من 10 الي 30. جامع العلوم والحكم
الحديث الحادي عشر
عن أبي محمد الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط رسول الله ﷺ وريحانته قال حفظت من رسول الله ﷺ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . رواه النسائي والترمذي وقال حسن صحيح.
هذا الحديث خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث يزيد بن أبي مريم عن أبي الجوزاء عن الحسن ابن علي وصححه الترمذي وأبو الجوزاء السعدي قال الأكثرون اسمه ربيعة بن شيبان ووثقه النسائي وابن حبان وتوقف أحمد في أن أبا الجوزاء اسمه ربيعة بن شيبان ومال إلى التفرقة بينهما.
وقال الجوزجاني أبو الجوزاء مجهول لا يعرف وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر وعند الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث وهي فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ولفظ ابن حبان فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة وقد خرجه الإمام أحمد بإسناد فيه جهالة عن أنس عن النبي ﷺ قال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على أنس.
وخرجه الطبراني من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا قال الدارقطني وإنما يروي هذا من قول ابن عمر وعن عمر ويروي عن مالك من قوله انتهي.
ويروي بإسناد ضعيف عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال لرجل دع ما يريبك إلى ما لا يريبك قال وكيف لي بالعلم بذلك قال إذا أردت أمرا فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلًا.
وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ وزاد فيه فقيل له فمن الورع قال الذي يقف عند الشبهة وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة منهم عمر وابن عمر رضي الله عنهم وأبو الدرداء وعن ابن مسعود قال ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك وقال عمر دعوا الربا والريبة يعني ما ارتبتم فيه وإن لم تتحققوا أنه ربا ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب والريب بمعنى القلق والاضطراب بل تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك.
وقال أبو عبدالرحمن العمري الزاهد إذا كان العبد ورعًا ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وقال الفضيل يزعم الناس أن الورع شديد وما ورد على أمران إلا أخذت بأشدهما فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال حسان بن أبي سنان ما شيء أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله.
قال ابن المبارك كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك فاشتراه من رجل فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفًا قال فأتى صاحب السكر فقال يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلى فلم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك فقال له الآخر قد أعلمتني الآن وقد طيبته لك قال فرجع فلم يحتمل قلبه فأتاه فقال يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه فأحب أن تسترد هذا البيع قال فما زال به حتى رده عليه.
وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق وأرسل ليشتريه يقول لمن يشتري له أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب.
وقال هشام بن حسان ترك محمد بن سيرين أربعين ألفًا فيما لا ترون به اليوم بأسًا، وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعامًا إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه فأتاه كتابه أني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصا فحبسته فزاد الطعام فازددت فيه كذا أو كذا فكتب إليه الحجاج إنك قد خنتنا وعملت بخلاف ما أمرناك به فإذا أتاك كتابي فتصدق بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام على فقراء البصرة فليتني أسلم إذا فعلت ذلك وتنزه يزيد بن زريع عن خمسائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين، وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله.
وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعامًا كثيرًا فرأى سحابًا في الخريف فكرهه فقال ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين فآلي أن لا يربح فيه شيئًا فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر جزاك الله خير وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارًا منهيًا عنه.
وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه لدخوله في ربح ما لم يضمن وقد نهى عنه النبي ﷺ فقال أحمد في رواية عنه فمن أجر ما استأجره بربحه إنه يتصدق بالربح.
وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب أنه يتصدق به وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع ثم تركها حتى بدا صلاحها إنه يتصدق بالزيادة وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب لأن الصدقة بالشبهات مستحبة.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم إذا لم يصبه فقالت إنما هي أيام قلائل فما رابك فدعه يعني ما اشتبه عليك هل هو حلال أو حرام فاتركه فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو وقد يستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل لأنه أبعد عن الشبهة ولكن المحققين من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على إطلاقه فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبي ﷺ رخصة ليس لها معارض فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها وإن لم تكن تلك الرخصة بلغت بعض العلماء فامتنع منها لذلك.
وهذا كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه صح عن النبي ﷺ أنه قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولا سيما إن كان شكه في الصلاة فإنه لا يجوز له قطعها لصحة النهي عنه وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك وإن كان للرخصة معارض إما من سنة أخرى أو من عمل الأمة بخلافها فالأولى ترك العمل بها وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس واشتهر في الأمة العمل بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة رضي الله عنهم فإن الأخذ بما عليه عمل المسلمين هو المتعين فإن هذه الأمة قد أجارها الله أن يظهر أهل باطلها على أهل حقها فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة فهو الحق وما عداه فهو باطل وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهة فإنه لا يحتمل له ذلك بل ينكر عليه كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي ﷺ يقول هما ريحانتاي من الدنيا.
وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال إن كان بر أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا ويشترط الخوصة يعني التي تربط بها حزمة البقل فقال أحمد إيش هذه المسائل قيل له إن إبراهيم بن أبي نعيم يفعل ذلك فقال أحمد إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذاك وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله.
وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع فإنه أمر من يشتري له سمنًا فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع.
وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه وإنما يخرج معه محبرته يستمد منها واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال له اكتب فهذا ورع مظلم واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسم فقال لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.
وهذا قاله على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف.
وقوله ﷺ فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة يعني أن الخير تطمئن به القلوب والشر ترتاب به ولا تطمئن إليه وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه وسيأتي مزيد لهذا الكلام على حديث النواس بن سمعان إن شاء الله تعالى.
وخرج ابن جرير بإسناده عن قتادة عن بشر بن كعب أنه قرأ هذه الآية {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} الملك ثم قال لجاريته إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله قالت مناكبها جبالها فكأنما سفع في وجهه ورغب في جاريته فسألهم فمنهم من أمره ومنهم من نهاه فسأل أبا الدرداء فقال الخير طمأنينة والشر ريبة فذر ما يريبك إلى ما لا يريك.
وقوله في الرواية الأخرى إن الصدق طمأنينة والكذب ريبة يشير إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة وإن أفتاك الناس وأفتوك وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق وعلامة الصدق أن تطمئن به القلوب وعلامة الكذب أن تحصل به الريبة فلا تسكن القلوب إليه بل تنفر منه ومن هنا كان العقلاء على عهد النبي ﷺ إذا سمعوا كلامه وما يدعو إليه عرفوا أنه جاء بالحق وإذا سمعوا كلام مسيلمة عرفوا أنه كاذب وأنه جاء بالباطل. وقد روي أن عمرو بن العاص سمعه قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه يا وبر لك أذنان وصدر وإنك لتعلم يا عمرو فقال والله إني لأعلم أنك تكذب وقال بعض المتقدمين صور ما شئت في قلبك وتفكر فيه ثم قسه إلى ضده فإنك إذا ميزت بينهما عرفت الحق من الباطل والصدق من الكذب قال كأنك تصور محمدًا ﷺ ثم تتفكر فيما أتى به من القرآن فتقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} البقرة الآية ثم تتصور ضد محمد ﷺ فتجده مسيلمة فتتفكر فيما جاء به فتقرأ ألا يا ربة المخدع قد هيئ لك المضجع يعني قوله سجاعحين تزوج بها قال فترى هذا يعني القرآن رصينًا عجيبًا يلوط بالقلب ويحسن في السمع وترى ذا يعني قول مسيلمة باردًا غثًا فاحشًا فتعلم أن محمدًا حقًا أتى بوحي وأن مسيلمة كذاب أتى بباطل.
==============
الحديث الثاني عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . رواه الترمذي وغيره هكذا.
هذا الحديث خرجه الترمذي وابن ماجه من رواية الأوزاعي عن قرة بن عبدالرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهم وقال الترمذي غريب وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله لأن رجال إسناده ثقات وقرة بن عبدالرحمن بن حيوة وثقة قوم وضعفه آخرون وقال ابن عبدالبر هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات وهذا موافق لتحسين الشيخ له رضي الله عنه وأما أكثر الأئمة فقالوا ليس هو محفوظًا بهذا الإسناد إنما هو محفوظ عن الزهري عن على بن حسين عن النبي ﷺ مرسلًا كذلك رواه الثقات عن الزهري منهم مالك في الموطأ ويونس ومعمر وإبراهيم ابن سعد إلا أنه قال من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه وممن قال إنه لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلًا الإمام أحمد ويحيي بن معين والبخاري والدارقطني.
وقد خلط الضعف في إسناده عن الزهري تخليطا فاحشا والصحيح فيه المرسل ورواه عبدالله بن عمرو العمري عن الزهري عن على بن حسين عن أبيه عن النبي ﷺ فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي وخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه والعمري ليس بالحافظ.
وخرجه أيضًا من وجه آخر عن الحسين عن النبي ﷺ وضعفه البخاري في تاريخه من هذا الوجه أيضًا وقال لا يصح إلا عن على بن حسين مرسلًا وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه أخر وكلها ضعيفة وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال جماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث قول النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.
وقوله ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقوله ﷺ الذي اختصر له في الوصية لا تغضب، وقوله ﷺ المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ومعنى هذا الحديث أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال ومعنى يعنيه أن تتعلق عنايته به ويكون من مقصده ومطلوبه والعناية شدة الاهتمام بالشيء يقال عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس بل بحكم الشرع والإسلام ولهذا جعله من حسن الإسلام فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات كما قال النبي ﷺ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده وإذا حسن اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات أو المشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه فمن عبدالله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه فقد حسن إسلامه ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه فيه فإنه يتولى من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه كما وصى ﷺ رجلًا أن يستحيى من الله كما يستحيى من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه.
وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما وعي وتحفظ البطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء قال بعضهم استحيى من الله على قدر قربه منك وخف الله على قدر قدرته عليك وقال بعض العارفين إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك وإذا سكت فاذكر نظره إليك وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق، وقوله تعالى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يونس وقال تعالى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في الآيات الأول التي هي في سورة ق.
وفي المسند من حديث الحسن عن النبي ﷺ قال إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه.
وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتى النبي ﷺ رجل فقال يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم قال له مرهم بإفشاء السلام وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم.
وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث تزود لمعاد أو حرفة لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وهو كما قال فإن كثيرًا من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه ولا يتحري وقد خفي هذا على معاذ بن جبل رضي الله عنه حتى سأل عنه ﷺ فقال أنؤاخذ بما نتكلم به فقال ثكلتك أمك يامعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم فقال لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس النساء.
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي ﷺ قال كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل.
وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري فقال سفيان وما يعجبكم من هذا أليس قد قال الله تعالى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} النساء أليس قد قال تعالى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} النبأ.
وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال توفى رجل من أصحابه يعني النبي ﷺ فقال رجل أبشر بالجنة فقال رسول الله ﷺ أو لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي ﷺ وفي بعضها أنه قتل شهيدًا.
وخرج أبو القاسم البغوي في معجمه من حديث شهاب بن مالك، وكان وفد على النبي ﷺ أنه سمع النبي ﷺ وقالت له امرأة يا رسول الله ألا تسلم علينا فقال إنك من قبيل يقللن الكثير ومنعها ما لا يغنيها وسؤالها عما لا يعنيها.
وخرجه العقيلي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه.
قال عمرو بن قيس الملائي مر رجل بلقمان والناس عنده فقال له ألست عبد بني فلان قال بلى قال الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا قال بلى فقال فما بلغ بك ما أرى قال صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني.
وقال وهب بن منبه كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء فقالا له يا عبدالله بأي شيء أدركت هذه المنزلة قال بيسير من الدنيا فطمت نفسي عن الشهوات وكففت لساني عما لا يعنيني ورغبت فيما دعاني إليه ربي ولزمت الصمت فإن أقسمت على الله أبر قسمي وإن سألته أعطاني ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه فقال ما من عمل أوثق عندي من خصلتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين.
وقال مورق العجلي أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه أبدًا قالوا وما هو قال الكف عما لا يعنيني رواهما ابن أبي الدنيا.
وروى أسد بن موسى قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ أول من يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فدخل عبدالله بن سلام فقام إليه ناس فأخبروه وقالوا له أخبرنا بأوثق عملك في نفسك قال إن عملي لضعيف وأوثق ما أرجو به سلامة الصدر وتركي ما لا يعنيني.
وروى أبو عبيدة عن الحسن قال من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل.
وقال سهل بن عبدالله التستري من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق وقال معروف كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لا بد منه والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة ويشهد لذلك ما روى عطية عن ابن عمر رضي الله عنه قال نزلت {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الأنعام في الأعراب قيل له فما للمهاجرين قال ما هو أكثر ثم تلا قوله تعالى {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء.
وخرج النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله وفي رواية أخرى.
وقيل له استأنف العمل والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها ما سبق منه قبل الإسلام وهذا يدل على أنه يثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم ويمحي عنه سيئاته إذا أسلم لكن بشرط أن يحسن إسلامه ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه.
وقد نص على ذلك الإمام أحمد رحمه الله ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال للنبي ﷺ لما أسلم أريد أن أشترط قال تشترط ماذا قلت أن يغفر لي قال أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وخرجه الإمام أحمد ولفظه أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب وهذا محمول على الإسلام الكامل الحسن جمعا بينه وبين حديث ابن مسعود الذي قبله وفي صحيح مسلم أيضًا عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله أرأيت أمورا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر فقال رسول ﷺ أسلمت على ما أسلفت من خير وفي رواية قال فقلت والله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا صنعت في الإسلام مثله وهذا يدل على أن حسنات الكافر إذا أسلم يثاب عليها كما دل عليه حديث أبي سعيد المتقدم وقد قيل إن سيئاته في الشرك تبدل حسنات ويثاب عليها أخذا من قوله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفرقان.
وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين فمنهم من قال هو في الدنيا بمعنى أن الله يبدل من أسلم وتاب إليه بدل ما كان عليه من الكفر والمعاصي الإيمان والأعمال الصالحة وحكى هذا القول إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن أكثر المفسرين وسمي منهم ابن عباس وعطاء وقتادة والسدي وعكرمة قلت وهو المشهور عن الحسن رضي الله عنه قال وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما هي في أهل الشرك خاصة ليس هي في أهل الإسلام قلت إنما يصح هذا القول على أن يكون التبديل في الآخرة كما سيأتي وأما إن قيل إنه في الدنيا فالكافر إذا أسلم والمسلم إذا تاب في ذلك فهي أحسن حالًا من الكافر إذا أسلم قال وقال آخرون التبديل في الآخرة جعلت لهم مكان كل سيئة حسنة منهم عمرو بن ميمون ومكحول وابن المسيب وعلى بن الحسين قال وأنكره أبو العالية ومجاهد وخالد سبلان وفيه مواضع إنكار ثم ذكر ما حاصله أنه يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته احسن حالًا ممن قلت سيئاته حيث يعطي مكان كل سيئة حسنة ثم قال ولو قال قائل إنما ذكر الله أن تبدل السيئات حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل فيجوز أن معنى تبدل أن من عمل سيئة واحدة وتاب منها يبدله الله مائة ألف حسنة ومن عمل ألف سيئة أن تبدل ألف حسنة فيكون حينئذ من قلت سيئاته أحسن حالًا قلت هذا القول وهو التبديل في الآخرة قد أنكره أبو العالية وتلا قوله تعالى {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} آل عمران ورده بعضهم بقوله تعالى {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة، وقوله تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} الكهف.
ولكن قد أجيب عن هذا بأن التائب يوقف على سيئاته ثم تبدل حسنات.
قال أبو عثمان النهدي إن المؤمن يؤتي كتابه في ستر من الله عز وجل فيقرأ سيئاته فإذا قرأ تغير لها لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات فعند ذلك يقول هاؤم اقرءوا كتابيه الحاقة.
ورواه بعضهم عن أبي عثمان عن ابن مسعود وقال بعضهم عن أبي عثمان عن سلمان.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال له علمت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب وقد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه فإذا بدلت السيئات بالحسنات في حق من عوقب على ذنوبه بالنار ففي حق من محيت سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولي لأن محوها بذلك أحب إلى الله من محوها بالعقاب.
وخرج الحاكم من طريق الفضل بن موسى عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قالوا بم يا رسول الله قال الذين بدل الله سيئاتهم حسنات وخرجه ابن أبي حاتم من طريق سلمان بن داود الزهري عن أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا وهو أشبه من المرفوع ويروي مثل هذا عن الحسن البصري أيضًا ويخالف قوله المشهور إن التبديل في الدنيا وأما ما ذكره الحربي في التبديل وأن من قلت سيئاته يزاد في حسناته ومن كثرت سيئاته يقل من حسناته فحديث أبي ذر صريح في رد هذا وأنه يعطى مكان كل سيئة حسنة وأما قوله يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالًا ممن قلت سيئاته فيقال إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته وجعلها نصب عينيه فكلما ذكرها ازداد خوفا ووجلا وحياء من الله ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} الفرقان وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله فإنه يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها ويصير كل ذنب من ذنوبه سببًا للأعمال الصالحة ماحية له فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات.
وقد وردت أحاديث صريحة في أن الكافر إذا أسلم وحسن إسلامه تبدلت سيئاته في الشرك حسنات فخرج الطبراني من حديث عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبي فروة شطب أنه أتى النبي ﷺ فقال أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة فقال أسلمت فقال نعم قال فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها قال وغدراتى وفجراتى قال نعم قال فما زال يكبر حتى تواري وخرجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن أبي نفيل عن النبي ﷺ.
وخرج ابن أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلا. وخرج البزار الحديث الأول وعنده عن أبي طويل أنه أتى النبي ﷺ فذكره بمعناه وكذا خرجه أبو القاسم البغوي في معجمه وذكر أن الصواب عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير مرسلًا أن رجلًا أتى النبي ﷺ طوي شطب والشطب في اللغة الممدود فصحفه بعض الرواة وظنه اسم رجل.
=======
الحديث الثالث عشر
عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله ﷺ عن النبي الله ﷺ قال لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه . رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من حديث قتادة عن أنس ولفظ مسلم حتى يحب لجاره أو لأخيه بالشك وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في الصحيحين وأن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته فإن الإيمان كثيرًا ما ينفي لانتفاء بعض أركانه وواجباته كقوله ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وقوله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه وقد اختلف العلماء في مرتكب الكبائر هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أم لا يسمى مؤمنا وإنما يقال هو مسلم فليس بمؤمن على قولين وهما روايتان عن أحمد رحمه الله فأما من ارتكب الصغائر فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية بل هو مؤمن ناقص الإيمان ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن عبدالله وهو قول ابن المبارك وإسحاق وابن عبيد وغيرهم والقول بأنه مسلم ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة وقال ابن عباس رضي الله عنهما الزاني ينزع عنه نور الإيمان وقال أبو هريرة ينزع منه الإيمان فيكون فوقه كالظلة فإن تاب عاد إليه وقال عبدالله بن رواحة وأبو الدرداء الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارة ويخلعه تارة أخرى وكذا قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره والمعنى أنه إذا أكمل خصال الإيمان لبسه فإذا نقص منها شيء نزعه وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه فإذا زال ذلك عنه فقد نقص إيمانه وقد روي أن النبي ﷺ قال لأبي هريرة أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا خرجه الترمذي وابن ماجه.
وخرج الإمام أحمد من حديث معاذ أنه سأل النبي ﷺ عن أفضل الإيمان قال أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله قال وما ذا يا رسول الله قال أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وأن تقول خيرًا أو تصمت وقد رتب النبي ﷺ دخول الجنة على هذه الخصلة ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن يزيد بن أسد القسري قال قال لي رسول الله ﷺ أتحب الجنة قلت نعم قال فأحب لأخيك ما تحب لنفسك وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه وفيه أيضًا عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله ﷺ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وإنما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه وهو ﷺ يحب هذا لكل ضعيف وإنما كان يتولى أمور الناس لأن الله قواه على ذلك وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال قال لي النبي ﷺ إني أرضى لك ما أرضى لنفسي وأكره لك ما أكره لنفسي لا تقرأ القرآن وأنت جنب ولا أنت راكع ولا ساجد، وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له فقال له رجل أترضاه لي قال لو رضيته لم أبعه وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق تفسير ذلك في موضعه وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر خرجاه في الصحيحين وهذا يدل على أن المؤمن يسوءه ما يسوء أخاه المؤمن ويحزنه ما يحزنه، وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ويريد لأخيه المؤمن ما يريد لنفسه من الخير وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغش والغل والحسد فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله وينفرد بها عنهم والإيمان يقتضي خلاف ذلك وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد فقال تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا القصص وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر عن علي رضي الله عنه قال إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} القصص.
وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية قال لا يحب أن يكون نعله أجود من نعل غيره ولا شراكه أجود من شراك غيره وقد قيل إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا بمجرد التجمل.
قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها والفساد العمل بالمعاصي وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال فخرج الإمام أحمد رحمه الله والحاكم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال أتيت النبي ﷺ وعنده مالك بن مرارة الرهاوي فأدركته وهو يقول يا رسول الله قد قسم لي من الجمال ما تري فما أحب أحدًا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي فقال لا ليس ذلك بالبغي ولكن البغي من بطر أو قال سفه الحق وغمط الناس.
وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ معناه وفي حديثه الكبر بدل البغي فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا وفسر البغي والكبر ببطر الحق وهو التكبر عليه والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ومن هنا قال بعض السلف التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به وإن كان صغيرًا فمن قبل الحق ممن جاء به سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وسواء كان يحبه أو لا يحبه فهو متواضع ومن أبي قبول الحق تعاظما عليه فهو متكبر وغمط الناس هو احتقارهم وازدراؤهم وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه اجتهد في إصلاحه قال بعض الصالحين من السلف أهل المحبة لله نظروا بنور الله وعطفوا على أهل معاصي الله مقتوا أعمالهم وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم وأشفقوا على أبدانهم من النار ولا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه وإن رأى في غيره فضيلة فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها فإن كانت تلك الفضيلة دينية كان حسنا وقد تمنى النبي ﷺ لنفسه منزلة الشهادة وقال ﷺ لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه آناء الليل وآناء النهار وقال في من ينفق ماله في طاعة الله فقال لو أن لي مالًا لفعلت فيه كما فعل هذا فهما في الأجر سواء وإن كانت دنيويه فلا خير في تمنيها كما قال تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} القصص وأما قوله عز وجل {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} النساء.
فقد فسر ذلك بالحسد وهو تمني الرجل نفس ما أعطي أخوه من أهل ومال وأن ينتقل ذلك إليه وفسر بتمني ما هو ممتنع شرعًا أو قدرًا كتمني النساء أن يكن رجالًا أو يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد والدنيوية كالميراث والعقل والشهادة ونحو ذلك. وقيل إن الآية تشمل ذلك كله ومع هذا كله فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من هو فوقه وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته كما قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المطففين ولا يكره أن أحدًا يشاركه في ذلك بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ويحثهم على ذلك وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان كما قال الفضيل إن كنت تحب أن يكون للناس مثلك فما أديت النصيحة لربك كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك يشير إلى أن النصيحة لهم أن يحب أن يكونوا فوقه وهذه منزلة عالية ودرجة رفيعة في النصح وليس ذلك بواجب وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله ومع هذا فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية اجتهد على إلحاقة وحزن على تقصير نفسه وتخلفه عن لحاق السابقين لا حسدا لهم على ما آتاهم الله بل منافسة لهم وغبطة وحزنا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرا عن الدرجات العالية فيستفيد بذلك أمرين نفيسين الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها والنظر إلى نفسه بعين النقص وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه بل يجتهد في صلاحها وقد قال محمد بن واسع لابنه أما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله فمن كان لا يرضى عن نفسه فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو عليه وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل فأخبر به لمصلحة دينية، وكان إخباره على سبيل التحدث بالنعم ويرى نفسه مقصرا في الشكر كان جائزا فقد قال ابن مسعود ما أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وقال الشافعي وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلى منه شيء، وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أمره وأعماله أخرج إلى ماء أو تمرات أفطر عليها ليكون لك أجر مثل أجري.
==================
الحديث الرابع عشر
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة . رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث خرجاه في الصحيحين من رواية الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود وفي رواية لمسلم التارك للإسلام بدل قوله التارك لدينه وفي هذا المعنى أحاديث متعددة فخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ مثل حديث ابن مسعود.
وخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس وفي رواية للنسائي رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل وقد روي هذا المعنى عن النبي ﷺ من رواية ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهم وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم وفيه تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين فأما زنا الثيب فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت وقد رجم النبي ﷺ ماعزا والغامدية، وكان في القرآن الذي نسخ لفظه والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} المائدة قال فمن كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ثم تلا هذه الآية وقال كان الرجم مما أخفوا أخرجه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ويستنبط أيضًا من قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} إلى قوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ} المائدة وقال الزهري بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي ﷺ وقال إني أحكم بما في التوارة وأمر بهما فرجما.
وخرج مسلم في صحيحه من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين وقال في حديثه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} المائدة وأنزل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة في الكفار كلها وخرجه الإمام أحمد وعنده فأنزل الله {لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} المائدة إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقولون ائتوا محمدًا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} المائدة قال في اليهود وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين وفي حديثه قال فأنزل الله {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} المائدة، وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء الزواني إلى أن {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم جعل الله لهن سبيلًا ففي صحيح مسلم عن عبادة عن النبي ﷺ قال خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالكبر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء وأوجبوا جلد الثيب مائة ثم رجمه كما فعل على بشراحة الهمدانية وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله ﷺ ويشير إلى أن كتاب الله فيه جلد الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع استنباطه من القرآن أيضًا وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله وإسحاق وهو قول الحسن وطائفة من السلف وقالت طائفة منهم إن كان الثيبان شيخين جلدا ورجما وإن كانا شابين رجما بغير جلد لأن ذنب الشيخ أقبح لا سيما بالزنا وهذا قول أبي بن كعب.
وروي عنه مرفوعًا ولا يصح رفعه وهو رواية عن أحمد وإسحق أيضًا وأما النفس بالنفس فمعناه أن المكلف إذا قتل نفسا بغير حق عمدا يقتل بها وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} المائدة وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} البقرة ويستثنى من عموم قوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْس} صور منها أن يقتل الوالد ولده فالجمهور على أنه لا يقتل به وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه وروي عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وقد تكلم في أسانيدها وقال مالك إن تعمد قتله تعمدا لا يشك فيه مثل أن يذبحه فإنه يقتل به وإن حذفه بسيف أو عصا لم يقتل وقال الليث يقتل بقتله بجميع وجوه العمد للعمومات ومنها أن يقتل الحر عبدًا فالأكثرون على أنه لا يقتل به وقد وردت في ذلك أحاديث في أسانيدها مقال وقيل يقتل بعبد غيره دون عبده وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقيل يقتل بعبده وعبد غيره وهي رواية عن الثوري وقول طائفة من أهل الحديث لحديث سمرة عن النبي ﷺ من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه وقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره وقد أجمعوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراف وهذا يدل على أن هذا الحديث مطرح لا يعمل به وهذا مما يستدل به على أن المراد بقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْس} المائدة الأحرار لأنه ذكر بعده القصاص في الأطراف وهو يختص بالأحرار ومنها أن يقتل المسلم كافرًا فإن كان حربيا لم يقتل به بغير خلاف لأن قتل الحربي مباح بلا ريب وإن كان ذميا أو معاهدا فالجمهور على أنه لا يقتل به أيضًا وفي صحيح البخاري عن على عن النبي ﷺ قال لا يقتل مسلم بكافر وقال أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الكوفيين يقتل به وقد روى ربيعة عن أبي البيلماني عن النبي ﷺ أنه قتل رجلًا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال أنا أحق من وفي بذمته وهذا مرسل ضعيف قد ضعفه الإمام أحمد وأبو عبيد وإبراهيم الحربي والجوزجاني وابن المنذر والدارقطني وقال ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا الحديث فكيف بما يرسل وقال الجوزجاني إنما أخذه ربيعة عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ابن المنذر عن ابن البيلماني وابن أبي يحيى متروك الحديث وفي مراسيل أبو داود حديث آخر مرسل أن النبي ﷺ قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر غيلة وقال أنا أولى وأحق من وفي بذمته وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة فيقتل فيه والمسلم بالكافر وعلى هذا حملوا حديث ابن البيلماني أيضًا على تقدير صحته ومنها أن يقتل الرجل امرأة فيقتل بها بغير خلاف وفي كتاب عمرو ابن حزم عن النبي قال إن الرجل يقتل بامرأة وصح أنه ﷺ قتل يهوديا قتل جارية وأكثر العلماء على أنه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيء وروي عن على أنه يدفع إليهم نصف الدية لأن دية المرأة نصف دية الرجل وهو قول طائفة من السلف وأحمد في رواية عنه وأما التارك لدينه المفارق للجماعة فالمراد به من ترك الإسلام وارتد عنه وفارق جماعة المسلمين كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان وإنما استثناه مع من يحل دمه من أهل الشهادتين باعتبار ما كان عليه قبل الردة وحكم الإسلام لازم له بعدها ولهذا يستتاب ويطلب منه العود إلى الإسلام وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الردة من العبادات اختلاف مشهور بين العلماء وأيضا فقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقر بالشهادتين ويدعي الإسلام كما إذا جحد شيئًا من أركان الإسلام أو سب الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال من بدل دينه فاقتلوه ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء ومنهم من قال لا تقتل المرأة إذا ارتدت كما لا تقتل نساء أهل الحرب في الحرب وإنما تقتل رجالهم وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وجعلوا الكفر الطاريء كالأصل والجمهور فرقوا بينهما وجعلوا الطاريء أغلظ لما سبقه من الإسلام ولهذا يقتل بالردة عنه من لا يقتل من أهل الحرب كالشيخ الفاني والزمن والأعمى ولا يقتلون في الحرب، وقوله ﷺ التارك لدينه المفارق للجماعة يدل على أنه لو تاب ورجع إلى الإسلام لا يقتل لأنه ليس بتارك لدينه بعد رجوعه ولا مفارق للجماعة فإن قيل بل استثنى هذا ممن يعصم دمه من أهل الشهادتين يدل على أنه يقتل ولو كان مقرا بالشهادتين كما يقتل الزاني المحصن وقاتل النفس وهذا يدل على أن المرتد لا تقبل توبته كما حكي عن الحسن أو أن يحمل ذلك على من ارتد ممن ولد على الإسلام فإنه لا تقبل توبته وإنما تقبل توبة من كان كافرًا ثم أسلم ثم ارتد على قول طائفة من العلماء ومنهم الليث بن سعد وأحمد في رواية عنه وإسحق قيل إنما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبل مفارقة دينه كما سبق تقريره وليس هذا كالثيب الزاني وقاتل النفس لأن قتلهما يوجب عقوبة لجريمتهما الماضية ولا يمكن تلافي ذلك وأما المرتد فإنما قتل لوصف قائم به في الحال وهو ترك دينه ومفارقة الجماعة فإذا عاد إلى دينه وإلى موافقته للجماعة فالوصف الذي أبيح به دمه قد انتفى فتزول إباحة دمه والله أعلم.
فإن قيل فقد خرج النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدًا فيقتل ورجل خرج من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض وهذا يدل على أن المراد من جمع بين الردة والمحاربة.
قيل قد خرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر وهو أن رسول الله ﷺ قال لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نفسا فيقتل بها وهذا يدل على أن من وجد منه الحرب من المسلمين خير الإمام فيه مطلقا كما يقوله علماء أهل المدينة كمالك وغيره والرواية الأولى قد تحمل على أن المراد بخروجه عن الإسلام خروجه عن أحكام الإسلام وقد تحمل على ظاهرها وقد يستدل بذلك من يقول إن آية المحاربة تختص بالمرتدين فمن ارتد وحارب فعل به ما في الآية ومن حارب من غير ردة أقيمت عليه أحكام المسلمين من القصاص والقطع في السرقة وهذا رواية عن أحمد رحمه الله لكنها غير مشهورة عنه وكذا قالت طائفة من السلف إن آية المحاربة تختص بالمرتدين منهم أبو قلابة وغيره وبكل حال فحديث عائشة رضي الله عنها ألفاظه مختلفة وقد روى عنها مرفوعًا وروي عنها موقوفا، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لفظه لا اختلاف فيه وهو ثابت متفق على صحته ولكن يقال على هذا إنه قد ورد قتل المسلم بغير إحدى الثلاث الخصال فمنها في اللواط وقد جاء من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال اقتلوا الفاعل والمفعول به وأخذ به كثير من العلماء كمالك وأحمد وقالوا إنه موجب للقتل بكل حال محصنا كان أو غير محصن وقد روي عن عثمان أنه قال لا يحل دم امريء مسلم إلا بأربع فذكر الثلاثة المتقدمة وزاد ورجل عمل عمل قوم لوط ومنها من أتى ذات محرم وقد روي الأمر بقتله وروي أن النبي ﷺ قتل من تزوج بامرأة أبيه وأخذ بذلك طائفة من العلماء وأوجبوا قتله محصنا كان أو غير محصن ومنها الساحر وفي الترمذي من حديث جندب مرفوعًا حد الساحر ضربة بالسيف وذكر أن الصحيح وقفه على جندب وهو مذهب جماعة من العلماء منهم عمر بن عبدالعزيز ومالك وأحمد وإسحق ولكن هؤلاء يقولون إنه يكفر بسحره فيكون حكمه حكم المرتد ومنها قتل من وقع على بهيمة ومنها من ترك الصلاة فإنه يقتل عند كثير من العلماء مع قولهم إنه ليس بكافر وقد سبق ذكر ذلك مستوفي ومنها قتل شارب الخمر في المرة الرابعة وقد ورد الأمر به عن النبي ﷺ من وجوه متعددة وأخذ بذلك عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وغيره وأكثر العلماء على أن القتل نسخ وروي أن النبي ﷺ أتى بالشارب في المرة الرابعة فلم يقتله وفي صحيح البخاري أن رجلًا كان يؤتى به للنبي ﷺ في الخمر فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي ﷺ لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ولم يقتله بذلك وقد روي قتل السارق في المرة الخامسة وقيل إن بعض الفقهاء ذهب إليه ومنها ما روي عنه ﷺ أنه قال إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما خرجه مسلم من حديث أبي سعيد وقد ضعف العقيلي أحاديث هذا الباب كلها ومنها قوله ﷺ من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد فأراد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه وفي رواية فاضربوا رأسه بالسيف كائنا من كان وقد خرجه مسلم أيضًا من رواية عرفجة ومنها من شهر السلاح فخرج النسائي من حديث ابن الزبير رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من شهر السلاح ثم وضعه فدمه هدر وقد روي عن ابن الزبير مرفوعًا وموقوفا وقال البخاري إنما هو موقوف وسئل أحمد رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقال ما أدري ما هذا وقال إسحق بن راهويه إنما يريد من شهر سلاحه ثم وضعه في الناس حتى استعرض الناس فقد حل قتله وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنساء والذرية.
وقد روي عن عائشة ما يخالف تفسير إسحق فخرج الحاكم من رواية علقمة بن أبي علقمة عن أمه أن غلامًا شهر السيف على مولاه في إمرة سعيد بن العاص وتفلت به عليه فأمسكه الناس عنه فدخل المولى على عائشة فقالت سمعت رسول الله ﷺ يقول من أشار بحديدة إلى أحد من المسلمين يريد قتله فقد وجب دمه فأخذه مولاه فقتله وقال صحيح على شرط الشيخين وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال من قتل دون ماله فهو شهيد وفي رواية من قتل دون دمه فهو شهيد فإذا أريد مال المرء أو دمه دفع عنه بالأسهل هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله وهل يجب أن ينوي أنه لا يريد قتلة أم لا فيه روايتان عند الإمام أحمد وذهب طائفة إلى أن من أراد ماله أو دمه أبيح له قتله ابتداء ودخل على ابن عمر لص فقام إليه بالسيف صلتا فلولا أنهم حالوا بينه وبينه لقتله وسئل الحسن عن لص دخل بيت رجل ومعه حديدة قال اقتله بأي قتلة قدرت عليه وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولى هاربا من غير جناية منهم أبو أيوب السختياني.
وخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال الدار حرمك فمن دخل عليك حرمك فاقتله ولكن في إسناده ضعف ومنها قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين وقد توقف فيه أحمد وأباح قتله طائفة من أصحاب مالك وابن عقيل من أصحابنا ومن المالكية من قال إن تكرر ذلك منه أبيح قتله واستدل من أباح قتله بقول النبي ﷺ في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي ﷺ إليهم ويأمرهم فاستأذن عمر في قتله فقال إنه شهد بدرا فلم يقل إنه لم يأت بما يبيح دمه وإنما علل بوجود مانع من قتله وهو شهوده بدرا ومغفرة الله لأهل بدر وهذا المانع منتف في حق من بعده ومنها ما خرجه أبو داود في المراسيل من رواية ابن المسيب أن النبي ﷺ قال من ضرب أباه فاقتلوه وروي مسندا من وجه آخر لا يصح والله أعلم. واعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح ولا يعرف به قائل معتبر كحديث من ضرب أباه فاقتلوه، وحديث قتل السارق في المرة الخامسة وباقي النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود وذلك أن حديث ابن مسعود يتضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال إما أن يترك ويفارق جماعة المسلمين وأما أن يزني وهو محصن وإما أن يقتل نفسا بغير حق فيؤخذ منه أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاثة أنواع ترك الدين وإراقة الدم المحرم وانتهاك الفرج المحرم فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها فأما انتهاك الفرج المحرم فقد ذكر في حديث أنه الزنا بعد الإحصان وهذا والله أعلم على وجه المثال فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل هذه الشهوة بالنكاح فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه أبيح دمه وقد ينفي شرط الإحصان فيخلفه شرط آخر وهو كون الفرج لا يستباح بحال إما مطلقا كاللواط أو في حق الواطيء كمن وطيء ذات محرم بعقد أو غيره فهذا الوصف هل يكون قائمًا مقام الإحصان وخلفا عنه هذا هو محل النزاع بين العلماء والأحاديث دالة على أنه يكون خلفا عنه ويكتفي به في إباحة الدماء وأما سفك الدم الحرام فهل يقوم مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك الدماء كتفريق جماعة المسلمين وشق العصا والمبايعة لإمام ثان ودل الكفار على عورات المسلمين هذا هو محل النزاع وقد روي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا، وكذلك شهر السلاح لطلب القتل هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا فابن الزبير وعائشة رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك، وكذلك قطع الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة وقال الله عز وجل {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين أحدهما بالنفس والثاني بالفساد في الأرض ويدخل في الفساد في الأرض الحرب والردة والزنا فإن ذلك كله فساد في الأرض، وكذلك يكون شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء المحرمة وقد أجمع الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه على حده ثمانين وجعلوا السكر مظنة الافتراء والقذف الموجب لجلد الثمانين ولما قدم وفد عبدالقيس على النبي ﷺ ونهاهم عن الأشربة والانتباذ في الظروف قال إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه يعني إذا شرب فيضربه بالسيف، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك فكان يخبؤها حياء من النبي ﷺ فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم بالقتل إقامة لمظان القتل مقام حقيقته لكن هل نسخ ذلك أم حكمه باق وهذا هو محل النزاع وأما ترك الدين ومفارقة الجماعة فمعناه الارتداد عن دين الإسلام ولو أتى بالشهادتين فلو سب الله ورسوله ﷺ وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه لأنه قد ترك بذلك دينه، وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات أو جحد ما يعلم من الدين بالضرورة كالصلاة وما أشبه ذلك مما يخرج من الدين وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام الخمس وهذا ينبني على أنه هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا فمن رآه خروجا عن الدين كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما ومن لم يره خروجا عن الدين فاختلفوا هل يلحق بتارك الدين في القتل لكونه ترك أحد مباني الإسلام أم لا لكونه لم يخرج عن الدين ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين وهو ذريعة ووسيلة إليه فإن استخفى بذلك ولم يدع غيره كان حكمه حكم المنافقين إذا استخفوا وإذا دعا إلى ذلك تغلظ جرمه بإفساد دين الأمة وقد صح عن النبي ﷺ الأمر بقتال الخوارج وقتلهم وقد اختلف العلماء في حكمهم فمنهم من قال هم كفار فيكون قتلهم لكفرهم ومنهم من قال إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا وأجازوا الأبتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم ومنهم من قال إن دعوا إلى ما هم عليه قوتلوا وإن أظهروه ولم يدعوا إليه لم يقاتلوا وهو نص عن أحمد رحمه الله وإسحق وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتالنا وإنما يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه كما روي عن علي رضي الله عنه وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا وقد روي من وجوه متعددة أن النبي ﷺ أمر بقتل رجل كان يصلي وقال لو قتل لكان أول فتنة وآخرها وفي رواية لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره فاستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين ويحسم مادة الفتن وقد حكى ابن عبدالبر وغيره عن مذهب مالك جواز قتل الداعي إلى البدعة فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه بهذا التقدير ولله الحمد وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا إنها منسوخة بحديث ابن مسعود وفي هذا نظر من وجهين أحدهما أنه لا يعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخرا عن تلك النصوص كلها لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين وكثير من تلك النصوص يرويها من تأخر إسلامه كأبي هريرة وجرير بن عبدالله ومعاوية فإن هؤلاء كلهم رووا حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة والثاني أن الخاص لا ينسخ بالعام ولو كان العام متأخرا عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء لأن دلالة الخاص على معناه بالنص ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين فلا يبطل الظاهر حكم النص وقد روي أن النبي ﷺ أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته وقال لحي من العرب إن رسول الله ﷺ أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة وفي بعضها أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه وأنه لما قال لهم هذه المقالة صدقوه ونزل على تلك المرأة وحينئذ فهذا الرجل قد زني ونسب إباحة ذلك إلى النبي ﷺ وهذا كفر وردة عن الدين وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ أمر عليا بقتل القبطي الذي كان يدخل على أم ولده مارية، وكان الناس يتحدثون بذلك فلما وجده على مجبوبا تركه وقد حمله بعضهم على أن القبطي لم يكن أسلم بعد وأن المعاهد إذا فعل ما يؤذي المسلمين أنقض عهده فكيف إذا آذى النبي ﷺ وقال بعضهم بل كان مسلمًا ولكنه نهى عن ذلك فلم ينته حتى تكلم الناس بسببه في فراش النبي ﷺ وأذى النبي ﷺ في فراشه مبيح للدم لكن لما ظهرت براءته بالعيان تبين للناس براءة مارية فزال السبب المبيح للقتل وقد روي عن الإمام أحمد أن النبي ﷺ كان له أن يقتل بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود وغيره ليس له ذلك كأنه يشير إلى أنه ﷺ كان له أن يعزر بالقتل إذا رأى ذلك مصلحة لأنه ﷺ معصوم من التعدي والحيف وأما غيره فليس له ذلك لأنه غير مأمون عليه من التعدي بالهوى قال أبو داود سمعت أحمد سئل عن حديث أبي بكر ما كانت لأحد بعد النبي ﷺ قال لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلا بإحدى ثلاث والنبي ﷺ كان له أن يقتل، وحديث أبي بكر المشار إليه هو أن رجلًا كلم أبا بكر فأغلظ له فقال له أبو برزة ألا أقتله يا خليفة رسول الله فقال أبو بكر ما كانت لأحد بعد النبي ﷺ وعلى هذا يتخرج حديث الأمر بقتل هذا القبطي ويتخرج عليه أيضًا حديث الأمر بقتل السارق إن كان صحيحا فإن فيه أن النبي ﷺ أمر بقتله في أول مرة فراجعوه فيه فقطعه ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله فيراجع فيه فيقطع حتى قطعت أطرافه الأربع ثم قتل في الخامسة والله أعلم.
==============
الحديث الخامس عشر
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه . رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة وفي بعض ألفاظها فلا يؤذي جاره وفي بعض ألفاظها فليحسن قرى ضيفه وفي بعضها فليصل رحمه بدل ذكر الجار وخرجاه أيضًا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي عن النبي ﷺ وقد روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من حديث عائشة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فقوله ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا وكذا يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان وقد فسر النبي ﷺ الإيمان بالصبر والسماحة قال الحسن المراد بالصبر عن المعاصي والسماحة بالطاعة وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله كأداء الواجبات وترك المحرمات ومن ذلك قول الخير والصمت عن غيره وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف وإكرام الجار والكف عن أذاه فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن أحدهما قول الخير والصمت عما سواه وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي قال قلت يا رسول الله أوصني قال هل تملك لسانك قلت ما أملك إذا لم أملك لساني قال فهل تملك يدك قلت فما أملك إذا لم أملك يدي قال فلا تقل بلسانك إلا معروفا ولا تبسط يدك إلا إلى خير وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان كما في المسند عن أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه.
وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي ﷺ قال لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه.
وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال إنك لن تزال سعالمًا ما سكت فإذا تكلمت كتب لك أو عليك.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال من صمت نجا.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفا في النار وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوي بها في جهنم.
وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم عن أمه قالت سمعت النبي ﷺ يقول إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة فيتباعد بها أبعد من صنعاء.
وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارس قال سمعت النبي ﷺ يقول إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة عن النبي ﷺ قال كلام ابن آدم عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله ﷺ فليقل خيرًا أو ليصمت أمر بقول الخير وبالصمت عما عداه وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يساوي قوله والصمت عنه إما أن يكون خيرًا فيكون مأمورًا بقوله وإما أن يكون غير خير فيكون مأمورًا بالصمت عنه، وحديث معاذ وأم حبيبه يدلان على هذا.
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه إن النبي ﷺ قال له يا معاذ ثكلتك أمك وهول تقول شيئًا إلا وهو لك أو عليك وقد قال الله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق.
وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات.
وقد روي ذلك مرفوعًا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ إذا كان أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه وروي من حديث حذيفة مرفوعًا إن عن يمينه كاتب الحسنات واختلفوا هل يكتب كل ما يتكلم به أم لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب على قولين مشهورين وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت وشربت ذهبت وجئت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره فذلك قوله تعالى {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد.
وعن يحيى بن أبي كثير قال ركب رجل الحمار فعثر به فقال تعس الحمار فقال صاحب اليمين ما هي حسنة أكتبها وقال صاحب الشمال ما هي من السيئات فأكتبها فأوحى الله إلى صاحب الشمال ما ترك صاحب اليمين من شيء فاكتبه فأثبت في السيئات تعس الحمار وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة وإن كان لا يعاقب عليها فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلًا فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه وهو نوع عقوبة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة وخرجه الترمذي ولفظه ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم ﷺ إلا كان عليهم ترة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم وفي رواية لأبي داود والنسائي من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه إلا كان عليه من الله ترة ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة زاد النسائي ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه كان عليه من الله ترة.
وخرج أيضًا من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ قال ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة وقال مجاهد ما جلس قوم مجلسًا فتفرقوا قبل أن يذكروا الله إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم وما جلس قوم مجلسًا فذكروا الله قبل أن يتفرقوا إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم ذكرهم وقال بعض السلف يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات وخرجه الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير إلا حسر عندها يوم القيامة فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة ممالًا بد منه وقد روي عن ابن مسعود قال إياكم وفضول الكلام حسب امريء ما بلغ حاجته وعن النخعي قال يهلك الناس في فضول المال والكلام وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي وقال عمر رضي الله عنه من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعًا بإسناد ضعيف وقال محمد بن عجلان إنما الكلام أربعة أن تذكر الله وتقرأ القرآن وتسئل عن علم فتخبر به أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك وقال رجل لسلمان أوصني قال لا تتكلم قال ما يستطيع من عاش في الناس أن لا يتكلم قال فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول هذا أوردني الموارد وقال ابن مسعود والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه أجمعت الحكماء على أن رأس الحكمة الصمت وقال شميط بن عجلان يا بن آدم إنك ما سكت فأنت سالم فإذا تكلمت فخذ حذرك إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه والمقصود أن النبي ﷺ أمر بالكلام بالخير والسكوت عما ليس بخير.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلًا قال يا رسول الله علمني عملًا يدخلني الجنة فذكر الحديث وفيه قال فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق ولا السكوت كذلك بل لا بد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر، وكان السلف كثيرًا يمدحون الصمت عن الشر وعما لا يعني لشدته على النفس وذلك يقع الناس فيه كثيرًا فكانوا يعالجون أنفسهم ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم قال الفضيل بن عياض ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في هم شديد وقال سجن اللسان سجن المؤمن ولو أصبحت يهمك لسانك أصبحت في غم شديد وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب فقال معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة فإن الصمت عن معصية الله من ذهب وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات وقد سبق القول في هذا مستوفي وتذاكروا عند الأحنف بن قيس أيما أفضل الصمت أو النطق فقال قوم الصمت أفضل فقال الأحنف النطق أفضل لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه والنطق الحسن ينتفع به من سمعه وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبدالعزيز رحمه الله الصامت على علم كالمتكلم على علم فقال عمر إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالًا وذلك أن منفعته للناس وهذا صمته لنفسه فقال له يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدًا ولقد خطب عمر بن عبدالعزيز يومًا فرق الناس وبكوا فقطع خطبته فقيل له لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به فقال عمر إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وسمعته يتكلم في هذه المسئلة وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت وأظنه أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبدالملك وأن عمر قال ذلك له وهذا روي عن سليمان ابن عبدالملك أنه قال الصمت منام العقل والنطق يقظته ولا يتم حال إلا بحال يعني لا بد من الصمت والكلام وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته، وكان أحد الحكماء إذا كان المرء يحدث في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتا فأعجبه السكوت فليحدث وهذا حسن فإن من كان كذلك كان سكوته وحديثه بمخالفة هواه وإعجابه بنفسه ومن كان كذلك كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل.
وفي مراسيل الحسن رحمه الله عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل قال علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي متعلقا فإذا كان كذلك لم ينسني على حال وإذ كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني فإذا نسيني حركت قلبه فإن تكلم تكلم لي وإن سكت سكت لي فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي خرجه إبراهيم بن الجنيد وبكل حال فالتزام الصمت مطلقا واعتقاده قربة إما مطلقا أو في بعض العبادات كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن صيام الصمت.
وخرج الإسماعيلي من حديث علي رضي الله عنه نهانا رسول الله ﷺ عن الصمت في العكوف.
وخرج الإسماعيلي من حديث على أيضًا قال نهانا رسول الله ﷺ عن الصمت في الصلاة وفي سنن أبي داود من حديث على عن النبي ﷺ قال لا صمات يوم إلى الليل وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن على بن الحسين زين العابدين أنه قال صوم الصمت حرام والثاني مما أمر به النبي ﷺ في هذا الحديث المؤمنين إكرام الجار وفي بعض الروايات النهي عن أذى الجار فأما أذى الجار فمحرم لأن الأذى بغير حق محرم لكل أحد ولكن في حق الجار هو أشد تحريما.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قيل ثم أي قال أن تزاني حليلة جارك.
وفي مسند الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال قال رسول الله ﷺ ما تقولون في الزنا قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال رسول الله ﷺ لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره قال فما تقولون في السرقة قالوا حرام حرمها الله ورسوله فهي حرام قال لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره وفي صحيح البخاري عن أبي شريح عن النبي ﷺ قال والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله قال من لا بأمن جاره بوائقه وخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه.
وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة أيضًا قال قيل يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة قال لا خير فيها هي في النار وقيل له إن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بالأثوار وليس لها شيء غيره ولا تؤذي أحدًا قال هي في الجنة ولفظ الإمام أحمد ولا تؤذي بلسانها جيرانها.
وخرج الحاكم من حديث أبي جحيفة قال جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو جاره فقال له اطرح متاعك في الطريق قال فجعل الناس يمرون به فيلعنونه فجاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله ما لقيت من الناس قال وما لقيت قال يلعنوني قال فقد لعنك الله قبل الناس قال يا رسول الله فإني لا أعود وخرجه أبو داود بمعناه من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه فقد لعنك الله قبل الناس.
وخرج الخرائطي من حديث أم سلمة قالت دخلت شاة لجارة لنا فأخذت قرصة لنا فقمت إليها فأخذتها من بين لحييها فقال رسول الله ﷺ إنه لا قليل من أذى الجار فأما إكرام الجار والإحسان إليه فمأمور به وقد قال الله تعالى {وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} النساء فجمع الله تعالى في هذه الآية بين ذكر حقه على العبد وحقوق العباد على العباد أيضًا وجعل العباد الذين أمر بالإحسان إليهم خمسة أنواع أحدها من بينه وبين الإنسان قرابة وخص منهم الوالدين بالذكر لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يشركونهما فيه فإنهما كانا السبب في وجود الولد ولهما حق التربية والتأديب وغير ذلك الثاني من هو ضعيف محتاج إلى الإحسان وهو نوعان من هو محتاج لضعف بدنه وهو اليتيم ومن هو محتاج لقلة ماله وهو المسكين والثالث من له حق القرب والمخالطة وجعلهم ثلاثة أنواع جار ذو قربى وجار جنب وصاحب بالجنب وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك فمنهم من قال الجار ذو القربى الجار الذي له قرابة والجار الجنب الأجنبي ومنهم من أدخل المرأة في الجار ذي القربى ومنهم من أدخلها في الجار الجنب ومنهم من أدخل الرفيق في السفر في الجار الجنب وقد روي عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه أعوذ بك من جار السوء في دار الإقامة فإن جار البادية يتحول ومنهم من قال الجار ذو القربى الجار المسلم والجار الجنب الكافر.
وفي مسند البزار من حديث جابر مرفوعًا الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له له حق الجوار وأما الذي لم حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم فله حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم وقد روي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال وقيل الجار ذو القربى هو القريب الملاصق والجار الجنب البعيد الجوار وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلي أيهما أهدي قال إلى أقربهما بابًا وقال طائفة من السلف حد الجوار أربعون دارا وقيل مستدار أربعين دارا من كل جانب وفي مراسيل الزهري أن رجلًا أتى النبي ﷺ يشكو جارا له فأمر النبي ﷺ بعض أصحابه أن ينادي ألا إن أربعين دارا جار وقال الزهري وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا يعني ما بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وسئل الإمام أحمد عمن يطبخ قدرا وهو في دار السبيل ومعه في الدار نحو ثلاثين أو أربعين نفسا يعني أنهم سكان معه في الدار قال يبدأ بنفسه وبمن يعول فإن فضل أعطي الأقرب إليه وكيف يمكنه أن يعطيهم كلهم قيل له لعل الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر ليس له عنده موقع فرأى أنه لا يبعث إليه وأما الصاحب بالجنب ففسره طائفة بالزوجة وفسره طائفة منهم ابن عباس بالرفيق في السفر ولم يريدوا إخراج الصاحب الملازم في الحضر وإنما أرادوا أن صحبة السفر تكفي فالصحبة الدائمة في الحضر أولى ولهذا قال سعيد بن جبير هو الرفيق الصالح وقال زيد بن أسلم هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر وقال ابن زيد هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه.
وفي المسند والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره الرابع من هو وارد على الإنسان غير مقيم عنده وهو ابن السبيل يعني المسافر إذا ورد إلى بلد آخر وفسره بعضهم بالضيف يعني به ابن السبيل إذا نزل ضيفا على أحد والخامس ملك اليمين وقد وصى النبي ﷺ بهم كثيرًا وأمر بالإحسان إليهم وروي أن آخر ما وصى به عند موته الصلاة وما ملكت أيمانكم وأدخل بعض السلف في هذه الآية ما يملكه الإنسان من الحيوانات والبهائم ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة في إكرام الجار.
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه فمن أنواع الإحسان إلى الجار مواساته عند حاجته.
وفي المسند عن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يشبع المؤمن دون جاره.
وخرج الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال ما آمن من بات شبعان وجاره طاويا.
وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ أول خصمين يوم القيامة جاران وفي كتاب الأدب للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما يا رب هذا أغلق بابه دوني يمنع معروفه.
وخرج الخرائطي وغيره بإسناد ضعيف من حديث عطاء الخراساني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن وليس مؤمنا من لا يأمن جاره بوائقه أتدري ما حق الجار إذا استعانك أعنته وإذا استقرضك أقرضته وإذا افتقر عدت عليه وإذا مرض عدته وإذا أصابه خير هنيته وإذا أصابته مصيبة عزيته وإذا مات اتبعت جنازته ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذيه بقتار قدرك إلا أن تغرف له وإن اشتريت فاكهة فاهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ورفع هذا الكلام منكر ولعله من تفسير عطاء الخراساني وقد روي أيضًا عن عطاء عن الحسن عن جابر مرفوعًا أدنى حق الجوار أن لا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقدح له منها وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال أوصاني خيلي ﷺ إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف وفي رواية أن النبي ﷺ قال يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك.
وفي المسند والترمذي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة فقال هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات ثم قال سمعت النبي ﷺ يقول ما زال جبريل يوصيني بالجار ظننت أنه سيورثه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم ومذهب الإمام أحمد أن الجار يلزمه أن يمكن جاره من وضع خشبة على جداره إذا احتاج الجار إلى ذلك ولم يضر بجداره لهذا الحديث الصحيح وظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يواسيه من فضل ما عنده بما لا يضر به إذا علم حاجته قال المروزي قلت لأبي عبدالله إني لأسمع السائل في الطريق يقول إني جائع فقال قد يصدق وقد يكذب قلت فؤدا كان لي جار أعلم أنه يجوع قال تواسيه قلت إذا كان قوتي رغيفين قال تطعمه شيئًا ثم قال الذي جاء في الحديث إنما هو الجار وقال المروزي قلت لأبي عبدالله الأغنياء يجب عليهم المواساة قال إذا كان قوم يصنعون شيئًا على شيء كيف لا يجب عليهم قلت فإذا كان للرجل قميصان أو قلت جبتان يجب عليه المواساة قال إذا كان يحتاج إلى أن يكون فضلًا وهذا نص منه في وجوب المواساة من الفضائل ولم يخصه بالجار ونصه الأول يقتضي اختصاصه بالجار وقال في رواية ابن هانيء في السؤال يكذبون أحب إلينا لو صدقوا ما وسعنا إلا مواساتهم وهذا يدل على وجوب مواساة الجائع من الجيران وغيرهم.
وفي الصحيح عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني.
وفي المسند وصحيح الحاكم عن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ وجائع فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل ومذهب أحمد ومالك أنه يمنع الجار أن يتصرف في خاص ملكه بما يضر بجاره فيجب عندهما كف الأذى عن الجار بمنع إحداث الانتفاع المضر به ولو كان المنتفع إنما ينتفع بخاص ملكه ويجب عند أحمد أن يبذل لجاره ما يحتاج إليه ولا ضرر عليه في بذله وأعلى من هذين أن يصبر على أذى جاره ولا يقابله بالأذى قال الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار احتمال الأذي ويروى من حديث أبي ذر إن الله يحب الرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما الموت أو ظعن خرجه الإمام أحمد وفي مراسيل أبي عبدالرحمن الحبلي أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ يشكو إليه جاره فقال له النبي ﷺ كف أذاك عنه واصبر لأذاه فكفى بالموت مفرقا خرجه ابن أبي الدنيا الثالث مما أمر به النبي ﷺ المؤمنين إكرام الضيف والمراد إحسان ضيافته.
وفي الصحيحين من حديث أبي شريح رضي الله عنه قال أبصرت عيناي رسول الله ﷺ وسمعته أذناي حين تكلم به قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته قال يوم وليلة قال والضيافة ثلاثة أيام وما كان بعد ذلك فهو صدقة.
وخرج مسلم من حديث أبي شريح أيضًا عن النبي ﷺ قال الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة وما أنفق عليه بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه قالوا يا رسول الله كيف يؤثمه قال يقيم ولا شيء له يقريه به.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قالها ثلاثًا قالوا وما إكرام الضيف يا رسول الله قال ثلاثة أيام فما حبس بعد ذلك فهو صدقة ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يوم وليلة وأن الضيافة ثلاثة أيام ففرق بين الجائزة والضيافة وكذا الجائزة قد ورد في تأكيدها أحاديث أخر.
وخرج أبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي ﷺ قال ليلة للضيف حق على كل مسلم فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى وإن شاء ترك.
وخرجه ابن ماجه ولفظه ليلة الضيف حق على كل مسلم.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث المقدام أيضًا عن النبي ﷺ قال أيما رجل أضاف قومًا فأصبح الضيف محروما فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقري ليلة من زرعه وماله.
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى فقال لنا رسول الله ﷺ إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.
وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه. وقال عبدالله بن عمرو من لم يضيف فليس من محمد ﷺ ولا من إبراهيم عليه السلام وقال عبدالله بن الحارث بن جزء من لم يكرم ضيفه فليس من محمد ﷺ ولا من إبراهيم عليه السلام وقال أبو هريرة لقوم نزل عليهم فاستضافهم فلم يضيفوه فتنحى ونزل فدعاهم إلى طعام فلم يجيبوه فقال لهم لا تنزلون الضيف لا تجيبون الدعوة ما أنتم من الإسلام على شيء فعرفه رجل منهم فقال له انزل عافاك الله قال هذا شر وشر لا تنزلون إلا من تعرفون وروي عن أبي الدرداء نحو هذه القضية إلا أنه قال لهم ما أنتم من الدين إلا على مثل هذه وأشار إلى هدبة في ثوبه وهذه النصوص تدل على وجوب الضيافة يومًا وليلة وهو قول الليث وأحمد وقال أحمد له المطالبة بذلك إذا منعه لأنه حق له واجب وهل يأخذ بيده من ماله إذا منعه أو يرفعه إلى الحاكم على روايتين منصوصتين عنه وقال حميد بن زنجويه ليلة الضيف واجبة وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرا إلا أن يكون مسافرا في مصالح المسلمين العامة دون مصلحة نفسه وقال الليث بن سعد لو نزل الضيف بالعبد أضافه من المال الذي بيده وللضيف أن يأكل وإن لم يعلم أن سيده أذن لأن الضيافة واجبة وهو قياس قول أحمد لأنه نص على أنه يجوز إجابة دعوة العبد المأذون له في التجارة وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم أجابوا دعوة المملوك وروي ذلك عن النبي ﷺ أيضًا فإذا جاز له أن يدعو الناس إلى طعامه ابتداء جاز إجابة دعوته فإضافته لمن نزل به أولى ومنع من ذلك مالك والشافع وغيرهما من دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيده ونقل عن على بن سعيد عن أحمد ما يدل على وجوب الضيافة للغزاة خاصة بمن مروا بهم ثلاثة أيام والمشهور عنه الأول وهو وجوبها لكل ضيف نزل بقوم واختلف في قوله هل يجب على أهل الأمصار والقرى أم تختص بأهل القرى ومن كان على طريق يمر بهم المسافرون على روايتين منصوصتين عنه والمنصوص عنه أنها تجب للمسلم والكافر وخص كثير من أصحابه الوجوب للمسلم كما لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدين على إحدى الروايتين فأما اليومان الآخران وهما الثاني والثالث فهما تمام الضيافة والنصوص عن أحمد أنه لا يجب إلا الجائزة الأولى وقال قد فرق بين الجائزة والضيافة والجائزة أوكد ومن أصحابنا من أوجب الضيافة ثلاثة أيام منهم أبو بكر بن عبدالعزيز وابن أبي موسى والآمدي وما بعد الثلاث فهو صدقة وظن بعض الناس أن الضيافة ثلاثة أيام بعد اليوم والليلة الأولى ورده أحمد بقوله ﷺ الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة ولو كان كما ظن هذا لكان أربعة قلت ونظير هذا قوله تعالى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} فصلت والمراد في تمام الأربعة وهذا الحديث الذي احتج به أحمد قد تقدم من حديث أبي شريح وخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن قري الضيف قيل يا رسول الله وما قري الضيف قال ثلاثة فما كان بعد فهو صدقة قال جندب بن رواحة عليه أن يتكلف له في اليوم والليلة من الطعام أطيب ما يأكله هو وعياله وفي تمام الثالث يطعمهم من طعامه وفي هذا نظر وسنذكر حديث سلمان بالنهي عن التكلف للضيف ونقل أشهب عن مالك قال جائزته يوم وليلة يكرمه ويتحفه ويخصه يومًا وليلة وثلاثة أيام ضيافة، وكان ابن عمر يمتنع من الأكل من مال من نزل عليه فوق ثلاثة أيام ويأمر أن ينفق عليه من ماله ولصاحب المنزل أن يأمر الضيف بالتحول عنه بعد الثلاث لأنه قضى ما عليه وفعل ذلك الإمام أحمد رحمه الله، وقوله ﷺ لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه يعني يقيم عنده حتى يضيق عليه لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد عليها فأما فيما ليس بواجب فلا شك في تحريمه وأما ما هو واجب وهو اليوم والليلة فيبنى على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئًا أم لا تجب إلا على من وجد ما يضيف به فإن قيل إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف به وهو قول طائفة من أهل الحديث منهم حميد بن زنجويه لم يحل للضيف أن يستضيف من هو عاجز عن ضيافته وقد روي من حديث سلمان قال نهانا رسول الله ﷺ أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا فإذا نهى المضيف أن يتكلف للضيف ما ليس عنده دل على أنه لا تجب عليه المواساة للضيف إلا بما عنده فإذا لم يكن عنده فضل لم يلزمه شيء وأما إذا آثر على نفسه كما فعل الأنصاري الذي نزل فيه {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} فذلك مقام فضل وإحسان وليس بواجب ولو علم الضيف أنهم لا يضيفونه إلا بقوتهم وقوت صبيانهم وأن الصبية يتأذون بذلك لم يجز له استضافتهم حينئذ عملًا بقوله ﷺ لا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه وأيضا فالضيافة نفقة واجبة ولا تجب إلا على من عنده فضل عن قوته وقوت عياله كنفقه الأقارب وزكاة الفطر وقد أنكر الخطابي تفسير تأثمه بأن يقيم عنده ولا شيء له يقريه به وقال أراه غلطا وكيف يأثم في ذلك وهو لا يتسع لقراه ولا يجد سبيلا إليه وإنما الكلفة على قدر الطاقة قال وإنما وجه الحديث أنه كره له المقام عنده بعد ثلاث لئلا يضيق صدره بمكانه فتكون الصدقة منه على وجه المن والأذى فيبطل أجره وهذا الذي قاله فيه نظر فإنه قد صح تفسيره في الحديث بما أنكره وإنما وجهه أنه أقام عنده ولاشيء له يقريه به فربما دعاه ضيق صدره به وحرجه إلى ما يأثم به في قول أو فعل وليس المراد أنه يأثم بترك قراه مع عجزه عنه والله أعلم.
=============
الحديث السادس عشر
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلًا قال للنبي ﷺ أوصني قال لا تغضب فردد مرارا قال لا تغضب . رواه البخاري.
هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي الحصين الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ولم يخرجه مسلم لأن الأعمش رواه عن أبي صالح واختلف عليه في إسناده فقيل عنه عن أبي صالح عن أبي هريرة كقول أبي حصين وقيل عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح وقيل عنه أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد وقيل عنه عن أبي صالح عن أبي هريرة أو جابر وقيل عنه عن أبي صالح عن رجل من الصحابة غير مسمي.
وخرج الترمذي هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضًا ولفظه جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله علمني شيئًا ولا تكثر على لعلي أعيه قال لا تغضب فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول لا تغضب وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة ولا تكثر علي قال لا تغضب فهذا الرجل طلب من النبي ﷺ أن يوصيه وصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها لكثرتها ووصاه النبي أن لا يغضب ثم ردد هذه المسئلة عليه مرارا والنبي ﷺ يردد عليه هذا الجواب فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر وأن التحرز منه جماع الخير ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي ﷺ هو أبو الدرداء فقد خرج الطبراني من حديث أبي الدرداء قال قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب ولك الجنة وقد روى الأحنف بن قيس عن عمه حارثة بن قدامة أن رجلًا قال يا رسول الله قل لي قولًا وأقلل علي لعلي أعقله قال لا تغضب فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول لا تغضب خرجه الإمام أحمد وفي رواية له أن حارثة بن قدامة قال سألت النبي ﷺ فذكره فهذا يغلب على الظن أن السائل هو حارثة بن قدامة ولكن ذكر الإمام أحمد عن يحيى القطان أنه قال هكذا قال هشام يعني أن هشاما ذكر في الحديث أن حارثة سأل النبي ﷺ قال يحيي وهم يقولون إنه لم يدرك النبي ﷺ وكذا قال العجلي وغيره إنه تابعي وليس بصحابي.
وخرج الإمام أحمد من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال قلت يا رسول الله أوصني قال لا تغضب قال الرجل ففكرت حين قال النبي ﷺ ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه مالك في الموطأ عن الزهري عن حميد مرسلا.
وخرج الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمرو أنه سأل النبي ﷺ ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل قال لا تغضب وقول الصحابي ففكرت فيما قال النبي ﷺ فإذا الغضب يجمع الشر كله يشهد لما ذكره أن الغضب جماع الشر كله.
قال جعفر بن محمد الغضب مفتاح كل شر وقيل لابن المبارك اجمع لنا حسن الخلق في كلمة قال ترك الغضب وكذا فسر الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب.
وقد روى ذلك مرفوعًا خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة من حديث أبي العلاء بن الشخير أن رجلًا أتى النبي ﷺ من قبل وجهه فقال يا رسول الله أي العمل أفضل فقال حسن الخلق ثم أتاه عن يمينه فقال يا رسول الله أي العمل أفضل فقال حسن الخلق ثم أتاه عن شماله فقال يا رسول الله أي العمل أفضل قال حسن الخلق ثم أتاه من بعده يعني من خلفه فقال يا رسول الله أي العمل أفضل فالتفت إليه رسول الله رسول ﷺ فقال مالك لا تفقه حسن الخلق هو أن لا تغضب إن استطعت وهذا مرسل فقوله ﷺ لمن استوصاه لا تغضب يحتمل أمرين أحدهما أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى والصفح والعفو وكظم الغيظ والطلاقة والبشر ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه والثاني أن يكون المراد لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به فإن الغضب إذا ملك شيئًا من بني آدم كان الآمر والناهي له ولهذا المعنى قال الله عز وجل {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} الأعراف وإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه وجاهد نفسه على ذلك اندفع عنه شر الغضب وربما سكن غضبه وذهب عاجلا وكأنه حينئذ لم يغضب وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله عز وجل {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} الشورى وبقوله عز وجل {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران، وكان النبي ﷺ يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب وتسكنه ويمدح من ملك نفسه عند غضبه ففي الصحيحين عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي ﷺ ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه فقال النبي ﷺ إني لا أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول النبي ﷺ قال إني لست بمجنون.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال في خطبته ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أفما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس من ذلك بشيء فليلزق بالأرض.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر أن النبي ﷺ قال إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع وقد قيل إن المعنى في هذا أن القائم متهيئ للانتقام والجالس دونه في ذلك والمضطجع أبعد عنه فأمره بالتباعد عنه حالة الانتقام ويشهد لذلك أنه روي من حديث سنان بن سعد عن أنس عن النبي ﷺ ومن حديث الحسن مرسلًا عن النبي ﷺ قال الغضب جمرة في قلب الإنسان توقد ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئًا فليجلس ولا يعدونه الغضب والمراد أنه يحبسه في نفسه ولا يعديه إلى غيره بالأذى بالفعل ولهذا المعنى قال النبي ﷺ في الفتن إن المضطجع فيها خير من القاعد والقاعدة فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي وإن كان هذا على وجه ضرب المثال في الإسراع في الفتن إلا أن المعنى أن من كان أقرب إلى الإسراع فيها فهو شر ممن كان أبعد عن ذلك.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس عن النبي قال إذا غضب أحدكم فليسكت قالها ثلاثًا وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرًا من السباب وغيره مما يعظم ضرره فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده وما أحسن قول مورق العجلي رحمه الله ما امتلأت غضبًا قط ولا تكلمت في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت وغضب يومًا عمر بن عبدالعزيز فقال له ابنه عبدالملك رحمهما الله أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضلك به تغضب هذا الغضب فقال له أو ما تغضب يا عبدالملك فقال له عبدالملك وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب رضي الله عنهم.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن محمد السعدي أنه كلمه رجل فأغضبه فقام فتوضأ ثم قال حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله ﷺ إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ وروى أبو نعيم بإسناده عن أبي مسلم الخولاني أنه كلم معاوية بشيء وهو على المنبر فغضب ثم نزل فاغتسل ثم عاد إلى المنبر وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الغضب من الشيطان والشيطان من النار والماء يطفيء النار فإذا غضب أحدكم فليغتسل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال ليس ذلك ولكنه الذي يملك نفسه عن الغضب.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي ﷺ قال من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله تعالى ومن حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظم عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا.
وخرج أبو داود معناه من رواية بعض الصحابة عن النبي ﷺ وقال ملأه الله أمنا وإيمانا وقال ميمون بن مهران جاء رجل إلى سلمان فقال يا أبا عبدالله أوصني قال لا تغضب قال أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك قال فإن غضبت فاملك لسانك ويدك خرجه ابن أبي الدنيا وملك لسانه ويده هو الذي أشار إليه النبي ﷺ بأمره لمن غضب أن يجلس ويضطجع وبأمره له أن يسكت قال عمر بن عبدالعزيز قد أفلح من عصم عن الهوى والغضب والطمع وقال الحسن أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشر كله فإن الرغبة في الشيء هي ميل النفس إليه لاعتقاد نفعه فمن حصل له رغبة في شيء حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يظنه موصلا إليه وقد يكون كثير منها محرما وقد يكون ذلك الشيء المرغوب فيه محرما والرهبة هي الخوف من الشيء وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكل طريق يظنه دافعا له وقد يكون كثير منها محرما والشهوة هي ميل النفس إلى ما يلائمها وتلتذ به وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرم كالزنا والسرقة وشرب الخمر وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع والغضب هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش وربما ارتقى إلى درجة الكفر كما جرى لجبلة بن الأيهم وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعا وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له وربما تناولها بنية صالحة فأثيب عليها وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقاما ممن عصى الله ورسوله كما قال تعالى {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} التوبة وهذه كانت حال النبي ﷺ فإنه كان لا ينتقم لنفسه ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله وخدمه أنس عشر سنين فما قال له أف قط ولا قال له لشيء فعله لم فعلت كذا ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا وفي رواية أنه كان إذا لامه بعض أهله قال ﷺ دعوه فلو قضى شيء كان وفي رواية للطبراني قال أنس خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما دريت شيئًا قط وافقه ولا شيئًا خالفه رضي من الله بما كان وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ فقالت كان خلقه القرآن يعني أنه كان يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه فما مدحه القرآن كان فيه رضاه وما ذمه القرآن كان فيه سخطه وجاء في رواية عنها قالت كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، وكان ﷺ لشدة حيائه لا يواجه أحدًا بما يكره بل تعرف الكراهة في وجهه كما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال كان النبي ﷺ أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه ولما بلغه ابن مسعود قول القائل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله شق عليه ﷺ وتغير وجهه وغضب ولم يزد على أن قال لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر، وكان ﷺ إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت وقد دخل بيت عائشة رضي الله عنها فرأى سترا فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور ولما شكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه ووعظ الناس وأمر بالتخفيف ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ وحكها وقال إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة، وكان من دعائه ﷺ أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وهذا عزيز جدًا وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحق سواء غضب أو رضي فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقف فيما يقول.
وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعًا ثلاث من أخلاق الإيمان من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه من حق ومن إذا قدر لم يتعاط ما ليس له وقد روي عن النبي ﷺ أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدهما عابدا، وكان الآخر مسرفا على نفسه، وكان العابد يعظه فلا ينتهي فرآه يومًا على ذنب استعظمه فقال والله لا يغفر الله لك فغفر للمذنب وأحبط عمل العابد وقال أبو هريرة لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرت فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضب وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود فهذا غضب لله ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز وحتم على الله بما لا يعلم فأحبط الله عمله فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه ومتابعة هواه بما لا يجوز وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أنهم كانوا مع النبي ﷺ في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع النبي ﷺ فقال خذوا متاعها ودعوها وفيه أيضًا عن جابر قال سرنا مع رسول الله ﷺ في غزوة ورجل من الأنصار على ناضح له فتلدن عليه بعض التلدن فقال له سر يلعنك الله فقال رسول الله ﷺ انزل عنه فلا يصحبنا ملعون لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم فهذا كله يدل على أن دعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابة وأنه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب وأما ما قاله مجاهد في قوله تعالى {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} يونس قال هو الواصل لأهله وولده وماله إذا غضب عليه قال اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه يقول لو عجل له ذلك لأهلك من دعا عليه فأماته فهذا يدل على أنه لا يستجاب ما يدعوا به الغضبان على نفسه وأهله وماله والحديث دل على أنه قد يستجاب لمصادفته ساعة إجابة وأما ما روي عن الفضيل بن عياض قال ثلاثة لا يلامون على غضب الصائم والمريض والمسافر وعن الأحنف بن قيس قال يوحي الله إلى الحافظين اللذين مع ابن آدم لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئًا وعن أبي عمران الجوني قال إن المريض إذ جزع فأذنب قال الملك الذي على اليمين للملك الذي على الشمال لا تكتب خرجه ابن أبي الدنيا فهذا كله لا يعرف له أصل صحيح من الشرع يدل عليه والأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على خلافه وقول النبي ﷺ إذا غضب فليسكت يدل على أن الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت فيكون حينئذ مؤاخذة بالكلام وقد صح عن النبي ﷺ أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكته من أقوال وأفعال وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب فكيف يقال إنه غير مكلف في حال غضبه بما يصدر منه وقال عطاء بن أبي رباح ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها أحدهم فيهدم عمر خمسين سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحما ما استقاله خرجه ابن أبي الدنيا ثم إن من قال من السلف إن الغضبان إذا كان سبب غضبه مباحًا كالمرض أو السفر أو الطاعة كالصوم لا يلام عليه إنما مراده أنه لا إثم عليه إذا كان مما يقع منه في حال الغضب كثيرًا من كلام يوجب تضجرا أو سبا ونحوه كما قال ﷺ إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة فأما ما كان من كفر أو رده أو قتل نفس أو أخذ مال بغير حق ونحو ذلك فهذا لا يشك مسلم أنهم لم يريدوا أن الغضبان لا يؤاخذ به، وكذلك ما يقع من الغضبان من طلاق وعتاق أو يمين فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف.
وفي مسند الإمام أحمد عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه وضجر وأنها جاءت إلى النبي ﷺ فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله ﷺ بكفارة في قصة طويلة وخرجها ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي العالية أن خولة غضب زوجها فظاهر منها فأتت النبي ﷺ فأخبرته بذلك وقالت إنه لم يرد الطلاق فقال النبي ﷺ ما أراك إلا حرمت عليه وذكر القصة بطولها وفي آخرها قال فحول الله الطلاق فجعله ظهارا فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النبي ﷺ يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال إنها حرمت عليه بذلك يعني لزمه الطلاق فلما جعله الله ظهارا مكفرا ألزمه بالكفارة ولم يلغه وروى مجاهد عن ابن عباس أن رجلًا قال له إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان فقال ابن عباس لا يستطيع أن يحل لك ما حرم الله عليك عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك خرجه الجوزجاني والدارقطني بإسناد على شرط مسلم.
وخرج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب أحكام القرآن بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت اللغو في الأيمان ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وأيمان الكفارة على كل يمين حلفت عليها على جد من الأمر في غضب أو غيره لتفعلن أو لتتركن فذلك عقد الأيمان فيها الكفارة وكذا رواه وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة وهذا من أصح الأسانيد وهذا يدل على أن الحديث المروي عنها مرفوعًا لا طلاق ولا عتاق في إغلاق إما أنه غير صحيح أو إن تفسيره بالغضب غير صحيح وقد صح عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة وما روي عن ابن عباس مما يخالف ذلك فلا يصح إسناده قال الحسن طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهرًا من غير جماع وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض فإن بداله أن يراجعها كان أملك بذلك فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو في ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض ما يذهب غضبه وقال الحسن لقد بين الله لئلا يندم أحد في طلاق كما أمره الله خرجه القاضي إسماعيل وقد جعل كثير من العلماء الكنايات مع الغضب كالصريح في أنه يقع بها الطلاق ظاهرا ولا يقبل تفسيرها مع الغضب بغير الطلاق ومنهم من جعل الغضب مع الكنايات كالنية فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضًا فكيف يجعل الغضب مانعا من وقوع صريح الطلاق.
===========
الحديث السابع عشر
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله ﷺ قال إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته . رواه مسلم.
هذا حديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس وتركه البخاري لأنه لم يخرج في صحيحه لأبي الأشعث شيئًا وهو شامي وقد روي نحوه من حديث سمرة عن النبي ﷺ قال إن الله عز وجل محسن فأحسنوا فإذا قتل أحدكم فليحسن مقتوله وإذا ذبح فليحد شفرته وليرح ذبيحته خرجه ابن عدي.
وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قلتم فأحسنوا فإن الله محسن يحب المحسنين فقوله ﷺ إن الله كتب الإحسان على كل شيء وفي رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب السير عن خالد عن أبي قلابة عن النبي ﷺ إن الله كتب الإحسان على كل شيء أو قال على كل خلق هكذا خرجها مرسلة وبالشك في كل شيء أو كل خلق وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه والمكتوب هو الإحسان وقيل إن المعنى أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء أو في كل شيء أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء فيكون المكتوب عليه غير مذكور وإنما المذكور المحسن إليه ولفظ الكتابة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافًا لبعضم وإنما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم إما شرعا كقوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} النساء، وقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} البقرة أو فيما هو واقع قدرا لا محالة كقوله {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} المجادلة، وقوله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء، وقوله {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} المجادلة وقال النبي ﷺ في قيام شهر رمضان إني خشيت أن يكتب عليكم وقال أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب على وقال كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان وقد أمر الله تعالى به فقال {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} النحل وقال {أَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة وهذا الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال لكن إحسان كل شيء بحسبه فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة الإتيان بها على وجه كمال واجباتها فهذا القدر من الإحسان فيها واجب وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب والإحسان في ترك الحرمات الانتهاء عنها وترك ظاهرها وباطنها كما قال تعالى {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} الأنعام فهذا القدر من الإحسان فيها واجب وأما الإحسان في الصبر على المقدورات فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تسخط ولا جزع والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك كله والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم القيام بواجبات الولاية كلها والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأرجاها من غير زيادة في التعذيب فإنه إيلام لا حاجة إليه وهذا النوع هو الذي ذكره النبي ﷺ في هذا الحديث ولعله ذكره على سبيل المثال أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة والقتلة والذبحة بالكسر أي الهيئة والمعني أحسنوا هيئة الذبح وهيئة القتل وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة وأسهل وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق قال الله تعالى في حق الكفار {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} محمد وقال {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} الأنفال.
وقد قيل إنه عين الموضع الذي يكون الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام ودون الدماغ.
ووصى دريد بن الصمة قاتله أن يقتله كذلك، وكان النبي ﷺ إذا بعث سرية تغزوا في سبيل الله قال لهم لا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا.
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ قال أعف الناس قتلة أهل الإيمان.
وخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب أن النبي ﷺ كان ينهى عن المثلة.
وخرج البخاري من حديث عبدالله بن يزيد عن النبي ﷺ أنه نهى عن المثلة.
وخرج الإمام أحمد من حديث يعلى بن مرة عن النبي ﷺ قال الله تعالى لا تمثلوا بعبادي.
وخرج أيضًا من حديث رجل من الصحابة عن النبي ﷺ قال من مثل بذي روح ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة واعلم أن القتل المباح يقع على وجهين أحدهما قصاص فلا يجوز التمثيل فيه بالمقتص منه بل يقتل كما قتل فإن كان قد مثل بالمقتول فهل يمثل به كما فعل أم لا يقتل إلا بالسيف فيه قولان مشهوران للعلماء أحدهما أنه يفعل به كما فعل وهو قول مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه.
وفي الصحيحين عن أن قال خرجت جارية عليها أوضاح بالمدينة فرماها يهودي بحجر فجيء بها إلى رسول الله ﷺ وبها رمق فقال لها رسول الله ﷺ فلان قتلك فرفعت رأسها فقال لها في الثالثة فلان قتلك فخفضت رأسها فدعا به رسول الله ﷺ فرضخ رأسه بين حجرين وفي رواية لهما فأخذ فاعترف وفي رواية لمسلم أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في القليب ورضخ رأسها بالحجارة فأخذ فأتى به النبي ﷺ فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات والقول الثاني لا قود إلا بالسيف وهو قول الثوري وأبي حنيفة رضي الله عنه ورواية عن أحمد وعن أحمد رواية ثالثة يفعل به كما فعل إلا أن يكون حرقه بالنار أو مثل به فيقتل بالسيف للنهي عن المثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرم وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال لا قود إلا بالسيف خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف وقال أحمد يروي لا قود إلا بالسيف وليس إسناده بجيد، وحديث أنس يعني في قتل اليهودي بالحجارة أسند منه وأجود لو مثل به ثم قتله مثل أن قطع أطرافه ثم قتله فهل يكتفي بقتله أم يصنع به كما صنع فيقطع أطرافه ثم يقتل على قولين أحدهما يفعل به كما فعل سواء وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وإسحاق وغيرهم والثاني يكتفي بقتله وهو قول الثوري وأحمد في رواية وأبى يوسف ومحمد وقال مالك إن فعل به ذلك على سبيل التمثيل والتعذيب فعل به كما فعل وإن لم يكن على هذا الوجه اكتفى بقتله والوجه الثاني أن يكون القتل للكفر إما لكفر أصلي أو لردة عن الإسلام فأكثر العلماء على كراهة المثلة فيه أيضًا وأنه يقتل فيه بالسيف وقد روي عن طائفة من السلف جواز التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك كما فعله خالد بن الوليد وغيره وروي عن أبي بكر أنه حرق الفجأة بالنار وروي أن أم فرقد الفرارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق فأمر بها فشدت ذؤابتها في أذناب قلوصين أو فرسين ثم صاح بهما فتقطعت المرأة وأسانيد هذه القصة متقطعة وقد ذكر ابن سعد في طبقاته بغير إسناد أن زيد بن حارثة قتلها هذه القتلة على عهد رسول الله ﷺ وأخبر النبي ﷺ بذلك وصح عن على أنه حرق المرتدين وأنكر ذلك ابن عباس عليه وقيل إنه لم يحرقهم وإنما دخن عليهم حتى ماتوا وقيل إنه قتلهم ثم حرقهم ولا يصح ذلك وروي عنه أنه جيء بمرتد فأمر به فوطيء بالأرجل حتى مات واختار ابن عقيل من أصحابنا جواز القتل بالتمثيل للكفر لا سيما إذا تغلظ وحمل النهي عن المثلة على القتل بالقصاص واستدل من أجاز ذلك بحديث العرنيين وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أنس أن أناسا من عرينة قدموا على رسول الله ﷺ المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله ﷺ إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها فافعلوا ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام واستاقوا ذود رسول الله ﷺ فبلغ ذلك النبي ﷺ فبعث في آثرهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا.
وفي رواية ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا وفي رواية وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون وفي رواية الترمذي قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وفي رواية النسائي وحرقهم وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء فمنهم من قال من فعل مثل فعلهم فمن ارتد وحارب وأخذ المال صنع به كما صنع بهؤلاء وروي هذا عن طائفة منهم أبو قلابة وهو رواية عن أحمد ومنهم من قال بل هذا يدل على جواز التمثيل ممن تغلظت جرائمه في الجملة وإنما نهى عن التمثيل في القصاص وهو قول ابن عقيل من أصحابنا ومنهم من قال نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المثلة ومنهم من قال كان قبل نزول الحدود وآية المحاربة ثم نسخ بذلك وهذا قول جماعة منهم الأوزاعي وأبو عبيدة ومنهم من قال بل ما فعله النبي ﷺ بهم إنما كان من باب المحاربة ولم ينسخ شيء من ذلك وقالوا إنما قتلهم النبي ﷺ وقطع أيديهم لأنهم أخذوا المال ومن أخذ المال وقتل قطع وقتل وصلب حتما فيقتل لقتله ويقطع لأخذه المال يده ورجله من خلاف ويصلب لجمعه بين الجنايتين وهما القتل وأخذ المال وهذا قول الحسن ورواية عن أحمد وإنما سمل أعينهم لأنه سملوا أعين الرعاة كذا خرجه مسلم من حديث أنس وذكر ابن شهاب أنهم قتلوا الراعي ومثلوا به وذكر ابن سعد أنهم قطعوا يده ورجله وغرسوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات وحينئذ فقد يكون قطعهم وسمل أعينهم وتعطيشهم قصاصا وهذا يتخرج على قول من يقول إن المحارب إذا جنى جناية توجب القصاص استوفاه منه قبل قتله وهو مذهب أحمد لكن هل يستوفى منه تحتما كقتله أم على وجه القصاص فيسقط بعفو الولي على روايتين عنه ولكن رواية الترمذي أن قطعهم من خلاف يدل على أن قطعهم للمحاربة إلا أن يكونوا قد قطعوا يد الراعي ورجله من خلاف والله أعلم.
وقد روي عن النبي ﷺ أنه كان أذن في التحريق بالنار ثم نهى عنه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعثنا رسول الله ﷺ في بعث فقال إن وجدتم فلانًا وفلانًا لرجلين من قريش فاحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله ﷺ حين أردنا الخروج إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما وفيه أيضًا عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل.
وخرج الإمام أحمد رحمه الله وأبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود قال كنا مع النبي ﷺ فمررنا بقرية نمل قد أحرقت فغضب النبي ﷺ وقال إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله عز وجل وقد حرق خالد جماعة في الردة.
وروي عن طائفة من الصحابة تحريق من عمل عمل قوم لوط وروي عن على أنه أشار على أبي بكر أن يقتله ثم يحرقه بالنار واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه لئلا يكون تعذيبا بالنار.
وفي مسند الإمام أحمد أن عليا لما ضربه ابن ملجم قال افعلوا به كما أراد رسول الله ﷺ أن يفعل برجل أراد قتله قال اقتلوه ثم حرقوه وأكثر العلماء على كراهة التحريق بالنار حتى للهوام وقال إبراهيم النخعي تحريق العقرب بالنار مثله ونهت أم الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار وقال أحمد لا يشوى السمك في النار وهو حي وقال الجراد أهون لأنه لا دم له وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن صبر البهائم وهو أن تحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت ففي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ نهى أن تصبر البهائم وفيهما أيضًا عن ابن عمر أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها فقال ابن عمر من فعل هذا إن رسول الله ﷺ لعن من فعل هذا.
وخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ أنه نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا والغرض هو الذي يرمي فيه بالسهام.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن الرمية أن ترمي الدابة ثم تؤكل ولكن تذبح ثم يرموا إن شاءوا وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة فلهذا أمر النبي ﷺ إحسان القتل والذبح وأمر أن تحد الشفرة وأن تراح الذبيحة يشير إلى أن الذبح بآلة حادة تريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر قال أمر رسول الله ﷺ بحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال إذا ذبح أحدكم فليجهز يعني فليسرع الذبح وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها.
وخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال مر رسول الله ﷺ برجل وهو يجر شاة بأذنها فقال رسول الله ﷺ دع أذنها وخذ بسالفتها والسالفة مقدم العنق.
وخرج الخلال والطبراني من حديث عكرمة عن ابن عباس قال مر رسول الله ﷺ برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها فقال أفلا قبل هذا تريد أن تميتها موتات وقد روي عن عكرمة مرسلًا خرجه عبدالرزاق وغيره وفيه زيادة هلا أعددت شفرتك قبل أن تضجعها وقال الإمام أحمد تقاد إلى الذبح قودا رفيقا وتواري السكين عنها ولا يظهر السكين إلا عند الذبح أمر رسول الله ﷺ بذلك أن تواري الشفار وقال ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها وتعرف أنها تموت وقال يروى عن ابن أسباط أنه قال إن البهائم جبلت على كل شيء إلا أنها تعرف ربها وتخاف الموت وقد ورد الأمر بقطع الأدواج عند الذبح كما خرجه أبو داود من حديث عكرمة عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه نهى عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح وتقطع الجلد ولا تفري الأوداج وخرجه ابن حبان في صحيحه وعنده قال عكرمة كانوا يقطعون منها الشيء اليسير ثم يدعونها حتى تموت ولا يقطعون الودج فنهى عن ذلك وروي عبدالرزاق في كتابه عن محمد بن راشد عن الوضعين بن عطاء قال إن جزارا فتح بابًا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي ﷺ فأتبعها فأخذ يسحبها برجلها فقال لها النبي ﷺ اصبري لأمر الله وأنت يا جزار فسقها إلى الموت سوقا رفيقا وبإسناده عن ابن سيرين أن عمر رأى رجلًا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا وروى محمد بن زياد أن عمر رأى قصابا يجر شاة فقال سقها إلى الموت سوقا جميلا فأخرج القصاب شفرة فقال ما أسوقها سوقا جميلا وأنا أريد أن أذبحها الساعة فقال سقها إلى الموت سوقا جميلا فأخرج القصاب شفرته فقال ما أسوقها سوقا جميلا وأنا أريد أن أذبحها فقال سقها سوقا جميلا. وفي مسند الإمام أحمد عن معاوية ابن قرة عن أبيه أن رجلًا قال للنبي ﷺ يا رسول الله إني لأذبح الشاة أنا أرحمها فقال النبي ﷺ والشاة إن رحمتها رحمك الله وقال مطرف بن عبدالله إن الله ليرحم برحمة العصفور وقال عوف البكالي إن رجلًا ذبح عجلا له بين يدي أمه فخبل فبينما هو تحت شجرة فيها وكر فيه فرخ فوقع الفرخ إلى الأرض فرحمه فأعاده في مكانه فرد الله عليه قوته وقد روي من غير وجه عن النبي ﷺ أنه نهى أن توله والدة عن ولدها وهو عام في بني آدم وغيرهم وفي سنن أبي داود أن النبي ﷺ سئل عن الفرع فقال هو حق وإن تتركوه حتى يكون بكرا ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو يحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلصق لحمه بوبره وتكفي إناءك، وقوله ناقتك والمعنى أن ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عند ولادته لم ينتفع بلحمه وتضرر صاحبه بانقطاع لبن ناقته ويكفي إناه وهو المحلب الذي تحتلب فيه الناقة وتوله الناقة على ولدها بفقدها إياه.
=============
الحديث الثامن عشر
عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبدالرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن . رواه الترمذي وقال حديث حسن.
هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر وخرجه أيضًا بهذا الإسناد عن ميمون عن معاذ.
وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال حديث أبي ذر أصح فهذا الحديث قد اختلف في إسناده فقيل فيه عن حبيب عن ميمون أن النبي ﷺ وصى بذلك مرسلًا ورجح الدارقطني هذا المرسل وقد حسن الترمذي هذا الحديث وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد ولكن الحاكم خرجه وقال صحيح على شرط الشيخين وهو وهم من وجهين أحدهما أن ميمون بن أبي شبيب ويقال ابن شبيب لم يخرج له البخاري في صحيحه شيئًا ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه عن المغيرة بن شعبة والثاني أن ميمون بن شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة قال الفلاس ليس من روايته سمعت ولم أخبر أن أحدًا يزعم أنه سمع في شيء من أصحاب النبي ﷺ وقال أبو حاتم الرازي روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة وقال أبو داود لم يدرك عائشة ولم ير عليا وحينئذ فلم يدرك معاذا بطريق الأولي وروى البخاري وشيخه على بن المديني وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي وكلام أحمد يدل على ذلك ونص عليه الشافعي في الرسالة وهذا كله خلاف رأي مسلم رحمه الله وقد روي عن النبي ﷺ أنه وصى به الوصية معاذا وأبا ذر من وجوه أخر فخرج البزار من حديث أبي لهيعة عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن النبي ﷺ بعثه إلى قوم فقال يا رسول الله أوصني فقال أفش السلام وابذل الطعام واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك وإذا أسأت فأحسن ولتحسن خلقك ما استطعت.
وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن معاذ ابن جبل أراد سفرا فقال يا رسول الله زدني قال استقم ولتحسن خلقك.
وخرج الإمام أحمد من حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال له أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحدًا عن شيء وإن سقط سوطك ولا تقض أمانة ولا تقض بين اثنين.
وخرج أيضًا من حديث آخر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله علمني عملًا يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها قال قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله قال هي أحسن الحسنات.
وخرج ابن عبدالبر في التمهيد بإسناد فيه نظر عن أنس قال بعث النبي ﷺ معاذا إلى اليمن فقال يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة فقال قلت يا رسول الله لا إله إلا الله من الحسنات قال هي من أكبر الحسنات وقد رويت وصية النبي ﷺ لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول من وجوه فيها ضعف ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه سئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن اللقاء خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه ابن حبان في صحيحه فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته والتقوى وصية الله للأولين والآخرين قال الله تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ} وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل كقوله تعالى {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} المائدة وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الحشر فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه فالمعنى اتقوا سخطه وغضبه وهو أعظم ما يتقي وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي قال تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} آل عمران وقال تعالى {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} المدثر فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عبادة حتى يعبدوه ويطيعوه لما يستحقه من الإجلال والإكرام وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش وشدة البأس وفي الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ في هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} المدثر قال الله تعالى أنا أهل التقوى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن غفر له وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه كالنار أو إلى زمانه كيوم القيامة كما قال تعالى {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} آل عمران وقال تعالى {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} البقرة وقال تعالى {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} البقرة {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} البقرة ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات وترك المكروهات وهي أعلى درجات التقوى قال الله تعالى {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} البقرة وقال تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة قال معاذ بن جبل ينادي يوم القيامة أين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر قالوا له من المتقون قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله بالعبادة وقال ابن عباس المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدي ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به وقال الحسن المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما اقترض الله عليهم وقال عمر بن عبدالعزيز ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير وقال طلق بن حبيب التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وعن أبي الدرداء قال تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره الزلزلة فلا تحقرن شيئًا من الخير أن تفعله ولا شيئًا من الشر أن تتقيه وقال الحسن ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام وقال الثوري إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقي وقال موسى بن أعين المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسماهم الله متقين وقد سبق حديث لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وحديث من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وقال ميمون بن مهران المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قال أن يطاع فلا يعصي ويذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
وخرجه الحاكم مرفوعًا والموقوف أصح وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات ومعنى ذكره فلا ينسي ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات كما قال أبو هريرة وسئل عن التقوى فقال هل أخذت طريقا ذا شوك قال نعم قال فكيف صنعت قال إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال ذاك التقوى وأخذ هذا المعنى ابن المعتمر فقال:
خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها فهو التقي
واصنع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
وأصل التقوى أن يعلم العبد ما يتقثم يتقي قال عون بن عبدالله تمام التقوى أن تبتغي علم مالم تعلم منها إلى ما علمت منها وذكر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس قال كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي ثم قال معروف الكرخي إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة ولم تغض بصرك وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك وقد قال النبي ﷺ لمحمد بن مسلمة إذا رأيت أمتي قد اختلفت فاعمد إلى سيفك فاضرب به أحدًا ثم قال معروف ومجلسي هذا لعله كان ينبغي لنا أن نتقيه ثم قال مجيئكم معي من المسجد إلى ها هنا كان ينبغي لنا أن نتقيه أليس جاء في الحديث أن فتنة المتبوع مذلة التابع يعني مشى الناس خلف الرجل وفي الجملة فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه ووصية رسول الله ﷺ لأمته، وكان ﷺ إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا ولما خطب ﷺ في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم ولما وعظ الناس قالوا له كأنها موعظة مودع فأوصنا قال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وفي حديث أبي ذر الطويل الذي خرجه ابن حبان وغيره قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال قلت يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام.
وخرجه غيره ولفظه قال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير.
وفي الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي ﷺ قال يا رسول الله إني سمعت منك حديثًا كثيرًا فأخاف أن ينسيني أوله آخره فحدثني بكلمة تكون جماعا قال اتق الله فيما تعلم.
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في خطبه: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عز وجل أثني على زكريا وأهل بيته فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} الأنبياء.
ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر دعاه فوصاه بوصيته وأول ما قال له اتق الله يا عمر وكتب عمر إلى ابنه عبدالله أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل فإنه من اتقاه وقاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك.
واستعمل علي بن أبي طالب رجلًا على سرية فقال له أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقاه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى رجل أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل جعلنا الله وإياك من المتقين ولما ولى خطب فحمد الله وأثنى عليه وقال أوصيكم بتقوى الله عز وجل فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف.
وقال رجل ليونس بن عبيد أوصني فقال أوصيك بتقوى الله والإحسان فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} وقال له رجل يريد الحج أوصني فقال له اتق الله فمن اتقى الله فلا وحشة عليه وقيل لرجل من التابعين عند موته أوصنا فقال أوصيكم بخاتمة سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} النحل.
وكتب رجل من السلف إلى أخ له أوصيك بتقوى الله فإنها من أكرم ما أسررت وأزين ما أظهرت وأفضل ما ادخرت أعاننا الله وإياك عليها وأوجب لنا ولك ثوابها وكتب رجل منهم إلى أخ له أوصيك وأنفسنا بالتقوى فإنها خير زاد الآخرة والأولى واجعلها إلى كل خير سبيلك ومن كل شر مهربك فقد تكفل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق من حيث لا يحتسبون.
وقال شعبة كنت إذا أردت الخروج قلت للحكم ألك حاجة فقال أوصيك بما أوصي به النبي ﷺ معاذ بن جبل اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقول في دعائه اللهم إني أسألك الهدي والتقى والعفة والغنى وقال أبو ذر قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} ثم قال يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم.
فقوله ﷺ اتق الله حيثما كنت مراده في السر والعلانية حيث يراه الناس وحيث لا يرونه وقد ذكرنا من حديث أبي ذر أن النبي ﷺ قال له أوصيك بتقوى الله فى سر أمرك وعلانيته، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وخشية الله في الغيب والشهادة هي من المنجيات.
وقد سبق من حديث أبي الطفيل عن معاذ أن النبي ﷺ قال له استح من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك وهذا هو السبب الموجب لخشية الله في السر فإن من علم أن الله يراه حيث كان وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته واستحضر ذلك في خلواته أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى {وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} النساء.
كان بعض السلف يقول لأصحابه زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته أو كما قال.
وقال الشافعي أعز الأشياء ثلاثة الجود من قلة والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك والسلام.
قال أبو الجلد أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم.
وكان وهب بن الورد يقول خف الله على قدر قدرته عليك واستحي منه على قدر قربه منك وقال له رجل عظني فقال له اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.
وكان بعض السلف يقول أتراك ترحم من لم يقر عينيه بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرك.
وقال بعضهم ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تصف لك من عيني ناظرة إليك فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه ما أنت إلا أحد رجلين إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت دخل بعضهم غيضة ذات شجر فقال لو خلوت ههنا بمعصية من كان يراني فسمع هاتفا بصوت ملأ الغيضة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
راود بعضهم أعرابية وقال لها ما يرانا إلا الكواكب قالت أين مكوكبها.
رأى محمد بن المنكدر رجلًا واقفًا مع امرأة يكلمها فقال إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.
وقال الحارث المحاسبي المراقبة علم القلب بقرب الرب.
وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر قال بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره، وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب
وكان ابن السماك ينشد:
يا مدمن الذنب أما تستحي *** والله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله *** وستره طول مساويكا
والمقصود أن النبي ﷺ لما وصى معاذ بتقوى الله سرا وعلانية أرشده إلى ما يعينه على ذلك وهو أن يستحيى من الله كما يستحي من رجل ذي هيبة من قومه ومعنى ذلك أن يستشعر دائما بقلبه قرب الله منه واطلاعه عليه فيستحيى من نظره إليه وقد امتثل معاذ ما وصاه به النبي ﷺ، وكان عمر قد بعثه على عمل فقدم وليس معه شيء فعاتبته امرأته فقال كان معي ضاغط يعني من يضيق على ويمنعني من أخذ شيء وإنما أراد معاذ ربه عز وجل فظنت امرأته أن عمر بعث معه رقيبا فقامت تشكوه إلى الناس ومن صار له هذا المقام حالًا دائما أو غالبًا فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وفي الجملة فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين وفي الحديث ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر روي هذا مرفوعًا وروي عن ابن مسعود من قوله.
وقال أبو الدرداء ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر يخلو بمعاصي الله فيلقى الله له البغض في قلوب المؤمنين وقال سليمان التيمي إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته وقال غيره إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بذرات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة ولا يضيع عنده عمل عامل ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله فإنه من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاما له قال أبو سليمان إن الخاسر من أبدى للناس صالح عمله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد ومن أعجب ما روي في هذا ما روي عن أبي جعفر السائح قال كان حبيب أبو محمد تاجرا يكري الدراهم فمر ذات يوم بصبيان فإذا هم يلعبون فقال بعضهم لبعض قد جاء آكل الربا فنكس رأسه وقال يا رب أفشيت سري إلى الصبيان فرجع فجمع ماله كله وقال يا رب إني أسير وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فاعتقني فلما أصبح تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة ثم مر ذات يوم بأولئك الصبيان فلما رأوه قال بعضهم لبعض اسكتوا فقد جاء حبيب العابد فبكى وقال يا رب أنت تذم مرة وتحمد مرة وكله من عندك، وقوله ﷺ واتبع السيئة الحسنة تمحها لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السر والعلانية مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانا تفريط في التقوى إما بترك بعض المأمورات أو بارتكاب بعض المحظورات فأمره بأن يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة قال الله عز وجل {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي فذكر ذلك له فسكت النبي ﷺ حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل هذا له خاصة قال بل للناس عامة وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي ﷺ في هذه الوصية في قوله عز وجل {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} آل عمران فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عنهم فجمع بين وصفهم ببذل الندي واحتمال الأذى وهذا هو غاية حسن الخلق الذي وصى به النبي ﷺ لمعاذ ثم وصفهم بأنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا عليها فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش وصغائر وهي ظلم النفس لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عقب وقوعها ويستغفرونه ويتوبون إليه منها والتوبة هي ترك الإصرار ومعنى قوله ذكروا الله ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه وما يوعد به على المعصية من العقاب فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار وقال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} الأعراف.
وفي الصحيح انفرد مسلم برواية أخرى.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال إذا أذنب عبد ذنبا فقال رب إني عملت ذنبا فاغفر لي فقال الله علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي ثم إذا أذنب ذنبا آخر إلى أن قال في الرابعة فليعمل ما شاء يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبا استغفر منه.
وفي الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة.
وخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر أن رجلًا أتى النبي ﷺ قال يا رسول الله أحدنا يذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر منه قال يغفر له ويثاب عليه قال فيعود فيذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر منه ويتوب قال يغفر له ويثاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا.
وخرج الطبراني بإسناد ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت جاء حبيب بن الحارث إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب قال فتب إلى الله عز وجل قال أتوب ثم أعود قال فكلما أذنبت فتب قال يا رسول الله إذا تكثر ذنوبي قال فعفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث.
وخرجه بمعناه من حديث أنس مرفوعًا بإسناد ضعيف وبإسناده عن عبدالله بن عمرو قال من ذكر خطيئة عملها فوجل قلبه منها واستغفر الله لم يحسبها بشيء حتى يمحها وروي ابن أبي الدنيا بإسناده عن على قال خياركم كل مفتن تواب قيل فإذا عاد قال يستغفر الله ويتوب قيل فإن عاد قال يستغفر الله ويتوب قيل فإن عاد قال يستغفر الله ويتوب قيل حتى متى قال حتى يكون الشيطان هو المحسور.
وخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعًا التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقيل للحسن ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود فقال ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا فلا تملوا من الاستغفار وروي عنه أنه قال ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين يعني أن المؤمن كلما أذنب تاب وقد روي المؤمن مفتن تواب وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف مرفوعًا المؤمن واه راقع فسعيد من هلك على دقعة وقال عمر بن عبدالعزيز في خطبته من أحسن منكم فليحمد الله ومن أساء فليستغفر الله وليتب فإنه لا بد من أقوام من أن يعملوا أعمالًا وظفها الله في رقابهم وكتبها عليهم وفي رواية أخرى أنه قال أيها الناس من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب فإن عاد فليستغفر الله وليتب فإن عاد فليستغفر وليتب فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال وإن الهلاك في الإصرار عليها ومعنى هذا أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب كما قال النبي ﷺ كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب ومحاه بالتوبة والاستغفار فإن فعل فقد تخلص من شر الذنوب وإن أصر على الذنب هلك.
وفي المسند من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون وفسر أقماع القول بمن كانت أذناه كالقمع لما سمع من الحكمة والموعظة الحسنة فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج في الأخرى ولم ينتفع بشيء مما سمع، وقوله ﷺ واتبع السيئة الحسنة قد يراد بالحسنة التوبة من تلك السيئة وقد ورد ذلك صريحا في حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا من مراسيل محمد بن جبير أن النبي ﷺ لما بعث معاذ إلى اليمن قال يا معاذ اتق الله ما استطعت واعمل بقوتك لله عز وجل ما أطقت واذكر الله عز وجل عند كل شجرة وحجر وإن أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة إن سرا فسر وإن علانية فعلانية وخرجه أبو نعيم بمعناه من وجه آخر ضعيف عن معاذ.
وقال قتادة قال سلمان إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة وإذا أسأت سيئة في علانية فأحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه وهذا يحتمل أنه أراد بالحسنة التوبة أو أعم منها وقد أخبر الله في كتابه أن من تاب من ذنبه فإنه يغفر له ذنبه أو يثاب عليه في مواضع كثيرة كقوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} النساء، وقوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} النمل، وقوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفرقان، وقوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} طه، وقوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} مريم، وقوله {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} آل عمران.
قال عبدالرازق أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} آل عمران الآية بكي.
ويروي عن ابن مسعود قال هذه الآية خير لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها.
وقال ابن سيرين أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال رجل يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل فقال النبي ﷺ اللهم لا نبغيها ثلاثًا ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت خزيا في الآخرة فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل قال {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} النساء.
وقال ابن عباس في قوله تعالى {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج قال هو سعة الإسلام وما جعل لأمة محمد من التوبة والكفارة وظاهر هذه النصوص يدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا واجتمعت شروط التوبة في حقة فإنه يقطع بقبول الله توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلاما صحيحا وهذا قول الجمهور وكلام ابن عبدالبر يدل على أنه إجماع ومن الناس من قال لا يقطع بقبول التوبة بل يرجى وصاحبها تحت المشيئة وإن تاب واستدلوا بقوله {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته وربما استدل بمثل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} التحريم وبقوله {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} القصص، وقوله {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور، وقوله {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} التوبة والظاهر أن هذا في حق التائب لأن الاعتراف يقتضي الندم وفي حديث عائشة عن النبي ﷺ قال إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه والصحيح قول الأكثرين وهذه الآيات لا تدل على عدم القطع فإن الكريم إذا أطمع لم يقطع من رجائه المطمع ومن ههنا قال ابن عباس إن عسى من الله واجب نقله عنه على بن طلحة وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ عسى أيضًا ولم يدل ذلك على أنه مقطوع به كما في قوله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين التوبة وأما قوله {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} النساء فإن التائب ممن شاء أن يغفر له كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه وقد يراد بالحسنة في قول النبي ﷺ أتبع السيئة الحسنة ما هو أعم من التوبة كما في قوله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود وقد روي من حديث معاذ أن الرجل الذي أنزلت بسببه هذه الآية أمره النبي ﷺ أن يتوضأ ويصلي.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} آل عمران.
وفي الصحيحين عن عثمان أنه توضأ ثم قال رأيت رسول الله ﷺ توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى ركعتين أو أربعا يحسن فيهما الركوع والخشوع ثم استغفر الله عز وجل غفر له.
وفي الصحيحين عن أنس قال كنت عند النبي ﷺ فجاء رجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي قال ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلي مع النبي ﷺ فلما قضي النبي ﷺ قام إليه الرجل فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله قال أليس قد صليت معنا قال نعم قال فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك وخرجه مسلم بمعناه من حديث أبي أمامة وخرجه ابن جرير الطبري من وجه آخر عن أبي أمامة وفي حديثه قال فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا تعد فأنزل الله وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات هود.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي ﷺ قال من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره وفيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وفيهما عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال إن الإسلام يهدم ما كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله وفيه من حديث أبي قتادة عن النبي ﷺ قال في صوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله وقال في صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده.
وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ قال مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض ومما يكفر الخطايا ذكر الله عز وجل وقد ذكرنا فيما تقدم أن النبي ﷺ سئل عن قول لا إله إلا الله أمن الحسنات قال هي من أحسن الحسنات.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من قال سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر وفيهما عنه عن النبي ﷺ قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك.
وفي المسند وكتاب ابن ماجه عن أم هانيء عن النبي ﷺ قال لا إله إلا الله لا تترك ذنبا ولا يسبقها عمل.
وخرج الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ أنه مر بشجرة يابسة الورق فضربها بعصاة فتناثر الورق فقال إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما يتساقط ورق هذه الشجرة وخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله ﷺ قال إن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تنفض الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها والأحاديث في هذا كثيرة جدًا ويطول الكتاب بذكرها وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أن لسانه لا يفتر عن ذكر الله قال إن ذلك لعون حسن.
وسئل الإمام أحمد عن رجل اكتسب مالًا من شبهة أصلاته وتسبيحه يحط عنه شيئًا من ذلك فقال إن صلى وسبح يريد به ذلك فأرجو قال الله تعالى {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} التوبة.
وقال مالك بن دينار البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس.
وقال عطاء من جلس مجلسًا من مجالس الذكر كفر به عشرة مجالس من مجالس الباطل وقال شويش العدوي، وكان من قدماء التابعين إن صاحب اليمين أمير أو قال أمين على صاحب الشمال فإذا عمل ابن آدم سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين لا تعجل لعله يعمل حسنة فإن عمل حسنة ألقى واحدة وكتبت له تسع حسنات فيقول الشيطان يا ويله من يدرك تضعيف ابن آدم.
وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر عن أبي مالك الأشعري عن النبي الله ﷺ إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفته من حسنة محى بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات فإذا أراد أن ينام أحدكم فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثًا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة وهذا غريب منكر وروى وكيع حدثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال قال عبدالله يعني ابن مسعود وددت أني صولحت على أن أعمل كل يوم تسع خطيئات وحسنة وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يمحي بها التسع الخطيئات ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة فيكتفي به والله أعلم.
وقد اختلف الناس في مسئلتين إحداهما هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر فمنهم من قال لا تكفر سوى الصغائر وقد روي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر وقال سلمان الفارسي في الوضوء إنه يكفر الجراحات الصغار والمشي إلى المسجد يكفر أكبر من ذلك والصلاة تكفر أكبر من ذلك خرجه محمد بن نصر المرزوي وأما الكبائر فلابد لها من التوبة لأن الله أمر العباد بالتوبة وجعل من لم يتب ظعالمًا واتفقت الأمة على أن التوبة فرض والفرائض لا تؤدي إلا بنية وقصد ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام لم يحتج إلى التوبة وهذا باطل بالإجماع وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل هذا ما ذكره ابن عبدالبر في كتابه التمهيد وحكي إجماع المسلمين على ذلك واستدل عليه بأحاديث منها قوله ﷺ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وهو مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين أحدهما عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر فإن لم يجتنب لم تكفر هذه الفرائض شيئًا بالكلية والثاني أنها تكفر الصغائر مطلقا ولا تكفر الكبائر إن وجدت لكن يشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها ورجح هذا القول وحكاه عن الحذاق، وقوله بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها مراده أنه إذا أصر عليها صارت كبيرة فلم تكفرها الأعمال والقول الأول الذي حكاه غريب مع أنه إذا أصر عليها وقد حكي عن أبي بكر عبدالعزيز بن جعفر من أصحابنا مثله وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي ﷺ قال ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب مالم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله.
وفي مسند الإمام أحمد عن سلمان عن النبي ﷺ قال لا يتطهر الرجل يعني يوم الجمعة فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما أجتنبت الكبائر المقتلة.
وخرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له أدخل بسلام.
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب عن النبي ﷺ معناه أيضًا.
وخرج الحاكم معناه من حديث عبدالله بن عمر عن أبيه عن النبي ﷺ ويروى من حديث ابن عمر مرفوعًا يقول الله عز وجل ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة أغفر لك ما بين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها.
وقال ابن مسعود الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وقال سلمان حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح مالم تصب المقتلة.
وقال ابن عمر لرجل أتخاف النار أن تدخلها وتحب الجنة أن تدخلها قال نعم قال بر أمك فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر وقال قتادة إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن رسول الله ﷺ قال اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري وإياه عني ابن عبدالبر في كتاب التمهيد بالرد عليه وقال قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالا على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة والله أسأله العصمة والتوفيق قلت وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر قال يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه كبيرها وصغيرها فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام وهو مصر على الكبائر تغفر له الكبائر قطعا فهذا باطل قطعا يعلم بالضرورة من الدين بطلانه وقد سبق قوله ﷺ من أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر يعني بعمله في الجاهلية والإسلام وهذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على الكبائر وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه كفرت ذنوبه كلها بذلك واستدل بظاهر قوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء وقال السيئات تشمل الكبائر والصغائر وكما أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية فكذلك الكبائر وقد يستدل لذلك بأن الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وتكفير السيئات وهذا مذكور في غير موضع من القرآن وقد صار هذا من المتقين فإنه فعل الفرائض واجتنب الكبائر واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد فهذا القول يمكن أن يقال في الجملة والصحيح قول الجمهور أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة لأن التوبة فرض على العباد وقد قال عز وجل {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات وقد فسرت الصحابة كعمر وعلى وابن مسعود التوبة بالندم ومنهم من فسرها بالعزم على أن لا يعود وقد روي ذلك مرفوعًا من وجه فيه ضعف لكن لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومن بعدهم كعمر بن عبدالعزيز والحسن وغيرهما وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب وتكفير السيئات للمتقين كقوله تعالى {إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الأنفال، وقوله تعالى {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} التغابن، وقوله {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} الطلاق فإنه لم يبين في هذه الآيات خصال التقوى ولا العمل الصالح ومن جملة ذلك التوبة النصوح فمن لم يتب فهو ظالم غير متق وقد بين في سورة آل عمران خصال التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنة فذكر منها الاستغفار وعدم الإصرار فلم يضمن تكفير السيئات ومغفرة الذنوب إلا لمن كانت هذه الصفة له والله أعلم.
ومما يستدل به على أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة منها أو العقوبة عليها حديث عبادة بن الصامت قال كنا عند رسول الله ﷺ قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولاتزنوا وقرأ عليهم الآية فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له خرجاه في الصحيحين وفي رواية لمسلم من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته فهذا يدل على أن الحدود كفارات قال الشافعي لم أسمع في هذا الباب أن الحد يكون كفارة لأهله شيئًا أحسن من حديث عبادة بن الصامت، وقوله فعوقب يعم العقوبات الشرعية وهي الحدود المقدرة أو غير المقدرة أو غير المقدرة كالتعزيزات ويشمل العقوبات القدرية كالمصائب والأسقام والآلام فإنه صح عن النبي ﷺ أن قال لا يصيب المسلم نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه وروي عن علي أن الحد كفارة لمن أقيم عليه وذكر ابن جرير الطبري في هذه المسئلة اختلافا بين الناس ورجح أن إقامة الحد بمجرده كفارة ووهن القول بخلاف ذلك جدًا قلت وقد روي عن سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم أن إقامة الحد ليس بكفارة ولابد معه من التوبة ورجحه طائفة من المتأخرين منهم البغوي وأبو عبدالله بن تيمية في تفسيريهما وهو قول ابن حزم الظاهري والأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد وأما حديث أبي هريرة المرفوع لا أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا فقد خرجه الحاكم وغيره وأعله البخاري وقال لا يثبت وإنما هو مراسيل الزهري وهي ضعيفة وغلط عبدالرازق فوصله قال وقد صح عن النبي ﷺ أن الحدود كفارات ومما يستدل به من قال الحد ليس بكفارة قوله تعالى في المحاربين {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} المائدة وظاهره أنه يجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة ويجاب عنه بأنه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة ولا يلزم اجتماعهما وأما استثناء من تاب فإنما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة فإن عقوبة الآخرة تسقط بالتوبة قبل القدرة وبعدها، وقوله ﷺ ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له صريح في أن هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحت مشيئته وهذا يدل على أن إقامة الفرائض لا تكفرها ولا تمحوها فإن عموم المسلمين يحافظون على الفرائض لا سيما من بايعهم النبي ﷺ.
وخرج من ذلك من لقي الله وقد تاب عنها بالنصوص الدالة من الكتاب والسنة على أن من تاب إلى الله تاب الله عليه وغفر له فبقى من لم يتب داخلا تحت المشيئة وأيضا فيدل على أن الكبائر لا تكفرها الأعمال إن الله لم يجعل للكبائر في الدنيا كفارة واجبة وإنما جعل الكفارة للصغائر ككفارة وطء المظاهر ووطء المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وكفارة من ترك شيئًا من واجبات الحج أو ارتكاب بعض محظوراته وهي أربعة أجناس هدي وعتق وصدقة وصيام ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمد عند جمهور العلماء ولا في اليمين الغموس أيضًا عند أكثرهم وإنما يؤمر القاتل بعتق رقبة استحبابا كما في حديث واثلة بن الأسقع أنهم جاءوا إلى النبي ﷺ في صاحب لهم قد أوجب فقال اعتقوا عنه رقبة يعتقه الله بها من النار ومعنى أوجب عمل عملًا يجب له به النار ويقال إنه كان قتل قتيلا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أنه ضرب عبدًا له فأعتقه وقال ليس لي فيه من الأجر مثل هذا وأخذ عودا من الأرض إني سمعت النبي ﷺ يقول من لطم مملوكه أو ضربه فإن كفارته أن يعتقه فإن قيل فالمجامع في رمضان يؤمر بالكفارة والفطر في رمضان من الكبائر قيل ليست الكفارة للفطر ولهذا لا يجب عند الأكثرين على كل مفطر في رمضان عمدا وإنما هي لهتك حرمة رمضان بالجماع ولهذا لو كان مفطرا فطرا لا يجوز له نهار رمضان ثم جامع للزمته الكفارة عند الإمام أحمد لما ذكرنا ومما يدل على أن تكفير الواجبات مختص بالصغائر ما أخرجه البخاري عن حذيفة قال بينما نحن جلوس عند عمر إذ قال أيكم يحفظ قول رسول ﷺ في الفتنة قال قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال ليس عن هذا أسألك وخرجه مسلم بمعناه وظاهر هذا السياق يقتضي رفعه وفي رواية البخاري أن حذيفة قال سمعته يقول فتنة الرجل فذكره وهذا كالصريح في رفعه وفي رواية مسلم أن هذا من كلام عمر وأما قول النبي ﷺ للذي قال له أصبت حدا فأقمه على فتركه حتى صلى ثم قال له إن الله غفر لك حدك فليس صريحا في أن المراد به شيء من الكبائر لأن حدود الله محارمه كما قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الطلاق، وقوله {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} البقرة، وقوله {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} النساء الآية إلى قوله {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء.
وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي ﷺ في ضرب مثل الإسلام بالصراط المستقيم على جنبيه سوران.
قال السوران حدود الله وقد سبق ذكره بتمامه فكل من أصاب شيئًا من محارم الله فقد أصاب حدوده وركبها وتعدى بها وعلى تقدير أن يكون الحد الذي أصابه كبيرة فهذا الرجل جاء نادمًا تائبًا وأسلم نفسه إلى إقامة الحد عليه والندم توبة والتوبة تكفر الكبائر بغير تردد وقد روي ما يستدل به على أن الكبائر تكفر ببعض الأعمال الصالحة فخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة قال فهل لك من أم قال لا قال فهل لك من خالة قال نعم قال فبرها وخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال على شرط الشيخين لكن خرجه الترمذي من وجه آخر مرسلًا وذكر أن المرسل أصح من الموصول وكذا قال على بن المديني والدارقطني وروي عن عمر أن رجلًا قال له قتلت نفسا قال أمك حية قال لا قال فأبوك قال نعم قال فبره وأحسن إليه ثم قال عمر لو كانت أمه حية فبرها وأحسن إليها رجوت أن لا تطعمه النار أبدًا وعن ابن عباس بمعناه أيضًا، وكذلك المرأة التي عملت بالسحر بدومة الجندل وقدمت المدينة فسأل عن توبتها فوجدت النبي ﷺ قد توفي فقال لها أصحابه لو كان أبواك حيين أو أحدهما يكفيانك خرجه الحاكم وقال فيه إجماع الصحابة حدثان وفاة الرسول ﷺ على أن بر الأبوين الوالدين يكفيانها وقال مكحول والإمام أحمد بر الوالدين كفارة الكبائر وروي عن بعض السلف في حمل الجنائز أنه يحبط الكبائر وروي مرفوعًا من وجوه لا تصح وقد صح من رواية أبي بردة أن أبا موسى لما حضرته الوفاة قال يا بني اذكروا صاحب الرغيف كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة فشبه الشيطان في عينه امرأة فكان معها سبعة أيام وسبع ليال ثم كشف عن الرجل غطاءه فخرج تائبًا ثم ذكر أنه بات بين مساكين فتصدق عليهم برغيف فأعطوه رغيفا ففقده صاحبه الذي كان يعطاه فلما علم بذلك أعطاه الرغيف وأصبح ميتا فوزنت السبعون سنة بالسبع ليال فرجحت الليالي ووزن الرغيف بالسبع ليال فرجح الرغيف وروي ابن المبارك بإسناده في كتاب البر والصلة عن ابن مسعود قال عبدالله رجل سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط الله عمله ثم أصابته زمانة وأقعد فرأى رجلًا يتصدق على مساكين فجاء إليه فأخذ منه رغيفا فتصدق به على مسكين فغفر الله له ورد عليه عمل سبعين سنة وهذه كلها لا دلالة فيها على تكفير الكبائر بالأعمال لأن كل من ذكر فيها كان نادمًا تائبًا من ذنبه وإنما كان سؤاله عن عمل صالح يتقرب به إلى الله بعد التوبة حتى يمحو به أثر الذنب بالكلية فإن الله شرط في قبول التوبة ومغفرة الذنوب بها العمل الصالح كقوله إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا مريم، وقوله فأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فعسى أن يكون من المفلحين القصص وفي هذا متعلق لمن يقول إن التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير من الخائفين من السلف وقال بعضهم هل أذنبت ذنبا قال نعم قال فعلمت أن الله كتبه عليك قال نعم قال فاعمل حتى تعلم أن الله قد محاه ومنه قال ابن مسعود إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا وهكذا خرجه البخاري وكانوا يتهمون أعمالهم وتوباتهم ويخافون أن لا يكون قد قبل منهم ذلك فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح قال الحسن أدركت أقواما لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه.
وقال ابن عون لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا إن عملك مغيب عنك كله والأظهر والله أعلم.
في هذه المسألة أعني مسئلة تكفير الكبائر بالأعمال إن أريد أن الكبائر تمحي بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فهذا باطل وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال فتمحي الكبيرة بما يقابلها من العمل ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب فهذا قد يقع وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال ليس لي فيه من الأجر شيء حيث كان كفارة لذنبه ولم يكن ذنبه من الكبائر فكيف بما كان من الأعمال مكفرا للكبائر وسبق أيضًا قول من قال من السلف إن السيئة تمحي ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل فإذا كان هذا في الصغائر فكيف بالكبائر فإن بعض الكبائر قد يحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يبطل المن والأذى الصدقة وتبطل المعاملة بالربا الجهاد كما قالت عائشة وقال حذيفة قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة وروي عنه مرفوعًا خرجه البزار في مسنده والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال يؤتي بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة فيقض أو يقضي بها بعضها من بعض فإن بقيت له حسنة وسع له بها في الجنة.
وخرج بن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة قال حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله عز وجل {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الزلزلة.
قال كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين فيستقلون أن يعطوه تمرة وكسرة وجوزة ونحو ذلك فيردونه ويقولون ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما يعطي ونحن نحبه وكانوا يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك يقولون إنما وعد الله النار على الكبائر فرغبهم الله في القليل من الخير أن يعملوه فإنه يوشك أن يكثر وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر فنزلت فمن يعمل مثقال ذرة الزلزلة يعني ذرة أصغر النمل خيرًا يره الزلزلة يعني في ويسره ذلك قال يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة واحدة سيئة وبكل حسنة عشر حسنات فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمن أيضًا بكل واحدة عشرًا فيمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة.
وظاهر هذا أنه يقع المقاصة بين الحسنات والسيئات ثم يسقط الحسنات المقابلة للسيئات وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة وهذا يوافق قول من قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة وتسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته خلافًا لمن قال يثاب بالجميع وتسقط سيئاته كأنها لم تكن وهذا في الكبائر أما الصغائر فإنه قد تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها كما قال ﷺ ألا أدلكم على ما يمحق الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فأثبت لهذه الأعمال تكفير الخطايا ورفع الدرجات، وكذلك قوله ﷺ من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كتب الله له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له عدل عشر رقاب فهذا يدل على أن الذكر يمحو السيئات ويبقى ثوابه لعامله مضاعفا، وكذلك سيئات التائب توبة نصوحا تكفر عنه وتبقى له حسناته كما قال الله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} الأحقاف وقال تعالى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ. لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} الزمر.
فلما وصف هؤلاء بالتقوى والإحسان دل على أنهم ليسوا بمصرين على الذنوب بل تائبون منها، وقوله {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} الزمر يدخل فيه الكبائر لأنها أسوأ الأعمال وقال {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} الطلاق فرتب على التقوى المتضمنة لفعل الواجبات وترك المحرمات تكفير السيئات وتعظيم الأجر وأخبر الله عن المؤمنين المتفكرين في خلق السموات والأرض أنهم قالوا {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} آل عمران فأخبر أنه استجاب لهم ذلك وأنه كفر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنات، وقوله {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} آل عمران.
فخص الله الذنوب بالمغفرة والسيئات بالتكفير فقد يقال السيئات تخص الصغائر والذنوب يراد بها الكبائر فالسيئات تكفر لأن الله جعل لها كفارات في الدنيا شرعية وقدرية والذنوب تحتاج إلى مغفرة تقي صاحبها من شرها أو المغفرة والتكفير يتقاربان فإن المغفرة قد قيل إنها ستر الذنوب وقيل وقاية شر الذنوب مع ستره ولهذا يسمى ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مغفرا ولا يسمى كل ساتر للرأس مغفرا وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ووقاية السيئات والتكفير من هذا الجنس لأن أصل الكفر الستر والتغطية أيضًا وقد فرق بعض المتأخرين بينهما بأن التكفير محو أثر الذنب حتى كأنه لم يكن والمغفرة تتضمن مع ذلك إفضال الله على العبد وإكرامه وفي هذا نظر وقد يفسر بأن مغفرة الذنوب بالأعمال الصالحة تقلبهما حسنات وتكفيرها بالمكفرات تمحوها فقط وفيه أيضًا نظر فإنه قد صح أن الذنوب المعاقب عليها بدخلول النار تبدل حسنات فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارة لها أولي ويحتمل معنيين آخرين أحدهما أن المغفرة لا تحصل إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة لأنها وقاية شر الذنب بالكلية والتكفير قد يقع بعد العقوبة فإن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للخطايا وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرحمة والثاني أن الكفارات من الأعمال ما جعل الله لمحو الذنوب المكفرة بها ويكون ذلك هو ثوابها ليس لها ثواب غيره والغالب عليها أن تكون من جنس مخالفة هوى النفس وتجشم المشقة كاجتناب الكبائر الذي جعله الله كفارة للصغائر وأما الأعمال التي تغفر بها الذنوب فهي ما عدا ذلك ويجتمع فيها المغفرة والثواب عليها كالذكر الذي يكتب به الحسنات ويمحي به السيئات وعلى هذا الوجه فيفرق بين الكفارات من الأعمال وغيرها وأما تكفير الذنوب ومغفرتها إذا أضيف ذلك إلى الله فلا فرق بينهما وعلى الوجه الأول يكون بينهما فرق أيضًا ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران أحدهما قول ابن عمر لما أعتق العبد الذي ضربه ليس لي في عتقه من الأجر شيء واستدل بأنه كفارة والثاني أن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للذنوب وقد قال كثير من الصحابة وغيرهم من السلف إنه لا ثواب فيها مع التكفير وإن كان بعضهم قد خالف في ذلك ولا يقال فقد فسر الكفارات في حديث المنام بإسباغ الوضوء في المكروهات ونقل الإقدام إلى الصلاة وقال من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفع الدرجات ويحصل عليه الثواب لأنا نقول قد يجتمع في العمل الواحد شيئان يرفع بأحدهما الدرجات ويكفر بالآخر السيئات فالوضوء نفسه يثاب عليه لكن إسباغه في شدة البرد من جنس الآلام التي تحصل للنفوس في الدنيا فيكون كفارة في هذه الحال وأما في غير هذه الحالة فتغفر به الخطايا كما يغفر بالذكر وغيره، وكذلك المشي إلى الجماعات هو قربة وطاعة ويثاب عليه ولكن ما يحصل للنفس به من المشقة والألم بالتعب والنصب هو كفارة، وكذلك حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع التي تميل النفوس إليها إما لكسب الدنيا أو للتنزه هو من هذه الجهة مؤلم للنفس فيكون كفارة وقد جاء في الحديث إن إحدى خطوات الماشي إلى المسجد ترفع له درجة والأخرى تحط عنه خطيئة وهذا يقوي ما ذكرناه وإن ما حصل به التكفير غير ما حصل به رفع الدرجات والله أعلم.
وعلى هذا فيجتمع في العمل الواحد تكفير السيئات ورفع الدرجات من جهتين ووصف في كل حال بكلا الوصفين فلا تنافي بين تسميته كفارة وبين الإخبار عنه بمضاعفة الثواب به أو وصفه برفع الدرجات ولهذا قال ﷺ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فإن في حبس النفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفها عما تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصغائر، وكذلك الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب بما يحصل بها من الألم وترفع الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن فتبين بها أن بعض الأعمال يجتمع فيها ما يوجب رفع الدرجات وتكفير السيئات من وجهين ولا يكون بينهما منافاة وهذا ثابت في الذنوب الصغائر وبلا ريب وأما الكبائر فقد تكفر بالشهادة مع حصول الأجر للشهيد لكن الشهيد ذا الخطايا في رابع درجة من درجات الشهداء كذلك روي عن النبي ﷺ من حديث فضالة بن عبيد خرجه الإمام أحمد والترمذي وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها فقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة في الذكر وقد قيل إن تلك السيئات تكتب حسنات أيضًا كما في حديث أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكره وذكرنا أيضًا عن بعض السلف أنه يمحي بإزاء السيئة الواحدة ضعف واحد من أضعاف ثواب الحسنة وتبقى له تسع حسنات والظاهر أن هذا مختص بالصغائر وأما في الآخرة فيوازن بين الحسنات والسيئات ويقتص بعضها من بعض فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد نجا ودخل الجنة وسواء في هذا الصغائر والكبائر وهكذا من كانت له حسنات وعليه مظالم فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته وبقي له حسنة ودخل بها الجنة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه إن كان وليًا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله حتى يدخل الجنة وإن كان شقيا قال الملك رب فنيت حسناته وبقي له طالبون كثير قال خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاكا إلى النار خرجه ابن أبي حاتم وغيره والمراد أن تفضيل مثقال ذرة من الحسنات إنما هو بفضل الله عز وجل لمضاعفته لحسنات المؤمن وبركته فيها وهكذا حال من كانت له حسنات وسيئات وأراد الله رحمته فضل له من حسناته ما يدخله به الجنة وكله من فضل الله ورحمته فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته.
وخرج أبو نعيم بإسناد ضعيف عن على مرفوعًا أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فإني لا أقاص عبدًا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا يلقوا بأيديهم فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي ومصداق هذا قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح من نوقش الحساب عذب وفي رواية هلك.
المسألة الثانية أن الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا لأنها تقع مكفرة باجتناب الكبائر لقوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء.
هذا مما اختلف الناس فيه فمنهم من أوجب التوبة منها وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر فقال تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} النور إلى قوله {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} النور وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات.
ومن الناس من لم يوجب التوبة منها وحكي عن طائفة من المعتزلة ومن المتأخرين من قال يجب أحد الأمرين إما التوبة منها أو الإتيان ببعض المكفرات للذنوب من الحسنات وحكي ابن عطية في تفسيره في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض واجتناب الكبائر قولين أحدهما وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث أنه يقطع بتكفيرها بذلك قطعا لظاهر الآية والحديث والثاني وحكاه عن الأصوليين أنه لا يقطع بذلك بل يحمل على غلبة الظن وقوة الرجاء وهو في مشيئته الله عز وجل إذ لو قطع بتكفيرها لكانت الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه وذلك نقض لعري الشريعة قلت قد يقال لا يقطع بتكفيرها بها لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال جادت مقيدة بتحسين العمل كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة وحينئذ يتحقق حسن العمل الذي يوجب التكفير وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر.
وقد خرج ابن جرير من رواية الحسن أن قومًا أتوا عمر فقالوا نرى أشياء من كتاب الله لا يعمل بها فقال لرجل منهم أقرأت القرآن كله قال نعم قال فهل أحصيته في نفسك قال اللهم لا قال فهل أحصيته في بصرك فهل أحصيته في لفظك هل أحصيته في أثرك ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ثم قال ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم على الناس كتاب الله قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات قال وتلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء.
وبإسناده عن أنس بن مالك أنه قال لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى لم نخرج له عن كل أهل ومال ثم سكت ثم قال والله لما خلقنا ربنا أهون من ذلك لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر فمالنا ولها ثم تلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} النساء وخرجه البزار في مسنده مرفوعًا والموقوف أصح وقد وصف الله المحسنين باجتناب الكبائر قال تعالى {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} النجم.
وفي تفسير اللمم قولان للسلف أحدهما أنه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة وعن ابن عباس هو ما دون الحد من وعيد الآخرة بالنار وحد الدنيا والثاني أنه الإلمام بشيء من الفواحش والكبائر مرة واحدة ثم يتوب منه وروي عن ابن عباس وأبي هريرة وروي عنه مرفوعًا بالشك في رفعه قال اللمة من الزنا ثم يتوب فلا يعود واللمة من شرب الخمر ثم يتوب فلا يعود واللمة من السرقة ثم يتوب فلا يعود ومن فسر الآية بهذا قال لا بد أن يتوب منه بخلاف من فسره بالمقدمات فإنه لم يشترط توبة والظاهر أن القولين صحيحان وأن كليهما مراد من الآية وحينئذ فالمحسن هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادرا ثم يتوب منها ومن إذا أتى بصغيرة كانت مغمورة في حسناته المكفرة بها ولا بد أن يكون مصرا عليها كما قال تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران.
وروي عن ابن عباس أنه قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها فلابد للمحسنين من اجتناب المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش وقال الله عز وجل {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ. وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الشورى فهذه الآيات تضمنت وصف المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان والتوكل وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله والاستجابة لله في جميع طاعاته ومع هذا فهم مجتنبون كبائر الإثم والفواحش فهذا هو تحقيق التقوى ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب وندبهم إلى العفو والإصلاح وأما قوله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} الشورى فليس منافيًا للعفو فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ثم يقع العفو بعد ذلك فيكون أتم وأكمل.
قال النخعي في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا.
وقال مجاهد كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فتجتريء عليه الفساق فالمؤمن إذا بغى عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك.
وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف منهم عطاء وقتادة وغيرهما فهذه الآيات تتضمن جميع ما ذكره النبي ﷺ في وصيته لمعاذ فإنها تضمنت حصول خصال التقوى بفعل الواجبات والانتهاء عن كبائر المحرمات ومعاملة الخلق بالإحسان والعفو ولازم هذا أنهم إن وقع شيء من الإثم من غير الكبائر والفواحش يكونون مغمورين بخصال التقوى المفضية لتكفيرها ومحوها وأما الآيات التي في سورة آل عمران فوصف فيها المتقين بالإحسان إلى الخلق وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس وعدم الإصرار على ذلك وهذا هو الأكمل وهو إحداث التوبة والاستغفار عقيب كل ذنب من الذنوب صغيرًا كان أو كبيرًا كما روي أن رسول الله ﷺ وصى بذلك معاذًا وقد ذكرناه فيما سبق وإنما بسطنا القول في هذا لأن حاجة الخلق إليه شديدة وكل أحد محتاج إلى معرفة هذا ثم إلى العمل بمقتضاه والله الموفق والمعين.
فقوله ﷺ أتبع السيئة الحسنة تمحها ظاهره أن السيئات تمحى بالحسنات وقد تقدم ذكر الآثار التي فيها أن السيئة تمحى من صحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها.
قال عطية العوفي بلغني أن من بكى على خطيئة محيت عنه وكتبت له حسنة.
وعن عبدالله بن عمرو قال من ذكر خطيئة عملها فوجل قلبه منها فاستغفر الله عز وجل لم يحبسها شيء حتى يمحوها عنه الرحمن.
وقال بشير بن الحارث بلغني عن الفضيل بن عياض قال بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية وبكاء الليل يمحو ذنوب السر وقد ذكرنا قول النبي ﷺ ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات الحديث.
وقال طائفة لا تمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبة ولا غيرها بل لا بد أن يوقف عليها صاحبها ويقرأها يوم القيامة واستدلوا بقوله تعالى {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} الكهف وفي الاستدلال بهذه الآية نظر لأنه إنما ذكر فيها حال المجرمين وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم أو المغفورة ذنوبهم بحسناتهم وأظهر من هذا الاستدلال قوله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة.
وقد ذكر بعض العلماء والمفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند المحققين.
وقد روي هذا القول عن الحسن البصري وبلال بن سعد الدمشقي.
قال الحسن فالعبد يذنب ثم يتوب ويستغفر الله له ولكن لا يمحاه من كتابه دون أن يقف عليه ثم يسأله عنه ثم بكى الحسن بكاء شديدًا وقال ولو لم نبك إلا للحياء من ذلك المقام لكان ينبغي لنا أن نبكي.
وقال بلال بن سعد إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة وإن تاب.
وقال أبو هريرة يدني الله العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه فيستره من الخلائق كلها ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول اقرأ يا بن آدم كتابك فيقرأ فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ويسر بها قلبه فيقول الله أتعرف ياعبدي فيقول نعم يا رب فيقول إني قبلتها منك فيسجد فيقول ارفع رأسك وعد في كتابك فيمر بالسيئة فيسود لها وجهه ويوجل لها قلبه وترتعد منها فرائضه ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره فيقول الله أتعرف يا عبدي فيقول نعم يا رب فيقول إني قد غفرتها لك فيسجد فلا يرى منه الخلائق إلا السجود حتى ينادي بعضهم بعضًا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين ربه عز وجل مما قد وقفه عليه.
وقال أبو عثمان النهدي عن سلمان يعطى الرجل صحيفته يوم القيامة فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ثم نظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات.
وروي عن أبي عثمان عن ابن مسعود وعن أبي عثمان من قوله وهو أصح.
وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين قيل لم سموا أصحاب اليمين قال لأنهم عملوا الحسنات والسيئات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفًا حرفًا قالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا هاؤم أقرؤوا كتابيه الحاقة فهم أكثر أهل الجنة وأهل هذا القول قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون محو كتابتها من الصحف والله أعلم.
وقوله ﷺ وخالق الناس بخلق حسن هذا من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا به وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه فإن كثيرًا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا ومن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره مما لا حاجة للناس به ولا يخالطهم وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته وإهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا لا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والصديقين وقال الحارث المحاسبي ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة حسن الوجه مع الصيانة وحسن الخلق مع الديانة وحسن الإخاء مع الأمانة وقال بعض السلف جلس داود عليه الصلاة والسلام خاليا فقال الله عز وجل مالي أراك خاليا قال هجرت الناس فيك يا رب العالمين قال يا داود ألا أدلك على ما تستبقى به وجوه الناس وتبلغ فيه رضاي خالق الناس بأخلاقهم واحتجز الإيمان بيني وبينك وقد عد الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى بل بدأ في قوله أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين آل عمران وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سعيد المقبري قال بلغنا أن رجلًا جاء إلى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فقال يا معلم الخير كيف أكون تقيا لله عز وجل كما ينبغي قال بيسير من الأمر تحب الله بقلبك كله وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك قال من بني جنسي يا معلم الخير قال ولد أم كلهم ومالًا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته لأحد وأنت تتقي لله عز وجل كما ينبغي له وقد جعل النبي ﷺ حسن الخلق من حسن خصال أخلاق الإيمان كما خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخرجه محمد بن نصر المروزي وزاد فيه إن المرء ليكون مؤمنا وإن في خلقه شيئًا فينقص ذلك من إيمانه.
وخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أسامة بن شريك قال قالوا يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المرء المسلم قال الخلق الحسن وأخبر النبي ﷺ أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة الصائم ليلًا يشتغل المريد للتقوى عن حسن الخلق بالصوم والصلاة ويظن أن ذلك يقطعه عن فضلهما فخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عائشة عن النبي ﷺ إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم والقائم وأخبر أن النبي ﷺ قال إن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان وإن صاحبه أحب الناس إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا فخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من شيء يوضع في ميزان العبد أثقل من حسن الخلق وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة.
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة قالوا بلى قال أحسنكم خلقا وقد سبق حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق.
وخرج أبو داود من حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ قال أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه وخرجه الترمذي وابن ماجه بمعناه من حديث أنس وقد روي عن السلف تفسير حسن الخلق فعن الحسن قال حسن الخلق الكرم والبذلة والاحتمال وعن الشعبي قال حسن الخلق البذلة والعطية والبشر الحسن، وكان الشعبي كذلك وعن ابن المبارك قال هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق فأنشد شعرا فقال:
تراه إذا ما جئته متهللا *** كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه *** لجاد بها فليتق الله سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته *** فلجته المعروف والجود ساحله
وقال الإمام أحمد حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحقد، وعنه أنه قال حسن الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس وقال إسحاق بن راهويه هو بسط الوجه وأن لا تغضب ونحو ذلك قال محمد بن نصر وقال بعض أهل العلم حسن الخلق كظم الغيظ لله وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر والعفو عن الزالين إلا تأديبا وإقامة الحد وكف الأذى عن كل مسلم ومعاهد إلا تغيير منكر وأخذا بمظلة لمظلوم من غير تعد.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس الجهني عن النبي ﷺ قال أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتصفح عمن شتمك.
وخرج الحاكم من حديث عقبة ابن عامر الجهني قال قال لي رسول الله ﷺ يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. وخرج الطبراني من حديث على أن النبي ﷺ قال ألا أدلكم على أكرم أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظمك.
==========
الحديث التاسع عشر
عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي ﷺ يومًا فقال لي يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف .
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح في رواية غير الترمذي احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.
هذا الحديث خرجه الترمذي من رواية حنش الصنعاني عن ابن عباس وخرجه الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني مع إسنادين آخرين منقطعين ولم يميز لفظ بعضها من بعض ولفظ حديثه يا غلام أو يا غليم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فقلت بلى فقال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ رحمه الله وعزاه إلى غير الترمذي واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه عبد بن حميد في مسنده بإسناد ضعيف عن عطاء عن ابن عباس، وكذلك عزاه ابن الصلاح في الأحاديث الكلية التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حميد وغيره وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه على ومولاه عكرمة وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وعبيد الله بن عبدالله وعمر مولى عفرة وابن أبي مليكة وغيرهم وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي كذا قال ابن مندة وغيره وقد روي عن النبي ﷺ أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر وفي أسانيدها كلها ضعف وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة وبعضها أصلح من بعض وبكل حال فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين حتى قال بعض العلماء تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه قلت وقد أفردت لشرحه جزء كبيرًا ونحن نذكر هاهنا مقاصد على وجه الاختصار إن شاء الله تعالى قوله ﷺ احفظ الله يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه وقال عز وجل {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} ق وفسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة وقد أمر الله بالمحافظة عليها فقال {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} البقرة ومدح المحافظين عليها بقوله {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المعارج وقال النبي ﷺ من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي حديث آخر من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة.
وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة قال النبي ﷺ لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ومما يؤمر بحفظه الأيمان قال الله عز وجل {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} المائدة فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرًا ويهمل كثير منهم ما يجب بها فلا يحفظه ولا يلتزمه ومن ذلك حفظ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى خرجه الإمام أحمد والترمذي وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله قال الله عز وجل {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} البقرة وقد جمع الله ذلك كله في قوله {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء ويتضمن أيضًا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة خرجه الحاكم.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الجنة وأمر الله عز وجل بحفظ الفرج ومدح الحافظين لها فقال {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} النور وقال {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} الأحزاب وقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون إلى قوله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} المؤمنون.
وقال أبو إدريس الخولاني أول ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض حفظ فرجه وقال لا تضعه إلا في حلال.
وقوله ﷺ يحفظك يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} البقرة وقال {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة وقال {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} محمد.
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله عز وجل {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} الرعد.
قال ابن عباس هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقال علي رضي الله عنه إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة وقال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه إلا قال له وراءك إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال لم يكن رسول الله ﷺ يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهل ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.
وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يومًا وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس فقال إن هذا ضعيف ضيع الله في صغره فضيعه الله في كبره وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} الكهف أنهما حفظا بصلاح أبيهما قال سعيد بن المسيب لابنه لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.
وقال عمر بن عبدالعزيز ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه.
وقال ابن المنكدر إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله فإن الله يحفظه في تلك الحال.
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي ﷺ قال كانت امرأة في بيت فخرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزة وصيصتها كانت تنسج بها قال ففقدت عنزة لها وصيصيتها فقالت يا رب إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه وإني قد فقدت عنزا من غنمي وصيصيتي وإني أنشدك عنزة لي وصيصيتي قال وجعل النبي ﷺ يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى قال رسول الله ﷺ فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها هي الصنارة التي يغزل بها وينسج فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى قال بعض السلف من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غنى عنه ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي ﷺ حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى الأسد فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق فلما أوقفه عليها جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه.
ورؤي إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس فما زالت تذب عنه حتى استيقظ وعكس هذا أن من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم.
كما قال بعض السلف إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي النوع الثاني من الحفظ وهو أشرف النوعين حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان.
قال بعض السلف إذا حضر الرجل الموت يقال للملك شم رأسه قال أجد في رأسه القرآن قال شم قلبه قال أجد في قلبه الصيام قال شم قدميه قال أجد في قدميه القيام قال حفظ نفسه فحفظه الله.
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ أنه أمره أن يقول عند منامه إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين وفي حديث عمر أن النبي ﷺ علمه أن يقول اللهم احفظني بالإسلام قائمًا واحفظني بالإسلام قاعدًا واحفظني بالإسلام راقدًا ولا تطمع في عدوًا ولا حاسدًا.
خرجه ابن حبان في صحيحه، وكان النبي ﷺ يودع من أراد سفرًا فيقول استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وقال ﷺ إن الله إذا استودع شيئًا حفظه خرجه النسائي وغيره.
وفي الجملة فإن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون كارهًا له كما قال في حق يوسف عليه السلام {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} يوسف.
قال ابن عباس في قوله تعالى {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
وقال الحسن وذكر أهل المعاصي هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم.
وقال ابن مسعود إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه فيظل يتطير بقوله سبني فلان وأهانني فلان وما هو إلا فضل الله عز جل.
وخرجه الطبراني من حديث أنس عن النبي ﷺ يقول الله عز وجل إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر وإن بسط عليه أفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليم خبير.
وقال ﷺ احفظ الله تجده تجاهك وفي رواية أمامك معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قال قتادة من يتق الله يكن معه ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل بل كتب بعض السلف إلى أخ له أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف وإن كان عليك فمن ترجو وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} طه وقول موسى {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الشعراء.
وفي قول النبي ﷺ لأبي بكر وهما في الغار ما ظنك باثنين الله ثالثهما {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التوبة فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة بخلاف المعية المذكورة في قوله تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} المجادلة، وقوله {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} النساء فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم فهي مقتضية لتخويف العباد منه والمعية الأولي تقتضي حفظه وحياطته ونصره فمن حفظ الله وراعى حقوقه وجده أمامه وتجاهه على كل حال فاستأنس به واستغنى عن خلقه كما في حديث أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان وقد سبق وروي عن نبهان الحمال أنه دخل البرية وحده على طريق تبوك فاستوحش فهتف به هاتف لم تستوحش أليس حبيبك معك وقيل لبعضهم ألا تستوحش وحدك فقال كيف أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني وقيل لآخر نراك وحدك فقال من يكن الله معه كيف يكون وحده وقيل لآخر أما معك مؤنس قال بلى قيل أين هو قال أمامي ومعي وخلفي وعن يميني وعن شمالي وفوقي، وكان الشبلي ينشد:
إذا نحن أدجلنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بذكرك هاديا
، وقوله ﷺ تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة يعني أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة روعي له تعرفه إليه في الرخاء فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ومحبته له وإجابته لدعائه فمعرفة العبد لربه نوعان أحدهما المعرفة العامة وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان وهو عامة للمؤمنين والثاني معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون كما قال بعضهم مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها قيل له وما هو قال معرفة الله عز وجل.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي وليس معرفته الإقرار به ولكن المعرفة إذا عرفته استحييت منه ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان معرفة عامة وهي علمه تعالى بعباده واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه كما قال ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ق قال هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم النجم والثاني معرفة خاصة وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه وإنجائه من الشدائد وهي المشار إليها بقوله ﷺ فيما يحكي عن ربه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وفي رواية ولئن دعاني لأجيبنه ولما هرب الحسن من الحجاج دخل إلى بيت حبيب بن محمد فقال له حبيب يا أبا سعيد أليس بينك وبين ربك ما تدعوه به فيسترك من هؤلاء ادخل البيت فدخل ودخل الشرط على أثره فلم يروه فذكر ذلك للحجاج فقال بل كان في البيت إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه واجتمع الفضيل بن عياض بشعوانه العابدة فسألها الدعاء فقالت يا فضيل وما بينك وبينه ما إن دعوته أجابك فغشي على الفضيل وقيل لمعروف وما الذي هيجك إلى الانقطاع والعبادة وذكرت الموت والبرزخ والجنة والنار فقال معروف إن ملكا هذا كله بيده إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا وفي الجملة فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته.
وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء.
وخرج ابن أبي حاتم وغيره من رواية أبي يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه أن يونس عليه الصلاة والسلام لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة يا رب هذا صوت معروف من بلاد غريبة فقال الله عز وجل أما تعرفون ذلك قالوا ومن هو قال عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قال نعم قالوا يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال بلى قال فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء وقال الضحاك بن قيس اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة إن يونس عليه الصلاة والسلام كان يذكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الصافات وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله فلما أدركه الغرق قال آمنت فقال الله تعالى {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} يونس.
وقال سلمان الفارسي إذا كان الرجل دعا في السر فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له وإذا كان ليس بدعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له.
وقال رجل لأبي الدرداء أوصني فقال اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء.
وعنه أنه قال ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الحشر فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه واستعد حينئذ للقاء الله عز وجل بالموت وما بعده ذكره الله عند هذه الشدائد فكان معه فيها ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد فلقيه وهو عنه راض ومن نسي الله في حال صحته ورخائه ولم يستعد حينئذ للقائه نسيه الله في هذه الشدائد بمعنى أنه أعرض عنه فأهمله فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له أحسن الظن بربه وجاءته البشرى من الله فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه والفاجر بعكس ذلك وحينئذ يفرح المؤمن ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه ويندم المفرط ويقول {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ}.
قال أبو عبدالرحمن السلمي قبل موته كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان.
وقال أبو بكر بن عياش لابنه عند موته أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة.
وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجي للموت ثم قال بحبي لك ألا رفقت بي في هذا المصرع كنت آملك لهذا اليوم كنت أرجوك لا إله إلا الله ثم قضى.
ولما احتضر زكريا بن عدي رفع يديه وقال اللهم إني إليك لمشتاق.
وقال عبدالصمد الزاهد عند موته سيدي لهذه الساعة خبأتك فلهذا اليوم اقتنيتك حقق حسن ظني بك.
وقال قتادة في قول الله عز وجل {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} الطلاق قال من الكرب عند الموت.
وقال على بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.
وقال زيد بن أسلم في قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} فصلت.
قال يبشر بذلك عند موته وفي قبره وحين يبعث فإنه لفي الجنة وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه.
وقال ثابت البناني في هذه الآية بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من قبره ويتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن فيؤمن من الله خوفه ويقر الله عينه فما من عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله ولما كان يعمل في الدنيا.
وقوله ﷺ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله هذا منزع من قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة كذا روي عن النبي ﷺ من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} خرجه الإمام وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وخرج الترمذي من حديث انس بن مالك عن النبي ﷺ الدعاء مخ العبادة فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل ولا يسأل غيره وأن يستعان بالله دون غيره وأما السؤال فقد أمر الله بسؤاله فقال واسألوا الله من فضله وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعًا سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل.
وفيه أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا من لا يسأل الله يغضب عليه وفي حديث آخر يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع.
وفي النهي عن مسئلة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة وقد بايع النبي ﷺ جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئًا منهم أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط السوط أو خطام ناقته فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه.
وخرج ابن أبي الدنى من حديث أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إن بني فلان أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي فقال له النبي ﷺ إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت مالهم مد من طعام أو صاع فاسأل الله عز وجل فرجع إلى امرأته فقالت ما قال لك فأخبرها فقالت نعم ما رد عليك فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت فأتى النبي ﷺ فأخبره فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس بمسئلة الله عز وجل والرغبة إليه وقرأ {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الطلاق.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أن الله عز وجل يقول هل من داع فأستجيب له دعاءه هل من سائل فأعطيه سؤله هل من مستغفر فأغفر له.
وخرج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال قال الله تعالى من ذا الذي دعاني فلم أجبه وسألني فلم أعطه واستغفرني فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين.
واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار وفيه الاعتراف بقدرة المسئول على رفع هذا الضر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار ولا يصلح الذل والافتقار إلا الله وحده لأنه حقيقة العبادة.
وكان الإمام أحمد يدعو ويقول اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسئلة لغيرك ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواك كما قال {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} يونس وقال {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} فاطر.
والله سبحانه يحب أن يسئل ويرغب إليه في الحوائج ويلح في سؤاله ودعائه ويغضب على من لا يسأله ويستدعي من عباده سؤاله وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء والمخلوق بخلاف ذلك يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل لعجزه وفقره وحاجته.
ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك ويحك تأتي من يغلق عنك بابه ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار ويظهر لك غناه ويقول ادعني أستجب لك.
وقال طاووس لعطاء إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق بابه دونك ويجعل دونها حجابه وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وهذا تحقيق معنى قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولاقوة له على ذلك إلا بالله وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخذولًا كتب الحسن إلى عمر بن العزيز لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه ومن كلام بعض السلف يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك قوله ﷺ جف القلم بما هو كائن.
وفي رواية أخرى رفعت الأقلام وجفت الصحف هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد فإن الكتاب إذا فرغ من كتابه ورفعت الأقلام عنه وطال عهده فقد رفعت عنه الأقلام وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى قال الله تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحديد.
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه أيضًا عن جابر أن رجلًا قال يا رسول الله ففيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل قال لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال ففيم العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فكتب في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًا يطول ذكرها قوله ﷺ فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله عليك لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه هذه رواية الإمام أحمد ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضًا والمراد إنما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدر عليه ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عز رجل قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا التوبة، وقوله ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الحديد، وقوله قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم آل عمران.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت عن النبي ﷺ معنى ذلك أيضًا واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه فإن العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع المعطي المانع فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئًا فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعا وإفراده بالاستعانة به والسؤال له وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه قال الله عز وجل {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} الزمر.
وقوله ﷺ واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا يعني أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها كان له في الصبر خير كثير وفي رواية عمر مولى عفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام وهي فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا.
وفي رواية أخرى من رواية على بن عبدالله بن عباس عن أبيه لكن إسنادها ضعيف زيادة أخرى بعد هذا وهي قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن لصيبك فإذا أنت أحكمت باب اليقين ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعني أن العبد يجهد على أن يرضي نفسه بما أصابه فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل فإن لم يستطع الرضا فإن في الصبر على المكروه خيرًا كثيرًا فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب أحدهما أن يرضى بذلك وهي درجة عالية رفيعة جدًا قال الله عز وجل {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.
قال علقمة هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى.
وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي ﷺ قال إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، وكان النبي ﷺ يقول في دعائه أسألك الرضا بعد القضاء ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي ﷺ لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سراء شكر، وكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر، وكان خيرًا له وليس ذلك إلا للمؤمن وجاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة فقال لا تتهم الله في قضائه.
قال أبو الدرداء إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به.
وقال ابن مسعود إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط في الرضا أن لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما وقال عمر بن عبدالعزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور قال الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}.
قال بعض السلف الحياة الطيبة هي الرضا والقناعة وقال عبدالواحد بن زيد الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء وأنه غير متهم في قضائه وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء فينسيهم ألم المقضي به وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله فيستغرقون في مشاهدة ذلك حتى لا يشعرون بالألم وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة حتى ربما تلذذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم كما قال بعضهم أوجدهم في عذابه عذوبة وسئل بعض التابعين عن حاله في مرضه فقال أحبه إليه أحب إلي وسئل سري هل يجد المحب ألم البلاء فقال لا وقال بعضهم:
عذابه فيك عذب *** وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني *** لما تحب أحب
والدرجة الثانية أن يصبر على البلاء وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء فالرضا فضل مندوب إليه مستحب والصبر واجب على المؤمن حتم وفي الصبر خير كثير فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر قال الله عز وجل {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر وقال {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة.
قال الحسن الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن والفرق بين الرضا والصبر أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بألم لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق، وقوله ﷺ واعلم أن النصر مع الصبر هذا موافق لقول الله عز وجل {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة، وقوله {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال.
وقال عمر لأشياخ من بني عبس بم قاتلتم الناس قالوا بالصبر لم نلق قومًا إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا.
وقال بعض السلف كلنا يكره الموت وألم الجراح ولكن نتفاضل بالصبر.
وقال ابن بطال الشجاعة صبر ساعة.
وهذا في جهاد العدو الظاهر وهو جهاد الكفار، وكذلك جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس والهوى فإن جهادهما من أعظم الجهاد كما قال النبي ﷺ المجاهد من جاهد نفسه في الله.
وقال عبدالله بن عمر لمن سأله عن الجهاد أبدًا بنفسك فجاهدها وابدأ بنفسك فاغزها.
وقال بقية بن الوليد أخبرنا إبراهيم بن أدهم قال حدثنا الثقة عن على بن أبي طالب قال أول ما تنكرون من جهادكم أنفسكم.
وقال إبراهيم بن أبي علقمة لقوم جاءوا من الغزو قد جئتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد القلب.
ويروى هذا مرفوعًا من حديث جابر بإسناد ضعيف ولفظه قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد لهواه.
ويروى من حديث سعد بن أنس عن النبي ﷺ قال ليس عدوك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة وإذا قتلته كان نورا لك وإنما أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لعمر حين استخلفه إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك فهذا الجهاد يحتاج أيضًا إلى صبر فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه وحصل له النصر والظفر وملك نفسه فصار ملكًا عزيزًا ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غلب وقهر وأسر وصار عبدًا ذليلا أسيرا في يد شيطانه وهواه كما قيل:
إذا المرء لم يغلب هواه أقامه *** بمنزلة فيها العزيز ذليل
قال ابن المبارك من صبر فما أقل ما يصبر ومن جزع فما أقل ما يتمتع فقوله ﷺ إن النصر مع الصبر يشمل النصر في الجهادين جهاد العدو الظاهر وجهاد العدو الباطن فمن صبر فيهما نصر وظفر بعدوه ومن لم يصبر فيهما وجزع قهر وصار أسيرا لعدوه أو قتيلا له، وقوله ﷺ وإن الفرج مع الكرب وهذا يشهد له قوله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} الشورى وقول النبي ﷺ ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره.
خرجه الإمام أحمد وخرجه ابنه عبدالله في حديث طويل وفيه علم الله يوم الغيث أنه يشرف عليكم أذلين قنطين فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قرب والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم وقنوطهم ويأسهم من الرحمة وقد اقترب وقت فرجه ورحمته لعباده بإنزال الغيث عليهم وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون وقال تعالى {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} الروم وقال تعالى {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} يوسف وقال تعالى {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة وقال حاكيا عن يعقوب أنه قال لبنيه يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله ثم قص قصة اجتماعهم عقب ذلك وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ومن معه في الفلك وإنجاء إبراهيم من النار وفدائه لولده الذي أمر بذبحه وإنجاء موسى وقومه من اليم وإغراق عدوهم وقصة أيوب ويونس وقصص محمد ﷺ مع أعدائه وإنجائه منهم كقصته في الغار ويوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين وغير ذلك، وقوله ﷺ فإن مع العسر يسرا هو منتزع من قوله تعالى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، وقوله عز وجل {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
وخرج البزار في مسنده وابن أبي حاتم واللفظ له من حديث أنس عن النبي ﷺ قال لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله عز وجل {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
وخرج البزار في مسنده وابن أبي حاتم واللفظ له من حديث أنس مرسلًا نحوه وفي حديثه فقال النبي ﷺ لن يغلب عسر يسرين وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ثم قال قال الله تعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
وبإسناده أن أبا عبيدة حضر فكتب عمر يقول مهما ينزل بامريء شدة يجعل الله بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وإنه يقول {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران.
ومن لطائف أسرار أقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين وتعلق قلبه بالله وحده وهذا هو حقيقة التوكل على الله وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال تعالى {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق.
وروى آدم بن أبي إياس في تفسيره عن محمد بن إسحاق قال جاء مالك الأشجعي إلى النبي ﷺ فقال أسر ابني عوف فقال له أرسل إليه أن رسول الله ﷺ يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فأتاه الرسول فأخبره فأكب عوف يقول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فأقبل فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم فاتبع آخرها أولها فلم يفاجأ أبويه إلا هو ينادي بالباب فقال أبوه عوف ورب الكعبة فقالت أمه واسوأتاه عوف كئيب بألم ما فيه من القد فاستبق الأب والخادم إليه فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلًا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل فأتى أبوه رسول الله ﷺ فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل
فقال له رسول الله ﷺ اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعًا بإبلك ونزل ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على فهو حسبه الحشر قال الفضيل لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كل ما تريد وذكر إبراهيم بن أدهم عن بعضهم قال ما سأل السائلون مسئلة هي ألحلف من أن يقول العبد ما شاء الله قال يعني بذلك التفويض إلى الله عز وجل.
وقال سعيد بن سالم القداح بلغني أن موسى عليه الصلاة والسلام كانت له إلى الله حاجة فأبطأت عليه فقال ما شاء الله فإذا حاجته بين يديه فعجب فأوحى الله إليه أما علمت أن قولك ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج وأيضا فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر عليه أثر الإجابة فرجع إلى نفسه باللائمة وقال لها إنما أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل من البلاء وأنه ليس أهلا لإجابة الدعاء فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله قال وهب تعبد رجل زمانا ثم بدت له إلى الله حاجة فقام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه فقال منك أتيت لو كان فيك خيرًا أعطيت حاجتك فنزل إليه عند ذلك ملك فقال له يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك خرجه ابن أبي الدنيا ولبعض المتقدمين في هذا المعنى:
عسى ما ترى أن لا يدوم وإن ترى *** له فرجًا مما ألح به الدهر
عسى فرج يأتي به الله إنه *** له كل يوم في خليقته أمر إذا لاح عسر فارتج اليسر إنه *** قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
================
الحديث العشرون
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت . رواه البخاري.
هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن أبي مسعود عن حذيفة عن النبي ﷺ فاختلف في إسناده لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال عن أبي مسعود منهم البخاري وأبو زرعة الرازي والدارقطني وغيرهم ويدل على صحة ذلك أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية مسروق عنه وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل عن النبي ﷺ أيضًا.
فقوله ﷺ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين وأن الناس تداولوه بينهم وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن وهذا يدل على أن النبوة المتقدمة جاءت بهذا الكلام وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل إلى أول هذه الأمة وفي بعض الروايات قال لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا خرجها عبيد بن زنجويه وغيره.
وقوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت في معناه قولان:
أحدهما أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء ولكنه على معنى الذم والنهي عنه وأهل هذه المقالة لهم طريقان أحدهما أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد والمعني إذا لم يكن حياء فاعمل ما شئت فالله يجازيك عليه كقوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقوله {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}.
وقول النبي ﷺ من باع الخمر فليشقص الخنازير يعني ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها وأمثلته متعددة وهذا اختيار جماعة منهم أبو العباس بن ثعلبة والطريق الثاني أنه أمر ومعناه الخبر والمعنى أن من لم يستح صنع ما شاء فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء فمن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله ﷺ من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار فإن لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر وإن من كذب عليه يتبوأ مقعده من النار وهذا اختيار أبي عبيد والقاسم بن سلام رحمه الله وابن قتيبة ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم.
وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا القول وروى ابن أبي لهيعة عن أبي قبيل عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال إذا أبغض الله عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضًا مبغضًا فإذا نزع منه الأمانة نزع منه الرحمة وإذا نزع منه الرحمة نزع منه ربقة الإسلام فإذا نزع منه ربقة الإسلام لم تلقه إلا شيطانًا مريدًا خرجه حميد بن زنجويه وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعًا أيضًا.
وعن سلمان الفارسي قال إن الله إذا أراد بعبد هلاكا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا كان مقيتا ممقتا نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا كان خائنا مخونا نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظا غليظا فإذا كان فظا غليظا نزع ربقة الإيمان من عنقه فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا وعن ابن عباس قال الحياء والإيمان في قرن فإذا نزع الحياء تبعه الآخر خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب الأدب وقد جعل النبي ﷺ الحياء من الإيمان كما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي ﷺ مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول إنك تستحي كأنه يقول قد أضر بك فقال رسول الله ﷺ دعه فإن الحياء من الإيمان.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال الحياء شعبة من الإيمان.
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ قال الحياء لا يأتي إلا بخير وفي رواية لمسلم قال الحياء خير كله أو قال الحياء كله خير.
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث الأشج المنقري قال قال لي رسول الله ﷺ إن فيك لخصلتين يحبهما الله قلت ما هما قال الحلم والحياء قلت أقديما كان أو حديثًا قال بل قديما قلت الحمد ﷺ الذي جعلني على خليقتين يحبهما الله وقال إسماعيل بن أبي خالد دخل عيينة بن حصن على النبي ﷺ وعنده رجل فاستسقى فأتى بماء فشرب فستره النبي ﷺ فقال ما هذا قال الحياء أوتوها ومنعتموها واعلم أن الحياء نوعان أحدهما ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها ولهذا قال ﷺ الحياء لا يأتي إلا بخير فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال من استحيا اختفى ومن اختفى اتقى ومن اتقى وقى وقال الجراح بن عبدالله الحكمي، وكان فارس أهل الشام تركت الذنوب حياء أربعين سنة ثم أدركني الورع وعن بعضهم قال رأيت المعاصي نذالة فتركتها مروءة فاستحالت ديانة النوع الثاني ما كان مكتسبا من معرفة الله ومعرفة عظمته وقربه من عباده واطلاعه عليهم وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور فهذا من أعلى خصال الإيمان بل هو من أعلى درجات الإحسان وقد تقدم أن النبي ﷺ قال لرجل استحي من الله كما تستحي من رجل من صالح عشيرتك وفي حديث ابن مسعود الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وماحوى وأن تذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعًا وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى ورؤية التقصير في شكرها فإذا سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة فصار كأنه لا إيمان له وقد روي من مراسيل الحسن عن النبي ﷺ قال الحياء حياءان طرف من الإيمان والآخر عجز ولعله من كلام الحسن كذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله ومنه ضعف فغضب عمران وقال أحدثك عن رسول الله ﷺ وتعارض فيه والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه فإن الحياء الممدوح في كلام النبي ﷺ إنما يريد به الخلق الذي يحث عل فعل الجميل وترك القبيح فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده فليس هو من الحياء فإنما هو ضعف وخور وعجز ومهانة والله أعلم.
والقول الثاني في معنى قوله إذا لم تستح فاصنع ما شئت أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر أمره وأن المعنى إذا كان الذي يريد فعله مما لا يستحي من فعله لا من الله ولا من الناس لكونه من أفعال الطاعات أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة فاصنع منه حينئذ ما شئت وهذا قول جماعة من الأئمة منهم إسحاق المروزي الشافعي وحكى مثله عن الإمام أحمد ووقع كذلك في بعض نسخ مسائل أبي داود المختصرة عنه والذي في النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل، وكذلك رواه عنه الخلال في كتاب الأدب ومن هذا قول بعض السلف وقد سئل عن المروءة فقال أن لا تعمل في السر شيئًا تستحي منه في العلانية وسيأتي قول النبي ﷺ الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وروي عبدالرازق في كتابه عن معمر عن أبي إسحاق عن رجل من مزينة قال قيل يا رسول الله ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم قال الخلق الحسن قال فما شر ما أوتي الرجل المسلم قال إذا كرهت أن يرى عليك شيء في نادى القوم فلا تفعله إذا خلوت وفي صحيح ابن حبان عن أسامة بن شريك قال قال رسول الله ﷺ ما كره منك شيء فلا تفعله إذا خلوت.
وخرج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري قال قلت يا رسول الله ما تمام البر قال أن تعمل في السر عمل العلانية وخرجه أيضًا من حديث أبي عامر السكوني قال قلت يا رسول الله فذكره وروى عبدالغني ابن سعيد الحافظ في كتاب أدب المحدث بإسناده عن حرملة بن عبدالله قال أتيت النبي ﷺ لأزداد من العلم فقمت بين يديه فقلت يا رسول الله ما تأمرني أن أعمل به قال ائت المعروف واجتنب المنكر وانظر الذي سمعته أذنك من الخير الذي يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فأته وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم فاجتنبه قال فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئًا إتيان المعروف واجتناب المنكر.
وخرج ابن سعد في طبقاته بمعناه وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولًا آخر حكاه عن جرير قال معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء يقول فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت كما جاء في الحديث إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي فقال إنك ترى فزدها طولا ثم قال أبو عبيد وهذا الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير ولا على هذا يحملها الناس قلت لو كان على ما قاله جرير لكان لفظ الحديث إذا استحييت مما لا يستحيا منه فافعل ما شئت ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه والله أعلم.
==========
الحديث الحادي والعشرون
عن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال قل آمنت بالله ثم استقم . رواه مسلم.
هذا الحديث خرجه مسلم من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان وسفيان هو ابن عبدالله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملا لعمر بن الخطاب على الطائف وقد روي عن سفيان بن عبدالله من وجوه أخر بزيادات فخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري عن محمد بن عبدالرحمن بن ماعز وعند الترمذي من رواية عبدالرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبدالله قال قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال قل ربي الله ثم استقم قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف على فأخذ بلسان نفسه قال هذا وقال الترمذي حسن صحيح وخرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية عبدالله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلًا قال يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك قال قل آمنت بالله ثم استقم قلت فما أتقي فأومأ إلى لسانه وقال سفيان بن عبدالله للنبي ﷺ قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحد بعدك طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى غيره فقال له النبي ﷺ قل آمنت بالله ثم استقم وفي الرواية الأخرى قل ربي الله ثم استقم هذا منتزع من قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت، وقوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الأحقاف.
وخرج النسائي في تفسيره من رواية سهيل بن أبي حزم حدثنا ثابت عن أنس فقال قد قالها الناس ثم كفروا أن النبي ﷺ قرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة وخرجه الترمذي ولفظه فقال قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام وقال حسن غريب وسهيل تكلم فيه من قبل حفظه.
وقال أبو بكر الصديق في تفسيره ثم استقاموا قال لم يشركوا بالله شيئًا، وعنه قال لم يلتفتوا إلى إله غيره، وعنه قال ثم استقاموا على أن الله ربهم وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال نص آية في كتاب الله قالوا ربنا الله ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله وروى نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال وزيد بن أسلم والسدي وعكرمة وغيرهم وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فصلت.
فقال لم يروغوا روغان الثعلب وروي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فصلت قال استقاموا على أداء فرائضه وعن أبي العالية قال ثم أخلصوا له الدين والعمل وعن قتادة قال استقاموا على طاعة الله.
وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة ولعل من قال أن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله فإن الإله هو المعبود الذي يطاع فلا يعصي خشية وإجلالًا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلًا ودعاء والمعاصي قادحة كلها في هذا التوحيد لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان قال الله عز وجل {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الجاثية.
قال الحسن وغيره هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه هذا ينافي الاستقامة على التوحيد وأما على رواية من روى قل آمنت بالله فالمعنى أظهر لأن الإيمان يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث وقال الله عز وجل {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هود فأمره أن يستقيم ومن تاب معه وأن لا يجاوزوا ما أمروا به وهو الطغيان وأخبر أنه بصير بأعمالكم مطلع عليها قال تعالى {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الشورى.
وقال قتادة أمر محمد ﷺ أن يستقيم على أمر الله.
وقال الثوري على القرآن وعن الحسن قال لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله ﷺ فما رؤي ضاحكًا.
خرجه ابن أبي حاتم وذكر القشيري عن بعضهم أنه رأى النبي ﷺ في المنام فقال له يا رسول الله قلت شيبتني هود وأخواتها فما شيبك منها قال قوله {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} هود.
وقال عز وجل {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} فصلت.
وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عمومًا كما قال {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} الشورى وأمر بإقامة الصلاة في غير موضع من كتابه كما أمر بالاستقامة على التوحيد في نيتك الآيتين والاستقامة في سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة وترك المنهيات كلها كذلك فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها وفي قوله عز وجل {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} فصلت.
إشارة إلى أنه لا بد من تقصير في الاستقامة المأمور بها فيجير ذلك الاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة فهو كقول النبي ﷺ لمعاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس لن يستطيعوا الاستقامة حق الاستقامة كما خرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي ﷺ قال استقيموا ولن تحصوا وأعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال سددوا وقاربوا فالسداد هو حقيقة الاستقامة وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد كالذي يرمي إلى غرض فيصيبه وقد أمر النبي ﷺ عليًا أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى وقال له اذكر بالسداد تسديدك السهم وبالهدى هدايتك الطريق والمقاربة أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه ولكن بشرط أن يكون مصممًا على قصد السداد وإصابة الغرض فتكون مقاربته عن غير عمد. ويدل عليه قول النبي ﷺ في حديث الحكم ابن حزم الكلبي أيها الناس إنكم لن تعملوا ولن تطيقوا كل ما أمرتكم ولكن سددوا وأبشروا والمعني اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة فإنهم لو سددوا في العمل كله لكانوا قد قعلوا ما أمروا به كله فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فصلت بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعته فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وكذلك فسر قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الروم بإخلاص القصد لله وإرادته لا شريك له وأعظم ما يراعي استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ولهذا لما أمر النبي ﷺ بالاستقامة وصاه بعد ذلك بحفظ لسانه ففي مسند الإمام أحمد عن أنس عن النبي ﷺ قال لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفا إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها نفكر اللسان فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
======
الحديث الثاني والعشرون
عن أبي عبدالله جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ فقال أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئًا أدخل الجنة قال نعم .
رواه مسلم ومعنى حرمت الحرام اجتنبته ومعنى أحللت الحلال فعلته معتقدا حله.
هذا الحديث خرجه مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر وزاد في آخره قال والله لا أزيد عن ذلك شيئًا وخرجه أيضًا من رواية الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال قال النعمان بن قوقل يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئًا أدخل الجنة قال النبي ﷺ نعم وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه ويكون الحلال ههنا عبارة عما ليس بحرام فدخل فيه الواجب والمستحب والمباح ويكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ويجتنب المحرمات وقد روي عن طائفة من السلف منهم ابن مسعود وابن عباس في قوله عز وجل {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} البقرة يقالوا يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه والمراد بالتحريم والتحليل فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا الحديث وقد قال الله تعالى في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} التوبة والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عامًا فيحلونه بذلك ويمتنعون من القتال فيه عامًا فيحرمونه بذلك وقال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المائدة وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدينا وتقشفا وبعضهم حرم ذلك على نفسه إما بيمين حلف بها أو بتحريمه على نفسه.
وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر وبعضهم امتنع عنه من غير يمين ولا تحريم فسمى الجميع تحريمًا حيث قصد الامتناع منه إضرارًا بالنفس وكفا لها عن شهواتها ويقال في الأمثال فلان لا يحلل ولا يحرم إذا كان لا يمتنع من فعل حرام ولا يقف عند ما أبيح له وإن كان يعتقد تحريم الحرام فيجعلون من فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللًا وإن كان لا يعتقد حله وبكل حال فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة.
وقد تواترت الأحاديث عن النبي ﷺ بهذا المعنى أو ما هو قريب منه كما خرج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي ﷺ قال ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء ثم تلا {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}.
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبي ﷺ قال ما من عبد عبدالله لا يشرك به شيئًا وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة أو دخل الجنة.
وفي المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي ﷺ فذكر له الصلوات الخمس والصيام والزكاة والحج وشرائع الإسلام كلها فلما فرغ قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص فقال رسول الله ﷺ إن صدق دخل الجنة وخرجه الطبراني من وجه آخر وفي حديثه قال والخامسة لا أرب لي فيها يعني الفواحش ثم قال لأعملن بها ومن أطاعني فقال رسول الله ﷺ لئن صدق ليدخلن الجنة وفي صحيح البخاري عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي ﷺ أخبرني بعمل يدخلني الجنة قال تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم وخرجه مسلم إلا أن عنده أنه قال أخبرني بعمل يدنيني من الجنة ويباعدني من النار وعنده في رواية فلما أدبر قال رسول الله ﷺ إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا قال يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئًا أبدًا ولا أنقص منه فلما ولي قال النبي ﷺ من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
وفي الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله ﷺ ثائر الرأس فقال يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة فقال الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا فقال أخبرني بما فرض الله على من الصيام فقال شهر رمضان إلا أن تطوع شيئًا فقال أخبرني بما فرض الله على من الزكاة فأخبره رسول الله ﷺ بشرائع الإسلام فقال والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض الله على شيئًا فقال رسول الله ﷺ أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ولفظه للبخاري وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن أعرابيًا سأل النبي ﷺ فذكره بمعناه وزاد فيه حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي ﷺ لئن صدق ليدخلن الجنة ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على الصلاة المكتوبة والزكاة المفروضة وصيام رمضان وحج البيت شيئًا من التطوع ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب المحرمات لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة.
وخرج الترمذي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يخطب في حجة الوداع يقول أيها الناس اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم وقال حسن صحيح وخرجه الإمام أحمد وعنده اعبدوا ربكم بدل قوله اتقوا الله وخرجه بقي بن مخلد في مسنده من وجه آخر ولفظ حديثه صلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيتكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم.
وخرج الإمام أحمد بإسناده عن ابن المنتفق قال أتيت النبي ﷺ وهو بعرفات فقلت ثنتان أسألك عنهما ما ينجيني من النار وما يدخلني الجنة فقال لئن كنت أوجزت في المسألة لقد أعظمت وأطولت فاعقل عني إذن اعبد الله لا تشرك به شيئًا وأقم الصلاة المكتوبة وأد الزكاة المفروضة وصم رمضان وما تحب أن يفعله الناس بك فافعله بهم وما تكره أن يؤتى إليك فذر الناس منه وفي رواية له أيضًا قال اتق الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان ولم يزد على ذلك وقيل إن هذا الصحابي هو واقد بن المنتفق واسمه لقيط فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد من حديث عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان فقال رسول الله ﷺ من مات على هذا كان مع النبيين والصديقيين والشهداء يوم القيامة هكذا ونصب أصبعيه ما لم يعق والديه وقد ورد ترتب دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة ففي الحديث المشهور من صلى الصلوات لوقتها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة وفي الحديث الصحيح من صلى البردين دخل الجنة وهذا كله من ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عليه إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه ويدل هذا على ما خرجه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي ﷺ لأبايعه فشرط على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأؤدي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن أصوم رمضان وأن أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله فأما اثنتان فوالله ما أطيقهما الجهاد والصدقة فقبض رسول الله ﷺ يده ثم حركها فقال فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة قلت إذا يا رسول الله أبايعك فبايعته عليهن كلهن ففي هذا الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه الخصال بدون الجهاد والزكاة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكاب بعض الكبائر يمنع دخول الجنة كقوله لا يدخل الجنة قاطع، وقوله لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، وقوله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدين حتى يقضي.
وفي الصحيح أن المؤمنين إذا جازوا على الصراط حبسوا على قنطرة يقتص منهم مظالم بينهم كانت في الدنيا وقال بعض السلف إن الرجل ليحبس على باب الجنة مائة عام بالذنب كان يعمله في الدنيا فهذه كلها موانع ومن هنا يظهر معنى الأحاديث التي جاءت في ترتب دخول الجنة على مجرد التوحيد ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قالها ثلاثًا ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر فخرج أبو ذر يقول وإن رغم أنف أبي ذر وفيهما عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ قال من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمة ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أو أبي سعيد بالشك عن النبي ﷺ أنه قال أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فتحجب عنه الجنة وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له يومًا من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة وفي المعنى أحاديث كثيرة جدًا.
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال يومًا لمعاذ ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار وفيهما عن عتبان بن مالك عن النبي ﷺ قال إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله وقال طائفة من العلماء إن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة والنجاة من النار لكن له شروط وهي الإتيان بالفرائض وموانع وهي اجتناب الكبائر قال الحسن للفرزدق إن للاإله إلا الله شروطا فإياك وقذف المحصنة وروي عنه أنه قال هذا العمود فأين الطنب يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه وهي فعل الواجبات وترك المحرمات قيل للحسن إن ناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة وقيل لوهب بن منبه أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة قال بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك ويشبه ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن لا إله إلا الله هل يضر معها عمل كما لا ينفع مع تركها عمل فقال ابن عمر اعمل ولا تغتر وقالت طائفة منهم الضحاك والزهري كان هذا قبل الفرائض والحدود فمن هؤلاء من أشار إلى أنها نسخت ومنهم من قال بل ضم إليها شروط زيدت عليها وزيادة الشروط هل هي نسخ أم لا فيه خلاف مشهور بين الأصوليين وفي هذا كله نظر فإن كثيرًا من هذه الأحاديث متأخر بعد الفرائض والحدود وقال الثوري نسختها الفرائض والحدود فيحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تبين بها أن عقوبات الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين فكذلك عقوبات الآخرة ومثل هذا البيان وإزالة الإيهام كان السلف يسمونه نسخا وليس هو نسخا في الاصطلاح المشهور وقالت طائفة هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص وإخلاصها وصدقها يمنع الإصرار على معصيته وجاء من مراسيل الحسن عن النبي ﷺ من قال لا إله إلا الله مخلصًا دخل الجنة قيل وما إخلاصها قال أن تحجزك عما حرم الله وروي ذلك مسندا من وجوه أخر ضعيفة ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبل إلى هنا فإن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده إجلالا وهيبة ومخافة ومحبة ورجاء وتعظيما وتوكلا ويمتليء بذلك وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين ومتى كان كذلك لم يبق فيه محبة ولا إرادة ولا طلب لغير ما يريد الله ويحبه ويطلبه وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها وسواس الشيطان فمن أحب شيئًا أو أطاعه وأحب عليه وأبغض عليه فهو إلهه فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله ولا يوالي ولا يعادي إلا لله فالله إلهه حقا ومن أحب لهواه وأبغض له ووالى عليه وعادى عليه فإلهه هواه كما قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} قال الحسن هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبه وقال قتادة هو الذي كلما هوى شيئًا ركبه وكلما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوي ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعًا ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع، وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله فقد عبده كما قال الله عز وجل {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} يس فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول لا إله إلا الله إلا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله ولا على إرادة ما لا يريده الله ومتى كان في القلب شيء من ذلك كان ذلك نقصا في التوحيد وهو نوع من الشرك الخفي ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى {لاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} قال لا تحبوا غيري.
وفي صحيح الحاكم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه على أن تحب على شيء من الجور وتبغض على شيء من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض قال الله عز وجل {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله وبغض ما يحبه متابعة للهوى والموالاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي.
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أنس مرفوعًا لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم فإذا آثروا صفقة دنياهم على دينهم ثم قالوا لا إله إلا الله ردها الله عليهم وقال الله كذبتم فتبين بهذا المعنى قوله ﷺ من شهد أن لا إله إلا الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار وإن من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله فمن صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه ولم يرج إلا إياه ولم يخش إلا الله ولم يتوكل إلا على الله ولم يبق له بقية من إيثار نفسه وهواه ومتى بقي في القلب أثر لسوي الله فمن قلة الصدق في قولها نار جهنم تطفأ بنور إيمان الموحدين كما في الحديث المشهور تقول النار للمؤمن جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
وفي مسند الإمام أحمد عن جابر عن النبي ﷺ قال لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار ضجيجا من بردهم فهذا ميراث ورثة المؤمنين من حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنار المحبة في قلوب المؤمنين تخاف منها نار جهنم قال الجنيد رحمه الله قالت النار يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني قال نعم كنت أسلط عليك ناري الكبرى قالت وهل نار أعظم مني وأشد قال نعم نار محبتي أسكنتها قلوب أوليائي المؤمنين وفي هذا يقول بعضهم:
ففي فؤاد المحب نار الهوى *** أحر نار الجحيم أبردها ويشهد لهذا المعنى حديث معاذ عن النبي ﷺ قال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فإن المحتضر لا يكاد يقولها إلا بإخلاص وتوبة وندم على ما مضى وعزم على أن لا يعود لمثله ورجح هذا القول الخطابي في مصنف له في التوحيد وهو حسن.
===========
الحديث الثالث والعشرون
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة بزهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أوحجة عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها . رواه مسلم.
هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله ﷺ فذكر الحديث وفي أكثر نسخ مسلم والصبر ضياء وفي بعضها والصيام ضياء وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام فأنكره يحيى بن معين وأثبته الإمام أحمد وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه.
وخرج هذا الحديث النسائي وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك فزاد في إسناده عبدالرحمن بن غنم ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ وقال معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ويقول ذلك أنه قد روي عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر وحينئذ فتكون رواية منقطعة وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير فإنه لفظ حديثه عند ابن ماجه إسباغ الوضوء شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان والتسبيح والتكبير تملآن السماء والأرض والصلاة نور والزكاة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم فلفظ حديثه الوضوء شطر الإيمان وباقي حديثه مثل سياق مسلم الذي خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم قال عدهن رسول الله ﷺ في يدي أو في يده التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه والتكبير تملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر والطهور نصف الإيمان، وقوله ﷺ الطهور شطر الإيمان فسر بعضهم الطهور ها هنا بترك الذنوب كما في قوله تعالى {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، وقوله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} المدثر، وقوله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} البقرة.
وقال الإيمان نوعان فعل وترك فنصفه فعل المأمورات ونصفه ترك المحظورات وهو تطهير النفس بترك المعاصي وهذا القول محتمل لولا أن رواية الوضوء شطر الإيمان ترده، وكذلك رواية إسباغ الوضوء وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى فإن كثيرًا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة كالصلاة فكيف لا تدخل في اسم الطهور ومتى دخلت الأعمال أو بعضها في اسم الطهور لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان والصحيح الذي عليه الأكثرون أن المراد بالطهور ها هنا التطهير بالماء من الإحداث، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان فمنهم من قال المراد بالشطر الجزء لا أنه النصف بعينه فيكون الطهور جزءا من الإيمان وهذا فيه ضعف لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ولأن في حديث الرجل من سليم الطهور نصف الإيمان كما سبق ومنهم من قال المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان لكن من غير تضعيف وفي هذا نظر وبعد ومنهم من قال الإيمان يكفر الكبائر كلها والوضوء يكفر الصغائر فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار وهذا يرده حديث من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية وقد سبق ذكره منهم من قال الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان فصار نصف الإيمان وهذا ضعيف ومنهم من قال المراد بالإيمان ها هنا الصلاة كما في قوله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} البقرة والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة فالصلاة لا تقبل إلا بطهور فصار الطهور شطر الإيمان بهذا الاعتبار حكى هذا التفسير محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن إسحق بن راهوية عن يحيى بن آدم وأنه قال في معنى قولهم لا أدري نصف العلم إنما هو أدري ولا أدري فأحدهما نصف الآخر قلت كل شيء كان تحته نوعان فأحدهما نصف له وسواء كان عدد النوعين على السواء أو أحدهما أزيد من الآخر ويدل على هذا حديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين والمراد قراءة الصلاة ولهذا فسرها بالفاتحة والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسئلة فالعبادة حق الرب والمسئلة حق العبد وليس المراد قسمة كلماتها على السواء وقد ذكر هذا الخطابي واستشهد بقول العرب نصف السنة سفر ونصفها حضر قال وليس على تساوي الزمانين فيهما لكن على انقسام الزمانين هنا وإن تفاونت مدتاهما ويقول شريح وقد قيل كيف أصبحت قال أصبحت ونصف الناس على غضبان يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه فالمحكوم عليه غضبان عليه والمحكوم له راض عنه فهما حزبان مختلفان ويقول الشاعر:
إذا مت كان الناس نصفين شامت *** بموتي ومثن الذي كنت أفعل
ومراده أنهم ينقسمون قسمين قلت ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض أنها نصف العلم أخرجه ابن ماجه فإن أحكام المكلفين نوعان نوع يتعلق بالحياة ونوع يتعلق بما بعد الموت وهذا هو الفرائض.
وقال ابن مسعود الفرائض ثلث العلم ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعًا العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وروي عن مجاهد أنه قال المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ولعله أراد أن الوضوء قسمان أحدهما مذكور في القرآن والثاني مأخوذ من السنة وهو المضمضة والاستنشاق وأراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره فهما نصفان بهذا الاعتبار ومنه قول ابن مسعود الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله وجاء من رواية يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعًا الإيمان نصفان نصف في الصبر ونصف في الشكر فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر كان الصبر نصف الإيمان فهكذا يقال في الوضوء إنه نصف الصلاة وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضًا كما في صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن وفي رواية له من أتم الوضوء كما أمره الله فالصلوات المكتوبة كفارات لما بينهن وأيضا فالصلاة مفتاح الجنة والوضوء مفتاح الصلاة كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعًا وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر سمع النبي ﷺ يقول ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة وعن عقبة عن عمر عن النبي ﷺ قال ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
وفي الصحيحين عن عبادة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار وأيضا فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي ﷺ لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال خمس من جاء بهن مع الإيمان دخل الجنة من حافظ على الصلوات الخمس طيب النفس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها قال، وكان يقول وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وصام رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وأدى الأمانة قالوا يا أبا ذر وما أداء الأمانة قال الغسل من الجنابة فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها.
وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي ﷺ قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة وأداء الأمانة كفارة لما بينهن قيل وما أداء الأمانة قال الغسل من الجنابة فإن تحت كل شعرة جنابة، وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة وجاء في حديث أخرجه البزار من رواية شبابة بن سوار حدثنا مغيرة بن مسلم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا الصلاة ثلاثة أثلاث الطهور ثلث والركوع ثلث والسجود ثلث فمن أداها بحقها قبلت منه وقبل منه سائر عمله ومن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله وقال تفرد به المغيرة والمحفوظ عن أبي صالح عن كعب من قوله فعلى هذا القسم الوضوء ثلث الصلاة إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد لتقاربهما في الصورة فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضًا ويحتمل أن يقال خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه وأما الطهارة بالماء فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه فصارت خصال الإيمان قسمين أحدهما يطهر الظاهر والآخر يطهر الباطن فهما نصفان بهذا الاعتبار والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله، وقوله ﷺ والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض فهذا شك من الراوي في لفظه وفي رواية مسلم والنسائي وابن ماجه والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض وفي حديث الرجل من بني سليم التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض.
وخرج الترمذي من حديث الأفريقي عن عبدالله بن يزيد عن عبدالله بن عمرو عن النبي ﷺ قال التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه وقال ليس إسناده بالقوي قلت اختلف في إسناده على الأفريقي فروي عنه عن أبي علقمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وفيه زيادة والله أكبر ملء السموات والأرض وروى جعفر الفريابي في كتاب الذكر وغيره من حديث علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الحمد لله ملء الميزان وسبحان الله نصف الميزان ولا إله إلا الله والله أكبر ملء السموات والأرض وما بينهن.
وخرج الفريابي أيضًا من حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كلمتان إحداهما من قالها لم يكن له ناهية دون العرش والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض لا إله إلا الله والله أكبر فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فأما الحمد لله فاتفقت الأحاديث كلها على أنه يملأ الميزان وقد قيل إنه ضرب مثل وأن المعنى لو كان الحمد جسما لملأ الميزان وقيل بل الله عز وجل يمثل أعمال بني آدم وأقوالهم صورا ترى يوم القيامة وتوزن كما قال النبي ﷺ يأتي القرآن يوم القيامة تقدمه البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف وقال كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقال أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن المؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة والكافر يأتيه عمله في أقبح صورة وروي أن الصلاة والزكاة والصيام وأعمال البر تكون حول الميت في قبره تدافع عنه وأن القرآن يصعد فيشفع له وأما سبحان الله ففي رواية مسلم سبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض فشك الراوي في الذي يملأ ما بين السماء والأرض هل هو الكلمتان أو إحداهما وفي رواية النسائي وابن ماجه التسبيح والتكبير ملء السماء والأرض وهذه الرواية أسند وهل المراد أنهما معا يملآن ما بين السماء والأرض أو أن كلا منهما يملأ ذلك هذا محتمل وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه والرجل الآخر أن التكبير وحده يملأ ما بين السماء والأرض وبكل حال فللتسبيح دون التحميد من الفضل كما جاء صريحا في حديث على وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو والرجل من بني سليم رضي الله عنهم أن التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه وسبب ذلك أن التحميد إثبات المحامد كلها لله فدخل في ذلك إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال كلها والتسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب والآفات والإثبات أكمل من السلب ولهذا لم يرد التسبيح مجردا لكن مقرونا بما يدل على إثبات الكمال فتارة يقرن بالحمد كقوله سبحان الله وبحمده سبحان الله والحمد لله وتارة باسم من الأسماء الدالة على العظمة والجلال كقوله سبحان الله العظيم فإن كان حديث أبي مالك يدل على أن الذي يملأ ما بين السماء والأرض هو مجموع التسبيح والتكبير فالأمر ظاهر وإن كان المراد أن كلا منهما يملأ ذلك فإن الميزان أوسع مما ما بين السماء والأرض فما يملأ الميزان فهو أكثر مما يملأ ما بين السماء والأرض ويدل عليه أنه صح عن سلمان رضي الله عنه أنه قال يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعهما فتقول الملائكة يا رب لمن تزن هذا فيقول الله تعالى لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وخرجه الحاكم مرفوعًا وصححه ولكن الموقوف هو المشهور وأما التكبير ففي حديث أبي هريرة والرجل من بني سليم أنه وحده يملأ السموات والأرض وما بينهما وفي حديث على أن التكبير مع التهليل يملأ ما بين السماء والأرض وما بينهن وأما التهليل وحده فإنه يصل إلى الله من غير حجاب بينه وبينه.
وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت له أبواب السماء حتى يفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر وقال أبو أمامة ما من عبد يهلل تهليلة فينهنهها شيء دون العرش وورد أنه لا يعدلها شيء في الميزان في حديث البطاقة المشهور وقد خرجه أحمد والنسائي وفي آخره عند الإمام أحمد ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم.
وفي المسند عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله وفيه أيضًا عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال إن موسى عليه الصلاة والسلام قال يا رب علمني شيئًا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقول هذا إنما أريد شيئًا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله وقد اختلف أي الكلمتين أفضل أكلمة الحمد أم كلمة التهليل وقد حكى هذا الاختلاف ابن عبدالبر وغيره وقال النخعي كانوا يرون أن الحمد أكثر الكلام تضعيفا وقال الثوري ليس يضاعف من الكلام مثل الحمد والحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله فيدخل فيه التوحيد.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الله اصطفى من الكلام أربعا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فمن قال سبحان الله كتبت له عشرون حسنة وحطت عنه عشرون سيئة ومن قال الله أكبر مثل ذلك ومن قال لا إله إلا الله مثل ذلك ومن قال الحمد لله مثل ذلك ومن قال الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة وحطت عن ثلاثون سيئة وقد روي هذا عن كعب من قوله وقيل إنه أصح من المرفوع، وقوله ﷺ والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء وفي بعض نسخ صحيح مسلم والصيام ضياء فهذه الأنواع الثلاثة من الأعمال أنوار كلها لكن منها ما يختص بنوع من أنواع النور فالصلاة نور مطلق وروي بإسنادين فيهما نظر عن أنس عن النبي ﷺ قال الصلاة نور المؤمن فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم تشرق بها قلوبهم وتستنير بصائرهم ولهذا كانت قرة عين المتقين كما كان النبي ﷺ يقول جعلت قرة عيني في الصلاة خرجه أحمد والنسائي وفي رواية الجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من حب الصلاة.
وفي المسند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال جبريل للنبي ﷺ إن الله قد حبب إليك الصلاة فخذ منها ما شئت.
وخرج أبو داود من حديث رجل من خزاعة أن النبي ﷺ قال يا بلال أقم الصلاة وأرحنا بها قال مالك بن دينار قرأت في التوراة يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكيا أنا الذي اقتربت بقلبك وبالغيب رأيت نوري يعني ما يفتح للمصلي في الصلاة من الرقة والبكاء.
وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا إذا حافظ العبد على صلاته فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت له حفظك الله كما حفظتني وصعد بها إلى السماء ولها نور تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها وهي نور للمؤمنين ولاسيما صلاة الليل كما قال أبو الدرداء صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور وكانت رابعة قد فترت عن وردها بالليل مدة فأتاها آت في منامها فأنشدها صلاتك نور والعباد رقود ونومك ضد للصلاة عنيد وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة وعلى الصراط فإن الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم.
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عبدالله بن عمر عن النبي ﷺ أنه ذكر الصلاة فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة.
وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عن النبي ﷺ من صلى الصلوات الخمس في جماعة جاز على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة من السابقين وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر وأما الصدقة فهي برهان والبرهان هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس ومنه حديث أبي موسى أن روح المؤمن تخرج من جسده لها برهان كبرهان الشمس ومنه سميت الحجة القاطعة برهانا لوضوح دلاتها على ما دلت عليه فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه كما في حديث عبدالله بن معاوية العامري عن النبي ﷺ ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان من عبدالله وحده وأنه لا إله إلا الله وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه وافدة عليه في كل عام وذكر الحديث خرجه أبو داود وقد ذكرنا قريبًا حديث أبي الدرداء فيمن أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه قال، وكان يقول لا يفعل ذلك إلا مؤمن وسبب هذا أن المال تحبه النفوس وتبخل به فإذا سمحت بإخراجه لله عز وجل دل ذلك عل صحة إيمانها بالله ووعده ووعيده ولهذا منعت العرب الزكاة بعد النبي ﷺ وقاتلهم الصديق على منعها والصلاة أيضًا برهان على صحة الإسلام.
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عجزه عن النبي ﷺ قال الصلاة برهان وقد ذكرنا في شرح حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإسلام والإيمان وهي أيضًا أول ما يحاسب به المرء يوم القيامة فإن تمت صلاته فقد أفلح وأنجح وقد سبق حديث عبدالله بن عمرو فيمن حافظ عليها أنها تكون له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة وأما الصبر فإنه ضياء والضياء هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق قال الله عز وجل {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} يونس ومن هنا وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء كما قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} الأنبياء وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا كما قال {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} لكن الغالب على شريعتهم الضياء لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال ووصف شريعة محمد ﷺ بأنها نور لما فيها من الحنيفية السمحة قال الله تعالى {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} المائدة وقال {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف.
ولما كان الصبر شاقا على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه كان ضياء فإن معنى الصبر في اللغة الحبس ومنه قتل الصبر وهو أن يحبس الرجل حتى يقتل.
والصبر المحمود أنواع منه صبر على طاعة الله عز وجل، ومنه صبر عن معاصي الله عز وجل، ومنه صبر على أقدار الله عز وجل والصبر على الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة صرح بذلك السلف منهم سعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهما.
وقد روي بإسناد ضعيف من حديث على مرفوعًا أن الصبر على المعصية يكتب به للعبد ثلاثمائة درجة وأن الصبر على الطاعة تكتب به ستمائة درجة وأن الصبر عن المعاصي يكتب له به تسعمائة درجة وقد خرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير الطبري.
وأفضل أنواع الصبر الصيام فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة لأنه صبر على طاعة الله عز وجل وصبر عن معاصي الله لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي.
وفيه أيضًا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبي ﷺ يسمى شهر الصيام شهر الصبر وقد جاء في حديث الرجل من بني سليم عن النبي ﷺ أن الصوم نصف الصبر وربما عسر الوقوف على سر كونه نصف الصبر أكثر من عسر الوقوف على سر كون الطهور شطر الإيمان، وقوله ﷺ والقرآن حجة لك أو حجة عليك قال الله عز وجل {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} الإسراء.
قال بعض السلف ما جالس أحد القرآن فقام عنه سعالمًا بل إما أن يربح أو أن يخسر ثم تلا هذه الآية.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال يمثل القرآن يوم القيامة رجلًا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له خصمًا فيقول يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدي حدودي وضيع فرائضي وركب معصيتي وترك طاعتي فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله فيمتثل خصمًا دونه فيقول يا رب حملته إياي فخير حامل حفظ حدودي وعمل بفرائضي واجتنب معصيتي واتبع طاعتي فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق ويعقد عليه تاج الملك ويسقيه كأس الخمر.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه القرآن شافع مشفع وحامل مصدق فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار.
وعنه قال يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون قائدًا إلى الجنة أو يشهد عليه فيكون سائقًا إلى النار.
وقال أبو موسى الأشعري إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن اتبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار.
قوله ﷺ كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث كعب بن عجرة عن النبي ﷺ قال الناس غاديان فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وفي رواية أخرى خرجها الطبراني الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها وقائد نفسه فمعتقها وقال الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} الشمس والمعنى قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وخاب من دساها بالمعاصي فالطاعة تزكي النفس وتطهرها فترتفع بها والمعاصي تدسى النفس وتقمعها فتنخفض وتصير كالذي يدس في التراب.
ودل الحديث على أن كل إنسان إما ساع في هلاك نفسه أو في فكاكها فمن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله وأعتقها من عذابه ومن سعى في معصية الله تعالى فقد باع نفسه بالهوان وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} إلى قوله {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة وقال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} البقرة وقال تعالى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الزمر.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ حين أنزل الله عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا يا بني عبدالمطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا وفي رواية للبخاري يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله يا بني عبدالمطلب اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا يا عمة رسول الله يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله لا أملك لكما من الله شيئًا وفي رواية لمسلم أنه دعا قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئًا.
وخرج الطبراني والخرائطي من حديث ابن عباس مرفوعًا من قال إذا أصبح سبحان الله وبحمده ألف مرة فقد اشترى نفسه من الله، وكان من آخر يومه عتيقا من النار وقد اشترى جماعة من السلف أنفسهم من الله عز وجل بأموالهم فمنهم من تصدق بماله كله كحبيب بن أبي محمد ومنهم من تصدق بوزنه فضة ثلاث مرات أو أربعا كخالد بن الطحاوي ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول إنما أنا أسير أسعى في فكاك رقبتي منهم عمرو بن عتبة، وكان بعضهم يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته كأنه قد قتل نفسه فهو يفتكها بديتها قال الحسن المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله عز وجل.
وقال ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح فليكن همك نفسك فإنك لن تربح مثلها أبدًا قال أبو بكر بن عياش قال لي رجل مرة وأنا شاب خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدًا قال فوالله ما نسيتها بعد، وكان بعض السلف يبكي ويبكي ويقول ليس لي نفسان إنما لي نفس واحدة إذا ذهبت لم أجد أخرى. وقال محمد بن الحنفية إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها وقال أيضًا من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر وقيل من أعظم الناس قدرا قال من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطرا وأنشد بعض المتقدمين أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن.
=========
الحديث الرابع والعشرون
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر وفي آخره قال سعيد بن عبدالعزيز كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه وخرجه مسلم أيضًا من رواية قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن أبي ذر عن النبي ﷺ ولم يسقه بلفظهم ولكنه قال وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس، وحديث أبي إدريس أتم وخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر قال قال رسول الله ﷺ يقول الله تعالى يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاسألوني الهدي أهدكم وكلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أرزقكم وكلكم مذنب إلا من عافيته فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني غفرت له ولا أبالي ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد فيسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته فأعطيت كل سائل منكم ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون وهذا لفظ الترمذي وقال حديث حسن وخرجه الطبراني بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ إلا أن إسناده ضعيف، وحديث أبي ذر قال الإمام أحمد هو أشرف حديث لأهل الشام فقوله ﷺ فيما يرويه عن ربه يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي يعني أنه منع نفسه من الظلم لعباده كما قال عز وجل {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ق وقال {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} آل عمران وقال {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} غافر وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} فصلت وقال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} يونس وقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة النساء وقال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما طه والهضم أن ينقص من جزاء حسناته والظلم أن يعاقب بذنوب غيره ومثل هذا كثير في القرآن وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله فضلًا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده وقد فسر كثير من العلماء الظلم بأنه وضع الأشياء في غير مواضعها وأما من فسره بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه وقد نقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره فإنهم يقولون إن الظلم مستحيل عليه وغيره متصور في حقه لأن كل ما يفعله فهو تصرف في ملكه وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لعمران بن حصين حين سأله عن القدر.
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول لو أن الله تعالى عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم وأنه أتى ابن مسعود فقال له مثل ذلك ثم أتى زيد بن ثابت فحدثه عن النبي ﷺ بمثل ذلك وفي هذا الحديث نظر ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم لقدر لهم ما يعذبهم عليه فيكون غير ظالم لهم حينئذ وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم سبحانه وتعالى كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد وهي خلقه وتقديره فإنه لا يوصف إلا بأفعاله لا يوصف بأفعال عباده فإن أفعال عباده مخلوقاته ومفعولاته وهو لا يوصف بشيء منها إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله والله أعلم.
وقوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يعني أنه تعالى حرم الظلم على عباده ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم فحرام على كل عبد أن يظلم غيره مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا وهو نوعان أحدهما ظلم النفس وأعظمه الشرك كما قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق فعبده وتألهه فهو وضع الأشياء في غير مواضعها وأكثر ما ذكر في القرآن وعيد للظالمين إنما أريد به المشركون كما قال الله عز وجل {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر والثاني ظلم العبد لغيره وهو المذكور في هذا الحديث وقد قال النبي ﷺ في خطبته في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من يوم عرفة وفي اليوم الثاني من أيام التشريق وفي رواية ثم قال اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظالموا إنه لا يحل مال امريء مسلم إلا عن طيب نفس منه.
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال إن الظلم ظلمات يوم القيامة وفيهما عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} هود.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه قوله يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كله وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدي والرزق فإنه يحرمهما في الدنيا ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه أوبقته خطاياه في الآخرة قال الله تعالى {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} الكهف ومثل هذا كثير في القرآن وقال تعالى {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاطر وقال {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} هود وقال تعالى حاكيا عن آدم وزوجه عليهما السلام أنهما قالا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الأعراف وعن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} هود وقد استدل إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرد الله بهذه الأمور على أنه لا إله غيره وإن كل ما أشرك معه باطل فقال لقومه {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الشعراء فإن من تفرد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا وبمغفرة ذنوبه في الآخرة مستحق أن يفرد بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرع والاستكانة له قال الله عز وجل {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الروم.
وفي الحديث دليل على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك كما يسألونه الهداية والمغفرة وفي الحديث ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع.
وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينة وعلف شاته وفي الإسرائيليات أن موسى عليه الصلاة والسلام قال يا رب إنه ليعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحي أن أسألك قال سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهر حاجته فيه وافتقاره إلى الله وذاك يحبه الله.
وكان بعض السلف يستحي من الله أن يسأله شيئًا من مصالح الدنيا والاقتداء بالسنة أولى، وقوله كلكم ضال إلا من هديته قد ظن بعضهم أنه معارض لحديث عياض بن حمار عن النبي ﷺ يقول الله عز وجل خلقت عبادي حنفاء وفي رواية مسلمين فاجتالتهم الشياطين وليس كذلك فإن الله خلق بني آدم وفطرهم على قبول الإسلام والميل إليه دون غيره والتهيؤ والاستعداد له بالقوة لكن لا بد للعبد من تعليم الإسلام بالفعل فإنه قبل التعلم جاهل لا يعلم كما قال عز وجل {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} النحل وقال لنبيه ﷺ ووجدك ضالا فهدى الضحي والمراد وجدك غير عالم بما علمك من الكتاب والحكمة كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا} الشورى فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحق فإن هداه الله تعالى سبب له من يعلمه الهدى فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان مهديًا بالقوة وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما قال ﷺ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.
وأما سؤال المؤمن من الله الهداية فإن الهداية نوعان هداية مجملة وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن وهداية مفصلة وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلًا ونهارا ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله اهدنا الصراط المستقيم الفاتحة.
وكان النبي ﷺ يقول في دعائه بالليل اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ولهذا يشمت العاطس فيقال له يهديكم الله كما جاءت به السنة وإن أنكره من أنكره من فقهاء العراق ظنًا منهم أن المسلم لا يحتاج أن يدعى له بالهدى وخالفهم جمهور العلماء اتباعًا للسنة في ذلك وقد أمر النبي ﷺ عليًا أن يسأل الله السداد والهدى وعلم الحسن أن يقول في قنوت الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وأما الاستغفار من الذنوب فهو طلب المغفرة والعبد أحوج شيء إليه لأنه يخطيء بالليل والنهار وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار والأمر بهما والحث عليهما.
وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
وخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة.
وخرج من حديث الأغر المزني سمع النبي ﷺ يقول يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة.
وخرجه النسائي ولفظه يا أيها الناس توبوا إلى ربكم واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة.
وخرج الإمام أحمد من حديث حذيفة يقال كان في لساني ذرب على أهلي لم أعده إلى غيره فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال أين أنت من الاستغفار يا حذيفة إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.
ومن حديث أبي بكر عن النبي ﷺ قال إني أستغفر الله مائة مرة وأتوب إليه.
وخرج النسائي من حديث أبي موسى قال كنا جلوسا فجاء النبي ﷺ قال ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله مائة مرة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة يقول رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم.
وخرج النسائي من حديث أبي هريرة قال لم أكثر أن يقول أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله ﷺ.
وخرج الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه كان يقول اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساءوا استغفروا.
وسنذكر بقية الكلام في الاستغفار فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وقوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يعني أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعا ولاضرا فإن الله تعالى في نفسه غني حميد لا حاجة له بطاعات العباد ولا يعود نفعها إليه وإنما هم ينتفعون بها ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم يتضررون بها قال الله تعالى {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً} آل عمران وقال {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} آل عمران، وكان النبي ﷺ يقول في خطبته ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا قال الله عز وجل {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} النساء وقال حاكيًا عن موسى {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} إبراهيم وقال {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} آل عمران وقال {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} الحج.
والمعنى أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه كما أنه يكره منهم أن يعصوه ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض وطلبها حتى أعيى وأيس منها واستسلم للموت وأيس من الحياة ثم غلبته عينه فنام واستيقظ وهي قائمة عنده وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه وإنه إنما يعد نفعها إليهم دونه ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده كما في رواية عبدالرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة ثم استغفرني غفرت له ولا أبالي.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أن عبدًا أذنب ذنبا فقال يا رب إني فعلت ذنبا فاغفر لي فقال الله علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي وفي حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه النبي ﷺ أنه لما ركب دابته حمد الله ثلاثًا وكبر ثلاثًا وقال سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك وقال إن ربك ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال والله لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها كان بعض أصحاب ذي النون يطوف ينادي آه أين قلبي من وجد قلبي فدخل يومًا بعض السكك فوجد صبيا يبكي أمه تضربه ثم أخرجته من الدار وأغلقت الباب دونه فجعل الصبي يلتفت يمينا وشمالًا لا يدري أين يذهب ولا أين يقصد فرجع إلى باب الدار فجعل يبكي ويقول يا أماه من يفتح لي الباب إذا أغلقت بابك عني ومن يدنيني إذا طردتيني ومن الذي يدنيني إذا غضبت علي فرحمته أمه فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع على خديه متمعكا في التراب ففتحت الباب وأخذته حتى وضعته في حجرها وجعلت تقبله وتقول يا قرة عيني ويا عزيز نفسي أنت الذي حملتني على نفسك وأنت الذي تعرضت لما حل بك لو كنت أطعتني لم تلق مني مكروها فتواجد الفتى ثم صاح وقال قد وجدت قلبي قد وجدت قلبي وتفكروا في قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} آل عمران فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم من يلجأون إليه ويعولون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره.
وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خلفوا {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} التوبة فرتب توبته على ظنهم أن لا ملجأ من الله إلا إليه فإن العبد إذا خاف من مخلوق هرب منه وفر إلى غيره وأما من خاف من الله فما له من ملجأ يلجأ إليه ولا مهرب يهرب إليه إلا هو فيهرب منه إليه كما كان النبي ﷺ يقول في دعائه لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك.
وكان يقول أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك.
قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما من ليلة اختلط ظلامها وأرخى الليل سربال سترها إلا نادى الجليل جل جلاله من أعظم مني جودا والخلائق لي عاصون وأنا لهم مراقب أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء من ذا الذي دعاني فلم أستجب إليه أم من ذا الذي سألني فلم أعطه أم من الذي أناخ ببابي فنحيته أنا الفضل ومني الفضل أنا الجواد ومني الجود وأنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أن أغفر للعاصين بعد المعاصي ومن كرمي أن أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين إلى غيره يهرب الخلائق وأين عن بابه يلتجيء العاصون خرجه أبو نعيم ولبعضهم في المعنى قائلا:
أسأت ولم أحسن وجئتك تائبًا *** وأني لعبد عن مواليه يهرب ؟
يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه *** فما أحد منه على الأرض أخيب
فقوله بعد هذا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا هو إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة الخلق ولو كانوا كلهم بررة أتقياء قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم ولا ينقص ملكه بمعصية العاصين ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي وجه كان ومن الناس من قال إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود أكمل من إيجاده على غيره وهو خير من وجوده على غيره وما فيه من الشر فهو شر إضافي نسبي بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض وليس شرًا مطلقا بحيث يكون عدمه خيرًا من وجوده من كل وجه بل وجوده خير من عدمه وقال هذا معنى قوله بيده الخير ومعنى قول النبي ﷺ والشر ليس إليك يعني أن الشر المحض الذي عدمه خير من وجوده ليس موجودًا في ملكك فإن الله تعالى أوجد خلقه على ما تقتضيه حكمته وعدله وخص قومًا من خلقه بالفضل وترك آخرين منهم في العدل لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهذا فيه نظر وهو يخالف ما في الحديث من أن جميع الخلق لو كانوا على صفة أكمل خلقه من البر والتقوى لم يزد ذلك في ملكه شيئًا ولا قدر جناح بعوضة ولو كانوا على صفة أنقص خلقه من الفجور لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا فدل على أن ملكه كامل على أي وجه كان لا يزدا ولا يكمل بالطاعة ولا ينقص بالمعاصي ولا يؤثر فيه شيئًا وفي هذا الكلام دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب فإذا بر القلب واتقي برت الجوارح وإذا فجر القلب فجرت الجوارح كما قال النبي ﷺ التقوى ههنا وأشار إلى صدره فقوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسئلته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر فالمراد بهذا ذكر كمال قدرته سبحانه وكمال ملكه وإن ملكه وخزائنه لا تنفذ ولا تنقص بالعطاء ولو أعطي الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد وفي ذلك حث الخلق على سؤاله وإنزال حوائجهم به.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال يد الله ملأي لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء وقال أبو سعيد الخدري إذا دعوتم الله فارفعوا في المسئلة فإن ما عنده لا ينفذه شيء وإذا دعوتم فاعزموا فإن الله لا مستكره له وفي بعض الإسرائيليات يقول الله عز وجل أيؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ويرجي غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت به أو من ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني أبخيل أنا فيبخلني عبدي أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي فما يمنع المؤملين أن يؤملوني لو جمعت أهل السموات والأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلغت كل واحد أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة كيف ينقص ملك أنا قيمه فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني وتوثب على محارمي، وقوله ولم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتة كما قال تعالى {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} فإن البحر إذا غمس فيه إبرة ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئا، وكذلك لو فرض أنه شرب منه عصفور مثلًا فإنه لا ينقص البحر البتة ولهذا ضرب الخضر لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة علمهما إلى علم الله عز وجل وهذا لأن البحر لا يزال تمد مياه الدنيا وأنهارها الجارية فمهما أخذ منه لم ينقصه شيء لأنه يمده ما هو أزيد مما أخذ منه وهكذا طعام الجنة وما فيها فإنه لا ينقص كما قال تعالى {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} الواقعة وقد جاء كلما نزعت ثمرة عاد مكانها مثلها وروي مثلاها فهي لا تنقص أبدًا ويشهد لذلك قول النبي ﷺ في خطبة الكسوف ورأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا خرجاه في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وخرجه الإمام أحمد من حديث جابر ولفظه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه شيئًا وهكذا لحم الطير الذي يأكله أهل الجنة يستخلف ويعود كما كان حيا لا ينقص منه شيء وقد روي هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه فيها ضعف وقاله كعب وروي أيضًا عن أبي أمامة الباهلي من قوله قال أبو أمامة، وكذلك الشراب يشرب منه حتى تنتهي نفسه ثم يعود مكانه ورؤي بعض العلماء الصالحين بعد موته بمدة في المنام فقال ما أكلت منذ فارقتكم إلا بعض فرخ أما علمتم أن طعام الجنة لا ينفد وقد تبين في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه السبب الذي لأجله لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت إنما أقول له كن فيكون وهذا مثل قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} يس، وقوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} النحل.
وفي مسند البزار بإسناد فيه نظر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال خزائن الله الكلام فإذا أراد الله شيئًا قال له كن فكان فهو سبحانه إذا أراد شيئًا من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له كن فيكون فكيف يتصور أن ينقص هذا، وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئًا قال له كن فيكون كما قال {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} آل عمران وفي بعض الآثار الإسرائيلية أوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام يا موسى لا تخافن غيري ما دام لي السلطان وسلطاني دائم لا ينقطع يا موسى لا تهتمن برزقي أبدًا ما دامت خزائني مملوءة لا تفنى أبدًا يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتني أنيسا لك متى طلبتني وجدتني يا موسى لا تأمن مكري ما لم تجز الصراط إلى الجنة وقال بعضهم:
لا تخضعن لمخلوق على طمع *** فإن ذاك مضر منك بالدين
واسترزق الله مما في خزائنه *** فإنما هي بين الكاف والنون
، وقوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها يعني أنه سبحانه يحصي أعمال عباده ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها وهذا كقوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره الزلزلة، وقوله ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا الكهف، وقوله يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا آل عمران، وقوله يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه المجادلة، وقوله ثم أوفيكم إياها الظاهر أن المراد توفيتها يوم القيامة كما قال تعالى {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} آل عمران.
ويحتمل أن المراد يوفي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة كما في قوله من يعمل سوء يجز به النساء وقد روي عن النبي ﷺ أنه فسر ذلك بأن المؤمنين يجازون بسيئاتهم في الدينا وتدخر لهم حسناتهم في الآخرة فيوفون أجورهم وأما الكافر فإنه يعجل له في الدنيا ثواب حسناته وتدخر له سيئاته فيعاقب بها في الآخرة ويوفيه جزاءها من خير أو شر فالشر يجازى به مثله من غير زيادة إلا أن يعفو الله عنه والخير تضاعف الحسنة عنه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله كما قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر.
وقوله: فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه إشارة إلى أن الخير كله فضل من الله على عبده من غير استحقاق له والشر كله من عند ابن آدم من اتباع هوى نفسه كما قال عز وجل {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} النساء.
وقال علي رضي الله عنه لا يرجو عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه.
فالله سبحانه إذا أراد توفيق عبد وهدايته أعانه ووفقه لطاعته، وكان ذلك فضلًا منه ورحمة وإذا أراد خذلان عبد وكله إلى نفسه وخلى بينه وبينها فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله واتبع هواه، وكان أمره فرطا، وكان ذلك عدلا منه فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتاب وإرسال الرسول فما بقي لأحد من الناس على الله حجة بعد الرسل فقوله بعد هذا فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه إن كان المراد من وجد ذلك في الدنيا فإنه يكون حينئذ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاء الأعمال الصالحة الذي عجل له في الدنيا كما قال من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون النحل ويكون مأمورًا بلوم نفسه على ما فعلت من الذنوب التي وجد عاقبتها في الدنيا كما قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} السجدة فالمؤمن إذا أصابه في الدنيا بلاء رجع إلى نفسه باللوم ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار.
وفي المسند وسنن أبي داود عن النبي ﷺ قال إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم عافاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل من عمره وإن المنافق إذا مرض وعوفي كان كالبعير عقله أهله وأطلقوه لا يدري بما عقلوه ولا بما أطلقوه وقال سلمان الفارسي إن المسلم ليبتلى فيكون كفارة لما مضى ومستعتبا فيما بقى وإن الكافر يبتلى فمثله كمثل البعير أطلق فلم يدر لما أطلق وعقل وإن كان المراد من وجد خيرًا أو غيره في الآخرة كان إخبارا منه بأن الذين يجدون الخير في الآخرة يحمدون الله على ذلك وأن من وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه حين لا ينفعه اللوم فيكون الكلام لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر كقوله ﷺ من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار والمعنى أن الكاذب عليه يتبوأ مقعده من النار وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يحمدون الله على ما رزقهم من فضله فقال ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الأعراف وقال تعالى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} الزمر وقال تعالى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فاطر وأخبر عن أهل النار أنهم يلومون أنفسهم ويمقتونها أشد المقت فقال تعالى {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} إبراهيم وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} غافر.
وقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة حذرا من لوم النفس عند انقطاع الأعمال على التقصير.
وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا ما من ميت يموت إلا ندم إن كان محسنًا ندم على أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب.
وقيل لمسروق لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد فقال والله لو أتاني آت فأخبرني أن لا يعذبني لاجتهدت في العبادة قيل كيف ذاك قال حتى تعذرني نفسي إن دخلت النار أن لا ألومها أما بلغك في قول الله تعالى {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} القيامة إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم فاعتنقتهم الزبانية وحيل بينهم وبين ما يشتهون وانقطعت عنهم الأماني ورفعت عنهم الرحمة وأقبل كل امريء منهم يلوم نفسه.
وكان عامر بن عبد قيس يقول والله لأجتهدن ثم والله لأجتهدن فإن نجوت فبرحمة الله وإلا لم ألم نفسي.
وكان زياد بن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوان بن سليم الجد الجد والحذر الحذر فإن يكن الأمر على ما نرجو كان ما عملتما فضلًا وإلا لم تلوما أنفسكما. وكان مطرف بن عبدالله يقول اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر ما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات وإن يكن الأمر شديدًا كما نخاف ونحذر لم نقل {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فاطر نقول قد عملنا فلم ينفعنا ذلك.
==========
الحديث الخامس والعشرون
عن أبي ذر رضي الله عنه أيضًا أن ناسا من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا للنبي ﷺ يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر . رواه مسلم
هذا الحديث خرجه مسلم من رواية يحيى بن معمر عن أبي الأسود الديلمي عن أبي ذر رضي الله عنه وقد روي معناه عن أبي ذر من وجوه كثيرة بزيادة ونقصان وسنذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى وفي الحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من الخير مما يقدر عليه غيرهم فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال التي يقدر عليها الأغنياء ويحزنون على التخلف عن الخروج في الجهاد لعدم القدرة على آلته وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه فقال ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون التوبة وفي هذا الحديث أن الفقراء غبطوا أهل الدثور والدثور هي الأموال مما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم فدلهم النبي ﷺ على صدقات يقدرون عليها.
وفي الصحيحين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا النبي ﷺ فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلي والنعيم المقيم فقال وما ذاك قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق فقال رسول الله ﷺ أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من قد سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله ﷺ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم على وأبو ذر وأبو الدرداء وابن عمر وابن عباس وغيرهم ومعنى هذا أن الفقراء ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال وهم عاجزون عن ذلك فأخبرهم النبي ﷺ أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقة وفي صحيح مسلم عن حذيفة عن النبي ﷺ قال كل معروف صدقة وخرجه البخاري من حديث جابر عن النبي ﷺ قال الصدقة تطلق على جميع أنواع المعروف والإحسان حتى أن فضل الله الواصل منه إلى عباده صدقة منه عليهم وقد كان بعض السلف ينكر ذلك ويقول إنما الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها والصحيح خلاف ذلك وقد قال النبي ﷺ في قصر الصلاة في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته خرجه مسلم وقال من كانت له صلاة بليل فغلب عليه نوم فنام عنها كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقه من الله تصدق بها عليه خرجه النسائي وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها وخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء.
وفي مسند بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذر مرفوعًا ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده وما من الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره وقال خالد بن معدان إن الله يتصدق كل يوم بصدقة وما تصدق الله على أحد من خلقه بشيء خير من أن يتصدق عليه بذكره والصدقة بغير المال نوعان أحدهما ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق فتكون صدقة عليهم وربما كان أفضل من الصدقة بالمال وهذا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه دعاء إلى الله طاعة وكف عن معاصيه وذلك خير من النفع بالمال، وكذلك تعليم العلم وإقراء القرآن وإزالة الأذى عن الطريق والسعي في جلب النفع للناس ودفع الأذى عنهم، وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار لهم.
وخرج ابن مردويه بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر مرفوعًا من كان له مال فليتصدق من ماله ومن كان له قوة فليتصدق من قوته ومن كان له علم فليتصدق من علمه ولعله موقوف.
وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن سمرة عن النبي ﷺ أفضل الصدقة صدقة اللسان قيل يا رسول الله وما صدقة اللسان قال الشفاعة تفك بها الأسير وتحقن بها الدم وتجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك وتدفع عنه الكريهة وقال عمرو بن دينار بلغنا أن رسول الله ﷺ قال ما من صدقة أحب إلى الله من قول ألم تسمع إلى قوله تعالى {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى} البقرة خرجه ابن أبي حاتم.
وفي مراسيل الحسن عن النبي ﷺ إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه خرجه ابن أبي الدنيا.
وقال معاذ تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة وروي مرفوعًا ومن أنواع الصدقة كف الأذى عن الناس.
ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قلت فأي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا قلت فإن لم أفعل قال تعين صانعا وتصنع لأخرق قلت يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل قال تكف شرك عن الناس فإنها صدقة.
وقد روي في حديث أبي ذر زيادات أخرى فخرج الترمذي من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طعلت فيه الشمس قيل يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها قال إن أبواب الجنة لكثيرة التسبيح والتكبير والتحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل على حاجته وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف فهذا كله صدقة منك على نفسك.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر قال قلت يا رسول الله ذهب الأغنياء بالأجر يتصدقون ولا نتصدق قال وأنت فيك صدقة رفعك العظم عن الطريق صدقة وهدايتك الطريق صدقة عونك الضعيف بفضل قوتك صدقة وبيانك عن الأغتم صدقة ومباضعتك امرأتك صدقة قلت يا رسول الله نأتي شهوتنا ونؤجر قال أرأيت لو جعلت ذلك في حرام أكان تأثم قال قلت نعم قال أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون بالخير.
وفي رواية أخرى فقال النبي ﷺ إن فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك وفضل بصرك وفي رواية أخرى للإمام أحمد قال إن من أبواب الصدقة التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعزل الشوكة عن الطريق والعظم والحجر وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها وتسعى بشدة ساقيك إلى