقد رأيت رسول الله ﷺ يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا.

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس عن النبي ﷺ قال لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت على ثلاث من بين يوم وليلة ومالي طعام إلا ما واراه إبط بلال وخرجه ابن ماجه بإسناده عن سليمان بن صرد قال أتانا رسول الله ﷺ فمكثنا ثلاث ليال لا نقدر على طعام وبإسناده عن أبي هريرة قال أتي رسول الله ﷺ بطعام سخن فأكل فلما فرغ قال الحمد لله ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات قال تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. إِلاَّ مَن تَابَ} مريم.

وصح عن النبي ﷺ أنه قال خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن.

وفي المسند أن النبي ﷺ رأي رجلًا سمينًا فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك.

وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن أخوف ما أخاف عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوي.

وفي مسند البزار وغيره عن فاطمة عن النبي ﷺ قال شرار أمتي الذين غذوا بالنعم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام.

وخرج البزار وابن ماجه من حديث ابن عمر قال تجشأ رجل عند النبي ﷺ فقال كف عنا جشاءك فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة. وخرج ابن ماجه من حديث سلمان أيضًا بنحوه وخرجه الحاكم من حديث أبي جحيفة وفي أسانيدها كلها مقال وروى يحيى بن مندة في كتاب مناقب الإمام أحمد بإسناد له عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي ﷺ ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس فقال ثلث الطعام هو القوت وثلث الشراب هو القوي وثلث النفس هو الروح.

===================

الحديث الثامن والأربعون

عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ قال أربع من كن فيه كان منافقًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر . خرجه البخاري ومسلم

هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو بن العاص وخرجاه في الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وفي رواية له أيضًا من علامات المنافق ثلاث وقد روى هذا عن النبي ﷺ من وجوه أخر وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين كانوا في عهد النبي ﷺ فإنهم حدثوا النبي ﷺ فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه وقد روى محمد المحرم هذا التأويل عن عطاء وأنه قال حدثني به جابر عن النبي ﷺ وذكر أن الحسن رجع إلى قول عطاء هذا لما بلغه عنه وهذا كذب والمحرم شيخ كذاب معروف بالكذب وقد روي عن عطاء هذا لما بلغه من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق وقال حدث إخوة يوسف فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين وهذا لا يصح عن عطاء والحسن أم هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي ﷺ فالحديث ثابت عنه ﷺ لا شك في ثبوته وصحته والذي فسره به أهل العلم المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان خلافه وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين أحدهما النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله ﷺ ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار والثاني النفاق الأصغر وهو نفاق العمل وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالف ذلك وأصول هذا النفاق يرجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث وهي خمس أحدها أن يحدث بحديث لم يصدق به وهو كاذب له.

وفي المسند عن النبي ﷺ قال كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت به كاذب قال الحسن كان يقال النفاق اختلاف السر والعلانية والقول والعمل والمدخل والمخرج، وكان يقال أس النفاق الذي بني عليه الكذب والثاني إذا وعد أخلف وهو على نوعين أحدهما أن يعد ومن نيته أن لا يوفي بوعده وهذا أشر الخلق ولو قال أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل كان كذبا وخلفا قاله الأوزاعي الثاني أن يعد ومن نيته أن يفي ثم يبدو له فيخلف من غير عذر له في الخلف.

وخرج أبو داود والترمذى من حديث زيد بن أرقم عن النبي ﷺ قال إذا وعد الرجل ونوي أن يفي به فلم يف فلا جناح عليه وقال الترمذي ليس إسناده بالقوي.

وخرج الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أن عليا لقي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال مالي أراكما ثقلين قالا حديث سمعناه من النبي ﷺ ذكر خلال المنافق إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان فأينا ينجو من هذه الخصال فدخل على النبي ﷺ فذكر له ذلك فقال قد حدثتهما ولم أضعه على الوضع الذي تضعونه ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أن يكذب وإذا وعد وهو يحدث نفسه أن يخلف وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أن يخون وقال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم الحديثان مضطربان والإسنادان مجهولان وقال الدراقطني الحديث مضطرب غير ثابت والله أعلم.

وخرجه الطبراني والإسماعيلي من حديث على مرفوعًا العدة دين ويل لمن وعد ثم أخلف قالها ثلاثًا وفي إسناده جهالة ويروى من حديث ابن مسعود قال لايعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له قال قال رسول الله ﷺ العدة عطية وفي إسناده نظر وأوله صحيح عن ابن مسعود من قوله وفي مراسيل الحسن عن النبي ﷺ قال العدة هبة وفي سنن أبي داود عن مولي لعبد الله بن عامر بن ربيعة عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال جاء النبي ﷺ إلى بيتنا وأنا صبي فخرجت لألعب فقالت أمي ياعبد الله تعالى أعطك فقال رسول الله ﷺ ماأردت أن تعطيه قلت أردت أن أعطيه تمرا فقال إن لم تفعلي كتبت عليك كذبة وفي إسناده من لا يعرف وذكر الزهري عن أبي هريرة قال من قال لصبي تعالى هاك تمرا ثم لايعطيه شيئًا فهي كذبة وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد فمنهم من أوجبه مطلقا وذكر البخاري في صحيحه أن ابن أشوع قضي بالوعد وهو قول طائفة من أهل الظاهر وغيرهم ومنهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضي نفعا للموعود وهو المحكي عن مالك وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقا والثالث إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلًا والباطل حقا وهذا مما يدعو إليه الكذب كما قال النبي ﷺ إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال ﷺ إنكم لتختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو مما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقال ﷺ إن من البيان لسحرا فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع وفي رواية له أيضًا ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله الرابع إذا عاهد غدر ولم يف بالعهد وقد أمر الله بالوفاء بالعهد فقال وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا الإسراء وقال وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا النحل وقال إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلًا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم آل عمران.

وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به وفي رواية إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال ألا هذه غدرة فلان وخرجاه أيضًا من حديث أنس بمعناه.

وخرج مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال لكل غادر لواء عند يوم القيامة يعرف به والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره ولو كان المعاهد كافرًا ولهذا في حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماخرجه البخاري وقد أمر الله تعالى في كتابه الوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئًا وأما عهود المسلمين فيما بينهم بالوفاء بها أشد ونقضها أعظم إثما ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من تابعه ورضي به.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم فذكر منهم ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلا لم يف له ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر التبرر ونحوه الخامس الخيانة في الأمانة فإذا اؤتمن الرجل أمانة فالواجب عليه أن يردها كما قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} النساء وقال النبي ﷺ أد الأمانة إلى من ائتمنك وقال في خطبته في حجة الوداع من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنفال فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق.

وفي حديث ابن مسعود من قوله وروى مرفوعًا القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانة يؤتي بصاحب الأمانة فيقال له أد أمانتك فيقول من أين يارب وقد ذهبت الدنيا فيقول اذهبوا به إلى الهاوية فيهوي حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هناك كهيئتها فيحملها فيضعها على عنقه فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأي أنه قد خرج منها زلت فهوي فيهوي هو في أثرها أبد الآبدين قال والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد من ذلك الودائع وقد روي عن محمد بن كعب القرظي أنه استنبط ما في هذا الحديث أعني حديث آية المنافق ثلاث من القرآن وقال مصداق ذلك في كتاب الله تعالى إذا جاءك المنافقون المنافقون إلى قوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون المنافقون وقال تعالى {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} التوبة وقال {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الأحزاب إلى قوله {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} الأحزاب وروى عن ابن مسعود نحو هذا الكلام ثم تلا قوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} التوبة الآية وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية كما قاله الحسن.

وقال الحسن أيضًا من النفاق اختلاف القلب واللسان واختلاف السر والعلانية واختلاف الدخول والخروج.

وقال طائفة من السلف خشوع النفاق أن تري الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع.

وقد روى معنى ذلك عن عمر وروي عنه أنه قال على المنبر إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم قالوا كيف يكون المنافق عليما قال يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور أو قال المنكر وسئل حذيفة عن المنافق فقال الذي يصف الإيمان ولا يعمل به.

وفي صحيح البخا ري عن ابن عمر أنه قيل له إنا ندخل على سلطاننا فنقول له بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عنده قال كنا نعد هذا نفاقا.

وفي المسند عن حذيفة قال إنكم لتكلمون كلاما إن كنا لنعده على عهد رسول الله ﷺ النفاق وفي رواية قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله ﷺ يصير بها منافقًا وأني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مرات قال بلال بن سعد المنافق يقول ما يعرف ويعمل ماينكر ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه وسئل أبو رجاء العطاردي هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله ﷺ يخشون النفاق فقال نعم إني أدركت منهم بحمد الله صدرا حسنا نعم شديدًا نعم شديدا.

وقال البخاري في صحيحه.

وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه ويذكر عن الحسن قال ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق انتهى وروى الحسن أنه حلف ما مضي مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق غير آمن وما مضي منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول من لم يخف النفاق فهو منافق وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته فلما سلم قال له ما شأنك وشأن النفاق فقال اللهم اغفر لي ثلاثًا لا تأمن البلاء والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه والآثار عن السلف في هذا كثيرة جدًا قال سفيان الثوري خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث فذكر منها قال نحن نقول نفاق وهم يقولون لا نفاق وقال الأوزاعي قد خاف عمر النفاق على نفسه قيل لهم إنهم يقولون إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقًا حتى سأل حذيفة ولكن خاف أن يبتلي بذلك قبل أن يموت قال هذا قول أهل البدع يشير إلى أن عمر كان يخاف على النفاق على نفسه في الحال الظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف نفسه في الحال من النفاق الأصغر والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر كما أن المعاصي بريد الكفر وكما يخشي على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت كذلك يخشي على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقًا خالصا وسئل الإمام أحمد ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق قال ومن يأمن على نفسه النفاق، وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصاف النفاق العملي منافقًا وروى نحوه عن حذيفة وقال الشعبي من كذب فهو منافق وحكي محمد بن نصر المروزي هذا القول عن فرقة من أهل الحديث وقد سبق في أوائل الكتاب ذكر الاختلاف عن الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر هل يسمي كافرًا كفرا لا ينقل عن الملة أم لا واسم الكفر أعظم من اسم النفاق ولعل هذا هو الذي أنكره عطاء على الحسن إن صح ذلك عنه ومن أعظم خصال النفاق العملي أن يعمل الإنسان عملًا ويظهر أنه قصد به الخير وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سييء فيتم له ذلك ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره ويتوصل به إلى غرضه السييء الذي أبطنه وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود فحكي عن المنافقين أنهم {اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} التوبة.

وأنزل في اليهود {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} آل عمران وهذه الآية نزلت في اليهود سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم وما سئلوا عنه قال ذلك ابن عباس وحديثه مخرج في الصحيحين وفيهما أيضًا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي ﷺ إلى الغزو وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلافه فإذا قدم رسول الله ﷺ من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.

وفي حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ قال من غشنا فليس منا والمكر والخديعة في النار وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله:

ليس الدنيا إلا بدين وليـ *** س الدين إلا مكارم الأخلاق

إنما المكر والخديعة في النا *** ر وهما من خصال أهل النفاق

ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقًا كما في صحيح مسلم عن حنظلة الأسدي أنه مر به أبو بكر رضي الله عنه وهو يبكي فقال مالك قال نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله ﷺ يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيرًا قال أبو بكر فو الله إنا لكذلك فانطلقا إلى رسول الله ﷺ فقال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا رسول الله وذكر له مثل ما قال لأبي بكر فقال رسول الله ﷺ لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافتحكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة. وفي مسند البزار عن أنس قال قالوا يا رسول الله إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره قال كيف أنتم قالوا الله ربنا في السر والعلانية قال ليس ذاكم من النفاق وروى من وجه آخر عن أنس قال غدا أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا هلكنا قال وما ذاك قالوا النفاق قال ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قالوا بلى قال فليس ذاك بالنفاق ثم ذكر يعني حديث حنظلة كما تقدم.

===================

الحديث التاسع والأربعون

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا . رواه الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال الترمذي حسن صحيح

هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية عبدالله بن هبيرة سمع أبا حاتم الحساني سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحدثه عن النبي ﷺ وأبو تميم وعبد الله خرج لهما مسلم ووثقهما غير واحد وأبو تميم ولد في حياة النبي ﷺ وهاجر إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وروى هذا الحديث من حديث ابن عمرو عن النبي ﷺ ولكن في إسناده من ال يعرف حاله قال أبو حاتم الرازي وهذا الحديث أصل في التوكل وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق قال الله عز وجل {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق وقد قرأ النبي ﷺ هذه الآية على أبي ذر وقال له لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم يعني لو حققوا التقوى والتوكل لاكتفوا بذلك في مصالح دينهم وديناهم.

وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس احفظ الله يحفظك.

قال بعض السلف فحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك عليه فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره وكفاه منه ما أهمه ثم قرأ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الطلاق وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدينا والآخرة كلها ووكلت الأمور كلها إليه وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.

قال سعيد بن جبير التوكل جماع الإيمان.

وقال وهب بن منبه الغاية القصوى التوكل.

قال الحسن إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته وفي حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال من سره أن يكون أقوي الناس فليتوكل على الله وروي عنه ﷺ أنه كان يقول في دعائه إني أسألك صدق التوكل عليكوأنه كان يقول اللهم اجعلني ممن توكل عليك فكفيته واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها وجرت سنته في خلقه بذلك فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له والتوكل بالقلب عليه إيمان به قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} النساء وقال تعالى {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} الأنفال وقال {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} الجمعة.

وقال سهل التستري من طعن في الحركة يعني في السعي والكسب فقد طعن في السنة ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان فالتوكل حال النبي ﷺ والكسب سنته فمن عمل على حاله فلا يتركن سنته ثم إن الأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام:

أحدها الطاعات التي أمر الله عباده بها وجعلها سببًا للنجاة من النار ودخول الجنة فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه والاستعانة به عليه فإنه لا حول ولا قوة إلا به وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فمن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعا وقدرا.

قال يوسف بن أسباط: يقال اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له.

والثاني: ما أجري الله العادة به في الدنيا وأمر عباده بتعاطيه كالأكل عند الجوع والشرب عند العطش والاستظلال من الحر والتدفؤ من البرد ونحو ذلك فهذا أيضًا واجب على المرء تعاطي أسبابه ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله فهو مفرط يستحق العقوبة لكن الله سبحانه وتعالى قد يقوي بعض عباده من ذلك مالًا يقوي عليه غيره فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره فلا حرج عليه ولهذا كان النبي ﷺ يواصل في صيامه وينهي عن ذلك أصحابه ويقول لهم إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقيوفي رواية إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني وفي رواية إن لي مطعما يطعمني وساقيا يسقيني والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوته ويغذيه بما يورده على قلبه من الفتوح القدسية والمنح الإلهية والمعارف الربانية التي تغنيه عن الطعام والشراب برهة من الدهر كما قال القائل:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الشراب وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور تستضئ به *** وقت المسير وفي أعقابها حادي

إذا اشتكت من كلال السير أو عدها *** روح القدوم فتحيا عند ميعاد

وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم ولا يتضررون بذلك، وكان ابن الزبير يواصل ثمانية أيام، وكان أبو الجوزاء يواصل في صومه بين سبعة أيام ثم يقبض على ذراع الشاة فيكاد يحطمها، وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكل شيئًا غير أنه يشرب شربة حلوي، وكان حجاج بن فرافصة يبقي أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، وكان بعضهم لا يبالي بالحر ولا بالبرد كما كان علي رضي الله عنه يلبس لباس الصيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف، وكان النبي ﷺ دعا له أن يذهب الله عنه الحر والبرد فمن كان له قوة على مثل هذه الأمور فعمل بمقتضى قوته ولم يضعفه عن طاعة الله فلا حرج عليه ومن كلف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات فإنه ينكر عليه ذلك، وكان السلف ينكرون على عبد الرحمن بن غنم حيث كان يترك الأكل مدة حتى يعاد من ضعفه.

القسم الثالث: ما جرى الله العادة به في الدينا في الأعم الأغلب وقد يخرق العادة في ذلك لمن شاء من عباده وهو أنواع منها ما يخرقه كثيرًا ويغني كثيرًا من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثير من البلدان وسكان البوادي ونحوها.

وقد اختلف العلماء هل الأفضل لمن أصابه المرض التداوي أم تركه لمن حقق التوكل على الله فيه قولان مشهوران وظاهر كلام أحمد أن التوكل لمن قوي عليه أفضل لما صح عن النبي ﷺ أنه قال يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب ثم قال هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلي ربهم يتوكلون.

ومن رجح التداوي قال إنه حال النبي ﷺ كان يداوم عليه وهو لا يفعل إلا الأفضل وحمل الحديث على الرقى المكروهة التي يخشى منها الشرك بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه.

ومنها ما يخرقه لقليل من العامة كحصول الرزق لمن ترك السعي في طلبه فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل وعلم من الله أن يخرق له العوائد ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه جاز له ترك الأسباب ولم ينكر عليه ذلك، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدل على ذلك ويدل على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدني سبب كما يسوق الطير إلى أرزاقها بمجرد الغدو والرواح وهو نوع من الطلب والسعي لكنه سعي يسير وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه كما في حديث ثوبان عن النبي ﷺ قال إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وفي حديث جابر عن النبي ﷺ لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم وقال عمر بين العبد وبين رزقه حجاب فإن قنع ورضيت نفسه آتاه الله رزقه وإن اقتحم وهتك الحجاب لم يزد فوق رزقه قال بعض السلف توكل تسق إليك الأرزاق بلا تعب ولا تكلف قال سالم بن أبي الجعد حدثت أن عيسي عليه السلام كان يقول اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم وإياكم وفضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز هذا طير السماء يغدو ويروح ليس معه من أرزاقه شيء لا يحرث ولا يحصد ويرزقه الله فإن قلتم إن بطوننا أعظم من بطون الطير فهذه الوحوش من البقر والحمير تغدو وليس معها من أرزاقها شيء لا تحرث ولا تحصد يرزقها الله خرجه ابن أبي الدنيا.

وخرج بإسناده عن ابن عباس قال كان عابد يتعبد في غار، وكان غراب يأتيه كل يوم برغيف يجد فيه طعم كل شيء حتى مات ذلك العابد وعن سعيد بن عبد العزيز عن بعض مشيخة دمشق قال أقام إلياس هاربا من قومه في جبل عشرين ليلة أو قال أربعين تأتيه الغربان برزقه وقال سفيان الثوري قرأ واصل الأحذب هذه الآية {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} الذاريات فقال ألا إن رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض فدخل خربة فمكث ثلاثًا لا يصيب شيئًا فلما كان اليوم الرابع إذ هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الموت بينهما ومن هذا الباب من قوي توكله على الله ووثقه به فدخل المفاوز بغير زاد فإنه يجوز لمن هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة وله في ذلك أسوة بإبراهيم الخليل عليه السلام حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي زرع وترك عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء فلما تبعته هاجر وقالت له إلى من تدعنا قال لها إلى الله قالت رضيت بالله وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه فقد يقذف الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحق ما يعلمون أنه حق ويثقون به قال المروزي قيل لأبي عبدالله أي شيء صدق التوكل على الله قال أن يتوكل على الله ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيبه بشيء فإذا كان كذلك كان الله يرزقه، وكان متوكلا قال وذكرت لأبي عبدالله التوكل فأجازه لمن استعمل فيه الصدق قال وسألت أبا عبدالله عن رجل جلس في بيته ويقول أجلس وأصبر ولا أطلع على ذلك أحدًا وهو يقدر أن يحترف قال لو خرج فاحترف كان أحب إلي وإذا جلس خفت أن يحوجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسلوا إليه بشيء قلت فإذا كان يبعث إليه بشيء فلا يأخذه قال هذا جيد قلت لأبي عبدالله إن رجلًا بمكة قال لا آكل شيئًا حتى يطعمني ربي ودخل في جبل أبي قبيس فجاء إليه رجلان وهو متزر بخرقة فألقيا إليه قميصا وأخذا بيده فألبساه القميص ووضعا بين يديه شيئًا فلم يأكل حتى وضعا مفتاحا حديدا في فيه وجعلا يدسان في فمه فضحك أبو عبدالله وجعل يتعجب قلت لأبي عبدالله إن رجلًا ترك البيع والشراء وجعل على نفسه أن لا يقع في يده ذهب ولا فضة وترك دوره فلم يأمر فيها بشيء، وكان يمر في الطريق فإذا رأي شيئًا مطروحا أخذ بيده مما قد ألقي قال المروزي قلت للرجل مالك حجة على هذا غير أبي معاوية الأسود قال بل أويس القرني كان يمر بالمزابل فيلتقط الرقاع فصدقه أبو عبدالله قال قد شدد على نفسه ثم قال لقد جاءني البقلي ونحوه فقلت لهم لو تعرضتم للعمل تشهرون أنفسكم قال وإيش ينالني من الشهرة وروى أحمد بن الحسين بن حسان عن أحمد أنه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير زاد فقال إن كنت تطيق وإلا فلا تخرج إلا بزاد وراحلة لا تخاطر قال أبو بكر الخلال يعني إن أطاق وعلم أنه يقوي على ذلك ولا يسأل ولا يستشرف نفسه لأن يأخذ أو يعطي فيقبل فهو متوكل على الصدق وقد أجاز العلماء التوكل على الصدق قال وقد حج أبو عبدالله وكفاه في حجته أربعة عشر درهما وسئل إسحاق ابن راهويه هل للرجل أن يدخل المفازة من غير زاد فقال إن كان الرجل مثل عبدالله بن جبير فله أن يدخل المفازة بغير زاد وإلا لم يكن له أن يدخل ومتي كان الرجل ضعيفا وخشي على نفسه أن لا يصبر أو يتعرض للسؤال أو أن يقع في الشك والسخط لم يجز له ترك الأسباب حينئذ وأنكر عليه غاية الإنكار كما أنكر الإمام أحمد وغيره على من ترك الكسب وعلي من دخل المفازة بغير زاد وخشي عليه التعرض للسؤال وقد روي عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيحجون فيأتون مكة فيسألون الناس فأنزل الله هذه الآية {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البقرة.

وكذلك قال مجاهد وعكرمة والنخعي وغير واحد من السلف فلا يرخص في ترك السبب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية وقد روي عن أحمد أنه سئل عن التوكل فقال قطع الاستشراف باليأس من الخلق فسئل عن الحجة في ذلك فقال قول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبريل وهو يرمي في النار فقال له ألك حاجة فقال أما إليك فلا وظاهر كلام أحمد أن الكسب أفضل بكل حال فإنه سئل عمن يقعد ولا يكتسب ويقول توكلت على الله فقال ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب وروى الخلال بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قيل له لو أن رجلًا قعد في بيته زعم أنه يثق بالله فيأتيه رزقه قال إذا وثق بالله حتى يعلم منه أنه وثق به لم يمنعه شيء أراده ولكن لم يفعل ذلك الأنبياء ولا غيرهم وقد كان الأنبياء يؤجرون أنفسهم، وكان النبي ﷺ يؤجر نفسه وأبو بكر وعمر ولم يقولوا نقعد حتى يرزقنا الله عز وجل وقال الله عز وجل {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} الجمعة ولا بد من طلب المعيشة.

وقد روي عن بشر ما يشعر بخلاف هذا فروى أبو نعيم في الحلية أن بشر سئل عن التوكل فقال اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب فقال له السائل فسره لنا فقال بشرا اضطراب بلا سكون رجل تضطرب جوارحه وقلبه ساكن إلى الله لا إلى عمله وسكون بلا اضطراب رجل ساكن إلى الله بلا حركة وهذا عزيز وهو من صفات الأبدال وبكل حال فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية فلا بد له من معاناة الأسباب لا سيما من له عيال لا يصبرون وقد قال النبي ﷺ كفي بالمرء إثما أن يضيع من يقوت، وكان بشر يقول لو كان لي عيال لعملت واكتسبت، وكذلك من ضيع بتركه الأسباب حقا له ولم يكن راضيا بفوات حقه فإن هذا عاجز مفرط وفي مثل هذا جاء قول النبي ﷺ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان خرجه مسلم بمعناه من حديث أبي هريرة وفي سنن أبي داود وعن عوف بن مالك أن النبي ﷺ قضي بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر حسبنا الله ونعم الوكيل فقال النبي ﷺ إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل.

وخرج الترمذي من حديث أنس قال قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال اعقلها وتوكل وذكر عن يحيى القطان أنه قال هو عندي حديث منكر وخرجه الطبراني من حديث عمرو بن أمية عن النبي ﷺ وروى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عابد أن النبي ﷺ قال إن التوكل بعد الكيس وهذا مرسل ومعناه أن الإنسان يأخذ بالكيس والسعي في الأسباب المباحة ويتوكل على الله بعد سعيه وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون جمعهما أفضل قال معاوية بن قرة لقي عمر بن الخطاب ناسا من أهل اليمن فقال من أنتم قالوا نحن المتوكلون قال بل أنتم المتأكلون إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله قال الخلال أخبرنا محمد بن منصور قال سأل المازني بشر بن الحارث عن التوكل فقال المتوكل لا يتوكل على الله ليكفي ولو حلت هذه القصة في قلوب المتوكلين لضجوا إلى الله بالندم والتوبة ولكن المتوكل يحل بقلبه الكفاية من الله تبارك وتعالى فيصدق الله فيما ضمن ومعنى هذا الكلام أن المتوكل على الله حق التوكل لا يأتي بالتوكل ويجعله سببًا لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره فإنه لو فعل ذلك لكان كمن أتي سائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها وهذا نوع نقص في تحقيق التوكل وإنما التوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن لعبده برزقه وكفايته فيصدق الله فيما ضمنه ويثق بقلبه ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به والرزق مقسوم لكل أحد من بر وفاجر ومؤمن وكافر كما قال تعالى {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق قال تعالى {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} العنكبوت فما دام العبد حيا فرزقه على الله وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب فمن توكل على الله لطلب الرزق فقد جعل التوكل سببًا وكسبا ومن توكل عليه لثقته بضمانه فقد توكل عليه ثقة به وتصديقا بوعده.

وما أحسن قول المثني الأنباري وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد لا تكونوا بالمضمون مهتمين فتكونوا للضامن متهمين وبرزقه غير راضين.

واعلم أن ثمرة التوكل الرضاء بالقضاء فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له ويختاره فقد حقق التوكل ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما يفسرون التوكل على الله بالرضا.

قال ابن أبي الدنيا بلغني عن بعض الحكماء قال التوكل على ثلاث درجات:

أولها ترك الشكاية.

والثانية الرضا.

والثالثة المحبة بترك الشكاية ودرجة الصبر والرضا سكون القلب بما قسم الله له وهي أرفع من الأولي والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به فالأولي للزاهدين والثانية للصادقين والثالثة للمرسلين انتهى. المتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره فهو صابر وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه فهو الراضي وإن لم يكن له اختيار بالكلية ولا رضا إلا فيما يقدر له فهو درجة المحبين العارفين كما كان عمر بن عبد العزيز يقول أصبحت ومالي سرور إلا في وضع القضاء والقدر.

=======================

الحديث الخمسون

عن عبدالله بن بشر قال أتى النبي ﷺ رجل فقال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فباب نتمسك به جامع قال لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله . خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ

وخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه بمعناه وقال الترمذي حسن غريب وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي عن عبدالله بن بشر وخرجه ابن حبان في صحيحه وغيره من حديث معاذ بن جبل قال آخر ما فارقت عليه رسول الله ﷺ أن قلت له أي الأعمال خير وأقرب إلى الله قال أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ونذكر هنا فضل إدامته والإكثار منه قد أمر الله المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرًا ومدح من ذكره كذلك قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الأحزاب وقال تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجمعة وقال تعالى {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} الأحزاب وقال تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} آل عمران.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ مر على جبل يقال له جمدان فقال سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا ومن المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرًا والذاكرًات.

وخرجه الإمام أحمد ولفظه سبق المفردون قالوا ومن المفردون قال الذين يهترون في ذكر الله وخرجه الترمذي وعنده قالوا يا رسول الله وما المفردون قال المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبدالله القراظ عن معاذ بن جبل قال بينما نحن مع رسول الله ﷺ نسير بالقريب من جمدان إذ استنبه فقال يا معاذ أين السابقون فقلت قد مضوا وتخلف أناس فقال يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله خرجه جعفر الفرباني.

ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث فإنه لما سبق الركب وتخلف بعضهم نبه النبي ﷺ على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ويولعون به فإن الاستهتار بالشيء هو الولوع به والشغف حتى لا يكاد يفارق ذكره وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم فقال فيه الذين اهتروا في ذكر الله فسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام كما في الحديث المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران قال والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته قال والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه وأما على الرواية الأولي فالمراد بالمفردين المتحلون من الناس بذكر الله تعالى كذا قال ويحتمل وهو الأظهر أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي إما عن القرن أو عن المخالطة والله أعلم.

ومن هذا المعنى ولي عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة ليس السابق اليوم من سبق بعيره وإنما السابق من غفر له وبهذا الإسناد عن النبي ﷺ قال من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله.

وخرج الإمام أحمد والنسائى وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال استكثروا من الباقيات الصاحات قيل وما هن يا رسول الله قال التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري أيضًا عن النبي ﷺ قال أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عباس مرفوعًا أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم تراءون.

وخرج الإمام أحمد والترمذى من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرًا وقيل يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله قال لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة.

وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ عن النبي ﷺ أن رجلًا سأله فقال أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله قال أكثرهم لله ذكرا ثم قال أي الصائمين أعظم قال أكثرهم لله ذكرا ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كلا ورسول الله ﷺ يقول أكثرهم لله ذكرا فقال أبو بكر ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله ﷺ أجل وقد خرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ يذكر الله على كل أحيانه وقال أبو الدرداء الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك وقيل له أن رجلًا أعتق مائة نسمة فقال إن مائة نسمة من مال رجل كثير وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار وأن لا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله وقال معاذ لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلى من أن أحمل على جياد الحيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل.

وقال ابن مسعود في قوله تعالى {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال أن يطاع فلا يعصي ويذكر فلا ينسي ويشكر فلا يكفر خرجه الحاكم مرفوعًا وصححه والمشهور وقفه ولم يرفعه الحاكم وإنما رواه موقوفا على عبدالله وصححه على شرطهما وقال زيد بن أسلم قال موسى عليه السلام يا رب قد أنعمت على كثيرًا فدلني على أن أشكرك كثيرًا قال اذكرني كثيرًا فإن ذكرتني كثيرًا فقد شكرتني وإذا نسيتني فقد كفرتني وقال الحسن أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبًا وقال أحمد بن أبي الحواري حدثني أبو المخارق قال قال رسول الله ﷺ مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش فقلت من هذا أملك قيل لا قلت أنبي قيل لا قلت من هو قال هذا رجل كان لسانه رطبًا من ذكر الله وقلبه معلق بالمساجد ولم يستسب والديه قط.

وقال ابن مسعود قال موسى عليه السلام رب أي الأعمال أحب إليك قال أكثرهم لي ذكرا قال كعب من أكثرت ذكر الله برئ من النفاق ورواه مؤمل عن حماد بن سلمة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا.

وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعًا من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان ويشهد لهذا المعنى أن الله وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلًا فمن أكثر ذكر الله فقد باينهم في أوصافهم ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد وإن من ألهاه ذلك عن ذكر الله فهو من الخاسرين قال الربيع بن أنس عن بعض أصحابه علامة حب الله كثرة ذكره فإنك لن تحب شيئًا إلا أكثر ذكره قال فتح الموصلي المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين وقال ذو النون من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه وقال إبراهيم الجنيد كان يقال من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان وقلما ولع المرء بذكر الله إلا أفاد منه حب الله، وكان بعض السلف يقول في مناجاته إذا سئم البطالون من بطالتهم فلن يسأم محبك من مناجاتك وذكرك وقال أبو جعفر المحولي ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ولا يسأم من خدمته وقد ذكرنا قول عائشة كان النبي ﷺ يذكر الله على كل أحيانه والمعنى في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه وسواء كان على طهارة أو على حدث وقال مسعر كانت دواب البحر في البحر تسكن ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله، وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة فلا ينام حتى يسبح به، وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوي ما يقرأ من القرآن فلما مات وضع على سريره ليغسل فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح وقيل لعمير بن هانيء ما نري لسانك يفتر فكم تسبح كل يوم قال مائة ألف تسبيحة إلا أن تخطيء الأصابع يعني أنه يعد ذلك بأصابعه وقال عبد العزيز بن أبي رواد كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة فماتت فلما بلغت القبر اختلست من أيدي الرجال، وكان الحسن البصري كثيرًا ما يقول إذا لم يحدث ولم يكن له شغل سبحان الله العظيم فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة فقال إن صاحبكم لفقيه ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة، وكان عامة كلام ابن سيرين سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده، وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون نزل إلى البحر وقام في الماء يذكر الله مع دواب البحر نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال فكنت كلما استيقظت من الليل وجدته يذكر الله فأغتم ثم أعزي نفسي بهذه الآية {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} الجمعة المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه فلو كلف أن ينسي ذكره لما قدر ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر.

كيف ينسي المحب ذكر حبيب

اسمه في فؤاده مكتوب

كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول أحد أحد فإذا قالوا له قل واللات والعزى قال لا أحسنه.

يراد من القلب نسيانكم

وتأبي الطباع على الناقل

كلما قويت المعرفة صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه الله الله ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس وتصير لا إله إلا الله لهم كالماء البارد لأهل الدنيا كان الثوري ينشد:

لا لأني أنساك أكثر ذكراك

لكن بذاك يجري لساني

إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه وتضاعف قلقه قال النبي ﷺ لابن مسعود اقرأ على القرآن قال أقرأ عليك وعليك أنزل قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأ عليه ففاضت عيناه سمع الشبلي قائلا يقول يا الله يا جواد فاضطرب ، فتذكر قول الشاعر:

وداع دعا إذ نحن بالخيف من مني

فهيج أشواق الفؤاد وما ندري

دعا باسم ليلي غيرها فكأنما

أطار بليلي طائر كان في صدري

أليس تنزعج عند ذكر المحبوب:

إذا ذكر المحبوب عند حبيبه

ارتج نشوان وحن طروب

ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض العصفور بلله القطر

أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه قال أبو الجلد أوحي الله إلى موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وصف على يومًا الصحابة فقال كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في اليوم الشديد الريح وجرت دموعهم على ثيابهم قال زهير البابي إن لله عبادا ذكروه فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا وقوم ذكروه فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة فلو حرقوا بالنار لم يجدوا مس النار وآخرون ذكروه في الشتاء فارفضوا عرقا من خوف وقوم ذكروه فحالت ألوانهم غبرا وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا صلى أبو يزيد الظهر فلما أراد أن يكبر لم يقدر إجلالا لاسم الله وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يري جميع ذلك من عنده، وكان يقول ما أظن أن محقا يذكر الله عن غير غفلة ثم يبقي حيا إلا الأنبياء فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم.

إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت

مفاصلها من هول ما يتذكر

وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول لا إله إلا الله فما قدر إجلالا وهيبة فلما كان عند الصباح نزل فبال الدم.

وما ذكرتكم إلا نسيتكم

نسيان إجلال لا نسيان إهمال

إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا

أجللت مثلكم يخطر على بالي

الذكر لذة قلوب العارفين قال الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد.

قال مالك بن دينار ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله في بعض الكتب السالفة يقول الله معشر الصديقين بي فافرحوا وبذكري فتنعموا.

وفي أثر آخر سبق ذكره وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها وعن ابن عمر قال أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته قال ذو النون ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ولا طابت الجنة إلا برؤيته.

أبدا نفوس الطالبـ

ـين إلى طلولكم تحن

وكذا القلوب بذكركم

بعد المخافة تطمئن

حنت بحبكم ومن

يهوي الحبيب ولا يحن

بحياتكم يا سادتي

جودوا بوصلكم ومنوا

وقد سبق حديث اذكروا الله حتى يقولوا مجنون ولبعضهم.

لقد أكثرت من ذكرا

ك حتى قيل وسواس

كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر فرآه بعض الناس فأنكر حاله فقال لأصحابه أمجنون صاحبكم فسمعه أبو مسلم فقال لا يا أخي ولكن هذا دواء الجنون.

وحرمة الود مالي عنكم عوض

وليس لي في سواكم سادتي عوض

وقد شرطت على قوم صحبتهم

فإن قلبي لكم من دونهم فرض

ومن حديثي بكم قالوا به مرض

فقلت لا زال عني ذلك المرض

المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر, فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم.

قال عيسي عليه السلام يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرًا وكلموا الناس قليلًا قالوا كيف نكلم الله كثيرًا قال اخلوا بمناجاته بدعائه.

وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه، وكان يصلي ألف ركعة جالسًا فإذا صلى العصر جثا واستقبل القبلة ويقول عجبت للخليقة كيف أنست بسواك بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك، وكان بعضهم يصوم الدهر فإذا كان وقت الفطور قال أخشى بنفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل قيل لمحمد بن النضر أما تستوحش وحدك قال كيف أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني.

كتمت اسم الحبيب من العباد

ورددت الصبابة في فؤادي

فواشوقا إلى بلد خلي

لعلي باسم من أهوي أنادي

فإذا قوي حال المحب ومعرفته لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل فهو بين الخلق بجسمه وقلبه معلق بالمحل الأعلى كما قال على في وصفهم صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى وفي هذا المعنى قيل:

جسمي معي غير أن الروح عندكم

فالجسم في غربة والروح في وطن

وقال غيره:

ولقد جعلتك في الفؤادي محدثي

وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وهذه كانت حال الرسل والصديقين كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا} الأنفال.

وفي الترمذي مرفوعًا يقول الله إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه وقال تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} البقرة وقال تعالى {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} النساء

الصلاة في حال الخوف ولهذا قال فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة النساء وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجمعة فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله وكثرة ذكره ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة.

كما في المسند والترمذى وسنن ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعًا من دخل سوقا يصاح فيه ويباع فيه فقال لا إله إلا وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وفي حديث آخر ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين وذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء في وسط شجر يابس.

قال أبو عبيدة ابن عبدالله بن مسعود ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة وإن كان في السوق وإن حرك به شفته فهو أفضل، وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة والتقي رجلان منهم في السوق فقال أحدهما لصاحبه تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس فخلوا في موضع فذكرا الله ثم تفرقا ثم مات أحدهما فلقيه الآخر في منامه فقال له أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق؟

فصل في وظائف الذكر الموظفة في اليوم والليلة

معلوم أن الله فرض على المسلمين أن يذكروه كل يوم وليلة خمس مرات بإقامة الصلوات الخمس في مواقيتها الموقتة وشرع لهم مع هذه الفرائض الخمس أن يذكروه ذكرا يكون لهم نافلة والنافلة الزيادة فيكون ذلك زيادة على الصلوات الخمس وهي نوعان احداهما ما هو من جنس الصلاة فشرع لهم أن يصلوا مع الصلوات الخمس قبلها أو بعدها أو قبلها وبعدها سننا فتكون زيادة على الفريضة فإن كان في الفريضة نقص جبر نقصها بهذه النوافل وإلا كانت النوافل زيادة على الفرائض وأطوال ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر فشرع ما بين كل واحدة من هاتين الصلاتين صلاة تكون نافلة لئلا يطول وقت الغفلة عن الذكر فشرع ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر صلاة الوتر وقيام الليل وشرع ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر صلاة الضحى وبعض هذه الصلوات آكد من بعض فآكدها الوتر.

ولذلك اختلف العلماء في وجوبه ثم قيام الليل، وكان النبي ﷺ يداوم عليه حضرا وسفرا ثم صلاة الضحى وقد اختلف الناس فيها وفي استحباب المدوامة عليها وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة وورد الترغيب أيضًا.

في الصلاة عقيب زوال الشمس وأما الذكر باللسان فمشروع في جميع الأوقات ويتأكد في بعضها فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات وأن يذكر الله عقيب كل صلاة منها مائة مرة ما بين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل ويستحب أيضًا الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوع بعدهما وهما الفجر والعصر فيشرع الذكر بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس وهذان الوقتان أعني وقت الفجر ووقت العصر هما أفضل أوقات النهار للذكر ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الأحزاب، وقوله {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} الإنسان، وقوله {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} آل عمران، وقوله {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مريم، وقوله {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الروم، وقوله {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} النصر، وقوله {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} الأعراف، وقوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} طه، وقوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ق.

وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر صلاة الفجر وصلاة العصر وهما أفضل الصلوات وقد قيل في كل منهما إنها الصلاة الوسطي وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة ويليهما من أوقات الذكر الليل والنهار ولهذا يذكر بعد هذين الوقتين في القرآن تسبيح الليل وصلاته والذكر المطلق يدخل فيه الصلاة وتلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه والعلم النافع كما يدخل فيه التسبيح والتكبير والتهليل ومن أصحابنا من رجح التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر.

وسئل الأوزاعي عن ذلك فقال كان هديهم ذكر الله فإن قرأ فحسن وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل من التلاوة.

وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مائة مرة إنه أفضل من التلاوة حينئذ والأذكار والأدعية المأثورة عن النبي ﷺ في الصباح والمساء كثيرة جدًا ويستحب أيضًا إحياء ما بين العشاءين بالصلاة والذكر وقد تقدم حديث أنس أنه نزل في ذلك قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} السجدة ويستحب تأخير العشاء إلى ثلث الليل كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهو مذهب الإمام أحمد وغيره حتى يفعل هذه الصلاة في أفضل وقتها وهو آخره ويشتغل منتظر هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول من الليل بالصلاة أو بالذكر أو انتظار الصلاة في المسجد ثم إذا صلى العشاء وصلي بعدها ما يتبعها من سنتها الراتبة أو أوتر بعد ذلك إن كان يريد أن يوتر قبل النوم فإذا أوي إلى فراشه بعد ذلك للنوم فإنه يستحب له أن لا ينام إلا على طهارة.

وذكر فيسبح ويحمد ويكبر تمام مائة كما علم النبي ﷺ فاطمة وعليًا أن يفعلاه عند منامهما ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النبي ﷺ عند النوم وهي أنواع متعددة من تلاوة القرآن وذكر الله ثم ينام على ذلك فإذا استيقظ من الليل وتقلب على فراشه فليذكر الله كلما تقلب ففي صحيح البخاري عن عبادة عن النبي ﷺ قال من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال رب اغفر لي أو قال ثم دعا استجيب له فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته.

وفي الترمذي عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال من أوي إلى فراشه طاهرًا يذكر الله حتى يدركه النعاس لم تمض ساعة من الليل يسأل الله فيها شيئًا من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه.

وخرج أبو داود معناه من حديث معاذ وخرجه النسائي من حديث عمر بن عبسة والإمام أحمد من حديث عمر بن عبسة في هذا الحديث، وكان أول ما يقول إذا استيقظ سبحانك لا إله إلا أنت فاغفر لي إلا انسلخ من خطاياه كما تنسلخ الحية من جلدها وثبت أنه ﷺ كان إذا استيقظ من منامه يقول الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد أتي بذلك كله على ما ورد عن النبي ﷺ ويختم تهجده بالاستغفار في السحر.

كما مدح الله المستغفرين بالأسحار وإذا طلع الفجر صلى ركعتي الفجر ثم صلى الفجر واشتغل بعد صلاة الفجر بالذكر المأثور إلى أن تطلع الشمس على ما تقدم ذكره فمن كان حاله على ما ذكرنا لم يزل لسانه رطبًا من ذكر الله فيستحب الذكر في يقظته حتى ينام عليه ثم يبدأ به عند استيقاظه وذلك من دلائل صدق المحبة كما قال بعضهم:

وآخر شيء أنت في كل هجعة

وأول شيء أنت وقت هبوب

وأما ما يفعله الإنسان في آناء الليل وأطراف النهار من مصالح دينه وبدنه ودنياه فعامة ذلك يشرع ذكر اسم الله عليه فيشرع له ذكر اسم الله وحمده على أكله وشربه ولباسه وجماعه لأهله ودخول منزله وخروجه منه ودخوله الخلاء وخروجه منه وركوبه دابته ويسمي على ما يذبحه من نسك وغيره ويشرع له حمد الله على عطاسه وعند رؤية أهل البلاء في الدين أو الدنيا وعند التقاء الإخوان وسؤال بعضهم بعضًا عن حاله وعند تجدد ما يحبه الإنسان من النعم واندفاع ما يكرهه من النقم وأكمل من ذلك أن يحمد الله على السراء والضراء والشدة والرخاء ويحمده على كل حال ويشرع له دعاء الله عند دخول السوق وعند سماع أصوات الديكة بالليل وعند سماع الرعد وعند نزول المطر وعند اشتداد هبوب الرياح، وعنه رؤية الأهلة وعند رؤية باكورة الثمار ويشرع أيضًا ذكر الله ودعاؤه عند نزول الكرب وحدوث المصائب الدنيوية وعند الخروج للسفر وعند نزول المنازل في السفر وعند الرجوع من السفر ويشرع التعوذ بالله عند الغضب وعند رؤية ما يكره في منامه وعند سماع أصوات الكلاب والحمير بالليل ويشرع استخارة الله عند العزم على مالًا يظهر الخيرة فيه وتجب التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها كما قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} آل عمران فمن حافظ على ذلك لم يزل لسانه رطبًا بذكر الله في كل أحواله.

فصل

قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي ﷺ قد بعث بجوامع الكلم فكان ﷺ يعجبه جوامع الكلم ويختاره على غيره من الذكر كما في الصحيح في مسلم عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث أن النبي ﷺ خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن ضحي وهي جالسة فقال مازلت على الحال التي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي ﷺ لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

وخرجه النسائي ولفظه سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

وخرجه أبو داود والترمذى والنسائى من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي ﷺ على امرأة وبين يديها نوي أو قال حصى تسبح به فقال ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا وأفضل سبحان الله عدد ما خلق في السماء وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض وسبحان الله عدد ما بين ذلك وسبحان الله عدد ما هو خالق والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك.

وخرج الترمذي من حديث صفية قالت دخل على رسول الله ﷺ وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقال سبحت بهذه فقال ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به فقلت علمني فقال قولي سبحان الله عدد خلقه.

وخرج النسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة أن النبي ﷺ مر به وهو يحرك شفتيه فقال ماذا تقول يا أبا أمامة قال أذكر ربي قال ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل أن تقول سبحان الله عدد ما خلق سبحان الله ملء ما خلق سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء وسبحان الله عدد ما أحصي كتابه وسبحان الله ملء ما أحصي كتابه وسبحان الله عدد كل شيء وسبحان الله ملء كل شيء وتقول الحمد لله مثل ذلك.

وخرج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء.

وخرج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي ﷺ قال لمعاذ يا معاذ كم تذكر ربك كل يوم تذكره كل يوم عشرة آلاف قال كل ذلك أفعل قال أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف أن تقول لا إله إلا الله عدد ما أحصاه علمه لا إله إلا الله عدد كلماته لا إله إلا الله عدد خلقه لا إله إلا الله زنة عرشه لا إله إلا الله ملء سمواته لا إله إلا الله ملء أرضه لا إله إلا الله مثل ذلك معه والله أكبر مثل ذلك معه والحمد لله مثل ذلك معه.

وبإسناده أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة فقال ألا أدلك على ما هو خير لك منه سبحان الله ملء البر والبحر سبحان الله ملء السموات والأرض سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه فإذا أنت قد ملأت البر والبحر والسماء والأرض.

وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول امهلوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله عدد ما خلق وعدد ما هو خالق وزنة ما هو خالق وملء ما هو خالق وملء سمواته وملء أرضه ومثل ذلك وأضعاف ذلك وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ رضاه وحتى يرضي وإذا رضي وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضي وعدد ما هم ذاكرونه فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات وتنسم وتنفس من الأبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة أبدًا من ذلك لا ينقطع أولاه ولا ينفد أخراه.

وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته فقلت ما صنعت قال خيرًا فقلت ترجو للخاطئ شيئًا قال يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء.

قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن أبي الحسين حدثني بعض البصريين أن يونس بن عبيد رآه رجل فيما يري النائم كان قد أصيب ببلاد الروم فقال ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال قال رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان كذلك كان ﷺ يعجبه من الدعاء جوامعه ففي سنن أبي داود عن عائشة قالت كان النبي ﷺ يعجبه الجوامع من الدعاء ويدع ما بين ذلك.

وخرجه البزار وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا أن النبي ﷺ قال لها يا عائشة عليك بجوامع الدعاء اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه محمد عبدك ونبيك وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل وأسألك ما قضيت لي من قضاء أن تجعل عاقبته رشدا وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء وعند الحاكم عليك بالكوامل وذكره.

وخرجه أبو بكر الأثرم وعنده أن النبي ﷺ قال لها ما منعك أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه وذكر هذا الدعاء.

وخرجه الترمذي من حديث أبي لبابه قال دعا رسول الله ﷺ بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئًا فقلنا يا رسول الله دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئًا قال ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله تقولون اللهم إنا نسألك من خير ما أسالك منه نبيك محمد ﷺ ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد ﷺ وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وخرجه الطبراني وغيره من حديث أم سلمة أن النبي ﷺ كان يقول في دعاء له طويل اللهم إني سألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره وظاهره وباطنه.

وفي المسند أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنا له يدعو ويقول اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت بالله من شر كثير وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء وقرأ هذه الآية {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الأعراف وإن حسبك أن تقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله ﷺ السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان فقال لنا رسول الله ﷺ ذات يوم إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ثم ليتخير من المسألة ما شاء.

وفي المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن رسول الله ﷺ علم مفاتح الخير وجوامعه أو جوامع الخير وفواتحه وخواتمه وإن كنا لا ندري ما نقول في صلاتنا حتى علمنا فقال قولوا التحيات لله فذكره إلى آخره.

والله أعلم وأحكم ، وصلى الله على خير خلقه محمد ﷺ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج9 كتاب الترغيب والترهيب للمنذري{من5655 الي 5766.}

  ج9 كتاب الترغيب والترهيب من الحديث الشريف عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية...