9 مصاحف

9 مصاحف الكتاب الاسلامي
حسبي الله ونعم الوكيل

حسبي الله ونعم الوكيل

 

Translate

الأحد، 4 يونيو 2023

ج9وج10وج11 وج12.النكت والعيون للبغدادي { أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي}

 ج9.وج10.كتاب النكت والعيون لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

« نعم » فقال إني أخدمها فقال : « استأذن عليها » فعاوده ثلاثاً : فقال : « أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً » قال : لا قال : « فَاسْتَأْذِنْ عَلَيهَا » .
قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً } يعني يأذن لكم
. { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُم } ولا يجوز التطلع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ لأَجْلِ البَصَرِ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحاً فَيَجُوزُ إِذا كَانَ خَارِجاً أَنْ يَنْظُرَ لأَنَّ صَاحِبَهُ بالفتح قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ
» { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وهنا ينظر فإن كان بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث ، وإن كان قبل الدخول فهو رد الإِذن ومنع من الدخول . ولا يلزمه الانصراف عن موقفه من الطريق إلا أن يكون فناء الباب المانع فيكفي عنه ، قال قتادة : لا تقعد على باب قوم ردوك فإن للناس حاجات .
قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة ، قاله محمد بن الحنفية رضي الله عنه .
الثاني : أنها حوانيت التجار ، قاله الشعبي .
الثالث : أنها منازل الأسفار ومناخات الرجال التي يرتفق بها مارة الطريق في أسفارهم ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها الخرابات العاطلات ، قاله قتادة .
الخامس : أنها بيوت مكة ، ويشبه أن يكون قول مالك .
{ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها عروض الأموال التي هي متاع التجار ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها الخلاء والبول سمي متاعاً لأنه إمتاع لهم ، قاله عطاء .
الثالث : أنه المنافع كلها ، قاله قتادة ، فلا يلزم الاستئذان في هذه المنازل كلها . قال الشعبي : حوانيت التجار إذنهم جاءوا ببيوتهم فجعلوها فيها وقالوا للناس : هَلُمّ .
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

قوله تعالى : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } وفي { مِنْ } في هذا الموضع ثلاثة أقوايل
: أحدها : أنها صلة وزائدة وتقدير الكلام : قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم ، قاله السدي .
الثاني : أنها مستعملة في مضمر وتقديره ، يغضوا أبصارهم عما لا يحل من النظر ، وهذا قول قتادة .
الثالث : أنها مستعملة في المظهر ، لأن غض البصر عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك دخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال : من أبصارهم ، قاله ابن شجرة .
ويحرم من النظر ما قصد ، ولا تحرم النظرة الأولى الواقعة سهواً . روى الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ابنُ آدَمَ لَكَ النَّظْرَةُ الأَولَى وَعَلَيكَ الثَّانِيَة
» . { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } فيه قولان
: أحدهما : أنه يعني بحفظ الفرج عفافه ، والعفاف يكون عن الحرام دون المباح ولذلك لم يدخل فيه حرف التبعيض كما دخل غض البصر .
الثاني : قاله أبو العالية الرياحي المراد بحفظ الفروج في هذا الموضع سترها عن الأبصار حتى لا ترى ، وكل موضع في القرآن ذكر فيه الفرج فالمراد به الزنى إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر ، وسميت فروجاً لأنها منافذ الأجواف ومسالك الخارجات .
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ . . . } والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب ، ومنه قوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قال الشاعر :
يأخذ زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن غير عواطل
والزينة زينتان : ظاهرة وباطنة ، فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها لقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الثياب ، قاله ابن مسعود .
الثاني : الكحل والخاتم ، قاله ابن عباس ، والمسور بن مخرمة .
الثالث : الوجه والكفان ، قاله الحسن ، وابن جبير ، وعطاء .
وأما الباطنة فقال ابن مسعود : القرط والقلادة والدملج والخلخال ، واختلف في السوار فروي عن عائشة أنه من الزينة الظاهرة ، وقال غيرها هو من الباطنة ، وهو أشبه لتجاوزه الكفين ، فأما الخضاب فإن كان في الكفين فهو من الزينة الظاهرة ، وإن كان في القدمين فهو من الباطنة ، وهذا الزينة الباطنة يجب سترها عن الأجانب ويحرم عليها تعمد النظر إليها فأما ذوو المحارم فالزوج منهم يجوز له النظر والالتذاذ ، وغيره من الآباء والأبناء والإخوة يجوز لهم النظر ويحرم عليهم الالتذاذ .
روى الحسن والحسين رضي الله عنهما [ أنهما ] كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط .
وتأول بعض أصحاب الخواطر هذه الزينة بتأويلين :
أحدهما : أنها الدنيا فلا يتظاهر بما أوتي منها ولا يتفاخر إلا بما ظهر منها ولم ينستر .
الثاني : أنها الطاعة لا يتظاهر بها رياءً إلا ما ظهر منها ولم ينكتم ، وهما بعيدان .
{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ } الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن ، وقيل : كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدرعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها . وكني عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها .
ثم قال : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكاً لشهوته ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السلتاء والمرهاء فالسلتاء التي لا تختضب ، والمرهاء التي لا تكتحل تفعل ذلك لانصراف شهوة الزوج عنها فأمرها بذلك استدعاء لشهوته ، ولعن صلى الله عليه وسلم المفشلة والمسوفة ، المسوفة التي إذا دعاها للمباشرة قالت سوف أفعل ، والمفشلة التي إذا دعاها قالت إنها حائض وهي غير حائض ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لُعِنَتِ الغَائِصَةُ وَالمُغَوِّصَةُ » فالغائصة التي لا تعلم زوجها بحيضها حتى يصيبها ، والمغوصة التي تدعى أنها حائض ليمتنع زوجها من إصابتها وليست بحائض .
واختلف أصحابنا في تعمد كل واحد من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه تلذذاً به على وجهين :
أحدهما : يجوز كما يجوز الاستمتاع به لقوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } [ البقرة : 187 ] .
الثاني : لا يجوز لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إِلَيهِ
» . فأما ما سوى الفرجين منهما فيجوز لكل واحدٍ منهما أن يتعمد النظر إليه من صاحبه وكذلك الأمة مع سيدها .
{ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } إلى قوله : { أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } وهؤلاء كلهم ذوو محارم بما ذكر من الأسباب والأنساب يجوز أبداً نظر الزينة الباطنة لهم من غير استدعاء لشهوتهم ، ويجوز تعمد النظر من غير تلذذ .
والذي يلزم الحرة أن تستر من بدنها مع ذوي محارمها ما بين سرتها وركبتها ، وكذلك يلزم مع النساء كلهن أو يستتر بعضهن من بعض ما بين السرة والركبة وهو معنى قوله :
{ أو نِسَآئِهِنَّ } وفيهن وجهان
: أحدهما : أنهن المسلمات لا يجوز لمسلمة أن تكشف جسدها عند كافرة ، قاله الكلبي .
والثاني : أنه عام في جميع النساء .
ثم قاله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يعني عبيدهن ، فلا يحل للحرة عبدها ، وإن حل للرجل أمته ، لأن البضع إنما يستحقه مالكه ، وبضع الحرة لا يكون ملكاً لعبدها ، وبضع الأمة ملك لسيدها .
واختلف أصحابنا في تحريم ما بطن من زينة الحرة على عبدها ، على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تحل ولا تحرم ، وتكون عورتها معه كعورتها مع ذوي محرمها ، ما بين السرة والركبة لتحريمه عليها ولاستثناء الله تعالى له مع استثنائه من ذوي محرمها وهو مروي عن عائشة وأم سلمة .
والثاني : أنها تحرم ولا تحل وتكون عورتها معه كعورتها مع الرجال والأجانب وهو ما عدا الزينة الظاهرة من جميع البدن إلا الوجه والكفين ، وتأول قائل هذا الوجه قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } على الإِماء دون العبيد ، وتأوله كذلك سعيد بن المسيب ، وعطاء ، ومجاهد .
والثالث : أنه يجوز أن ينظر إليها فضلاء ، كما تكون المرأة في ثياب بيتها بارزة الذراعين والساقين والعنق اعتباراً بالعرف والعادة ، ورفعاً لما سبق ، وهو قول عبد الله بن عباس ، وأما غير عبدها فكالحر معها ، وإن كان عبداً لزوجها وأمها .
ثم قال تعالى : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَة مِنَ الرِّجَالِ } فيه ثمانية أوجه :
أحدها : أنه الصغير لأنه لا إرب له في النساء لصغره ، وهذا قول ابن زيد .
والثاني : أنه العنين لأنه لا إرب له في النساء لعجزه ، وهذا قول عكرمة ، والشبعي .
والثالث : أنه الأبله المعتوه لأنه لا إرب له في النساء لجهالته ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وعطاء .
والرابع : أنه المجبوب لفقد إربه ، وهذا قول مأثور .
والخامس : أنه الشيخ الهرم لذهاب إربه ، وهذا قول يزيد بن حبيب .
والسادس : أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل ، وهذا قول قتادة .
والسابع : أنه المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه ، وهذا قول مجاهد .
والثامن : أنه تابع القوم يخدمهم بطعام بطنه ، فهو مصروف لا لشهوة ، وهو قول الحسن .
وفيما أخذت منه الإربة قولان :
أحدها : أنها مأخوذة من العقل من قولهم رجل أريب إذا كان عاقلاً .

والثاني : أنها مأخوذة من الأرب وهو الحاجة ، قاله قطرب .
ثم أقول : إن الصغير والكبير والمجبوب من هذه التأويلات المذكورة في وجوب ستر الزينة الباطنة منهم ، وإباحة ما ظهر منها معهم كغيرهم ، فأما الصغير فإن لم يظهر على عورات النساء ولم يميز من أحوالهن شيئاً فلا عورة للمرأة معه .
[ فإِن كان مميزاً غير بالغ ] لزم أن تستر المرأة منه ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما عداه وجهان :
أحدهما : لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والتكليف له غير لازم .
والثاني : يلزم كالرجل لأنه قد يشتهي ويشتهى .
وفي معنى قوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } ثلاثة أوجه :
الأول : لعدم شهوتهم .
والثاني : لم يعرفوا عورات النساء لعدم تمييزهم .
والثالث : لم يطيقوا جماع النساء .
وأما الشيخ فإن بقيت فيه شهوة فهو كالشباب ، فإن فقدها ففيه وجهان :
أحدهما : أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة .
والثاني : أنها معه محرمة وجميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة ، استدامة لحاله المتقدمة .
وأما المجبوب والخصي ففيهما لأصحابنا ثلاثة أوجه :
أحدها : استباحة الزينة الباطنة معهما .
والثاني : تحريمها عليهما .
والثالث : إباحتها للمجبوب وتحريمها على الخصي .
والعورة إنما سميت بذلك لقبح ظهورها وغض البصر عنها ، مأخوذ من عور العين .
ثم قال تعالى : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } قال قتادة : كانت المرأة إذا مشت تضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها ، فنهين عن ذلك .
ويحتمل فعلهن ذلك أمرين : فإما أن يفعلن ذلك فرحاً بزينتهن ومرحاً وإما تعرضاً للرجال وتبرجاً ، فإن كان الثاني فالمنع منه حتم ، وإن كان الأول فالمنع منه ندب .
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

قوله تعالى : { وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ } وهو جمع أيّم ، وفي الأيم قولان
: أحدهما : أنها المتوفى عنها زوجها ، قاله محمد بن الحسن .
الثاني : أنها التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً وهو قول الجمهور . يقال رجل أيّم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج . ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر :
فَإِن تَنْكَحِي أَنكِحْ وإن تَتَأَيَّمِي ... وإن كُنْتَ أَفْتَى منكُم أَتَأَيَّمُ
وروى القاسم قال : أمر بقتل الأيم يعني الحية
. وفي هذا الخطاب قولان :
أحدهما : أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج .
الثاني : أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة .
واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكاً بظاهر الأمر ، وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج .
ثم قال : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءَكم .
الثاني : وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإِيماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له ، وإن أراد تزويجها كان له خيراً وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها .
وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين :
{ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يَغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح .
الثاني : إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين ، وإما باجتماع الرزقين ، وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اطْلُبُواْ الغِنَى فِي هذِهِ الآية » { إِن يَكُونَواْ فُقَرآءَ يُغْنهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } .
{ وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ } فيه وجهان
: أحدهما : واسع العطاء عليم بالمصلحة .
الثاني : واسع الرزق عليهم بالخلق .
قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } أي وليعف ، والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة ، قال رؤبة :
يعف عن أسرارها بعد الفسق .
يعني عن الزنى بها .
{ حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه .
الثاني : يغني بمال حلال يتزوجون به .
{ وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً } أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق ، فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز ، وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها .

وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيراً مذهبان :
أحدهما : وهو قول عطاء ، وداود ، يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى .
الثاني : وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيراً بين المقام والفسخ .
{ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } خمسة تأويلات
: أحدها : أن الخير ، القدرة على الاحتراف والكسب ، قاله ابن عمر وابن عباس .
الثاني : أن الخير : المال ، قاله عطاء ومجاهد .
الثالث : أنه الدين والأمانة ، قاله الحسن .
الرابع : أنه الوفاء والصدق ، قاله قتادة وطاووس .
الخامس : أنه الكسب والأمانة ، قاله الشافعي .
{ وءَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد . ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنياً ، قاله الحسن ، وإبراهيم وابن زيد .
الثاني : من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة .
واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب ، وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعلي وابن عباس .
واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة ، وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر ، وبه قال ابن عباس .
وإن امتنع السيد منه طوعاً قضى الحاكم به عليه جبراً واجتهد رأيه في قدره ، وحكم به في تركته إن مات ، وحاص به الغرماء إن أفلس .
والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه ، وإذا عجز عن أداء نجم عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقاً ، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه .
قال الكلبي وسبب نزول قوله تعالى : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً } الآية؛ أن عبداً اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه .
قوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } الفتيات الإماء ، البغاء الزنى ، والتحصن التعفف ، ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففاً أو لم تُرِدْ .
وفي ذكر الإِكراه هنا وجهان :
أحدهما : لأن الإِكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف ، ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه .
الثاني : أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه ، وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له أمة يقال لها مسيكة وكان يكرهها على الزنى فزنت ببُرْدٍ فأعطته إياه فقال : ارجعي فازني على آخر : فقال : لا والله ما أنا براجعة وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية ، وكان مستفيضاً من أفعال الجاهلين طلباً للولد والكسب .
{ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي لتأخذوا أجورهن على الزنى
. { وَمَن يُكْرِههُّنَّ } يعني من السادة
. { فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يعني للأمة المكرهة دون السيد المكرِه .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

قوله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : معناه الله هادي السموات والأرض ، قاله ابن عباس ، وأنس .
الثاني : الله مدبر السموات والأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : الله ضياء السموات والأرض ، قاله أُبي .
الرابع : منور السموات والأرض .
فعلى هذا فبما نورهما به ثلاثة أقاويل :
أحدها : الله نور السموات بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء .
الثاني : أنه نور السموات بالهيبة ونور الأرض بالقدرة .
الثالث : نورهما بشمسها وقمرها ونجومها ، قاله الحسن ، وأبو العالية .
{ مَثَلُ نُورِهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : مثل نور الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة .
الثالث : مثل نور المؤمن ، قاله أُبي .
الرابع : مثل نور القرآن ، قاله سفيان .
فمن قال : مثل نور المؤمن ، يعني في قلب نفسه ، ومن قال : مثل نور محمد ، يعني في قلب المؤمن ، ومن قال : نور القرآن ، يعني في قلب محمد .
ومن قال : نور الله ، فيه قولان :
أحدهما : في قلب محمد .
الثاني : في قلب المؤمن .
{ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : أن المشكاة كوة لا منفذ لها والمصباح السراج ، قاله كعب الأحبار .
الثاني : المشكاة القنديل والمصباح الفتيلة ، قاله مجاهد .
الثالث : المشكاة موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأُنبوب ، والمصباح الضوء قاله ابن عباس .
الرابع : المشكاة الحديد الذي به القنديل وهي التي تسمى السلسلة والمصباح هو القنديل ، وهذا مروي عن مجاهد أيضاً .
الخامس : أن المشكاة صدر المؤمن والمصباح القرآن الذي فيه والزجاجة قلبه ، قاله أُبَي ، قال الكلبي : والمشكاة لفظ حبشي معرب .
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني أن نار المصباح في زجاجة القنديل لأنه فيها أضوأ ، وهو قول الأكثرين .
الثاني : أن المصباح القرآن والإِيمان ، والزجاجة قلب المؤمن ، قاله أُبَي .
{ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أما الكوكب ففيه قولان
: أحدهما : أنه الزهرة خاصة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه أحد الكواكب المضيئة من غير تعيين ، وهو قول الأكثرين .
وأما درّي ففيه أربع قراءات .
إحداها : دُريّ بضم الدال وترك الهمز وهي قراءة نافع وتأويلها أنه مضيء يشبه الدر لضيائه ونقائه .
الثانية : بالضم والهمز وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر وتأويلها أنه مضيء .
الثالثة : بكسر الدال وبالهمز وهي قراءة أبي عمرو والكسائي وتأويلها أنه متدافع لأنه بالتدافع يصير منقضاً فيكون أقوى لضوئه مأخوذ من درأ أي دفع يدفع .
الرابعة : بالكسر وترك الهمز وهي قراءة المفضل بن عاصم ، وتأويلها أنه جار كالنجوم الدراري الجارية من درّ الوادي إذا جرى .
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني بالشجرة المباركة إبراهيم والزجاجة التي كأنها كوكب دري محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مروي عن ابن عمر .
الثاني : أنه صفة لضياء المصباح الذي ضربه الله مثلاً يعني أن المصباح يشعل من دهن شجرة زيتونة .

{ مُّبَارَكَةٍ } في جعلها مباركة وجهان
: أحدهما : لأن الله بارك في زيتون الشام فهو أبرك من غيره .
الثاني : لأن الزيتون يورق غصنه من أوله إلى آخره وليس له في الشجر مثيل إلا الرمان .
قال الشاعر :
بُورِكَ الْمَيْتُ الغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ
{ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } فيه سبعة أقاويل
: أحدها : أنها ليست من شجرة الشرق دون الغرب ولا من شجرة الغرب دون الشرق لأن ما اختص بأحد الجهتين أقل زيتاً وأضعف ، ولكنها شجر ما بين الشرق والغرب كالشام لاجتماع القوتين فيه ، وهو قول ابن شجرة وحكي عن عكرمة .
ومنه قولهم : لا خير في المتقاة والمضحاة ، فالمتقاة أسفل الوادي الذي لا تصيبه الشمس ، والمضحاة رأس الجبل الذي لا تزول عنه الشمس .
الثاني : أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس في وقت الغروب ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع بل هي بارزة للشمس من وقت الطلوع إلى وقت الغروب فيكون زيتها أقوى وأضوأ ، قاله قتادة .
الثالث : أنها وسط الشجرة لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أضوأ لزيتها ، قاله عطية .
الرابع : أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها ، حكاه يحيى ابن سلام .
الخامس : أنها ليست من شجر الدنيا التي تكون شرقية أو غربية ، وإنما هي من شجر الجنة ، قاله الحسن .
السادس : أنها مؤمنة لا شرقية ولا غربية ، أي ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ، ولا غربية أي ليست بيهودية تصلي إلى الغرب ، قاله ابن عمر .
السابع : أن الإِيمان ليس بشديد ولا لين لأن في أهل الشرق شدة ، وفي أهل الغرب لينٌ .
{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن صفاء زيتها كضوء النار وإن لم تمسسه نار ، ذكره ابن عيسى .
الثاني : أن قلب المؤمن يكاد أن يعرف قبل أن يتبين له لموافقته له ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : يكاد العلم يفيض من فم العالم المؤمن من قبل أن يتكلم به .
الرابع : تكاد أعلام النبوة تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدعو إليها .
{ نُّورٌ عَلَى نُورٍ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : يعني ضوء النار على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة ، قاله مجاهد .
الثاني : نور النبوة على نور الحكمة ، قاله الضحاك .
الثالث : نور الزجاجة على نور الخوف .
الرابع : نور الإِيمان على نور العمل .
الخامس : نور المؤمن فهو حجة الله ، يتلوه مؤمن فهو حجة الله حتى لا تخلو الأرض منهم .
السادس : نور نبي من نسل نبي ، قاله السدي .
{ يَهْدِي لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : يهدي الله لدينه من يشاء من أوليائه ، قاله السدي .
الثاني : يهدي الله لدلائل هدايته من يشاء من أهل طاعته .
الثالث : يهدي الله لنبوته من يشاء من عباده .
{ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } الآية . وفيما ضربت هذه الآية مثلاً فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها مثل ضربه الله للمؤمن في وضوح الحق له .
الثاني : أنها مثل ضربه الله لطاعته فسى الطاعة نوراً لتجاوزها عن محلها .
الثالث : ما حكاه ابن عباس أن اليهود قالوا : يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله ذلك مثلاً لنوره .
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

قوله : { فِي بُيُوتٍ } في هذه البيوت قولان
: أحدهما : أنها المساجد ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد .
الثاني : أنها سائر البيوت ، قاله عكرمة .
{ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ } أربعة أوجه
: أحدها : أن تُبْنَى ، قاله مجاهد كقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } أي يبني .
الثاني : أنها تطهر من الأنجاس والمعاصي ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن تعظم ، قاله الحسن .
الرابع : أن ترفع فيها الحوائج إلى الله .
{ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } فيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : يتلى فيها كتابه ، قاله ابن عباس .
الثاني : تذكر فيها أسماؤه الحسنى ، قاله ابن جرير .
الثالث : توحيده بأن لا إله غيره ، قاله الكلبي .
وفيما يعود إليه ذكر البيوت التي أذن الله أن ترفع قولان :
أحدهما : إلى ما تقدم من قوله : كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله .
الثاني : إلى ما بعده من قوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } وفي هذا التسبيح قولان :
أحدهما : أنه تنزيه الله .
الثاني : أنه الصلاة ، قاله ابن عباس والضحاك .
{ بالْغَدُوِّ وَالآصَالِ } الغدو جمع غَدوة والآصال جمع أصيل وهي العشاء
. { رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } قال الكلبي : التجار هم الجلاب المسافرون ، والباعة هم المقيمون .
{ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : عن ذكره بأسمائه الحسنى .
الثاني : عن الأذان ، قاله يحيى بن سلام . { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبِ وَالأبْصَارُ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يعني تقلبها على حجر جهنم .
الثاني : تقلب أحوالها بأن تلفحها النار ثم تنضجها وتحرقها .
الثالث : أن تقلب القلوب وجيبها ، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال .
الرابع : أن تقلب القلوب بلوغها الحناجر ، وتقلب الأبصار الزّرَق بعد الكحل ، والعمى بعد البصر .
الخامس : أن الكافر بعد البعث ينقلب قلبه على الكفر إلى الإيمان وينقلب بصره عما كان يراه غياً فيراه رشداً .
{ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } فذكر الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازى عليها لأمرين :
أحدهما : أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة .
الثاني : أنه يكون في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر فكانت صغائرهم مغفورة .
{ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها .
الثاني : ما يتفضل به من غير جزاء .
{ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بغير جزاء بل يسديه تفضلاً .
الثاني : غير مقدر بالكفاية حتى يزيد عليها .
الثالث : غير قليل ولا مضيق .
الرابع : غير ممنون به .
وقيل لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال : يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجدا؟ قال : « نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ » قال ، وصلى فيها قائماً وقاعداً قال : « نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةِ » قال : ولم يبت لله إلا ساجداً؟ قال : « نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ . كُفّ عَنِ السَّجْعِ فَمَا أُعْطِيَ عَبْدٌ شَيئاً شَرّاً مِن طَلاَقَةِ لِسَانِهِ
» .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أََعَمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بقِيعَةٍ } أما السراب فهو الذي يخيل لمن رآه في الفلاة كأنه الماء الجاري قال الشاعر :
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلاَ مُتَأَلِّق
والآل كالسراب إلا أنه يرتفع عن الأرض في وقت الضحى حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء ، وقيل : إن السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال والرقراق بعد العصر وأما القيعة فجمع قاع مثل جيرة وجار ، والقاع ما انبسط من الأرض واستوى .
{ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } يعني العطشان يحسب السراب ماءً
. { حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } وهذا مثل ضربه الله للكافر يعول على ثواب عمله فإذا قدم على الله وجد ثواب عمله بالكفر حابطاً .
{ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ } فيه وجهان
: أحدهما : وجد أمر الله عند حشره .
الثاني : وجد الله عند عرضه .
{ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره .
والثاني : وجد الله عند وعيده فوفى بعذابه ويكون الحساب على الوجهين معاً محمولاً على العمل ، كما قال امرؤ القيس :
فوّلَّى مُدْبِراً وَأيْقَنَ ... أنَّه لاَقِى الْحِسَابَا
{ وَاللَّهُ سَرِيع الْحِسَابِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لأن حسابه آت وكل آت سريع .
الثاني : لأنه يحاسب جميع الخلق في وقت سريع .
قيل إن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين فكفر في الإِسلام .
قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } الظلمات : ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل .
وفي قوله لجيّ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه البحر الواسع الذي لا يرى ساحله ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنه البحر الكثير الموج ، قاله الكلبي .
الثالث : أنه البحر العميق ، وهذا قول قتادة ، ولجة البحر وسطه ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَنْ رَكِبَ البَحْرَ إِذَا الْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ » يعني إذا توسطه
. { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : يغشاه موج من فوق الموج ريح ، من فوق الريح سحاب فيجمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب .
الثاني : معناه يغشاه موج من بعده فيكون المعنى الموج بعضه يتبع بعضاً حتى كأنه بعضه فوق بعض وهذا أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب ، ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين :
أحدهما : أنه قد يغطي النجوم التي يهتدى بها .
الثاني : الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه .
{ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يريد الظلمات التي بدأ بذكرها وهي ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل .
الثاني : يعني بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض .
{ إِذَا أخْرَجَ يَدَه لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } فيه وجهان
: أحدهما : معناه أنه رآها بعد أن كاد لا يراها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : لم يرها ولم يكد ، قاله الزجاج ، وهو معنى قول الحسن .

وفي قوله لم يكد وجهان :
أحدهما : لم يطمع أن يراها .
الثاني : لم يرها ويكاد صلة زائدة في الكلام .
{ ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهَ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : ومن لم يجعل الله له سبيلاً إلى النجاة في الآخرة فما له من سبيل إليها حكاه ابن عيسى .
الثاني : ومن لم يهده الله للإِسلام لم يهتد إليه ، قاله الزجاج .
وقال بعض أصحاب الخواطر وجهاً ثالثاً : ومن لم يجعل الله نوراً له في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة .
ويحتمل رابعاً : ومن لم يجعل الله له قبولاً في القلوب لم تقبله القلوب .
وهذا المثل ضربه الله للكافر ، فالظمات ظلمة الشرك وظلمة الليل وظلمة المعاصي ، والبحر اللجي قلب الكافر ، يغشاه من فوقه عذاب الدنيا ، فوقه عذاب الآخرة .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)

قوله تعالى : { وَالطَّيْرُ صَآفَاتٍ } أي مصطفة الأجنحة في الهواء
. { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الصلاة للإِنسان والتسبيح لما سواه من سائر الخلق ، قاله مجاهد .
الثاني : أن هذا في الطير وإن ضرب أجنحتها صلاة وأن أصواتها تسبيح ، حكاه النقاش .
الثالث : أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود ، قاله سفيان . ثم فيه قولان :
أحدهما : أن كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه .
الثاني : أن الله قد علم صلاته وتسبيحه .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

قوله تعالى : { يُزْجِي سَحَاباً } فيه وجهان
: أحدهما : ينزله قليلاً بعد قليل ، ومنه البضاعة المزجاة لقلتها .
الثاني : أنه يسوقه إلى حيث شاء ومنه زجا الخراج إذا انساق إلى أهله قال النابغة :
إِنِّي أتَيْتُكَ من أَهْلِي ومنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ ما بِها رَمَقٌ
{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي يجمعه ثم يفرقه عند انتشائه ليقوى ويتصل .
{ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي يركب بعضه بعضاً
. { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } فيه قولان
: أحدهما : أن الودق البرق يخرج من خلال السحاب قال الشاعر :
أثرن عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلَلَ السحاب
وهذا قول أبي الأشهب
: الثاني : أنه المطر يخرج من خلال السحاب ، وهو قول الجمهور ، ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
{ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن في السماء جبال برد فينزل من تلك الجبال ما يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء .
الثاني : أنه ينزل من السماء برداً يكون كالجبال .
الثالث : أن السماء السحاب ، سماه لعلوه ، والجبال صفة السحاب أيضاً سمي جبالاً لعِظمه فينزل منه برداً يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فتكون إصابته نقمة وصرفه نعمة .
{ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : صوت برقه .
الثاني : ضوء برقه ، قاله يحيى بن سلام ومنه قول الشماخ .
وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلاّ البصير
الثالث : لمعان برقه ، قاله قتادة والصوت حادث عن اللمعان كما قال امرؤ القيس :
يضي سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل
فيكون البرق دليلاً على تكاثف السحاب ، ونذيراً بقوة المطر ، ومحذراً من نزول الصواعق .
قوله تعالى : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ } فيه ثلاث أوجه :
أحدها : هو أن يأتي بالليل بعد النهار ويأتي بالنهار بعد الليل ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أن ينقص من الليل ما يزيد من النهار وينقص من النهار ما يزيد في الليل ، حكاه يحيى بن سلام .
الثالث : أنه يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى ، ويغير الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة ، حكاه النقاش .
ويحتمل رابعاً : أن يقلبها باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر .
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبّةٍ مِّن مَّاءٍ } فيه قولان
: أحدهما : أن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منها الجن ، وإلى النور فخلق منها الملائكة ، وإلى الطين فخلق منه من خلق وما خلق ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنه خالق كل دابة من ماء النطفة ، قاله السدي .
{ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية والحوت
. { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رَجْلَينِ } الإِنسان والطير
. { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كالمواشي والخيل ، ولم يذكر ما يمشي ، ولم يذكر ما يمشى على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع لأنه يعتمد في المشي على أربع .
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)

قوله تعالى : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ } هذه الآية نزلت في بشر ، رجلٌ من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف لأن الحق إذا كان متوجهاً على المنافق إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنه ، وإذا كان له حاكم إليه ليستوفيه منه فأنزل الله هذه الآية .
وقيل : إنها نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي كرم الله وجهه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنه يبغضني ، فنزلت هذه الآية .
{ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدهما : طائعين ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : خاضعين ، حكاه النقاش .
الثالث : مسرعين ، قاله مجاهد .
الرابع : مقرنين ، قاله الأخفش وفيها دليل على أن من دعي إلى حاكم فعليه الإِجابة ويحرج إن تأخر .
وقد روى أبو الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ دُعِيَ إِلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لاَ حَقَّ لَهُ » . ثم قال : { أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه قولان :
أحدهما : شرك ، قاله الحسن .
الثاني : نفاق ، قاله قتادة .
{ أَمِ ارْتَابُواْ } أي شكوا ويحتمل وجهين
: أحدهما : في عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : في نبوته .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

قوله تعالى : { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : طاعة صادقة خير من أيمان كاذبة .
الثاني : قد عرف نفاقكم في الطاعة فلا تتجملوا بالأيمان الكاذبة .
قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أعرضوا عن الرسول .
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } أي عليه ما حمل من إبلاغكم ، وعليكم ما حملتم من طاعته .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن عليه ما حمل من فرض جهادكم ، وعليكم ما حملتم من وزر عباده .
{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } يعني إلى الحق
. { وَمَا عَلَى الرَّسُولَِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } يعني بالقول لمن أطاع وبالسيف لمن عصى .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليَسَتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : يعني أرض مكة ، لأن المهاجرين سألوا الله ذلك ، قاله النقاش .
والثاني : بلاد العرب والعجم ، قاله ابن عيسى .
روى سليم بن عامر عن المقدام بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعزٍّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلٍّ ذَلِيلٍ ، إما يعزهم فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها
» . { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فيه قولان
: أحدهما يعني بني إسرائيل في أرض الشام .
الثاني : داود وسليمان .
{ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } يعني دين الإِسلام وتمكينه أن يظهره على كل دين .
{ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً } لأنهم كانوا مطلوبين فطلبوا ، ومقهورين فقهروا .
{ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لا يعبدون إلهاً غيري ، حكاه النقاش .
الثاني : لا يراءون بعبادتي أحداً .
الثالث : لا يخافون غيري ، قاله ابن عباس .
الرابع : لا يحبون غيري ، قاله مجاهد .
قال الضحاك : هذه الآية في الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم وهم الأئمة المهديون ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثونَ سَنَةً
» .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

قوله تعالى : { لَيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيَمَانُكُم } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم النساء يستأذنَّ في هذه الأوقات خاصة ويستأذن الرجال في جميع الأوقات ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنهم العبيد والإِماء .
وفي المعنى بالاستئذان ثلاثة أقاويل :
أحدها : العبد دون الأمة يستأذن على سيده في هذه الأوقات الثلاثة ، قاله ابن عمر ، ومجاهد .
الثاني : أنها الإِماء لأن العبد يجب أن يستأذن أبداً في هذه الأوقات وغيرها ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه على عمومه في العبد والأمة ، قاله أبو عبد الرحمن السلمي .
{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الحُلُمَ مِنْكُم } هم الصغار الأحرار فمن كان منهم غير مميز لا يصف ما رأى فليس من أهل الاستئذان ومن كان مميزاً يصف ما رأى ويحكي ما شاهد فهو المعني بالاستئذان .
{ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثَيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ } وهذه الساعات الثلاث هي أوقات الاستئذان من تقدم ذكره ولا يلزمهم الاستئذان في غيرها من الأوقات ، فذكر الوقت الأول وهو من قبل صلاة الفجر وهو من بعد الاستيقاظ من النوم إلى صلاة الصبح ، ثم ذكر الوقت الثاني فقال : { وَحِينَ تَضَعُونَ } وهو وقت الخلوة لنومة القائلة ، ثم ذكر الوقت الثالث فقال : { وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعَشَآءِ } يعني الآخرة وقد تسميها العامة العتمة وسميت العشاء لأن ظلام وقتها يعشي البصر .
وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوات الرجل مع أهله ولأنه ربما بدا فيها عند خلوته ما يكره أن يرى من جسده ، فقد روي أن عمر بن الخطاب كان في منزله وقت القائلة فأنفذ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من أولاد الأنصار يقال له مدلج فدخل على عمر بغير إذن وكان نائماً فاستيقظ عمر بسرعة فانكشف شيء من جسده فنظر إليه الغلام فحزن عمر فقال : وددت لو أن الله بفضله نهى أبناءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرَّ ساجداً [ شكراً لله ] .
{ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } يعني هذه الساعات الثلاث هي أوقات العورات فصارت من عورات الزمان فجرت مجرى عورات الأبدان فلذلك خصت بالإِذن .
{ لَيْسَ عَلَيْكَمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جَنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ليس عليكم يا أهل البيوت جناح في تبذلكم في هذه الأوقات .
الثاني : ليس عليكم جناح في منعهم في هذه الأوقات . ولا على المملوكين والصغار جناح في ترك الاستئذان فيما سوى هذه الأوقات .
{ طَوَّافُونَ عَلَيْكَم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يعني أنهم طوّافون عليكم للخدمة لكم فلم ينلهم حرج في دخول منازلكم ، والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج .
ثم أوجب على من بلغ من الصبيان الاستئذان إذا احتلموا وبلغوا لأنهم صاروا بالبلوغ في حكم الرجال فقال تعالى :
{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُواْ كَمَا اسْتَأَْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } يعني الرجال .

قوله : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ } والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن . قال ابن قتيبة : بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود . وقال زمعة : لا تراد ، فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه . قال الشاعر :
فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن ولو كان القواعد عقراً
وقوله : { الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحاً } أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال .
{ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } فيه قولان
: أحدهما : جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها قاله ابن مسعود وابن جبير .
الثاني : خمارها ورداؤها ، قاله جابر بن زيد .
{ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ } والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور . وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن . والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن . وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ ، وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ ، وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ : دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ
» . { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه .
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

قوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأنصار كانوا يتحرجون أن يؤاكلوا هؤلاء إذا دعوا إلى الطعام فيقولون : الأعمى لا يبصر أطيب الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام ، والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام . وكانوا يقولون : طعامهم مفرد ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء ، فأنزل الله هذه الآية فيهم ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، والكلبي .
الثاني : أنه ليس على هؤلاء من أهل الزمانة حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه كان المذكورون من أهل الزمانة يخلفون الأنصار في منازلهم إذا خرجواْ بجهاد وكانوا يتحرجون أن يأكلوا منها فرخص الله لهم في الأكل من بيوت من استخلفوهم فيها ، قاله الزهري .
الرابع : أنها نزلت في إسقاط الجهاد عمن ذكروا من أهل الزمانة .
الخامس : ليس على من ذكر من أهل الزمانة حرج إذا دُعِي إلى وليمة أن يأخذ معه قائده ، وهذا قول عبد الكريم .
{ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته .
الثاني : من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم : « أَنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ » ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر .
الثالث : يعني بها البيوت التي هم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالاً بأربابها كالأهل والخدم .
{ أَوْ بُيُوتِ ءَابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ } فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام مبذولاً ، فإن كان محروزاً دونهم لم يكن لهم هتك حرزه . ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار ، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم ثم قال :
{ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه عَنَى به وكيل الرجل وَقيِّمه في ضيعته يجوز له أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار ضيعته ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه أراد منزل الرجل نفسه يأكل مما ادخره ، قاله قتادة .
الثالث : أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله لأن مال العبد لسيده ، حكاه ابن عيسى .
{ أَوْ صَدِيقِكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها .
الثاني : أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضراً غير محرز . قال ابن عباس : الصديق أكثر من الوالدين ، ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء ولا الأمهات وإنما قالوا : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

« قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضَاً عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ » والمراد بالصديق الأصدقاء وهو واحد يعبر به عن الجميع ، قال جرير :
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا . ... . بأسهم أعداءٍ وهن صديقُ
وفي الصديق قولان
: أحدهما : أنه الذي صدقك عن مودته .
الثاني : أنه الذي يوافق باطنه باطنك كما وافق ظاهره ظاهرك .
ثم اختلفوا في نسخ ما تقدم ذكره بعد ثبوت حكمه على قولين :
أحدهما : أنه على ثبوته لم ينسخ شيء منه ، قاله قتادة .
الثاني : أنه منسوخ بقوله تعالى :
{ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ } الآية . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يحل مَالُ امْرِىءْ مُسْلِمٍ إلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنهُ
» قال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها نزلت في بني كنانة كان رجل منهم يرى أن مُحرَّماً عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل فيهم هذه الآية ، قاله قتادة وابن جريج .
الثاني : أنها نزلت في قوم من العرب كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف تحرج أن يتركه يأكل وحده حتى يأكل معه ، فنزل ذلك فيهم ، قال أبو صالح .
الثالث : أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعاً ويعتقدون أنه ذنب ويأكل كل واحد منهم منفرداً ، فنزل ذلك فيهم ، حكاه النقاش .
الرابع : أنها نزلت في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون عن الأكل حتى يحضر ، فنزل ذلك فيهم ترخيصاً للأكل جماعة وفرادى .
{ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً } فيها قولان
: أحدهما : أنه المساجد .
الثاني : أنها جميع البيوت .
{ فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : يعني إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم ، قاله جابر .
الثاني : إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها ، وهذا قول ابن عباس .
الثالث : إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم ، قاله الحسن .
الرابع : إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهل دينكم ، قاله السدي .
الخامس : إذا دخلتم بيوتاً فارغة فسلموا على أنفسكم وهو أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، قاله ابن عمر ، وإبراهيم ، وأبو مالك ، وقيل : سلامه على نفسه أن يقول : السلام علينا من ربنا تحية من عند الله .
وإذا سلم الواحد من الجماعة أجزأ عن جميعهم ، فإذا دخل الرجل مسجداً ذا جمع كثير سلم يسمع نفسه ، وإذا كان ذا جمع قليل أسمعهم أو بعضهم .
قال الحسن : كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء ، وكان ابن عمر يسلم على النساء ، ولو قيل لا يسلم أحد الفريقين على الآخر كان أولى لأن السلام مواصلة .
{ تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللَّهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : يعني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى .
الثاني : أن التحية بالسلام من أوامر الله .
الثالث : أن الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله .
الرابع : أن الملائكة ترد عليه فيكون ثواباً من عند الله .
{ مُبَارَكَةً } فيها وجهان
: أحدهما : لما فيها من الثواب الجزيل .
الثاني : لما يرجى من ثواب الدعاء .
{ طَيِّبَةً } يحتمل وجهين
: أحدهما : لما فيها من طيب العيش بالتواصل .
الثاني : لما فيها من طيب الذكر والشأن .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

قوله تعالى : { . . . . وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الأمر الجامع الجمعة والعيدان والاستسقاء وكل شيء يَكون فيه الخطبة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الجهاد ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : طاعة الله ، قاله مجاهد .
{ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ } أي لم ينصرفوا عنه حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .
{ فَإِذَا اسْتَئذَنُوكَ لبَعْضِ شَأْنِهِمْ . . . . } الآية . وهذا بحسب ما يرى من أعذارهم ونياتهم وروي أن هذا نزل في عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليهم وسلم في غزاة بتوك فاستأذنه في الرجوع إلى أهله فقال : « انْطَلِقْ فَوَاللَّهِ مَا أَنتَ بِمُنَافِقٍ وَلاَ مُرْتَابٍ » وكان المنافقون إذا استأذنوا نظر إليهم ولم يأذن لهم فكان بعضهم يقول لبعض : محمدٌ يزعم أنه بُعِث بالعدل وهكذا يصنع بنا .
{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ } يعني لمن أذن له من المؤمنين ليزول عنه باستغفاره ملامة الانصراف قال قتادة : وهذه الآية ناسخة قوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَدِنتَ لَهُم } الآية .
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

قوله تعالى : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } الآية . فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه نهي من الله عن التعرض لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسخاطه لأن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه نهي من الله عن دعاء رسول الله بالغلظة والجفاء وَلْيَدْعُ بالخضوع والتذلل : يا رسول الله ، يا نبي الله ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثالث : أنه نهي من الله عن الإِبطاء عند أمره والتأخر عند استدعائه لهم إلى الجهاد ولا يتأخرون كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض ، حكاه ابن عيسى .
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } فيه قولان
: أحدهما : أنهم المنافقون كانوا يتسلّلُون عن صلاة الجمعة لواذاً أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة فنزل ذلك فيهم ، حكاه النقاش .
الثاني : أنهم كانوا يتسللون في الجهاد رجوعاً عنه يلوذ بعضهم ببعض لواذاً فنزل ذلك فيهم ، قاله مجاهد .
وقال الحسن معنى قوله : { لِوَاذاً } أي فراراً من الجهاد ، ومنه قول حسان ابن ثابت :
وقريش تجول منكم لواذاً ... لم تحافظ وخفّ منها الحلوم
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } فيه قولان
: أحدهما : يخالفون عن أمر الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .
ومعنى قوله : { يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي يعرضون عن أمره ، وقال الأخفش : { عَنْ } في هذا الموضع زائدة ومعنى الكلام فليحذر الذين يخالفون أمره ، وسواء كان ما أمرهم به من أمور الدين أو الدنيا .
{ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } فيها ثلاثة تأويلات
: أحدها : كفر ، قاله السدي .
الثاني : عقوبة ، قاله ابن كامل .
الثالث : بلية تُظْهِرُ ما في قلوبهم من النفاق ، حكاه ابن عيسى .
{ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فيه قولان
: أحدهما : القتل في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عذاب بجهنم في الآخرة .
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ . . . . } في تبارك ثلاثة أوجه
: أحدها : تفاعل مع البركة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الذي يجيىء البركة من قِبَلِهِ ، قاله الحسن .
الثالث : خالق البركة : قاله إبراهيم .
وفي البركة ثلاثة أقاويل :
أحدها : العلو . الثاني : الزيادة .
الثالث : العظمة . فيكون تأويله على الوجه الأول : تعالى ، وعلى الوجه الثاني تزايد ، وعلى الوجه الثالث : تعاظم .
و { الْفُرْقَانَ } هو القرآن وقيل إنه اسم لكل كتاب منزل كما قال تعالى :
{ وَإِذ ءَاتَينَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفَرْقَانَ } وفي تسميته فرقاناً وجهان :
أحدهما : لأنه فرق بين الحق والباطل .
الثاني : لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام ، حكاه النقاش .
{ عَلَى عَبْدِهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن الزبير { عَلَى عِبَادِهِ } بالجمع
. { لِيَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيراً } فيه قولان
: أحدهما : ليكون محمد نذيراً ، قاله قتادة ، وابن زيد .
الثاني : ليكون الفرقان ، حكاه ابن عيسى . والنذر : المحذر من الهلاك ، ومنه قول الشاعر :
فلما تلاقينا وقد كان منذر . ... . نذيراً فلم يقبل نصيحة ذي النذر
والمراد بالعالمين هنا الإِنس والجن لأن النبي صلى الله عليه قد كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما وأنه خاتم الأنبياء ، ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوحاً فإنه عم برسالته جميع الإِنس بعد الطوفان لأنه بدأ به الخلق ، واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين :
أحدهما : عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة .
الثاني : خاصة بقومه لأنه ما تجاوزهم بدعائه .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني مشركي قريش ، وقال ابن عباس : القائل منهم ذلك النضر بن الحارث .
{ إِن هذَآ } يعني القرآن
. { إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ } أي كذب اختلقه
. { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ } وفيمن زعموا أنه أعانه عليه أربعة أقاويل
: أحدها : قوم من اليهود ، قاله مجاهد .
الثاني : عبد الله الحضرمي ، قاله الحسن .
الثالث : عدّاس غلام عتبة ، قاله الكلبي .
والرابع : أبو فكيهة الرومي ، قاله الضحاك .
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم قالوا ذلك إزراء عليه أنه لما كان مثلهم محتاجاً إلى الطعام ومتبذلاً في الأسواق لم يجز أن يتميز عليهم بالرسالة ووجب أن يكون مثلهم في الحكم .
الثاني : أنهم قالوا ذلك استزادة له في الحال كما زاد عليهم في الاختصاص فكان يجب ألاّ يحتاج إلى الطعام كالملائكة ، ولا يتبذل في الأسواق كالملوك .
ومرادهم في كلا الوجهين فاسد من وجهين :
أحدهما : أنه ليس يوجب اختصاصه بالمنزلة نقله عن موضع الخلقة لأمرين :
أحدهما : أن كل جنس قد يتفاضل أهله في المنزلة ولا يقتضي تمييزهم في الخلقة كذلك حال من فضل في الرسالة .
الثاني : أنه لو نقل عن موضوع الخلقة بتمييزه بالرسالة لصار من غير جنسهم ولما كان رسولاً منهم ، وذلك مما تنفر منه النفوس .
وأما الوجه الثاني : فهو أن الرسالة لا تقتضي منعه من المشي في الأسواق لأمرين :
أحدهما : أن هذا من أفعال الجبابرة وقد صان الله رسوله عن التجبر .
الثاني : لحاجته لدعاء أهل الأسواق إلى نبوته ، ومشاهدة ما هم عليه من منكر يمنع منه ومعروف يقر عليه .
{ لَوْلآَ أُنزِلَ إِلَيهِ } الآية أي هلا أُنزل إليه { مَلَكٌ . . . } وفيه وجهان
: أحدهما : أن يكون الملك دليلاً على صدقه .
الثاني : أن يكون وزيراً له يرجع إلى رأيه .
{ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } فلا يكون فقيراً
. { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } والجنة البستان فكأنهم استقلّوه لفقره . قال الحسن : والله ما زَوَاهَا عن نبيه إلا اختياراً ولا بسطها لغيره إلا اغتراراً ولوا ذاك لما أعاله .
قوله : { وَقَالَ الظَّالِمُونَ } يعني مشركي قريش وقيل إنه عبد الله بن الزبعرى .
{ إِن تَبَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : سحر فزال عقله .
الثاني : أي سَحَرَكُمْ فيما يقوله .
قوله تعالى : { انظُرْ كَيفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ } يعني ما تقدم من قولهم .
{ فَضَلُّواْ } فيه وجهان
: أحدهما : فضلواْ عن الحق في ضربها .
الثاني : فناقضوا في ذكرها لأنهم قالوا افتراه ثم قالوا تملى عليه وهما متناقضان .
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مخرجاً من الأمثال التي ضربوها ، قاله مجاهد .
الثاني : سبيلاً إلى الطاعة لله ، قاله السدي .
الثالث : سبيلاً إلى الخير ، قاله يحيى بن سلام .
قوله تعالى : { وَإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً } قال عبد الله بن عمرو : إن جهنم لتضيق على الكافرين كضيق الزج على الرمح .
{ مُّقَرَّنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : مُكَتَفِينَ ، قاله أبو صالح .
الثاني : يقرن كل واحد منهم إلى شيطانه ، قاله يحيى بن سلام .
{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدهما : ويلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : هلاكاً ، قاله الضحاك .
الثالث : معناه وانصرافاه عن طاعة الله ، حكاه ابن عيسى وروي النبي صلى الله عليه السلام أنه قال : « أَوَّلُ مَن يَقُولُهُ إِبْلِيسُ
»
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

قوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } يعني من النعيم فأما المعاصي فتصرف عن شهواتهم .
{ خَالِدِينَ } يعني في الثواب كخلود أهل النار في العقاب
. { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدهما : أنه وعد الله لهم بالجزاء فسألوه الوفاء فوفاه ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : الملائكة تسأل الله لهم فيجابون إلى مسألتهم ، وهو معنى قول محمد بن كعب القرظي .
الثالث : أنه سألوا الله الجنة في الدنيا ورَغِبُوا إليه بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا ، وهو معنى قول زيد بن أسلم .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم } فيه قولان :
أحدهما أنه حَشْرُ الموت ، قاله مجاهد .
الثاني : حشر البعث ، قاله ابن عباس .
{ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } قاله مجاهد : هم عيسى وعزير والملائكة . { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلآءِ } وهذا تقرير لإِكذاب من ادّعى ذلك عليهم وإن خرج مخرج الاستفهام .
وفيمن قال له ذلك القول قولان :
أحدهما أنه يقال هذا للملائكة ، قاله الحسن .
الثاني : لعيسى وعزير والملائكة ، قاله مجاهد .
{ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ } أي أخطأوا قصد الحق بأجابوا بأن
: { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَن نَتَّخذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيآءَ } فيه وجهان :
أحدهما ما كنا نواليهم على عبادتنا .
الثاني : ما كنا نتخذهم لنا أولياء .
{ وَلكن مَّتَّعْنَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : متعهم بالسلامة من العذاب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : بطول العمر ، حكاه النقاش .
الثالث : بالأموال والأولاد .
{ حَتَّى نَسُواْ الذِكْر } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : حتى تركوا القرآن ، قاله ابن زيد .
الثاني : حتى غفلوا عن الطاعة .
الثالث : حتى نسوا الإِحسان إليهم والإِنعام عليهم .
{ وََكَانَوا قَوْماً بُوراً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني هلكى ، قاله ابن عباس ، مأخوذ من البوار وهو الهلاك .
الثاني : هم الذين لا خير فيهم ، قاله الحسن مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطلها من الزرع فلا يكون فيها خير .
الثالث : أن البوار الفساد ، قاله شهر بن حوشب وقتادة ، مأخوذ من قولهم بارت إذا كسدت كساد الفاسد ومنه الأثر المروي : نعوذ بالله من بوار الأيم ، وقال عبد الله بن الزِبعرى :
يا رسول المليك إن لساني . ... . راتق ما فتقت إذ أنا بُور
{ فقد كذبوكُم بما تقولون } فيه قولان : أحدهما : أن الملائكة والرسل قد كذبوا الكفار فيما يقولون أنهم اتخذوهم أولياء من دونه ، قاله مجاهد .
الثاني : أن المشركين كذبوا المؤمنين فيما يقولونه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
{ فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : صرف العذاب عنهم ولا ينصرون أنفسهم ، قاله ابن زيد .
الثاني : فما يستطيعون صرف الحجة عنهم ولا نصراً على آلهتهم في تعذيبهم ، قاله الكلبي .
الثالث : فما يستطيعون صرفك يا محمد عن الحق ولا نصر أنفسهم من عذاب التكذيب ، حكاه عيسى .
الرابع : أن الصرف الحيلة حكاه ابن قتيبة والصرف الحيلة مأخوذ من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال .
وأما قولهم لا يقبل منهم صرف ولا عَدْل ففيه وجهان :
أحدهما : أن الصرف : النافلة ، والعَدل : الفريضة .
الثاني : أن الصرف : الدية ، والعَدل : القود .
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه افتتان الفقير بالغني أن يقول لو شاء الله لجعلني مثله غنياً والأعمى بالبصير أن يقول لو شاء لجعلني مثله بصيراً ، والسقيم بالصحيح أن يقول لو شاء لجعلني مثله صحيحاً ، قاله الحسن .
الثاني : فتنة بالعدوان في الدين ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن الفتنة صبر الأنبياء على تكذيب قومهم ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : أنها نزلت حين أسلم أبو ذر الغفاري وعمار وصهيب وبلال وعامر بن فهيرة وسلام مولى أبي حذيفة وأمثالهم من الفقراء الموالي فقال المستهزئون من قريش : انظروا إلى أتباع محمد من فقرائنا وموالينا فنزلت فيهم الآية ، حكاه النقاش .
وفي الفتنة هنا وجهان :
أحدهما : البلاء .
والثاني : الاختبار .
{ أَتَصْبِرُونَ } يعني على ما مُحِنْتُمْ به من هذه الفتنة ، وفيه اختصار وتقديره أم لا تصبرون .
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } قال ابن جريج : بصيراً بما يصبر ممن يجزع .
ويحتمل وجهاً آخر : بصيراً بالحكمة فيما جعل بعضكم لبعض فتنة .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءِنَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يخافون ولا يخشون ، قاله السدي ، ومنه قول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل
أي لم يخش . الثاني : لا يبالون ، قاله ابن عمير ، وأنشد لخبيب .
لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلماً ... على أي حال كان في الله مصرعي
أي ما أبالي .
الثالث : لا يأملون ، حكاه ابن شجرة وأنشد قول الشاعر :
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جَدِّه يوم الحسابِ
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ } فيه قولان
: أحدهما : ليخبرونا أن محمداً نبي قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ليكونوا رسلاً إلينا من ربهم بدلاً من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } فيأمرنا باتباع محمد وتصديقه
. { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِم } فيه وجهان
: أحدهما : تكبرواْ في أنفسهم لما قل في أعينهم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً إليهم .
الثاني : استكبروا في أنفسهم بما اقترحوه من رؤية الله ونزول الملائكة عليهم .
{ وَعَتَوْ عُنُوّاً كَبِيراً } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أنه التجبر ، قاله عكرمة .
الثاني : العصيان ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أنه السرف في الظلم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : أنه الغلو في القول ، حكاه النقاش .
الخامس : أنه شدة الكفر ، قاله ابن عباس .
قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ومكرز بن حفص بن الأخنف في جماعة من قريش قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا .
فنزل فيهم قوله تعالى :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ } فيه قولان
: أحدهما : عند الموت ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يوم القيامة ، قاله مجاهد .
{ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمينَ } يعني بالجنة ، قاله عطية العوفي : إذا كان يوم القيامة يلقى المؤمن بالبشرى فإذا رأى الكافر ذلك تمناه فلم يره من الملائكة .
{ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } فيه ثلاث أوجه
: أحدها : معناه معاذ الله أن تكون لكم البشرى يومئذ ، قاله مجاهد .
الثاني : معناه : منعنا أن نصل إلى شيء من الخير ، قاله عكرمة .
الثالث : حراماً محرماً أن تكون لكم البشرى يومئذ ، قاله أبو سعيد الخدري ، والضحاك ، وقتادة ومنه قول الملتمس :
حَنّتْ إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجْرٌ حرام إلا تلك الدهاريس .
وفي القائلين حجراً محجوراً قولان
: أحدهما : أنهم الملائكة قالوه للكفار ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم الكفار قالوه لأنفسهم ، قاله قتادة .
قوله تعالى { وَقَدِمْنآ } أي عمدنا ، قاله مجاهد ، قال الراجز :
وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءَكم لنا حلال ... { إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } فيه قولان
: أحدهما : من عمل خيراً لا يتقبل منهم لإِحباطه بالكفر ، قاله مجاهد .
الثاني : من عمل صالحاً لا يراد به وجه الله ، قاله ابن المبارك .
{ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : أنه رهج الدواب ، قاله علي بن أبي طالب .

الثاني : أنه كالغبار يكون في شعاع الشمس إذا طلعت في كوة ، قاله الحسن ، وعكرمة .
الثالث : أنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر ، قاله قتادة .
الرابع : أنها الماء المراق ، قاله ابن عباس .
الخامس : أنه الرماد ، قاله عبيد بن يعلى .
قوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَراً } يعني منزلاً في الجنة من مستقر الكفار في النار .
{ وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه المستقر في الجنة والمقيل دونها ، قاله أبو سنان .
الثاني : أنه عنى موضع القائلة للدعة وإن لم يقيلواْ ، ذكره ابن عيسى .
الثالث : أنه يقيل أولياء الله بعد الحساب على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين المقرنين ، قاله ابن عباس .
الرابع : لأنه يفرغ من حسابهم وقت القائلة وهو نصف النهار ، فذلك أحسن مقيلاً ، من مقيل الكفار ، قاله الفراء .
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ } فيه قولان
: أحدهما : بمعنى على الغمام كما يقال رميت بالقوس وعن القوس ويكون المراد به الغمام المعهود والذي دون السماء لأنه يبقى دونها إذا انشقت غمام .
والقول الثاني : أنه غمام أبيض يكون في السماء ينزله الله على أنبيائه مثل الذي أظل بني إسرائيل ، وقد قال في ظل من الغمام فتنشق السماء فيخرج منها .
{ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } يعني أن الملائكة تنزل فيه يوم القيامة ، وهو يوم التلاق . الذي يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض .
وفي نزولهم قولان :
أحدهما : ليبشروا المؤمن بالجنة ، والكافر بالنار .
الثاني : ليكون مع كل نفس سائق وشهيد .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } قيل هو عقبة بن أبي معيط .
{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : سبيلاً بطاعة الله ، قاله قتادة .
الثاني : طريقاً إلى النجاة ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : وسيلة عند الرسول يكون وصلة إليه ، قاله الأخفش .
{ يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : يعني الشيطان ، قاله مجاهد ، وأبو رجاء .
الثاني : أنه أبي بن خلف ، قاله عمرو بن ميمون .
الثالث : أنه أمية بن خلف ، قاله السدي ، وذكر أن سبب ذلك أن عقبة وأمية كانا خليلين وكان عقبة يغشى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أمية بن خلف له : بلغني أنك صبوت إلى دين محمد ، فقال ما صبوت ، قال : فوجهي من وجهك حرام حتى تأتيه فتتفُل في وجهه وتتبرأ منه فأتى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل على جهه وتبرأ منه ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيه مخبراً عما يصير إليه { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ . . . } الآية والتي بعدها . وفلانٌ لا يُثنى ولا يُجمْع .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)

قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرَءَانَ مَهْجُوراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم هجروه بإعراضهم عنه فصار مهجوراً ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم قالوا فيه هجراً أي قبيحاً ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم جعلوه هجراً من الكلام وهو ما لا نفع فيه من العبث والهذيان ، قاله ابن قتيبة .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)

قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } في قائل ذلك من الكفار قولان :
أحدهما : أنهم كفار قريش ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقاً ، قالوا : هلا أُنزِل عليه جملة واحدة ، كما أنزلت التوراة على موسى .
{ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } فيه وجهان
: أحدهما : لنشجع به قلبك ، لأنه معجز يدل على صدقك ، وهو معنى قول السدي .
الثاني : معناه كذلك أنزلناه مفرقاً لنثبته في فؤادك .
وفيه وجهان :
أحدهما : لأنه كان أمياً ولم ينزل القرآن عليه مكتوباً ، فكان نزوله مفرقاً أَثبتَ في فؤاده ، وأَعلَقَ بقلبه .
الثاني : لنثبت فؤادك باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن ، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشاً .
{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : ورسلناه ترسيلاً ، شيئاً بعد شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : وفرقناه تفريقاً ، قاله إبراهيم .
الثالث : وفصلناه تفصيلاً ، قاله السدي .
الرابع : وفسرناه تفسيراً ، قاله ابن زيد .
الخامس : وبينَّاه تبييناً ، قاله قتادة .
روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا ابْنَ عَبَّاسِ إِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَرِتّلْهُ تَرْتِيلاً » فقلت وما الترتيل؟ ، قال : « بَيِّنْهُ تَبْييناً وَلاَ تَبْتُرْهُ بَتْرَ الدقلِ ، وَلاَ تهذه هذّ الشِّعرِ وَلاَ يَكُونُ هَمَّ أَحدِكُم آخِرَ السُّورَةِ
» .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)

قوله تعالى : { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن الرس المعدن ، قاله أبو عبيدة . الثاني : أنه قرية من قرى اليمامة يقال له الفج من ثمود ، قاله قتادة .
الثالث : أنه ما بين نجران واليمن إلى حضرموت ، قاله بعض المفسرين .
الرابع : أنه البئر .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه بئر بأذربيجان ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها البئر التي قتل فيها صاحب ياسين بأنطاكية الشام حكاه النقاش .
الثالث : أن كل بئر إذا حفرت ولم تطو فهي رس قال زهير :
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم
وفي أصحاب الرس أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم قوم شعيب ، حكاه بعض المفسرين .
الثاني : أنهم قوم رسوا نبيهم في بئر ، قاله عكرمة .
الثالث : أنهم قوم كانوا نزولاً على بئر يعبدون الأوثان ، وكانوا لا يظفرون بأحد يخالف دينهم إلا قتلوه ورسوه فيها ، وكان الرس بالشام ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه وهم أول من عمل نساؤهم السحر ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَتَوْاْ عَلَى الْقَرْيَةِ } وهي سدوم قرية لوط .
{ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءٍ } الحجارة التي أُمطِرُوا بها ، والذين أتوا عليها قريش .
{ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } أي يعتبرون بها
. { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نَشُوراً } أي لا يخافون بعثاً .
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)

قوله تعالى : { أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَههُ هَوَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم قوم كان الرجل منهم يعبد حجراً يستحسنه ، فإذا رأى أحسن منه عبده وترك الأول ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الحارث بن قيس كان إذا هوى شيئاً عبده ، حكاه النقاش .
الثالث : أنه الذي يتبع هواه في كل ما دعا إليه ، قاله الحسن ، وقتادة .
{ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : يعني ناصراً ، قاله قتادة .
الثاني : حفيظاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : كفيلاً قاله الكلبي .
الرابع : مسيطراً ، قاله السّدي .
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } أي بسطه على الأرض وفيه وجهان :
أحدهما : أن الظل الليل لأنه ظل الأرض يقبل بغروب الشمس ويدبر بطلوعها .
الثاني : أنه ظل النهار بما حجب من شعاع الشمس .
وفي الفرق بين الظل والفيء وجهان :
أحدهما : أن الظل ما قبل طلوع الشمس والفيء ما بعد طلوعها .
الثاني : أن الظل ما قبل الزوال والفيء ما بعده .
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا } يعني الظل ، وفيه وجهان
: أحدهما : أنه قبض الظل بطلوع الشمس .
الثاني : بغروبها .
{ قَبْضاً يَسِيراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : سريعاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : سهلاً ، قاله أبو مالك .
الثالث : خفياً ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { . . . جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً } يعني غطاءً لأن يَسْتُرُ كمَا يستر اللباس .
{ وَالنَّوْمَ سُبَاتاً } فيه وجهان
: أحدهما : لأنه مسبوت فيه ، والنائم لا يعقل كالميت ، حكاه النقاش .
الثاني : يعني راحة لقطع العمل ومنه سمي يوم السب ، لأنه يوم راحة لقطع العمل ، حكاه ابن عيسى .
{ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : لانتشار الروح باليقظة فيه مأخوذ من النشر والبعث .
الثاني : لانتشار الناس في معايشهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)

قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ } قال أبي بن كعب كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب .
وقيل : لأن الرياح جمع وهي الجنوب والشمال والصبا لأنها لواقح ، والعذاب ريح واحدة وهي الدبور لأنها لا تلقح .
{ بُشْراً } قرئت بالنون وبالباء فمن قرأ بالنون ففيه وجهان
: أحدهما : أنه نشر السحاب حتى يمطر .
الثاني : حياة لخلقه كحياتهم بالنشور .
ومن قرأ { بُشْراً } بالباء ففيه وجهان :
أحدهما لأنها بشرى بالمطر .
الثاني : لأن الناس يستبشرون بها .
{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } يعني المطر لأنه رحمة من الله لخلقه ، وتأوله بعض أصحاب الخواطر يرسل رياح الندم بين يدي التوبة .
{ وَأَنزَلْنَا السَّمِآءِ مَآءً طَهُوراً } فيه تأويلان
: أحدهما : طاهراً ، قاله أبو حنيفة ولذلك جوز إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرات .
الثاني : مطهراً ، قاله الشافعي ولذلك لم يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء .
{ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } وهي التي لا عمارة فيها ولا زرع ، وإحياؤها يكون بنبات زرعها وشجرها ، فكما أن الماء يطهر الأبدان من الأحداث والأنجاس ، كذلك الماء يطهر الأرض من القحط والجدب .
{ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنآ أَنْعَاماً وَأنَاسِيَّ كَثِيراً } فجمع بالماء حياة النبات والحيوان وفي الأناسي وجهان :
أحدهما : أنه جمع إنسي .
الثاني : جمع إنسان .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الفرقان المذكور في أول السورة .
الثاني : أراد الماء الذي أنزله طهوراً .
وفيه وجهان :
أحدهما : يعني قسمنا المطر فلا يدوم على مكان ، فيهلك ولا ينقطع عن مكان ، فيهلك ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : أنه يصرفه في كل عام من مكان إلى مكان ، قال ابن عباس ليس عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه بين عباده .
{ لِيَذَّكَّرُوا } يحتمل وجهين
: أحدهما : ليتذكروا النعمة بنزوله .
الثاني : ليتذكروا النعمة بانقطاعه .
{ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسَ إِلاَّ كُفُوراً } قال عكرمة : هو قولهم مطرنا بالأنواء . روى الربيع بن صبيح قال : أمطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهَا بَيْنَ رَجْلَينِ شَاكِرٍ وَكَافِرٍ ، فَأَمَّا الشَّاكِرُ فَيحْمِدُ اللَّهَ عَلَى سُقْياهُ وَغِيَاثِهِ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيقُولُ مطرنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا
» .
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)

قوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } يعني إلى ما يدعونك إليه : إما من تعظيم آلهتهم ، وإما من موادعتهم .
{ وَجَاهِدْهُم بِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : بالقرآن .
الثاني : بالإِسلام .
{ جِهَاداً كَبِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : بالسيف .
الثاني : بالغلظة .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَينِ } فيه وجهان :
أحدهما : هو إرسال أحدهما إلى الآخر ، قاله الضحاك .
الثاني : هو تخليتها ، حكاه النقاش وقال الأخفش مأخوذ من مَرَجْتَ الشيء إذا خليته ، وَمَرَجَ الوالي الناس إذا تركهم ، وأمرجت الدابّة إذا خليتها ترعى ، ومنه قول العجاج .
« رَعى بها مَرْج ربيع ممرجاً » ... وفي البحرين ثلاثة أقاويل
: أحدها : بحر السماء وبحر الأرض ، وهو قول سعيد ، ومجاهد .
الثاني : بحر فارس والروم ، وهو قول الحسن .
الثالث : بحر العذب وبحر المالح . { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } قال عطاء
: الفرات : العذب ، وقيل هو أعذب العذب .
وفي الأجاج : ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المالح ، وهو قول عطاء ، وقيل : هو أملح المالح .
الثاني : أنه المر ، وهو قول قتادة .
والثالث : أنه الحار المؤجج ، مأخوذ من تأجج النار ، وهو قول ابن بحر .
{ وََجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } فيه ثلاثة أقويل
: أحدها : حاجز من البر ، وهو قول الحسن ، ومجاهد .
الثاني : أن البرزخ : التخوم ، وهو قول قتادة .
والثالث : أنه الأجل ما بين الدنيا والآخرة ، وهو قول الضحاك .
{ وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي مانعاً لا يختلط العذب بالمالح ، ومنه قول الشاعر :
فَرُبّ في سُرادقٍ محجورِ ... سرت إليه من أعالي السور
محجور أي ممنوع
. وتأول بعض المتعمقين في غوامض المعاني أن مرج البحرين قلوب الأبرار مضيئة بالبر ، وهو العذب ، وقلوب الفجار مظلمة بالفجور وهو الملح الأجاج ، وهو بعيد .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً } يعني من النطفة إنساناً .
{ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } فالنسب مِن تناسُب كل والد وولد ، وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسِبُهُ .
وفي الصهر وجهان :
أحدهما : أنه الرضاع وهو قول طاووس .
الثاني : أنه المناكح وهو معنى قول قتادة ، وقال الكلبي : النسب من لا يحل نكاحه من القرابة ، والصهر من يحل نكاحه من القرابة وغير القرابة .
وأصل الصهر الاختلاط ، فسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها ، ومنه قوله تعالى : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُوِهِم } [ الحج : 20 ] وقيل إن أصل الصهر الملاصقة .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)

قوله عز وجل : { . . . وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : عوناً ، مأخوذ من المظاهر وهي المعونة ، ومعنى قوله { عَلَى رَبِّهِ } أي على أولياء ربه .
الثاني : هيناً ، مأخوذ من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها قال تعالى : { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُم ظِهْريّاً } [ هود : 92 ] أي هيناً ، ومنه قول الفرزدق :
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهرٍ فلا يعيا عَلَيّ جوابها
قيل إنها نزلت في أبي جهل
. قوله عز وجل : { وَإِذَا قِيل لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَن قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العرب لم تكن تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى : وكان مأخوذاً من الكتاب فلما دعوا إلى السجود لله تعالى بهذا الاسم سألواْ عنه مسألة الجاهل به فقالواْ { وَمَا الرَّحْمَن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمْرُنَا } .
الثاني : أن مسيلمة الكذاب كان يسمى الرحمن ، فلما سمعوا هذا الاسم في القرآن حسبوه مسيلمة ، فأنكروا ما دعوا إليه من السجود له .
والثالث : أن هذا قول قوم كانواْ يجحدون التوحيد ولا يقرون بالله تعالى ، فلما أمروا أن يسجدوا للرحمن ازدادوا نفوراً مع هواهم بما دعوا إليه من الإيمان ، وإلا فالعرب المعترفون بالله الذين يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كانوا يعرفون الرحمن في أسمائه وأنه اسم مسمى من الرحمة يدل على المبالغة في الوصف ، وهذا قول ابن بحر .
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)

قوله عز وجل : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً } فيها أربعة أوجه
: أحدها : أنها النجوم العظام ، وهو قول أبي صالح .
الثاني : أنها قصور في السماء فيها الحرس ، وهو قول عطية العوفي .
الثالث : أنها مواضع الكواكب .
والرابع : أنها منازل الشمس ، وقرىء بُرجاً ، قرأ بذلك قتادة ، وتأوله النجم .
{ وَقَمَراً مُّنِيراً } يعني مضيئاً ، ولذا جعل الشمس سراجاً والقمر منيراً ، لأنه لما اقترن بضياء الشمس وهَّج حرّها جعلها لأجل الحرارة سراجاً ، ولما كان ذلك في القمر معدوماً جعله نوراً .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار خِلْفَةً } فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أنه جعل ما فات من عمل أحدهما خلفة يقضي في الآخر ، قاله عمر ابن الخطاب والحسن .
الثاني : أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل أحدهما أبيض والآخر أسود ، قاله مجاهد .
الثالث : أن كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا مضى هذا جاء هذا ، قاله ابن زيد ومنه قول زهير :
بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
{ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي يصلي بالنهار صلاة الليل ويصلي بالليل صلاة النهار .
{ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } هو النافلة بعد الفريضة ، وقيل نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)

قوله تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : علماء وكلماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أعفاء أتقياء ، قاله الضحاك .
الثالث : بالسكينة والوقار ، قاله مجاهد .
الرابع : متواضعين لا يتكبرون ، قاله ابن زيد .
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } الجاهلون فيهم قولان
: أحدهما : أنهم الكفار .
الثاني : السفهاء .
{ قَالُواْ سَلاَماً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قالوا سداداً ، قاله مجاهد لأنه قول سليم .
الثاني : قالوا وعليك السلام ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه طلب المسالمة ، قاله ابن بحر .
قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لازماً ، قاله ابن عيسى ، ومنه الغريم لملازمته وأنشد الأعشى :
إن يعاقب يكن غَراماً وإن يع ... طر جزيلاً فإنه لا يبالي
الثاني : شديداً ، قاله ابن شجرة ، ومنه سميت شدة المحنة غراماً قال بشر بن أبي خازم :
ويوم الجفار ويوم النسا ... ر ، كانا عذاباً ، وكان غراما
الثالث : ثقيلاً ، قاله قطرب ، ومنه قوله تعالى : { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [ القلم : 46 ] .
الرابع : أنهم أغرموا بالنعيم في الدنيا عذاب النار ، قال محمد بن كعب : إن الله سأل الكفار عن فأغرمهم فأدخلهم جهنم .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لم ينفقواْ في معصية الله ، والإِسراف النفقة في المعاصي ، قاله ابن عباس .
الثاني : لم ينفقوا كثيراً فيقول الناس قد أسرفوا ، قاله إبراهيم .
الثالث : لا يأكلون طعاماً يريدون به نعيماً ولا يلبسون ثوباً يريدون به جمالاً ، قاله يزيد بن أبي حبيب ، قال : هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قلوبهم على قلب رجل واحد .
الرابع : لم ينفقوا نفقة في غير حقها فإن النفقة في غير حقها إسراف ، قاله ابن سيرين .
{ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لم يمنعوا حقوق الله فإن منع حقوق الله إقتار ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يعريهم ولا يجيعهم ، قاله إبراهيم .
الثالث : لم يمسكوا عن طاعة الله ، قاله ابن زيد .
الرابع : لم يقصروا في الحق ، قاله الأعمش .
روى معاذ بن جبل قال : لما نزلت هذه الآية سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة في الإسراف والإقتار ما هو ، فقال : من منع من حق فقد قتر ، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف .
{ وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامَاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني عدلاً ، قاله الأعمش .
الثاني : أن القوام : أن يخرجوا في الله شطر أموالهم ، قاله وهب .
الثالث : أن القوام : أن ينفق في طاعة الله ويكف عن محارم الله .
ويحتمل رابعاً : أن القوام ما لم يمسك فيه عزيز ولم يقدم فيه على خطر ، والفرق بين القَوام بالفتح والقِوام بالكسر ، ما قاله ثعلب : أنه بالفتح الاستقامة والعدل ، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ } يعني لا يجعلون لله تعالى شريكاً ، ولا يجعلون بينهم وبينه في العبادة وسيطاً .
{ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } يعني حرم قتلها ، وهي نفس المؤمن والمعاهد
. { إِلاَّ بِالْحَقِّ } والحق المستباح به قتلها ، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِِإِحْدَى ثَلاَثٍ : كُفرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْل نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ
» . { وَلاَ يَزْنُونَ } والزنى إتيان النساء المحرمات في قبل أو دبر ، واللواط زنى في أحد القولين وهو في القول الثاني موجب لقتل الفاعل والمفعول به ،
وفي إتيان البهائم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كالزنى في الفرق بين البكر والثيب .
الثاني : أنه يوجب قتل البهيمة ومن أتاها للخبر المأثور فيه .
الثالث : أنه يوجب التعزير . فجمع في هذه الآية بين ثلاث من الكبائر الشرك وقتل النفس والزنى ، روى عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ( أو قال غيري ) : أي ذنب أعظم عند الله؟ قال : « أَن تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ » قال : ثم أي؟ قال : « أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » قال : ثم أيّ . ؟ قال : « أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ » قال فأنزل الله ذلك .
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ } يعني هذه الثلاثة أو بعضها
. { يَلْقَ أَثَاماً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الأثام العقوبة قاله بلعام بن قيس :
جزى اللَّه ابن عروة حيث أمسى ... عقوقاً والعقوق له أثام
الثاني : أن الأثام اسم واد في جهنم ، قاله ابن عمر ، وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
لقيت المهالك في حربنا ... وبعد المهالك تلقى أثاما
الثالث : الجزاء ، قاله السدي ، وقال الشاعر :
وإن مقامنا ندعو عليكم ... بأبطح ذي المجاز له أثامُ
{ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : أنها الجمع بين عقوبات الكبائر المجتمعة .
الثالث : أنها استدامة العذاب بالخلود .
{ وَيَخْلُدْ فِيهِ } أي يخلد في العذاب بالشرك
. { مُهَاناً } بالعقوبة
. { إِلاَّ مَن تَابَ } يعني من الزنى
. { وَءَامَنَ } يعني من الشرك
. { وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } يعني بعد السيئات
. { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : في الدنيا يبدلهم بالشرك إيماناً ، وبالزنى إحصاناً وبذكر الله بعد نسيانه ، وبطاعته بعد عصيانه ، وهذا معنى قول الحسن ، وقتادة .
الثاني : أنه في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته فيبدل الله السيئات حسنات ، قاله أبو هريرة .
الثالث : أنه يبدل الله عقاب سيئاته إذا تاب منها بثواب حسناته إذا انتقل إليها ، قاله ابن بحر .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } لما تقدم قبل التوبة
. { رَحِيماً } لما بعدها
. وحكى الكلبي أن وحشياً وهو عبد عتبة بن غزوان كتب بعد وقعة أحد وقَتْلِ حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : هل من توبة؟ فإن الله أنزل بمكة إياسي من كل خير { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ } الآية وإن وحشياً قد فعل هذا كله ، وقد زنى وأشرك وقتل النفس التي حرم الله ، فأنزل الله { إلاَّ مَن تَابَ } أي من الزنى وآمن بعد الشرك وعمل صالحاً بعد السيئات ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال وحشي : هذا شرط شديد ولعلي لا أبقى بعد التوبة حتى أعمل صالحاً ، فكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل من شيء أوسع من هذا؟ فأنزل الله

{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي . فأرسل وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم : إنى لأخاف أن لا أكون في مشيئة الله ، فأنزل الله في وحشي وأصحابه { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرًُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] الآية . فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم .
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : أنه الشرك بالله ، قاله الضحاك ، وابن زيد .
الثاني : أنه أعياد أهل الذمة وشبهه ، قال ابن سيرين هو الشعانين .
الثالث : أنه الغناء ، قاله مجاهد .
الرابع : مجالس الخنا ، قاله عمرو بن قيس .
الخامس : أنه لعب كان في الجاهلية ، قاله عكرمة .
السادس : أنه الكذب ، قاله ابن جريج ، وقتادة .
السابع : أنه مجلس كان يشتم فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله خالد بن كثير .
ويحتمل ثامناً : أنه العهود على المعاصي .
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغوِ مَرُّواْ كِرَاماً } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه ما كان يفعله المشركون من أذية المسلمين في أنفسهم وأعراضهم فيعرضوا عنهم وعن أذاهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم إذا ذكروا النكاح كَنّوا عنه ، حكاه العوّام .
الثالث : أنهم إذا ذكروا الفروج كَنّوا عنها ، قاله محمد بن علي البافر رحمه الله .
الرابع : أنهم إذا مروا بإفك المشركين ينكروه ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن اللغو هنا المعاصي كلها ، ومرهم بها كراماً إِعراضهم عنها ، قاله الحسن .
ويحتمل سادساً : وإذا مروا بالهزل عدلوا عنه إلى الجد .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بوعده ووعيده .
الثاني : بأمره ونهيه .
{ لَمْ يخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً } يعني سمعوا الوعظ فلم يصموا عنه وأبصروا الرشد فلم يعموا عنه بخلاف من أصمه الشرك عن الوعظ وأعماه الضلال عن الرشد .
وفي قوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا } وجهان :
أحدهما : لم يقيموا ، قاله الأخفش .
الثاني : لم يتغافلوا ، قاله ابن قتيبة .
قوله تعالى : { . . . رَبَّنَا لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أجعل أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ، قاله الكلبي .
الثاني : ارزقنا من أزواجنا ومن ذرياتنا أعواناً { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي أهل طاعة تقر به أعيننا في الدنيا بالصلاح ، وفي الآخرة بالجنة .
وفي قرة العين وجهان :
أحدهما : أن تصادف ما يرضيهما فتقر على النظر إليه دون غيره .
الثاني : أن القرّ البرد فيكون معناه برّد الله دمعها ، لأن دمعة السرور باردة .
ودمعة [ الحزن ] حارة ، وضد قرة العين سخنة العين ، قاله الأصمعي .
{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أمثالا ، قاله عكرمة .
الثاني : رضاً ، قاله جعفر الصادق .
الثالث : قادة إلى الخير ، قاله قتادة .
الرابع : أئمة هدى يُهْتدى بنا ، قاله ابن عباس .
الخامس : نأتم بمن قبلنا حتى يأتم بنا من بعدنا ، قاله مجاهد .
وفي الآية دليل عل أن طلب الرياسة في الدين ندب .
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)

قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ يُجْزَوُنَ الْغُرْفَةَ } فيها وجهان
: أحدهما : أن الغرفة الجنة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى منازل الدنيا ، حكاه ابن شجرة .
{ بِمَا صَبَرُواْ } فيه وجهان
: أحدهما : بما صبروا عن الشهوات ، قاله الضحاك .
الثاني : بما صبروا على طاعة الله .
{ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً } فيه وجهان
: أحدهما : يعني بقاء دائماً .
الثاني : ملكاً عظيماً .
{ وَسَلاَماً } فيه وجهان
: أحدهما : أنها جماع السلامة الخير .
الثاني : هو أن يحيي بعضهم بعضاً بالسلام ، قاله الكلبي .
ولأصحاب الخواطر في التحية والسلام وجهان :
أحدهما : التحية على الروح والسلام على الجسد .
الثاني : أن التحية على العقل والسلام على النفس .
قوله تعالى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } فيه وجهان :
أحدهما : ما يصنع ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
الثاني : ما يبالي ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
{ لَوْلاَ دُعآؤُكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : لولا عبادتكم وإيمانكم به ، والدعاء العبادة .
الثاني : لولا دعاؤه لكم إلى الطاعة ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : لولا دعاؤكم له إذا مسكم الضر وأصابكم السوء رغبة إليه وخضوعاً إليه .
{ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : كذبتم برسلي .
الثاني : قصرتم عن طاعتي مأخوذ من قولهم قد كذب في الحرب إذا قصّر .
{ لِزَاماً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه عذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر ، قاله ابن مسعود وأُبي .
الثاني : عذاب الآخرة في القيامة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الموت ، قاله محمد بن كعب ، ومنه قول الشاعر :
يولي عند حاجتها البشير ... ولم أجزع من الموت اللزام
الرابع : هو لزوم الحجة في الآخرة على تكذيبهم في الدنيا ، قاله الضحاك ، وأظهر الأوجه أن يكون اللزام الجزاء للزومه ، والله أعلم .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

قوله { طسم } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه اسم من أسماء الله أقسم به ، والمقسم عليه { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ } ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنه من الفواتح التي افتتح الله بها كتابه ، قاله الحسن .
الرابع : أنها حروف هجاء مقطعة من أسماء الله وصفاته :
أما الطاء ففيها قولان :
أحدهما : أنها من الطول .
الثاني : أنها من الطاهر .
وأما السين ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من القدوس .
الثاني : أنها من السميع .
الثالث : من السلام .
وأما الميم ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من المجيد .
الثاني : من الرحيم .
الثالث : من الملك .
ولأصحاب الخواطر في تأويل ذلك قولان :
أحدهما : أن الطاء شجرة طوبى ، والسين سدرة المنتهى ، والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن الطاء طرب التائبين ، والسين ستر الله على المذنبين ، والميم معرفته بالغاوين ، وقد ذكرنا في تفسير { الم } من زيادة التأويلات ما يجزىء تخريجه قبل هذا الموضع .
قوله { بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } فيه وجهان :
أحدهما : قاتل نفسك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والبخع القتل ، قاله ذو الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيءٍ نحته عن يديه المقادِرُ
الثاني : محرج نفسك ، قاله عطاء ، وابن زيد
. قوله : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ ءَايَةً } فيها وجهان :
أحدهما : ما عظم من الأمور القاهرة .
الثاني : ما ظهر من الدلائل الواضحة .
{ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصيته .
الثاني : أنه أراد أصحاب الأعناق فحذفه وأقام المضاف إليه مقامه ، ذكره ابن عيسى .
الثالث : أن الأعناق الرؤساء ، ذكره ابن شجرة ، وقاله قطرب .
الرابع : أن العنق الجماعة من الناس ، من قولهم : أتاني عنق من الناس أي جماعة ، ورأيت الناس عنقاً إلى فلان ، ذكره النقاش .
قوله { أَوَلَمْ يَرَواْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي نوع معه قرينة من أبيض وأحمر ، وحلو وحامض .
أحدها : حسن ، قاله ابن جبير .
الثاني : أنه مما يأكل الناس والأنعام ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه النافع المحمود كما أن الكريم من الناس هو النافع المحمود .
الرابع : هم الناس نبات الأرض كما قال تعالى : { وَاللَّهُ أَنَبتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)

قوله { وَيَضِيقُ صَدْرِي } أي أخاف أن يضيق قلبي وفيه وجهان
: أحدهما : بتكذيبهم إياي ، قاله الكلبي .
الثاني : بالضعف عن إبلاغ الرسالة .
{ وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي } فيه وجهان
: أحدهما : من مهابة فرعون ، قاله الكلبي .
الثاني : للعقدة التي كانت به .
{ فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ } أي ليكون معي رسولاً ، لأن هارون كان بمصر حيث بعث الله تعالى موسى نبياً .
{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } فتكون علي بمعنى عندي ، وهو قول المفضل ، وأنشد قول أبي النجم :
قد أصبحت أم الخيار تدَّعي ... علي ذَنْبا كلّه لم أصْنَعِ
والثاني : معناه ولهم عليّ عقوبة ذنب
. { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } قد خاف موسى أن يقتلوه بالنفس التي قتلها ، فلا يتم إبلاغ الرسالة لأنه يعلم أن الله تعالى بعثه رسولاً تكفل بعونه على تأدية رسالته .
قوله عز وجل : { فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالِمِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أرْسَلَنا رب العالمين ، حكاه ابن شجرة .
والثاني : معناه أن كل واحد منا رسول رب العالمين ، ذكره ابن عيسى .
والثالث : معناه إنا رسالة رب العالمين ، قاله أبوعبيدة ، ومنه قول كثير :
لقد كَذَّب الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول
أي رسالة
. قوله عز وجل : { قَاَلَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } أي صغيراً ، لأنه كان في داره لقيطاً .
{ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } لم يؤذن له في الدخول عليه سنة ، وخرج من عنده عشر سنين ، وعاد إليه يدعوه ثلاثين سنة ، وبقي بعد غرقه خمسين سنة ، قال ذلك امتناناً عليه .
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } يعني قتل النفس
. { وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } فيه قولان
: أحدهما : أي على ديننا الذي لا تقول إنه كفر ، وهو قول السدي .
الثاني : من الكافرين لإحساني إليك وفضلي عليك ، وهذا قول محمد بن إسحاق .
قوله عز وجل :
{ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِينَ } يعني قتل النفس ، قال المفضل : ومعنى إذن لموجبٍ .
{ وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِينَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : من الجاهلين ، وهو قول مجاهد لا يعلم أنها تبلغ . والثاني : من الضالين عن النبوة ، لأن ذلك كان قبل الرسالة ، وهو معنى قول الضحاك .
الثالث : من الناسين ، وهو قول ابن زيد ، كما قال تعالى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } .
قوله عز وجل : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمْنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه أن اتخاذك بني إسرائيل عبيداً قد أحبط نعمتك التي تمن عليّ ، وهذا قول عليّ بن عيسى .
والثاني : معناه أنك لما ظلمت بني إسرائيل ولم تظلمني ، أعددت ذلك نعمة تمنّ بها عليّ؟ قاله الفراء .
والثالث : أنه لم تكن لفرعون على موسى نعمة لأن الذي رباه بنو إسرائيل بأمر فرعون لاستعباده لهم ، فأبطل موسى نعمته لبطلان استرقاقه .
والرابع : أن فرعون أنفق على موسى في تربيته من أموال بني إسرائيل التي أخذها من أكسابهم حين استعبدهم ، فأبطل موسى النعمة وأسقط المنة ، لأنها أموال بني إٍسرائيل لا أموال فرعون ، وهذا معنى قول الحسن .
وفي التعبيد وجهان :
أحدهما : أنه الحبس والإِذلال ، حكاه أبان بن تغلب .
الثاني : أنه الاسترقاق ، فالتعبيد الاسترقاق ، سمي بذلك لما فيه من الإِذلال ، مأخوذ من قولهم طريق معبد ، ومنه قول طرفة بن العبد .
تبارى عناقاً ناجيات وأتبعت ... وظيفاً فوق مورٍ مُعَبّدِ
أي طريق مذلل .
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)

قوله عز وجل : { فَأَلْقَى عَصَاهُ } قال سعيد بن جبير : كانت من عوسج ، قال الحكيم : ولم يسخر العوسج لأحد بعده ، وقال الكلبي : كانت من آس الجنة عشرة أذرع على طول موسى .
{ فإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنها الحية الذكر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اعتم الحيات الصفر شعراء العنق ، حكاه النقاش .
{ مُّبِينٌ } فيه وجهان
: أحدهما : مبين أنه ثعبان .
الثاني : مبين أنها آية وبرهان ، وكان فرعون قد همّ بموسى ، فلما صارت العصا ثعباناً فَاغِراً فَاهُ خافه ولاَذَ بموسى مستجيراً وَوَلَّى قومُه هرباً حتى وطىء بعضهم على بعض ، قال ابن زيد : وكان اجتماعهم بالإسكندرية ، قال الزجاج : روي أن السحرة كانوا اثني عشر ألفاً ، وقيل : تسعة عشر ألفاً .
قوله تعالى : { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي تشيرون لأنه لا يجوز أن يأمر التابع المتبوع ، فجعل المشورة أمراً لأنها على لفظه .
ويحتمل استشارته لهم وجهين :
أحدهما : أنه أراد أن يستعطفهم لضعف نفسه .
الثاني : أنه أذهله ما شاهد فحار عقله فلجأ إلى رأيهم وهو يقول أنا ربكم الأعلى ، وقد خفي عليه تناقض الأمرين خذلانا .
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

قوله تعالى : { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : أخره وأخاه ، قاله ابن عباس .
الثاني : احبسه وأخاه ، قاله قتادة .
وفي مشورتهم على فرعون بإرجائه ونهيهم له عن قتله ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم خافوا إن قتلوه أن يفتن الناس بما شاهدوه منه ، وأمّلوا إن جاء السحرة أن يغلبوه .
الثاني : أنهم شاهدوا من فعله ما بهر عقولهم ، فخافوا الهلاك من قتله .
الثالث : أن الله صرفهم عن ذلك تثبيتاً لدينه وتأييداً لرسوله .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)

قوله تعالى : { إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } في الشرذمة وجهان
: أحدهما : أنهم سفلة الناس وأدنياؤهم ، قاله الضحاك ، ومنه قول الأعشى :
وهم الأعبد في أحيائهم ... لعبيدٍ وتراهم شرذمة .
الثاني : أنهم العصبة الباقية من عصبة كبيرة وشرذمة كل شيء بقيته القليلة . ويقال لما قطع من فضول النعال من الجلد شراذم ، وللقميص إذا خلق شراذم ، وأنشد أبو عبيدة .
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها التواق
واختلف في عدد بني إسرائيل حين قال فرعون فيهم : إنه لشرذمة قليلون ، على أربعة أقاويل :
أحدها : ستمائة وتسعين ألفاً ، قال مقاتل : لا يعد ابن عشرين سنة لصغيره ولا ابن ستين لكبره ، وهو قول السدي .
الثالث : كانوا ستمائة ألف مقاتل ، قاله قتادة .
الرابع : كانوا خمسمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة ، وإنما استقل هذا العدد لأمرين :
أحدهما : لكثرة من قتل منهم .
الثاني : لكثرة من كان معه ، حكى السدي أنه كان على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماديانه ، وقال الضحاك كانوا سبعة آلاف ألف .
قوله تعالى : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ } قراءة ابن كثير ونافع ، وأبي عمرو ، وقرأ الباقون { حَاذِرُونَ } وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهما لغتان ومعناهما واحد ، حكاه ابن شجرة وقاله أبو عبيدة واسْتَشْهَد بقول الشاعر :
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذره .
الثاني : أن الحذر المطبوع على الحذر ، والحاذر الفاعل الحذر ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن الحذر الخائف والحاذر المستعد .
الرابع : أن الحذر المتيقظ ، والحاذر آخذ السلاح ، لأن السلاح يسمى حذراً قاله الله تعالى : { وَخُذُوا حِذْرَكُم } [ النساء : 102 ] أي سلاحكم ، وقرأ ابن عامر . { حَادِرُونَ } بدال غير معجمة وفي تأويله وجهان
: أحدهما : أقوياء من قولهم جمل حادر إذا كان غليظاً .
الثاني : مسرعون .
قوله تعالى : { وَكُنُوزٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الخزائن .
الثاني : الدفائن .
الثالث : الأنهار ، قاله الضحاك .
{ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها المنابر ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : مجالس الأمراء ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : المنازل الحسان ، قاله ابن جبير .
ويحتمل رابعاً : أنها مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عُدة وزينة فصار مقامها أكرم منزول .
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)

قوله تعالى { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : حين أشرقت الشمس بالشعاع ، قاله السدي .
الثاني : حين أشرقت الأرض بالضياء ، قاله قتادة .
الثالث : أي بناحية المشرق ، قاله أبو عبيدة .
قال الزجاج : يقال شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت .
واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل حتى أشرقوا على قولين :
أحدهما : لاشتغالهم بدفن أبكارهم لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم .
الثاني : لأن سحابة أظلتهم فخافوا وأصبحوا ، فانقشعت عنهم .
وقرىء { مُشَرِّقِينَ } بالتشديد أي نحو المشرق ، مأخوذ من قولهم شرّق وغرّب ، إذا سار نحو المشرق والمغرب .
{ قَالَ : كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } فيه وجهان
: أحدهما : أي سيرشدني إلى الطريق .
الثاني : معناه سيكفيني ، قاله السدي .
و { كَلاَّ } كلمة توضع للردع والزجر ، وحكي أن موسى لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه : ما هذا؟ فقال علماؤهم : إن يوسف لما حضره الموت أخذ عليها موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا ، قال موسى فأيكم يدري أين قبره؟ قالوا : ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها فقال : دلِّيني على قبر يوسف ، قالت : لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي ، قال : وما حكمك؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة فثقل عليه فقيل له أعطاها حكمها فدلتهم عله فاحتفروه واستخرجوا عظامه ، فلما ألقوها فإذا الطريق مثل ضوء النهار . فروى أبو بردة عن أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حَاجَتُكَ » قاله له : ناقة أرحلها وأعنزاً أحلبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَعَجَزْتَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائيلَ » فقال الصحابة : وما عجوز بني إسرائيل فَذَكَرَ لَهُم حَالَ هَذِهِ العَجُوزِ الَّتِي حَكَمَت عَلَى مُوسَى أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ .
قوله تعالى : { فأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } روى عكرمة عن ابن عباس أن موسى لما بلغ البحر واتبعه فرعون قاله له فتاهُ يوسع بن نون : أين أمرك ربك؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر ، ثم ذكر أنه أمر أن يضرب بعصاه البحر فضربه ، فانفلق له اثنا عشر طريقاً وكانوا اثني عشر سبطاً لكل سبط طريق ، عرض كل طريق فرسخان .
وقال سعيد بن جبير : كان البحر ساكناً لا يتحرك ، فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر .
وحكى النقاش : أن موسى ضرب بعصاه البحر وقد مضى من النهار أربع ساعات ، وكان يوم الاثنين عاشر المحرم وهو يوم عاشوراء ، قال : والبحر هو نهر النيل ما بين إيلة ومصر وقطعوه في ساعتين ، فصارت ست ساعات .
{ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } أي كالجبل العظيم ، قاله امرؤ القيس
:
فبينا المرءُ في الأحياء طُوْدٌ ... رماه الناس عن كَثَبٍ فمالا
وكان الأسباط لا يرى بعضهم بعضاً فقال كل سبط : قد هلك أصحابنا فدعا موسى ربه فجعل في كل حاجز مثل الكوى حتى رأى بعضهم بعضاً .
قوله تعالى : { وَأَرْلَفْنَا ثَمَّ الأَخَرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : قربنا إلى البحر فرعون وقومه ، قاله ابن عباس : وقتادة ، ومنه قول الشاعر :
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيه النفوس إلى الآجال تزدلف
الثاني : جمعنا فرعون وقومه في البحر ، قاله أبو عبيدة ، وحكي عن أُبي وابن عباس أنهما قرآ : { وَأَزْلَقْنَا } بالقاف من زلق الأقدام ، كأقدام فرعون أغرقهم الله تعالى في البحر حتى أزلقهم في طينه الذي في قعره .
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } فيه وجهان
: أحدهما : الي خلقني بنعمته فهو يهدين لطاعته .
الثاني : الذي خلقني لطاعته فهو يهديني لجنته ، فإن قيل فهذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم عل هدايته ولم يهتد بها غيره؟
قيل : إنما ذكرها احتجاجاً على وجوب الطاعة ، لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يُعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها ، وهذا إلزام صحيح ثم فصل ذلك بتعديد نعمه عليه وعليهم فقال :
{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينَ وَإِذَا مَرِضَتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وهذا احتجاجاً عليهم لموافقتهم له ثم قال : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يَحْيِينِ } وهذا قوله استدلالاً ولم يقله احتجاجاً ، لأنهم خالفوه فيه ، فبين لهم أن ما وافقوه عليه موجب لما خالفوه فيه .
وتجوز بعض المتعمقة في غوامض المعاني فعدل بذلك عن ظاهره إلى ما تدفعه بداهة العقول فتأول { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي يطعمني لذة الإيمان ويسقيني حلاوة القبول .
وفي قوله : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وجهان :
أحدهما : إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته .
الثاني : مرضت بمقاساة الخلق شفاني بمشاهدة الحق .
وتأولوا قوله : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } على ثلاثة أوجه :
أحدها : والذي يميتني بالمعاصي ويحييني بالطاعات .
الثاني : يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء .
الثالث : يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة . وهذه تأويلات تخرج عن حكم الاحتمال إلى جهة الاستطراف ، فلذلك ذكرناها وإن كان حذفها من كتابنا أوْلى .
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

قوله تعالى : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : أنه اللب ، قاله عكرمة .
الثاني : العلم ، قاله ابن عباس .
الثالث : القرآن ، قاله مجاهد .
الرابع : النبوة ، قاله السدي .
ويحتمل خامساً : أنه إصابة الحق في الحكم . { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد : مع الأنبياء والمؤمنين
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : بالصالحين من أصفيائك في الدنيا .
الثاني : بجزاء الصالحين في الآخرة ومجاورتهم في الجنة .
قوله تعالى : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ثناء حسناً في الأمم كلها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وجعله لساناً لأنه يكون باللسان .
الثاني : أن يؤمن به أهل كل ملة ، قاله ليث بن أبي سليم .
الثالث : أن يجعل من ولده من يقول بالحق بعده ، قاله علي بن عيسى .
ويحتمل رابعاً : أن يكون مصدقاً في جمع الملل وقد أجيب إليه .
قوله تعالى : { وَاغْفِرْ لأَبِي } الآية . في أبيه قولان :
أحدهما : أنه كان يسر الإيمان ويظهر الكفر فعلى هذا يصح الاستغفار له .
الثاني : وهو الأظهر أنه كان كافراً في الظاهر والباطن .
فعلى هذا في استغفاره له قولان :
أحدهما : أنه سأل أن يغفر له في الدنيا ولا يعاقبه فيها .
والثاني : أنه سأل أن يغفر له سيئاته التي عليه والتي تسقط بعفوه .
قوله تعالى : { بِقَلْبٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : سليم من الشك ، قاله مجاهد .
الثاني : سليم من الشرك ، قاله الحسن ، وابن زيد .
الثالث : من المعاصي ، لأنه إذا سلم القلب سلمت الجوارح .
الرابع : أنه الخالص ، قاله الضحاك .
الخامس : أنه الناصح في خلقه ، قاله عبد الرحمن بن أبي حاتم .
ويحتمل سادساً : سليم القلب من الخوف في القيامة لما تقدم من البشرى عند المعاينة .
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

قوله تعالى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُم وَالْغَاوُونَ } فيها أربعة أوجه
: أحدها : معناه جمعوا فيها النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : طرحوا فيها على وجوههم ، قاله ابن زيد ، وقطرب .
الثالث : نكسوا فيها على رؤؤسهم ، قاله السدي ، وابن قتيبة .
الرابع : قلب بعضهم على بعض ، قاله اليزيدي ، قال الشاعر :
يقول لهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القَليب
{ هُم وَالْغَاوُونَ } يعني الآلهة التي يعبدون
. وفي الغاوين قولان :
أحدهما : المشركون ، قاله ابن عباس .
الثاني : الشياطين ، قاله قتادة .
{ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم أعوانه من الجن .
الثاني : أتباعه من الإنس .
قوله تعالى : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } فيهم قولان :
أحدهما : الملائكة .
الثاني : من الناس .
{ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه الشقيق : قاله مجاهد .
الثاني : القريب النسيب ، يقال حم الشيء إذا قرب ومنه الحمى لأنها تقرب الأجل ، قال قيس بن ذريح :
لعل لبنى اليوم حُمّ لقاؤها ... وببعض بلاء إِنَّ ما حُمَّ واقِعُ
وقال ابن عيسى : إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمى بغضب صاحبه ، فجعله مأخوذاً من الحمية ، وقال قتادة : يذهب الله يومئذٍ مودة الصديق ، ورقة الحميم .
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)

قوله تعالى : { وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ } فيه خمسة أقاويل
: أحدها : أنهم الذين يسألون ولا يقنعون .
الثاني : أنهم المتكبرون .
الثالث : سفلة الناس وأراذلهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم الحائكون ، قاله مجاهد .
الخامس : أنهم الأساكفة ، قاله ابن بحر .
ويحتمل سادساً : أنهم أصحاب المهن الرذلة كلها .
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

قوله تعالى : { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : بالقتل ، قاله محمد بن الحسن .
الثالث : بالشتيمة ، قاله السدي . قال أبو داود :
صدّت غواة معدٍّ أن تراجمنى ... كما يصدون عن لب كجفان
قوله تعالى : { فَافْتَحْ بَيْنِي وِبَيْنَهُمْ فَتْحاً } قال قتادة والسدي : معنا واقض بيني وبينهم قضاء ، وهو أن ينجيه ومن معه من المؤمنين ويفرق الكافرين ، ولم يدعُ نوح ربه عليه إلا بعد أن أعلمه ، { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ } [ هود : 36 ] فحينئذ دعا عليهم .
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)

قوله تعالى : { أَتَبْنُونَ بَكُلِّ رِيعٍ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : أن الريع الطريق ، قاله السدي ، ومنه قول المسيب بن علي :
في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع يلوح كأنه سحل
السحل : الثوب الأبيض ، شبه الطريق به
. الثاني : أنه الثنية الصغيرة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه السوق ، حكاه الكلبي .
الرابع : أنه الفج بين الجبلين ، قاله مجاهد .
الخامس : أنه الجبال ، قاله أبو صخر .
السادس : أنه المكان المشرف من الأرض ، قاله ابن عباس ، قال ذو الرمة :
طِراق الخوافي مشرق فوق ريعهِ ... ندى ليله في ريشه يترقرق
{ ءَايةٍ تَعْبَثُونَ } في آية ثلاثة أوجه
: أحدها : البنيان ، قاله مجاهد .
الثاني : الأعلام ، قاله ابن عباس .
الثالث : أبراج الحمام ، حكاه ابن أبي نجيح .
وفي العبث قولان :
أحدها : اللهو واللعب ، قاله عطية .
الثاني : أنه عبث العشّارين بأموال من يمر بهم ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : القصور المشيدة ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
تركنا ديارهم منهم قفاراً ... وهَدّمنا المصانع والبُروجا
الثاني : أنها مآجل الماء تحت الأرض ، قاله قتادة ، ومنه قول لبيد
:
بَلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
الثالث : أنها بروج الحمام ، قاله السدي
. { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي كأنكم تخلدون باتخاذكم هذه الأبينة ، وحكى قتادة
: أنها في بعض القراءات : كأنكم خالدون .
قوله تعالى : { وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أقوياء ، قاله ابن عباس .
الثاني : هو ضرب السياط ، قاله مجاهد .
الثالث : هو القتل بالسيف في غير حق ، حكاه يحيى بن سلام .
وقال الكبي : هو القتل على الغضب .
ويحتمل رابعاً : أنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء .
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)

قوله تعالى { إِنْ هَذا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : دين الأولين ، قاله ابن عباس .
الثاني : كدأب الأولين ، قاله مجاهد .
الثالث : عادة الأولين ، قاله الفراء .
الرابع : يعني أن الأولين قبلنا كانوا يموتون فلا يبعثون ولا يحاسبون ، قاله قتاة .
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)

قوله تعالى : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } فيه عشرة تأويلات
: أحدها : أنه الرطب اللين ، قاله عكرمة .
الثاني : المذنب من الرطب ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنه الذي ليس فيه نوى ، قاله الحسن .
الرابع : أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتّت ، قاله مجاهد .
الخامس : المتلاصق بعضه ببعض ، قاله أبو صخر .
السادس : أنه الطلع حين يتفرق ويخضر ، قاله الضحاك .
السابع : اليانع النضيج ، قاله ابن عباس .
الثامن : أنه المتنكر قبل أن ينشق عنه القشر ، حكاه ابن شجرة ، قال الشاعر :
كأن حمولة تجلى عليه ... هضيم ما يحس له شقوقُ
التاسع : أنه الرخو ، قال الحسن
. العاشر : أنه اللطيف ، قاله الكلبي .
ويحتمل أن يكون الهضيم هو الهاضم المريء .
والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور ، ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات .
قوله تعالى : { فَرِهِينَ } قرأ بذلك أبو عمرو ، وابن كثير ، ونافع ، وقرأ الباقون { فَارِهِينَ } بالألف فمن قرأ { فَرِهِينَ } ففي تأويله ستة أوجه
: أحدها : شرهين ، قاله مجاهد .
الثاني : معجبين ، قاله خصيف .
الثالث : آمنين ، قاله قتادة .
الرابع : فرحين ، حكاه ابن شجرة .
الخامس : بطرين أشرين ، قاله ابن عباس .
السادس : متخيرين ، قاله الكلبي . ومنه قول الشاعر :
إلى فره يماجدُ كلَّ أمْرٍ ... قصدت له لأختبر الطّباعَا
ومن قرأ : { فَارِهِينَ } ففي تأويله أربعة أوجه
: أحدها : معناه كيّسين قاله ال .
الثاني : حاذقين : قاله أبو صالح ، مأخوذ من فراهة الصنعة ، وهو قول ابن عباس .
الثالث : قادرين ، قاله ابن بحر .
الرابع : أنه جمع فارِه ، والفاره المرح ، قاله أبو عبيدة ، وأنشد لعدي بن الرقاع الغنوي :
لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني بخير فاره اللبب
أي من اللبب .
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)

قوله تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : من المسحورين ، قاله مجاهد .
الثاني : من السكرانين ، قاله قتادة .
الثالث : من المخلوقين ، قاله ابن عباس .
الرابع : من المخدوعين ، قاله سهل بن عبد الله .
الخامس : أن المسحر الذي ليس له شيء ولا يملك ، وهو المقل ، أي لست بملك فيبقى ، وهذا معنى قول الكلبي .
السادس : ممن له سحر أي رقية ، حكاه ابن عيسى .
السابع : ممن يأكل ويشرب ، حكاه ابن شجرة ، ومنه قول لبيد :
إن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
أي المعلل بالطعام والشراب ، قال امرؤ القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

قوله تعالى : { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه القبان ، قاله الحسن .
الثاني : الحديد ، رواه ابن المبارك .
الثالث : أنه المعيار ، قاله الضحاك .
الرابع : الميزان ، قاله الأخفش والكلبي .
الخامس : العدل .
واختلف قائلو هذا التأويل فيه هل هو عربي أو رومي؟ فقال مجاهد والشعبي : هو العدل بالرومية ، وقال أبو عبيدة وابن شجرة : هو عربي وأصله القسط وهو العدل ، ومنه قوله تعالى : { قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عمران : 18 ] أي بالعدل .
قوله تعالى : { . . . وَلاَ تَعْثَواْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } فيه قولان :
أحدها : معناه ولا تمشوا فيها بالمعاصي ، قاله أبو مالك .
الثاني : لا تمشوا فيها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل ، قاله ابن المسيب .
ويحتمل ثالثاً : أن عبث المفسد ما ضر غيره ولم ينفع نفسه .
قوله تعالى : { وَالجِبِلَّةِ } يعني الخليقة ، قال امرؤ القيس :
والموت أعظم حادثٍ ... فيما يمر على الجبلة
{ الأَوَّلِينَ } يعني الأمم الخالية ، والعرب تكسر الجيم والباء من الجبلة ، وقد تضمها وربما أسقطت الهاء كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] . قال أبو ذؤيب :
صناتا يقربن الحتوف لأهلها ... جهازاً ويستمتعن بالأنس الجبل
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

قوله تعالى : { كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : جانباً من السماء ، قاله الضحاك .
الثاني : قطعاً ، قاله قتادة .
الثالث : عذاباً ، قاله السدي ، قال الشاعر :
وُدّي لها خالص في القلب مجتمع ... وودها فاعلمي كسف لما فوق
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)

قوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ } يعني القرآن
. { الرُّوحُ الأمِينُ } يعني جبريل
. { عَلَى قَلْبِكَ } يعني محمد صلى الله عليه وسلم
. { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } يعني لأمتك
. { بِلِسَانٍ عَرَبِّيٍ مُبِينٍ } يعني أن لسان القرآن عربي مبين لأن المنزل عليه عربي ، والمخاطبون به عرب ولأنه تحدى بفصاحته فصحاء العرب .
وفي اللسان العربي قولان :
أحدهما : لسان جرهم ، قاله أبو برزة .
الثاني : لسان قريش ، قاله مجاهد .
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)

قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } يعني كتب الأولين من التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب .
وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المراد به ذكر القرآن في زبر الأولين ، قاله قتادة .
الثاني : بعث محمد صلى الله عليه وسلم في زبر الأولين ، قاله السدي .
الثالث : ذكر دينك وصفة أمتك في زبر الأولين ، قاله الضحاك .
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)

قوله تعالى : { كَذلِكَ سَلَكْنَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : كذلك أدخلنا الشرك ، قاله أنس بن مالك .
الثاني : التكذيب ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : القسوة ، قاله عكرمة .
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)

قوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنهم لمصروفون عن السمع للقرآن .
الثاني : أنهم مصروفون عن فهمه وإن سمعوه .
الثالث : أنهم مصروفون عن العمل به وإن سمعوه وفهموه .
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

قوله تعالى : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : حين تقوم في الصلاة ، قاله ابن عباس .
الثاني : حين تقوم من فراشك ومجلسك ، قاله الضحاك .
الثالث : يعني قائماً وجالساً وعلى حالاتك كلها ، قاله قتادة .
الرابع : يعني حين تخلو ، قاله الحسن ، ويكون القيام عبارة عن الخلوة لوصوله إليها بالقيام عن ضدها .
قوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً ، قاله ابن عباس .
الثاني : يرى تقلبك في صلاتك وركوعك وسجودك ، حكاه ابن جرير .
الثالث : أنك ترى تقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه وتصرفك في الناس ، قاله الحسن لتقلبه في أحواله وفي أفعاله .
الخامس : تقلب ذكرك وصفتك على ألسنة الأنبياء من قبلك .
السادس : أن معنى قوله { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } إذا صليت منفرداً { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } إذا صليت في الجماعة ، قاله قتادة .
ويحتمل سابعاً : الذي يراك حين تقوم لجهاد المشركين ، { وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ } فيما تريد به المسلمين وتشرعه من أحكام الدين .
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

قوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونُ } يعني إذا غضبوا سبوا ، وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم الشياطين ، قاله مجاهد .
الثاني : المشركون ، قاله ابن زيد .
الثالث : السفهاء ، قاله الضحاك .
الرابع : الرواة ، قاله ابن عباس .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : في كل فن من الكلام يأخذون ، قاله ابن عباس .
الثاني : في كل لغو يخوضون ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
إني لمعتذر إليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
الثالث : هو أن يمدح قوماً بباطل ، ويذم قوماً بباطل ، قاله قتادة
. وفي الهائم وجهان :
أحدهما : أنه المخالف في القصد ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : أنه المجاوز للحد .
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } يعني ما يذكرونه في شعرهم من الكذب بمدح أو ذم أو تشبيه أو تشبيب .
{ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } تقديره فإنهم لا يتبعهم الغاوون ولا يقولون ما لا يفعلون .
روي أن عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } فبكواْ عنده وقالوا : هلكنا يا رسول الله : فأنزل الله { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فقرأها عليهم حتى بلغ إلى قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فقال : أنتم
. { وَذَكرُواْ اللَّهَ كَثِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : في شعرهم .
الثاني : في كلامهم .
{ وَانتَصَرُواْ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي ردّوا على المشركين ما كانوا يهجون به المؤمنين فقاتلوهم عليه نصرة للمؤمنين وانتقاماً من المشركين .
{ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } وهذا وعيد يراد به من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء لكل كافر من شاعر وغير شاعر سيعلمون يوم القيامة أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون ، لأن مصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العذاب وهو شر مرجع .
والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها ، فصارإلى مرجع منقلباً وليس كل منقلب مرجعاً .
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)

قوله تعالى : { طس تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءانِ } أي هذه آيات القرآن
. { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } أي وآيات الكتاب المبين ، والكتاب هو القرآن ، فجمع له بَيْنَ الصفتين بأنه قرآن وأنه كتاب لأنه ما يظهر بالكتابة ويظهر بالقراءة .
{ مُّبِينٍ } لأنه يبين فيه نهيه وأمره ، وحلاله وحرامه ، ووعده ووعيده
. وفي المضمر في { تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءانِ } وجهان :
أحدهما : أنه يعود إلى الحروف التي في { طس } قاله الفراء .
الثاني : إلى جميع السورة .
{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : هدى إلى الجنة وبشرى بالثواب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : هدى من الضلالة وبشرى بالجنة ، قاله الشعبي .
قوله تعالى : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةِ } يعني المفروضة ، وفي إقامتها وجهان :
أحدهما : استيفاء فروضها وسنتها ، قاله ابن عباس .
الثاني : المحافظة على مواقيتها ، قاله قتادة .
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } فيها أربعة أقاويل
: أحدها : أنها زكاة المال ، قاله عكرمة ، وقتادة والحسن .
الثاني : أنها زكاة الفطر؛ قاله الحارث العكلي .
الثالث : أنها طاعة الله والإخلاص ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الرابع : أنها تطهير أجسادهم من دنس المعاصي .
قوله تعالى : { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يترددون ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : يتمادون ، قاله أبو العالية ، وأبو مالك ، والربيع بن أنس .
الثالث : يلعبون ، قاله قتادة ، والأعمش .
الرابع : يتحيرون ، قاله الحسن ، ومنه قول الراجز :
ومهمه أطرافه في مهمة ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه
قوله تعالى : { وَإِنََّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : لتأخذ القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : لتوفى القرآن ، قاله السدي .
الثالث : لتلقن القرآن ، قاله ابن بحر .
ويحتمل رابعاً : لتقبل القرآن ، لأنه أوّل من يلقاه عند نزوله .
{ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ } أي من عند حكيم في أمره ، عليم بخلقه
.
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

قوله تعالى : { إِنِّي ءَانَسْتُ نَاراً } فيه وجهان
: أحدهما : رأيت ناراً ، قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنساء إنساً لأنهم مرئيون .
الثاني : أحسست ناراً ، قاله قتادة ، والإيناس : الإحساس من جهة يؤنس بها .
{ سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ } فيه وجهان
: أحدهما : سأخبركم عنها بعلم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : بخبر الطريق ، لأنه قد كان ضل الطريق ، قاله ابن عباس .
{ أَوْ ءَاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ } والشهاب الشعاع المضي ، ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب ، قال الشاعر :
في كفِّهِ صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبسِ
والقبس هو القطعة من النار ، ومنه اقتبست النارَ ، أخذت منها قطعة ، واقتبست منه علماً إذا أخذت منه علماً ، لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار .
{ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي لكي تصطلون من البرد ، قال قتادة : وكان شتاء
. قوله تعالى { فَلَمَّا جَاءَهَا } يعني ظن أنها نار ، وهي نور ، قال وهب بن منبه : فلما رأى موسى وقف قريباً منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا تضرماً وعظماً ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسناً ، فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ، فمالت إليه فخافها فتأخر عنها ، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمْرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها ، إلى أن :
{ نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } .
وفي { بُورِكَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قُدِّس ، قاله ابن عباس .
الثاني : تبارك ، حكاه النقاش .
الثالث : البركة في النار ، حكاه ابن شجرة ، وأنشد لعبد الله بن الزبير :
فبورك في بنيك وفي بنيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء
وفي النار وجهان
: أحدهما : أنها نار فيها نور .
الثاني : أنها نور ليس فيها نار ، وهو قول الجمهور .
وفي { بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } خمسة أقاويل :
أحدها : بوركت النار ، و { مَن } زيادة ، وهي في مصحف أُبي : { بُورِكَتِ النَّارُ وَمَن حَوْلَهَا } قاله مجاهد .
الثاني : بورك النور الذي في النار ، قاله ابن عيسى .
الثالث : بورك الله الذي في النور ، قاله عكرمة ، وابن جبير .
الرابع : أنهم الملائكة ، قاله السدي .
الخامس : الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق .
وفي قوله : { وَمَن حَوْلَهَا } وجهان :
أحدهما : الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : موسى ، قالها أبو صخر .
{ وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قوله الله : { سبْحَانِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } استعانة بالله وتنزيهاً له ، قاله السدي .
الثاني : أن هذا من قول الله ومعناه : وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين ، حكاه ابن شجرة . ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى .
وفي ذلك الكلام قولان :
أحدهما : أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي . قال وهب بن منبه : ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه .
والثاني : أن الله خلق في الشجرة كلاماً خرج منها حتى سمعه موسى ، حكاه النقاش .

قوله تعالى : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } قال وهب : ظن موسى أن الله أمره برفضها فرفضها .
{ فَلَمَا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الجان الحية الصغيرة ، سميت بذلك لاجتنانها واستتارها .
والثاني : أنه أراد بالجان الشيطان من الجن ، لأنهم يشبهون كل ما استهولوه بالشيطان ، كما قال تعالى : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 65 ] . وقد كان انقلاب العصا إلى أعظم الحيات لا إلى أصغرها ، كما قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } [ الأعراف : 107 ] و [ الشعراء : 33 ] .
قال عبد الله بن عباس : وكانت العصا قد أعطاه إياها ملك من الملائكة حين توجه إلى مَدْيَن وكان اسمها : ما شاء ، قال ابن جبير : وكانت من عوسج .
{ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ . . . } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ولم يرجع ، قاله مجاهد ، قال قطرب : مأخوذ من العقب .
الثاني : ولم ينتظر ، قاله السدي .
الثالث : ولم يلتفت ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : أن يكون معناه أنه بقي ولم يمش ، لأنه في المشيء معقب لابتدائه بوضع عقبة قبل قدمه .
قوله تعالى : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } قيل إنه أراد في الموضع الذي يوحى فيه إليهم ، ولا فالمرسلون من الله أخوف .
{ إلاَّ مَن ظَلَمَ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه أراد من غير المسلمين لأن الأنبياء لا يكون منهم الظلم ، ويكون منهم هذا الاستثناء المنقطع .
الوجه الثاني : أن الاستثناء يرجع إلى المرسلين .
وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : فيما كان منهم قبل النبوة كالذي كان من موسى في قتل القبطي ، فأما بعد النبوة فهم معصومون من الكبائر والصغائر جميعاً .
الوجه الثاني : بعد النبوة فإنه معصومون فيها مع وجود الصغائر منهم ، غير أن الله لطف بهم في توفيقهم للتوبة منها ، وهو معنى قوله تعالى :
{ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ } يعني توبة بعد سيئة
. { فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي غفور لذنبهم ، رحيم بقبول توبتهم
.
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } فيه ستة أوجه
: أحدها : فهماً ، قاله قتادة .
الثاني : صنعة الكيمياء وهو شاذ .
الثالث : فصل القضاء .
الرابع : علم الدين .
الخامس : منطق الطير .
السادس : بسم الله الرحمن الرحيم .
{ وَقَالاَ الْحَمْدُ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } وحمدهما لله شكراً على نعمه .
وفيما فضلهما به على كثير من عباده المؤمنين ثلاثة أقاويل :
أحدها : بالنبوة .
الثاني : بالملك .
الثالث : بالنبوة والعلم .
قوله تعالى : { ووَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ورث نبوته وملكه ، قاله قتادة ، قال الكلبي : وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً وإنما خص سليمان بوراثتة لأنها وراثة نبوة وملك ، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء .
الثاني : أن سخر له الشياطين والرياح ، قاله الربيع .
الثالث : أن داود استخلفه في حياته على بني إسرائيل وكانت ولايته هي الوراثة وهو قول الضحاك ، ومنه قيل : العلماء ورثة الأنبياء ، لأنهم في الدين مقام الأنبياء .
قوله تعالى : { فَهُمُ يُوزَعُونَ } فيه ستة أوجه :
أحدها : يساقون ، وهو قول ابن زيد .
الثاني : يدفعون ، قاله الحسن ، قال اليزيدي : تدفع أخراهم وتوقف أولاهم .
الثالث : يسحبون ، قاله المبرِّد .
الرابع : يجمعون .
الخامس : يسجنون ، قال الشاعر :
لسان الفتى سبع عليه سداته ... وإلا يزع من عَرْبه فهو قاتله
وما الجهل إلا منطق متسرع ... سواءٌ عليه حق أمرٍ وباطله
السادس : يمنعون ، مأخوذ من وزعه عن الظلم ، وهو منعه عنه ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما وزع الله بالسلطان أكبر مما وزع بالقرآن . وقال النابغة :
على حين عاتبتُ المشيبَ على الصبا ... وقلت ألما تصدع والشيب وازعُ
والمراد بهذا المنع ما قاله قتادة : أن يُرد أولهم على آخرهم ليجتمعوا ولا يتفرقوا .
قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ } قال قتادة : ذكر لنا أنه وادٍ بأرض الشام . وقال كعب : وهو بالطائف .
{ قَالَتْ نَمَلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُم } قال الشعبي : كان للنملة جناحان فصارت من الطير ، فلذلك علم منطقها ، ولولا ذلك ، ما علمه .
{ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } أي لا يهلكنكم
. { وَهُمُ لاَ يَشعُرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : والنمل لا يشعرون بسليمان وجنوده ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : وسليمان وجنوده لا يشعرون بهلاك النمل ، وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها ، وقيل إن النمل أكثر جنسه حساً لأنه إذا التقط الحبة من الحنطة والشعير للادخار قطعها اثنين لئلا تنبت ، وإن كانت كزبرة قطعها أربع قطع { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } فحكي أن الريح أطارت كلامها إلى سليمان حتى سمع قولها من ثلاثة أميال فانتهى إليها وهي تأمر النمل بالمغادرة .
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه تبسم من حذرها بالمغادرة .
الثاني : أنه تبسم من ثنائها عليه .
الثالث : أنه تبسم من استبقائها للنمل .
قال ابن عباس : فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه .

{ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ألهمني ، قاله قتادة .
الثاني : اجعلني ، قاله ابن عباس .
الثالث : حرضني ، قاله ابن زيد فحكى سفيان أن رجلاً من الحرس قال لسليمان ، أنا بمقدرتي أشكر لله منك ، قال فخرّ سليمان عن فرسه ساجداً .
وفي سبب شكره قولان :
أحدهما : أن علم منطق الطيرحتى فهم قولها .
الثاني : أن حملت الريح قولها إليه حتى سمعه قبل وصوله لجنوده على ثلاثة أميال فأمكنه الكف .
{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : شكر ما أنعم به عليه ، قاله الضحاك .
الثاني : حفظ ما استرعاه ، وهو محتمل .
{ وَأدْخَلْنِي فِي رَحْمَتِكَ } فيه وجهان : أحدهما : بالنبوة التي شرفتني بها .
الثاني : بالمعونة التي أنعمت عليّ بها .
{ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : في جملة أنبيائك .
الثاني : في الجنة التي هي دار أوليائك .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)

قوله : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَال لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ } قيل إن سليمان كان إذا سافر أظله الطير من الشمس ، فأخل الهدهد بكانه ، فبان بطلوع الشمس منه بعده عنه ، وكان دليله على الماء ، وقيل : إن الأرض كانت كالزجاج للهدهد ، يرى ما تحتها فيدل على مواضع الماء حتى يحضر ، قال ابن عباس : فكانوا إذا سافروا نقر لهم الهدهد عن أقرب الماء في الأرض ، فقال نافع بن الأزرق : فكيف يعلم أقرب الماء إلى الأرض ولا يعلم بالفخ حتى يأخذه بعنقه؟ فقال ابن عباس : ويحك يا نافع ألم تعلم أنه إذا جاء القدر ذهب الحذر؟ فقال سليمان عن زوال الهدهد عن مكانه { مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبينَ } أي انتقل عن مكانه أم غاب .
{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه نتف ريشه حتى لا يمتنع من شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن يحوجه إلى جنسه .
الثالث : أن يجعله مع أضداده .
{ أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسْلطَانٍ مُبِينٍ } فيه وجهان
: أحدهما : بحجة بينة .
الثاني : بعذر ظاهر ، قاله قتادة .
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

قوله : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي أقام غير طويل ويحتمل وجهين
: أحدهما : مكث سليمان غير بعيد حتى أتاه الهدهد .
الثاني : فمكث الهدهد غير بعيد حتى أتى سليمان .
{ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بلغت ما لم تبلغه ، قاله قتادة .
الثاني : علمت ما لم تعلمه ، قاله سفيان .
الثالث : اطلعت على ما لم تطلع عليه ، قاله ابن عباس ، والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته ، وفي الكلام حذف تقديره . ثم جاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته .
{ وَجِئْتُكَ مِنَ سَبَإٍ بِنَبإٍ يقين } أي بخبر صحيح صدق ، وفي { سبأ } قولان
: أحدهما : أنها مدينة بأرض اليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال ، قاله قتادة ، قال السدي : بعث الله إلى سبأ اثني عشر نبياً ، وقال الشاعر :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
الثاني : أن سبأ حي من أحياء اليمن واختلف قائلو هذا في نسبتهم إلى هذا ، فذهب قوم إلى أنه اسم امرأة كانت أمهم ، وروى علقمة عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ فقال : « هُوَ وَلَدُ رَجُلٍ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلاَدٍ فَبِاليَمَنِ مِنهُم سِتةٌ وبالشَّامِ مِنهُم أَربَعَةٌ ، فَأَمَّا اليَمَانِيونَ فَمَذحَجُ وجُهَينَةُ وَكِندَةُ وأنمارُ وَالأُزْدُ وَالأَشعَرِيونَ وأَمَّا الشامِيون فَلَخْمُ وَجذامُ وعَامِلَةُ وَغَسَّانُ
» وقيل هو سبأ بن يعرب بن قحطان . قال المفضل وسُمِّيَ سبأ لأنه أول من سبا
. قوله تعالى : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُم } قال الحسن : هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ ، وقال زهير بن محمد : هي بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن الديان وأمها فارعة الجنية ، وقيل ولدها أربعون ملكاً آخرهم شرحبيل . قال قتادة كان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل .
{ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيءٍ } فيه قولان
: أحدهما : من كل شيء في أرضها ، قاله السدي .
الثاني : من أنواع الدنيا كلها ، قاله سفيان .
{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه السرير ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الكرسي ، قاله سفيان .
الثالث : المجلس ، قاله ابن زيد .
الرابع : الملك ، قاله ابن بحر .
وفي قوله : { عَظِيمٌ } ثلاثة أوجه :
أحدها : ضخم .
الثاني : حسن الصنعة ، قاله زهير .
الثالث : لأنه كان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وكان مستراً بالديباج والحرير عليه سبعة تعاليق ، قاله قتادة .
قال ابن إسحاق : وكان يخدمها النساء فكان معها لخدمتها ستمائة امرأة .
قوله : { أَلاَّ يَسْجدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبءَ فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني غيب السموات والأرض ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جبير .
الثاني : أن خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات ، قاله ابن زيد ، والخبء بمعنى المخبوء وقع المصدر موقع الصفة .
وفي معنى الخبء في اللغة وجهان :
أحدهما : أنه ما غاب .
الثاني : أنه ما استتر .
وقرأ الكسائي { أَلاَ يَسْجُدُواْ } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } قال الفراء : من قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدة ، ومن قرأ بالتشديد فليس بموضع سجدة .

وفي قائل هذا قولان :
أحدهما : أنه قول الله تعالى أمر فيه بالسجود له ، وهو أمر منه لجميع خلقه وتقدير الكلام : ألا يا ناس اسجدواْ لله .
الثاني : أنه قول الهدهد حكاه الله عنه .
ويحتمل قوله هذا وجهين :
أحدهما : أن يكون قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله .
الثاني : أن يكون قاله لسليمان عند عوده إليه واستكباراً لما وجدهم عليه .
وفي قول الهدهد لذلك وجهان :
أحدهما : أنه وإن يكن ممن قد علم وجوب التكليف بالفعل فهو ممن قد تصور بما ألهم من الطاعة لسليمان أنه نبي مطاع لا يخالف في قول ولا عمل .
الثاني : أنه كالصبي منا إذا راهق فرآنا على عبادة الله تصوّر أن ما خالفها باطل فكذا الهدهد في تصوره أن ما خالف فعل سليمان باطل .
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

قوله : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ . . . } الآية ، هذا قول سليمان للهدهد قال ابتلي فاختبر من ذلك فوجده صادقاً .
{ اذْهَبِ بِّكِتَابِي هَذَا إِلَيهِمْ } قال مجاهد أخذ الهدهد الكتاب بمنقاره فأتى بهوها فجعل يدور فيه فقالت ما رأيت خيراً منذ رأيت هذا الطير في بهوي فألقى الكتاب إليها .
قال قتادة : فألقاه على صدرها وهي نائمة ، قال يزيد بن رومان : كانت في ملك من مضى من أهلها وقد سيست وساست حتى أحكمها ذلك .
{ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } قال ابن عباس كن قريباً منهم .
{ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }
فيه تقديم وتأخير تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم ، حكاه ابن عيسى ، وقاله الفراء .
قوله : { قَالَتْ يَآ أَيُّهَأ المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } وفي صفتها الكتاب أنه كريم ، أربعة أوجه :
أحدها : لأنه مختوم ، قاله السدي .
الثاني : لحسن ما فيه ، قاله قتادة .
الثالث : لكرم صاحبه وأنه كان ملكاً ، حكاه ابن بحر .
الرابع : لتسخير الهدهد به بحمله . ويحتمل خامساً : لإلقائه عليها عالياً من نحو السماء .
قوله تعالى : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } الآية ، أما قولها إنه من سليمان فلإعلامهم مرسل الكتابي وممن هو .
وأما قولها : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فلاستنكار هذا الاستفتاح الذي لم تعرفه هي ولا قومها لأن أول من افتتح { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } سليمان .
روى ابن بريدة عن أبيه قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إِنِّي لأَعْلَمُ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍ قَبْلِي بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ » قال : قلت يا رسول الله أي آية هي؟ قال : « سَأُعَلِّمُكَهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ » قال : فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت : نسي ثم التفت إليّ فقال : « إِنَّهُ مِنْ سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
» . حكى عاصم عن الشعبي قال : كَانَتْ كُتُبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كتب كان يكتب : باسمك الله ، فلما نزلت { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا } [ هود : 41 ] كتب : باسم الله ، فلما نزلت { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } [ الإِسراء : 110 ] كتب : باسم الله الرحمن ، فلما نزلت { إِنَّهُ مِن سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } كتب : بسم الله الرحمن الرحيم . قال عاصم قلت للشعبي أنا رأيت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال ذلك الكتاب الثالث
. وأما قوله : { ألا تعلواْ عليَّ وأتوني مسلمين } فهذه كتب الأنباء موجزة مقصورة على الدعاء إلى الطاعة من غير بسط ولا إٍسهاب .
وفي { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا تخالفوا عليّ ، قاله قتادة .
الثاني : لا تتكبروا علي ، قاله السدي وابن زيد .
الثالث : لا تمتنعوا عليّ ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : مستسلمين ، قاله الكلبي .
الثاني : موحدين ، قاله ابن عباس .
الثالث : مخلصين ، قاله زهير .
الرابع : طائعين ، قاله سفيان .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

قوله : { قَالَتْ يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } أشيروا عليّ في هذا الأمر الذي نزل بي فجعلت المشورة فتيا وقيل : إنها أول من وضع المشورة .
{ مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونَ } أي ممضية أمراً ، وفي قراءة ابن مسعود قاضية أمراً ، والمعنى واحد .
{ حَتَّى تَشْهَدُونَ } فيه وجهان
. أحدهما : حتى تشيروا ، قاله زهير .
الثاني : حتى تحضرواْ ، قاله الكلبي .
قوله تعالى : { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ } أي أهل عدد وعدة .
{ وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي شجاعة وآلة ، وفي هذا القول منهم وجهان
: أحدهما : تفويض الأمر إلى رأيها لأنها المدبرة لهم .
الثاني : أنهم أجابوها تبادرين إلى قتاله ، قاله ابن زيد .
قال مجاهد : كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وهذا بعيد .
{ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ } الآية . عرضوا عليها الحرب وردواْ إليها الأمر ، قال الحسن : ولّوا أمرهم علجة يضطرب ثدياها ، حدث أبو بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ
» . قوله : { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } قال ابن عباس أخذوها عنوة ، وأفسدوها ، وخربوها .
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون بالاستيلاء على مساكنها وإجلاء أهلها عنها .
{ وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أي أشرافهم وعظماءهم أذلة وفيه وجهان
: أحدهما : بالسيف ، قاله زهير .
الثاني : بالاستعباد ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون بأخذ أموالهم وحط أقدارهم .
{ وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ } فيه قولان
: أحدهما : أن هذا من قول الله ، وكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، قاله ابن عباس .
الثاني أن هذا حكاية عن قول بلقيس : كذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا ، قاله ابن شجرة .
قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } اختلف فيها على أربعة فيها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها كانت لبنة من ذهب ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها كانت جوهَراً ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنها كانت صحائف الذهب في أوعية الديباج ، قاله ثابت البناني .
الرابع : أنها أهدت غلماناً لباسهم لباس الجواري ، وجواري لباسهم لباس الغلمان ، قاله مجاهد ، وعكرمة وابن جبير ، والسدي ، وزهير ، واختلف في عددهم فقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانين غلاماً وجارية ، وقال زهير كانوا ثمانين غلاماً وثمانين جارية .
{ فَنَاظِرةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } قال قتادة : يرحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها ، قد علمت أن الهدية تقع موقعها من الناس .
واختلف فيما قصدت بهديتها على قولين :
أحدهما : ما ذكره قتادة من الملاطفة والاستنزال .
الثاني : اختبار نبوته من ملكه ، ومن قال بهذا اختلفوا بماذا اختبرته على قولين :
أحدهما : أنها اختبرته بالقبول والرد ، فقالت : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه على ملككم وإن لم يقبل الهدية فهو نبي لا طاقة لكم بقتاله ، قاله ابن عباس وزهير .
الثاني : أنها اختبرته بتمييز الغلمان من الجواري ، ومن قال بهذا اختلفوا بماذا ميزهم سليمان عل ثلاثة أقوال .
أحدها : أن أمرهم بالوضوء فاغترف الغلام بيده وأفرغت الجارية على يديها فميزهم بهذا ، قاله السدي .
الثاني : لما توضؤوا غسل الغلمان ظهور السواعد قبل بطونها ، وغسل الجواري بطون السواعد قبل ظهورها ، فميزهم بهذا ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم لما توضؤوا بدأ الغلام من مرفقه إلى كفه وبدأت الجارية من كفها إلى مرفقها ، فميزهم بهذا ، قاله ابن جبير .
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)

قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانُ } فيه وجهان
: أحدهما : فلما جاءت هداياها سليمان ، قاله يزيد بن رومان .
الثاني : فلما جاءت رسلها سليمان لأن الهدهد قد كان سبق إلى سليمان فأخبره بالهدية والرسل فتأهب سليمان لهم .
قال السدي : فأمر الشياطين فموّهوا لَبِن المدينة وحيطانها ذهباً وفضة ، وقيل إنها بعثت مع رسلها بعصاً كان يتوارثها ملوك حمير ، وقالت : أريد أن يعرفني رأس هذه من أسفلها ، وبقدح وقالت : يملؤه ماءً ليس من الأرض ولا من السماء ، وبخرزتين إحداهما ثقبُها معوج وقالت يدخل فيها خيطاً والأخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه .
{ قَالَ } سليمان للرسل حين وصلوا إليه { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } معناه أتزيدونني مالاً إلى ما تشاهدونه من أموالي .
{ فَمَا ءَاتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا ءَاتَاكُم } أي فما آتاني من النبوة والملك خير مما آتاكم من المال ، فرد عليهم المال وميز الغلمان من الجواري ، وأرسل العصا إلى الأرض فقال أي الرأسين سبق للأرض فهو أصلها ، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال : ليس هذا من الأرض ولا من السماء ، وثقب إحدى الخرزتين وأدخل الخيط في الأخرى ، فقال الرسل ما شاهدوا .
واختلف في الرسل هل كانوا رجالاً أو نساء على قولين .
قوله { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك للرسول ارجع إليهم بما جئت من الهدايا ، قاله قتادة . ويزيد بن رومان .
الثاني : أنه قال ذلك للهدهد [ ارجع إليه ] ، قائلاً لهم :
{ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا } أي لا طاقة لهم بها ليكون الهدهد نذيراً لهم ، قاله زهير .
وصدق نبي الله سليمان صلى الله عليه لأن من جنوده الإنس والجن والطير فليس لأحدٍ بها طاقة .
{ وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً } الآية . إخباراً له عما يصنعه بهم ليسعد منهم بالإيمان من هدي وهذه سنة كل نبي .
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

قوله { يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأَتِيني بِعَرْشِهَا } الآية . حكى يزيد بن رومان أنه لما عاد رسلها بالهدايا قالت : قد والله عرفت أنه ليس بملك وما لنا به طاقة ، ثم بعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي ثم أمرت بعرشها فجعلته في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض وغلقت عليه الأبواب وشَخَصَت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، فقال سليمان حين علم قدومها عليه :
{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } الآية : وفيه وجهان
: أحدهما : مسلمين أي مستسلمين طائعين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن يأتوني مسلمين أي بحرمة الإٍسلام ودين الحق ، قاله ابن جريج .
فإن قيل : فلم أَمَرَ أنَ أن يؤتى بعرشها قبل أن يأتوا إليه مسلمين؟
قيل عنه في الجواب خمسة أوجه :
أحدها : أنه أراد أن يختبر صدق الهدهد ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه أعجب بصفته حين وصفه الهدهد وخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها فأراد أخذه قبل أن يحرم عليه بإسلامها ، قاله قتادة .
الثالث : أنه أحب أن يعاليها به وكانت الملوك يعالون بالملك والقدرة ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه أراد أن يختبر بذلك عقلها وفطنتها ، وهل تعرفه أو تنكره ، قاله ابن جبير .
الخامس : أنه أراد أن يجعل ذلك دليلاً على صدق نبوته ، لأنها خلفته في دارها وأوثقته في حرزها ثم جاءت إلى سليمان فوجدته قد تقدمها ، قاله وهب .
قوله : { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ } العفريت المارد القوي ، قال أبو صالح كأنه جبل وفيه وجهان :
أحدهما : أنه المبالغ في كل شيء مأخوذ من قولهم فلان عفرية نفرية إذا كان مبالغاً في الأمور ، قاله الأخفش .
الثاني : أصله العفر وهو الشديد ، زيدت فيه التاء فقيل عفريت ، قاله ابن قتيبة .
{ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من مجلسك وسمي المجلس مقاماً لإقامة صاحبه فيه كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [ الدخان : 51 ] .
الثاني : أنه أراد يوماً معروفاً كان عادة سليمان أن يقوم فيه خطيباً يعظهم ، ويأمرهم ، وينهاهم ، وكان مجيء اليوم تقريباً .
الثالث : أنه أراد قبل أن تسير عن ملكك إليهم محارباً .
{ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } لقوي على حمله ، وفي الأمين ثلاثة أقاويل
: أحدها : أمين على ما فيه من جوهر ولؤلؤ ، قاله الكلبي وابن جرير .
الثاني : أمين ألا آتيك بغيره بدلاً منه ، قاله ابن زيد .
الثالث : أمين على فرج المرأة ، قاله ابن عباس ، وحكى يزيد بن رومان ان اسم العفريت كودي ، وحكى ابن أبي طلحة أن اسمه صخر ، وحكى السدي أنه آصف بن السيطر بن إبليس ، والله أعلم بصحة ذلك .
قوله : { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك أيد الله به سليمان ، والعلم الذي من الكتاب هو ما كتب الله لبني آدم ، وقد علم الملائكة منه كثيراً فأذن الله له أن يعلم سليمان بذلك ، وأن يأتيه بالعرش الذي طلبه ، حكاه ابن بحر .

القول الثاني : أنه بعض جنود سليمان من الجن والإِنس ، والعلم الذي عنده من الكتاب هو كتاب سليمان الذي كتبه إلى بلقيس وعلم أن الريح مسخرة لسليمان وأن الملائكة تعينه فتوثق بذلك قبل أن يأتيه بالعرش قبل أن يرتد إليه طرفه .
والقول الثالث : أنه سليمان قال ذلك للعفريت .
والقول الرابع : أنه قول غيره من الإنس ، وفيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه مليخا ، قاله قتادة .
الثاني : أنه أسطوم ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه آصف بن برخيا وكان صدّيقاً ، قاله ابن رومان .
الرابع : أنه ذو النور بمصر ، قاله زهير .
الخامس : أنه الخضر ، قاله ابن لهيعة .
و { عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ } هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب .
{ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ } يعني بالعرش
. { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } فيه ستة أوجه
: أحدها : قبل أن يأتيك أقصى من تنظر إليه ، قاله ابن جبير .
الثاني : قبل أن يعود طرفك إلى مد بصرك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثالث : قبل أن يعود طرفك إلى مجلسك ، قاله إدريس .
الرابع : قبل الوقت الذي تنظر وروده فيه من قولهم : أنا ممد الطرف إليك أي منتظر لك ، قاله ابن بحر .
الخامس : قبل أن يرجع طرف رجائك خائباً لأن الرجاء يمد الطرف والإياس يقصر الطرف .
السادس : قبل أن ينقص طرفك بالموت ، أخبره أنه سيأتيه قبل موته .
{ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِراً عِندَهُ } قبل أن يرتد طرفه لأن الذي عنده علم عن الكتاب دعا باسم الله الأعظم وعاد طرف سليمان إليه فإذا العرش بين يديه .
قال عبد الرحمن بن زيد : لم يعلم سليمان ذلك الاسم وقد أُعطي ما أُعطي .
قال السدي : فجزع سليمان وقال : غيري أقدر على ما عند الله مني ، ثم استرجع . { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلُ رَبِّي } يعني وصول العرش إليّ قبل أن يرتد إليَّ طرفي
. { لِيَبْلُوَنِّي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } قال زهير : أأشكر على العرش إذ أوتيته في سرعة أم أكفر فلا أشكر إذ رأيت من هو أعلم مني في الدنيا .
قال زهير : ثم عزم الله له على الشكر فقال : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرْ لِنَفْسِهِ } لأن الشكر تأدية حق واستدعاء مزيد .
{ وَمَن كَفَرَ فِإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } عن الشكر { كَرِيمٌ } في التفضل ، وهذه معجزة لسليمان أجراها الله على يد من اختصه من أوليائه .
وكان العرش باليمن وسليمان بالشام فقيل : ان الله حرك به الأرض حتى صار بين يديه .
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)

قوله : { قَالَ نَكَرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } أي غيروه وفي تغييره خمسة أوجه
: أحدها : أنه نزع ما عليه من فصوصه ، ومرافقه وجواهره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه غيّر ما كان أحمر فجعله أخضر وما كان أخضر جعله أحمر ، قاله مجاهد .
الثالث : غيّر بأن زيد فيه ونقص منه ، قاله عكرمة .
الرابع : حوّل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره ، قاله شيبان بن عبد الرحمن .
الخامس : غيّره بأن جعل فيه تمثال السمك ، قاله أبو صالح .
{ نَنْظُرُ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أتهتدي إلى الحق بعقلها أم تكون من الذين لا يعقلون ، وهذا معنى قول ابن رومان .
الثاني : إلى معرفة العرش بفطنتها أم تكون من الذين لا يعرفون ، وهذا معنى قول ابن جبير ، ومجاهد .
{ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } فلم تثبته ولم تنكره واختلف في سبب قولها ذلك ، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها خلفته وراءها فوجدته أمامها فكان معرفتها له تمنع من إنكاره وتركها له وراءها يمنع إثباته ، وهذا معنى قول قتادة .
الثاني : لأنها وجدت فيه ما تعرفه فلذلك لم تنكره ووجدت فيه ما بُدِّل وغير فلذلك لم تثبته ، قاله السدي .
الثالث : شبهوا عليها حين قالوا : أهكذا عرشك؟ فشبهت عليهم فقالت : كأنه هو ولو قالوا لها : هذا عرشك لقالت : نعم ، قاله مقاتل .
{ وَأُوَتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا } وهذا قول من سليمان وقيل هو من كلام قومه ، وفي تأويله ثلاثة أقاويل :
أحدها : معرفة الله وتوحيده ، قاله زهير .
الثاني : النبوة ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أي علمنا أن العرش عرشها قبل أن نسألها ، قاله ابن شجرة .
{ وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : طائعين لله بالاستسلام له .
الثاني : مخلصين لله بالتوحيد .
قوله تعالى { وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وصدها عبادة الشمس أن تعبد الله .
الثاني : وصدّها كفرها بقضاء الله أن تهتدي للحق .
الثالث : وصدّها سليمان عما كانت تعبد في كفرها .
الرابع : وصدها الله تعالى إليه بتوفيقها بالإيمان عن الكفر .
قوله : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها بركة بنيت قوارير ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها صحن الدار ، حكاه ابن عيسى يقال صرحة الدار وساحة الدار وباحة الدار وقاعة الدار كله بمعنى واحد . قال زهير مأخوذ من التصريح ومنه صرح بالأمر إذا أظهره .
الثالث : أنه القصر قاله ابن شجرة ، واستشهد بقول الهذلي .
على طرق كنحو الظباء ... تحسب أعلامهن الصروحا
{ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } أي ماء لأن سليمان أمر الجن أن يبنوه من قوارير في ماء فبنوه وجعلوا حوله أمثال السمك فأمرها بالدخول لأنها وصفت له فأحب أن يراها .
قال مجاهد : وكانت هلباء الشعر والهلباء الطويلة الشعر ، قدمها كحافر الحمار وكانت أمها جنيه . قال الحسن : وخافت الجن أن يتزوجها سليمان فيطلع منها على أشياء كانت الجن تخفيها عنه . وهذا القول بأن أمها جنية مستنكر في العقول لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفاوت الجسمين ، لأن الآدمي جسماني ، والجني روحاني ، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار وخلق الجني من مارج من نار ، ويمتنع الامتزاج من هذا التباين ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف ، لكنه قيل فذكرته حاكياً .

{ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } فرآهما سليمان شعراوين فصنعت له الجن النورة فحلقهما ، فكان أول من صنعت النورة .
واختلفواْ في السبب الذي كان من أجله أراد سليمان كشف ساقيها لدخول الصرح على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنه أراد أن يختبر بذلك عقلها .
الثاني : أنه ذكر له أن ساقها ساق حمار لأن أمها جنية فأحب أن يختبرها .
الثالث : لأنه أراد أن يتزوجها فأحب أن يشاهدها .
{ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ } فيه قولان
: أحدهما : أنه المجلس ومنه الأمرد لملوسته ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : أنه الواسع طوله وعرضه ، قاله ابن شجرة وأنشد :
غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم ... قبيل الضحى في البابلي الممرد
قوله تعالى : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } فيه قولان
: أحدهما : بالشرك الذي كانت عليه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة وأن سليمان يريد تغريقها فيه فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن ، قاله سفيان .
{ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي استسلمت مع سليمان لله طائعة لله رب العالمين .
قال مقاتل : فتزوجها سليمان واتخذ لها حماماً ونورة بالشام ، وهو أول من اتخذ ذلك ، ثم لم ير إلا كذلك حتى فرق الموت بينهما ، فحكى الشعبي عن ناس من حمير أنهم حفروا مقبرة الملك فوجدوا فيها أرضاً معقودة فيها امرأة عليها حلل منسوخة بالذهب وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب : -
يا أيها الأقوام عُوجوا معاً ... وأربعوا في مقبري العيسا
لتعلموا أني تلك التي ... قد كنت أدْعي الدهر بلقيسا
شيّدت قصر الملك في حمير ... قومي وقد كان مأنوسا
وكنت في ملكي وتدبيره ... أرغم في الله المعاطيسا
بَعْلي سليمان النبي الذي ... قد كان للتوراة دريسا
وسخّر الريح له مركباً ... تهب أحياناً رواميسا
مع ابن داود النبي الذي ... قدسه الرحمن تقديسا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)

قوله تعالى : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } فيه قولان
: أحدهما : كافر ومؤمن ، قاله مجاهد .
الثاني : مصدق ومكذب ، قاله قتادة .
وفيم اختصموا؟ فيه قولان :
أحدهما : أن تقول كل فرقة نحن عل الحق دونكم .
الثاني : اختلفوا أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ، قاله مجاهد .
قوله : { قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } فيه قولان :
أحدهما : بالعذاب قبل الرحمة ، قاله مجاهد ، لقولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } .
الثاني : بالبلاء قبل العافية ، قاله السدي .
{ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : بالكفاية .
الثاني : بالإِجابة .
قوله : { قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } أي تشاءَمنا بك وبمن معك مأخوذ من الطيرة ، وفي تطيرهم به وجهان :
أحدهما : لافتراق كلمتهم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : للشر الذي نزل بهم ، قاله قتادة .
{ قَالَ طَآئِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : مصائبكم عند الله ، قاله ابن عباس ، لأنها في سرعة نزولها عليكم كالطائر .
الثاني : عملكم عند الله ، قاله قتادة ، لأنه في صعوده إليه كالطائر .
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : تبتلون بطاعة الله ومعصيته ، قاله قتادة .
الثاني : تصرفون عن دينكم الذي أمركم الله به وهو الإسلام ، قاله الحسن .
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)

قوله : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ } الرهط الجمع لا واحد له يعني من ثمود قوم صالح وهم عاقرو الناقة ، وذكر ابن عباس أساميهم فقال : هم زعجي وزعيم وهرمي ودار وصواب ورباب ومسطح وقدار ، وكانواْ بأرض الحجر وهي أرض الشام ، وكانوا فساقاً من أشراف قومهم .
{ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يفسدون بالكفر ولا يصلحون بالإيمان .
الثاني : يفسدون بالمنكر ولا يصلحون بالمعروف .
الثالث : يفسدون بالمعاصي ولا يصلحون بالطاعة .
الرابع : يفسدون بكسر الدراهم والدنانير ولا يصلحون بتركها صحاحاً ، قاله ابن المسيب ، قاله عطاء .
الخامس : أنهم كانوا يتتبعون عورات النساء ولا يسترون عليهن .
قوله : { قَالُواْ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ } أي تحالفواْ بالله .
{ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي لنقتلنه وأهله ليلاً ، والبيات قتل الليل
. { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } أي لرهط صالح
. { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي قتله ، وقتل أهله ، ولا علمنا ذلك
. { وَإِنَّا لَصّادِقُونَ } في إنكارنا لقتله
. { وَمَكَرُواْ مَكْراً } وهو ما همّوا به من قتل صالح
. { وَمَكَرْنَا مَكْراً } وهو أن رماهم الله بصخرة فأهلكهم
. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يعلمون بمكرنا وقد علمنا بمكرهم
. وفي مكرهم ومكر الله تعالى بهم قولان :
أحدهما : قاله الكلبي ، وهم لا يشعرون بالملائكة الذين أنزل الله على صالح ليحفظوه من قومه حين دخلوا عليه ليقتلوه ، فرموا كل رجل منهم بحجر حتى قتلوهم جميعاً ، وسَلِمَ صالح من مكرهم .
الثاني : قاله الضحاك ، أنهم مكروا بأن أظهروا سفراً وخرجوا فاستتروا في غار ليعودوا في الليل فيقتلوهُ ، فألقى الله صخرة على باب الغار حتى سدّه وكان هذا مكر الله بهم .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قوله تعالى : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة .
الثاني : يبصر بعضكم بعضاً .
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)

قوله تعالى : { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ } فيها قولان
: أحدهما : أنها النخل ، قاله الحسن .
الثاني : الحائط من الشجر والنخل ، قاله الكلبي .
{ ذَاتَ بَهْجَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : ذات غضارة ، قاله قتادة .
الثاني : ذات حسن ، قاله الضحاك .
{ مَّا كَانَ لَكُْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أي ما كان في قدركم أن تخلقوا مثلها
. { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : أي ليس مع الله إله ، قاله قتادة .
الثاني : أإله مع الله يفعل هذا ، قاله زيد بن أسلم .
{ بَلْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أي يعدلون عن الحق .
الثاني : يشركون بالله فيجعلون له عدلاً أي مثلاً ، قاله قطرب ومقاتل .
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)

قوله : { أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً } أي جعلها مستقراً
. { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } أي في مسالكها ونواحيها أنهار جارية ينبت بها الزرع ويحيي به الخلق .
{ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } يعني جبالاً هي لها ماسكة والأرض بها ثابتة
. { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : بحر السماء والأرض ، قاله مجاهد .
الثاني : بحر فارس والروم ، قاله الحسن .
الثالث : بحر الشام والعراق ، قاله السدي .
الرابع : العذب والمالح ، قاله الضحاك .
والحاجز المانع من اختلاط أحدهما بالآخر فيه وجهان :
أحدهما : حاجزاً من الله لا يبغي أحدهما على صاحبه ، قاله قتادة .
الثاني : حاجزاً من الأرض أن يختلط أحدهما بالآخر ، حكاه قتادة .
{ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يعقلون ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يعلمون توحيد الله ، حكاه النقاش .
الثالث : لا يتفكرون ، حكاه ابن شجرة .
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)

قوله { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } وإنما خص إجابة المضطر لأمرين
: أحدهما : لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع .
الثاني : لأن إجابته أعم وأعظم لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى .
{ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يكون عن المضطر بإجابته .
الثاني : عمن تولاه ألاَّ ينزل به .
وفي { السُّوءَ } وجهان :
أحدهما : الضر .
الثاني : الجور ، قاله الكلبي .
{ وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدهما : خلفاً من بعد خلف ، قاله قتادة .
الثاني : أولادكم خلفاء منكم ، حكاه النقاش .
الثالث : خلفاء من الكفار ينزلون أرضهم وطاعة الله بعد كفرهم ، قاله الكلبي .
{ قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ } أي ما أقل تذكركم لنعم الله عليكم
!
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)

قوله { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرِ } فيه وجهان
: أحدهما : يرشدكم من مسالك البر والبحر .
الثاني : يخلصكم من أهوال البر والبحر ، قاله السدي .
وفي { الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وجهان :
أحدهما : أن البر الأرض والبحر الماء .
الثاني : أن البر بادية الأعراب والبحر الأمصار والقرى ، قاله الضحاك .
{ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مبشرة ، قاله ابن عباس وتأويل من قرأ بالباء .
الثاني : منشرة ، قاله السدي وهو تأويل من قرأ بالنون .
الثالث : ملقحات ، قاله يحيى بن سلام .
{ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } وهو المطر في قول الجميع
. { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي عما أشرك المشركون به من الأوثان .
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)

قوله : { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } وفي صفة علمهم بهذه الصفة قولان
: أحدهما : أنها صفة ذم فعلى هذا في معناه أربعة أوجه :
أحدها : غاب عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لم يدرك علمهم ، قاله ابن محيصن .
الثالث : اضمحل علمهم ، قاله الحسن .
الرابع : ضل علمهم وهو معنى قول قتادة . فهذا تأويل من زعم أنها صفة ذم .
والقول الثاني : أنها صفة حمد لعلمهم وإن كانوا مذمومين فعلى هذا في معناه ثلاثة أوجه :
أحدها : أدرك علمُهم ، قاله مجاهد .
الثاني : اجتمع علمهم ، قاله السدي .
الثالث : تلاحق علمهم ، قاله ابن شجرة .
{ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } يعني من الآخرة فمن جعل ما تقدم صفة ذمٍ لعلمهم جعل نقصان علمهم في الدنيا فلذلك أفضى بهم إلى الشك في الآخرة ، ومن جعل ذلك صفة حمد لعلمهم جعل كمال علمهم في الآخرة فلم يمنع ذلك أن يكونوا في الدنيا على شك في الآخرة .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)

قوله : { رَدِفَ لَكُم } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه اقترب لكم ودنا منكم ، قاله ابن عباس وابن عيسى .
الثاني : أعجل لكم ، قاله مجاهد .
الثالث : تبعكم ، قاله ابن شجرة ومنه رِدْف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ، قال أبو ذؤيبٍ :
عاد السواد بياضاً في مفارقه ... لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردِفا
وفي قوله تعالى : { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } وجهان
: أحدهما : يوم بدر .
الثاني : عذاب القبر .
قوله : { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ . . . . } الآية . فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الغائبة القيامة ، قاله الحسن .
الثاني : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض ، حكاه النقاش .
الثالث : جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيَّبه عنهم ، حكاه ابن شجرة .
وفي { كِتَابٍ مُّبِينٍ } قولان :
أحدهما : اللوح المحفوظ .
الثاني : القضاء المحتوم .
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)

قوله { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : وجب الغضب عليهم ، قاله قتادة .
الثاني : إذا حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون ، قاله مجاهد .
الثالث : إذا لم يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم ، قاله ابن عمر وأبو سعيد الخدري .
الرابع : إذا نزل العذاب ، حكاه الكلبي .
{ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } فيها قولان
: أحدهما : ما حكاه محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن الدابة فقال : أما والله لها ذنب وإن لها للحية ، وفي هذا القول إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح .
الثاني : وهو قول الجمهور أنها دابة من دواب الأرض ، واختلف من قال بهذا في صفتهاعلى ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها دابة ذات زغب وريش لها أربع قوائم ، قاله ابن عباس :
الثاني : أنها دابة ذات وبر تناغي السماء ، قاله الشعبي .
القول الثالث : أنها دابة رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن آيِّل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان فيسود وجهه ، قاله ابن الزبير .
وفي قوله { مِّنَ الأَرْضِ } أربعة أقاويل :
أحدها : أنها تخرج من بعض أودية تهامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : من صخرة من شعب أجياد ، قاله ابن عمر .
الثالث : من الصفا ، قاله ابن مسعود .
الرابع : من بحر سدوم ، قاله ابن منبه .
وفي { تُكَلِّمُهُمْ } قراءتان :
الشاذة منهما : { تَسِمهُم } بفتح التاء ، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : تسمهم في وجوههم بالبياض في وجه المؤمن ، وبالسواد في وجه الكافر حتى يتنادى الناس في أسواقهم يا مؤمن يا كافر ، وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تَخْرُجُ الدَّابَّهُ فَتَسِم الناسَ عَلَى خَرَاطِيمِهِم
» . الثاني : معناه تجرحهم وهذا مختص بالكافر والمنافق ، وجرحه إظهار كفره ونفاقه ومنه جرح الشهود بالتفسيق ، ويشبه أن يكون قول ابن عباس .
والقراءة الثانية : وعليها الجمهور { تُكَلِّمُهُمْ } بضم التاء وكسر اللام من الكلام ، وحكى قتادة أنها في بعض القراءة : { تُنَبِّئُهُمْ } وحكى يحيى بن سلام أنها في بعض القراءة : { تُحَدِّثُهُمْ } .
وفي كلامها على هذا التأويل قولان :
أحدهما : أن كلامها ظهور الآيات منها من غير نطق ولا لفظ .
والقول الثاني : أنه كلام منطوق به .
فعلى هذا فيما تكلم به قولان :
أحدهما : أنها تكلمهم بأن هذا مؤمن وهذا كافر .
الثاني : تكلمهم بما قاله الله { أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } قاله ابن مسعود وعطاء .
وحكى ابن البيلماني عن ابن عمر أن الدابة تخرج ليلة جمع وهي ليلة النحر والناس يسيرون إلى منى .
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)

قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أَمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِئَايَتِنَا } وهم كفارها المكذبون . وفي قوله { بَئَايَاتِنَا } وجهان :
أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثاني : جميع الرسل ، وهو قول الأكثرين .
{ فَهُمْ يُوزَعُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : يجمعون ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يدفعون ، قاله ابن عباس .
الثالث : يساقون ، قاله ابن زيد والسدي ، ومنه قول الشماخ .
وكم وزعنا من خميس جحفل ... وكم حبونا من رئيس مسحل
الرابع : يُرَدُّ أولاهم على أُخراهم ، قاله قتادة .
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

{ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } وهو يوم النشور من القبور وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الصور جمع صورة ، والنفخ فيها إعادة الأرواح إليها .
الثاني : أنه شيء ينفخ فيه كالبوق يخرج منه صوت يحيا بن الموتى .
الثالث : أنه مثل ضربه الله لإحياء الموتى في وقت واحد بخروجهم فيه كخروج الجيش إذا أُنذروا بنفخ البوق فاجتمعوا في الخروج وقتاً واحداً .
{ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } وفي هذا الفزع هنا قولان :
أحدهما : أنه الإجابة والإسراع إلى النداء من قولك فزعت إليه من كذا إذا أسرعت إلى ندائه في معونتك قال الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
فعلى هذا يكون { إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ } استثناء لهم من الإِجابة والإسراع إلى النار
. ويحتمل من أريد بهم وجهين :
أحدهما : الملائكة الذين أخروا عن هذه النفخة .
والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحذر لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين فعلى هذا يكون قوله { إِلاَّ مَن شَآءَ } استثناء لهم من الخوف والفزع .
وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنهم الشهداء . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء ولولا هذا النص لكان الأنبياء بذلك أحق لأنهم لا يقصرون عن منازل الشهداء وإن كان في هذا النص تنبيه عليهم . وقيل إن إسرافيل هو النافخ في الصور .
{ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : راغمين ، قاله السدي .
الثاني : صاغرين ، قاله ابن عباس وقتادة ويكون المراد بقوله { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } من فزع ومن استثني من الفزع بقوله { إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } وهذا يكون في النفخة الثانية ، والفزع بالنفخة الأولى ، وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَاماً
» . قوله { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي واقفة
. { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أي لا يرى سيرها لبعد أطرافها كما لا يرى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه وهذا مثل ، وفيم ضرب له ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ، قاله سهل بن عبد الله .
الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان ، تحسبه ثابتاً في القلب وعمله صاعد إلى السماء .
الثالث : أنه مثل للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى القدس .
{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيىْءٍ } أي فعل الله الذي أتقن كل شيء . وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أحكم كل شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : أحصى ، قاله مجاهد .
الثالث : أحسن ، قاله السدي .
الرابع : أوثق ، واختلف فيها فقال الضحاك : هي كلمة سريانية ، وقال غيره : هي عربية مأخوذ من إتقان الشيء إذا أحكم وأوثق ، وأصلها من التقن وهو ما ثقل من الحوض من طينة .
قوله : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنها أداء الفرائض كلها .
الثاني : أفضل منها لأنه يعطى بالحسنة عشراً ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : فله منها خير للثواب العائد عليه ، قاله ابن عباس ومجاهد .
{ وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : وهم من فزع يوم القيامة آمنون في الجنة .
الثاني : وهم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة .
{ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةٍ } الشرك في قول ابن عباس وأبي هريرة
.
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

قوله : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدُ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدِةِ الَّذِي حَرَّمَهَا } فيها قولان
: أحدهما : مكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : مِنى ، قاله أبو العالية ، وتحريمها هو تعظيم حرمتها والكف عن صيدها وشجرها .
{ وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } يعني ملك كل شيء مما أحله وحرمه فيحل منه ما شاء ويحرم منه ما شاء لأن للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء .
قوله : { سَيُرِيكُمْ ءَآيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } فيه وجهان :
أحدهما : يريكم في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا ، قاله الحسن .
الثاني : يريكم في الدنيا ما ترون من الآيات في السموات والأرض فتعرفونها أنها حق ، قاله مجاهد .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } من خير أو شر فلا بد أن يجازي عليه ، والله أعلم .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)

قوله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ببغيه في استعباد بني إسرائيل وقتل أولادهم ، قاله قتادة .
الثاني : بكفره وادعاء الربوبية .
الثالث : بملكه وسلطانه .
وهذه الأرض أرض مصر لأن فرعون ملك مصر ، ولم يملك الأرض كلها ، ومصر تسمى الأرض ولذلك قيل لبعض نواحيها الصعيد .
وفي علوه وجهان :
أحدهما : هو لظهوره في غلبته .
الثاني : كبره وتجبره .
{ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي فرقاً . قاله قتادة : فَرّق بين بني إسرائيل والقبط
. { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } وهم بنو إسرائيل بالاستعباد بالأعمال القذرة
. { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } قال السدي : إن فرعون رأى في المنام أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه عن تأويله ، فقالوا : يخرج من هذا البلد رجل يكون على يده هلاك مصر ، فأمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم ، وأسرع الموت في شيوخ بني إسرائيل فقال القبط لفرعون : إن شيوخ بني إسرائيل قد فنوا بالموت وصغارهم بالقتل فاستبقهم لعملنا وخدمتنا أن يستحيوا في عام ويقتلوا في عام فولد هارون في عام الاستحياء وموسى في عام القتل . وطال بفرعون العمر حتى حكى النقاش أنه عاش أربعمائة سنة وكان دميماً قصيراً . وكان أول من خضب بالسواد . وعاش موسى مائة وعشرين سنة .
قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ } فيهم قولان :
أحدهما : بنو إسرائيل ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يوسف وولده ، قاله علي رضي الله عنه .
{ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمََّةً } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ولاة الأمر ، قاله قتادة .
الثاني : قادة متبوعين ، قاله قتادة .
الثالث : أنبياء لأن الأنبياء فيما بين موسى وعيسى كانوا من بني إسرائيل أولهم موسى وآخرهم عيسى وكان بينهما ألف نبي ، قاله الضحاك .
{ وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم بعد غرق فرعون سبَوا القبط فاستعبدوهم بعد أن كانوا عبيدهم فصاروا وارثين لهم ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم المالكون لأرض فرعون التي كانوا فيها مستضعفين . والميراث زوال الملك عمن كان له إلى من صار إليه ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
ورثنا مجد علقمة بن سيف ... أباح لنا حصون المجد دينا
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه إلهام من الله قد قذفه في قلبها وليس بوحي نبوة ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه كان رؤيا منام ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنه وحي من الله إليها مع الملائكة كوحيه إلى النبيين ، حكاه قطرب .
{ أَنْ أَرْضِعِيه } قال مجاهد : كان الوحي بالرضاع قبل الولادة ، وقال غيره بعدها .
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } يعني القتل الذي أمر به فرعون في بني إسرائيل
. { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } واليم : البحر وهو النيل
. { وَلاَ تَخافِي } فيه وجهان
: أحدهما : لا تخافي عليه الغرق ، قاله ابن زيد .
الثاني : لا تخافي عليه الضيعة ، قاله يحيى بن سلامة .
{ وَلاَ تَحْزَنِي } فيه وجهان
: أحدهما : لا تحزني على فراقه ، قاله ابن زيد .
الثاني : لا تحزني أن يقتل ، قال يحيى بن سلام .
فقيل : إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في البحر بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر في حكاية الكلبي . وحكي أنه لما فرغ النجار من صنعه التابوت أتى إلى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينه وقلبه فلم يعرف الطريق فأيقن أنه المولود الذي تخوف فرعون منه فآمن من ذلك الوقت وهو مؤمن آل فرعون .
قال ابن عباس : فلما توارى عنها ندَّمها الشيطان وقالت في نفسها لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب أليّ من إلقائه بيدي إلى دواب البحر وحيتانه ، فقال الله : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ . . . } الآية ، حكى الأصمعي قال : سمعت جارية أعرابية تنشد :
استغفر الله لذنبي كله ... قبلت إنساناً بغير حلّه
مثل الغزال ناعماً في دَله ... فانتصف الليل ولم أُصله
فقلت : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : أوَيعد هذا فصاحة مع قوله تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } الآية ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين .
قوله { فَالتْقَطَهُ ءَآلُ فِرْعَوْنَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه التقطه جواري امرأته حين خرجن لاستسقاء الماء فوجدن تابوته فحملنه إليها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن امرأة فرعون خرجت إلى البحر وكانت برصاء فوجدت تابوته فأخذته فبرئت من برصها فقالت : هذا الصبي مبارك ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدوّاً وََحَزَناً } أي ليكون لهم عَدُوّاً وحزناً في عاقبة أمره ولم يكن لهم في الحال عدوّاً ولا حزناً لأن امرأة فرعون فرحت به وأحبته حباً شديداً فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر :
وللمنايا تربي كل مرضعةٍ ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها .
{ وَقَالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أصحاب فرعون لما علموا بموسى جاءوا ليذبحوه فمنعتهم وجاءت به إلى فرعون وقالت : قرة عين لي ولك .
{ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } فقال فرعون : قرة عين لك فأما لي فلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَونُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ قُرَّةُ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّت امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا هَدَاهَا وََلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذلِكَ
» وفي قرة العين وجهان
: أحدهما : أنه بردها بالسرور مأخوذ من القر وهو البرد .
الثاني : أنه قر فيها دمعها فلم يخرج بالحزن مأخوذ من قر في المكان إذا أقام فيه .
{ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنّ هلاكهم على يديه وفي زمانه .
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

قوله { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مَوسَى فَارِغاً } فيه ستة أوجه
: أحدها : فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : فارغاً من وحينا بنسيانه ، قاله الحسن وابن زيد .
الثالث : فارغاً من الحزن لعلمها أنه لم يغرق ، قاله الأخفش .
الرابع : معنى فارغاً أي نافراً ، قاله العلاء بن زيد .
الخامس : ناسياً ، قاله اليزيدي .
السادس : معناه والهاً ، رواه ابن جبير .
وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري وهو صحابي : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً } من الفزع وفي قوله { وَأَصْبَحَ } وجهان :
أحدهما : أنها ألقته ليلاً فأصبح فؤادها فارغاً في النهار .
الثاني : أنها ألقته نهاراً ومعنى أصبح أي صار ، قال الشاعر :
مضى الخلفاء بالأمر الرشيد ... وأصبحت المدينة للوليد
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن تصيح عند إلقائه وا إبناه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني ، قاله السدي لأنه ضاق صدرها لما قيل هو ابن فرعون .
الثالث : أن تبدي بالوحي ، حكاه ابن عيسى .
{ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } فيه قولان
: أحدهما : بالإيمان ، قاله قتادة .
الثاني : بالعصمة ، قاله السدي .
{ لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال السدي : قد كانت من المؤمنين ولكن لتكون من المصدقين بأنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين .
قوله تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي استعلمي خبره وتتبّعي أثره .
قال الضحاك ، واسم أخته كلثمة .
{ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : عن جانب ، قاله ابن عباس .
الثاني : عن بعد ، قاله مجاهد ومنه الأجنبي قال علقمة بن عبدة :
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابةٍ ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
الثاني : عن شوق ، حكاه أبوعمرو بن العلاء وذكر أنها لغة جذام يقولون جنبت إليك [ أي اشتقت ] .
{ َوَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه .
قوله : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } قال ابن عباس : لا يؤتى بمرضعة فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع كما قال امرؤ القيس :
جالت لتصرعني فقلت لها اقصِري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي ممتنع
: { مِن قَبْلُ } أي من قبل مجيء أخته وفي قوله : { مِن قَبْلُ } وجهان
: أحدهما : ما ذكرناه .
الثاني : من قبل ردّه إلى أمه .
{ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } الآية . وهذا قول أخته لهم حين رأته لا يقبل المراضع فقالوا لها عند قولها لهم :
{ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } وما يُدْريك؟ لعلك تعرفين أهله ، فقالت : لا ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ويرغبون في ظئره .
قوله تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمَّهِ } قال ابن عباس انطلقت أخته إلى أمه فأخبرتها فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصَّه حتى امتلأ جنباه رياً وانطلق بالبشرى إلى امرأة فرعون قد وجدنا لابنك ظئراً ، قال أبو عمران الجوني : وكان فرعون يعطي أم موسى في كل يوم ديناراً .
وروي أنه قال لأم موسى حين ارتضع منها : كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت : لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني . فكان من لطف الله بموسى أن جعل إلقاء موسى في البحر وهو الهلاك سبباً لنجاته وسخر فرعون لتربيته وهو يقتل الخلق من بني إسرائيل لأجله وهو في بيته وتحت كنفه .
{ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } في قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ } الآية
. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } يعني من قوم فرعون
. { لاَ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعلمون ما يراد بهم ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يعملون مثل علمها .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)

قوله تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } فيه تسعة أقاويل
: أحدها : أربعون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربع وثلاثون سنة ، قاله سفيان .
الثالث : ثلاث وثلاثون سنة ، قاله ابن عباس .
الرابع : ثلاثون سنة ، قاله السدي .
الخامس : خمس وعشرون سنة ، قاله عكرمة .
السادس : عشرون سنة ، حكاه يحيى بن سلام .
السابع : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن جبير .
الثامن : خمس عشرة سنة ، قاله محمد بن قيس .
التاسع : الحلم . قاله ربيعة ومالك .
والأشد جمع واختلف هل له واحد أم لا ، على قولين :
أحدهما : لا واحد له ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : له واحد وفيه وجهان :
أحدهما : شد ، قاله سيبويه .
الثاني : شدة ، قاله الكسائي .
{ وَاسْتَوَى } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : اعتدال القوة ، قاله ابن شجرة .
الثاني : خروج اللحية ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : انتهى شبابه ، قاله ابن قتيبة .
الرابع : أربعون سنة ، قاله ابن عباس .
{ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } في الحكم أربعة أقاويل
: أحدها : أنه العقل ، قاله عكرمة .
الثاني : النبوة ، قاله السدي .
الثالث : القوة ، قاله مجاهد .
الرابع : الفقه ، قاله ابن اسحاق .
قوله : { وَدَخَل الْمَدِينَةَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها مصر ، قاله ابن شجرة .
الثاني : منف ، قاله السدي .
الثالث : عين الشمس ، قاله الضحاك .
{ عَلَى حِينٍ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : نصف النهار والناس قائلون ، قاله ابن جبير .
الثاني : ما بين المغرب والعشاء ، قاله ابن عباس .
الثالث : يوم عيد لهم وهم في لهوهم ، قاله الحسن .
الرابع : لأنهم غفلوا عن ذكره لبعد عهدهم به ، حكاه ابن عيسى .
{ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ } وفيه قولان
: أحدهما : من شيعته إسرائيلي ومن عدوه قبطي ، قاله ابن عباس .
الثاني : من شيعته مسلم ومن عدوه كافر ، قاله ابن إسحاق .
{ فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } حكى ابن سلام أن القبطي سخّر الإسرائيلي ليحمل له حطباً لمطبخ فرعون فأبى عليه فاستغاث بموسى . قال سعيد بن جبير : وكان خبازاً لفرعون { فَوَكَزَهُ مُوسَى } قال قتادة : بعصاه وقال مجاهد : بكفه أي دفعه ، الوكز واللكز واحد والدفع . قال رؤبة :
بعدد ذي عُدَّةٍ ووكز ... إلا أن الوكز في الصدر واللكز في الظهر
. فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله وانما يريد دفعه .
{ فَقَضَى عَلَيهِ } أي فقتله
. و { قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي من إغوائه .
{ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ } قال الحسن : لم يكن يحل قتل الكافر يومئذٍ في تلك الحال لأنها كانت حال كف عن القتال .
قوله : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } فيه وجهان :
أحدهما : من المغفرة .
الثاني : من الهداية .
{ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } أي عوناً . قال ابن عباس : قال ذلك فابتلي لأن صاحبه الذي أعانه دل عليه .
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : خائفاً من قتل النفس أن يؤخذ بها .
الثاني : خائفاً من قومه .
الثالث : خائفاً من الله .
{ يََتَرَقَّبُ } فيه وجهان
: أحدهما : يتلفت من الخوف ، قاله ابن جبير .
الثاني : ينتظر .
وفيما ينتظر فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ينتظر الطلب إذا قيل إن خوفه كان من قتل النفس .
الثاني : ينتظر أن يسلمه قومه إذا قيل إن خوفه منهم .
الثالث : ينتظر عقوبة الله إذا قيل إن خوفه كان منه .
{ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } يعني الإسرائيلي الذي كان قد خلصه بالأمس ووكز من أجله القبطي فقتله ، استصرخه واستغاثه على رجل آخر من القبط خاصمه .
{ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنه قال ذلك للإسرائيلي لأنه قد أغواه بالأمس حتى قتل من أجله رجلاً ويريد أن يغويه ثانية .
الثاني : أنه قال ذلك للقبطي فظن الإسرائيلي أنه عناه فخافه ، قاله ابن عباس .
{ فلَمَّآ أَنْ أَرادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا . . . } وهو القبطي لأن موسى أخذته الرقة على الإسرائيلي فقال الإسرائيلي :
{ قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ } فيه قولان
: أحدهما : أن الإسرائيلي رأى غضب موسى عليه وقوله إنك لغوي مبين ، فخاف أن قتله فقال : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ } .
الثاني : أن الإسرائيلي خاف أن يكون موسى يقتل القبطي فيقتل به الإسرائيلي فقال ذلك دفعاً لموسى عن قتله ، قاله يحيى بن سلام : قال يحيى : وبلغني أن هذا الإسرائيلي هو السامري .
وخلى الإسرائيلي القبطي فانطلق القبطي وشاع أن المقتول بالأمس قتله موسى .
{ . . . إلاَّ تَكُونَ جَبَّارا فِي الأَرْضِ } قال السدي : يعني قتالاً
. قال أبو عمران الجوني : وآية الجبابرة القتل بغير [ حق ] .
وقال عكرمة : لا يكون الإنسان جباراً حتى يقتل نفسين [ بغير حق ] .
{ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ } أي وما هكذا يكون الإصلاح .
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)

قوله : { وََجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى } قال الضحاك : هو مؤمن آل فرعون . وقال شعيب : اسمه شمعون . وقال محمد بن اسحاق : شمعان . وقال الضحاك والكلبي : اسمه حزقيل بن شمعون . قال الكلبي : هوابن عم فرعون أخي أبيه .
{ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ } فيه تأويلان
: أحدهما : يتشاورون في قتلك ، قاله الكلبي ، ومنه قول النمر بن تولب :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر
الثاني : يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ومنه قوله { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِالْمَعْرُوفِ } [ الطلاق : 6 ] أي ليأمر بعضكم بعضاً وكقول امرىء القيس :
أحارِ بن عمرٍو كأني خَمِرْ ... ويعدو على المرء ما يأتمر
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

قوله تعالى : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } قال عكرمة : عرضت لموسى أربع طرق فلم يدر أيتها يسلك .
{ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ } وفيه وجهان
: أحدهما : أنه قال ذلك عند استواء الطرق فأخذ طريق مدين ، قاله عكرمة .
الثاني : أنه قال ذلك بعد أن اتخذ طريق مدين فقال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي قصد الطريق إلى مدين ، قاله قتادة والسدي . قال قتادة : مدين ماء كان عليه قوم شعيب .
قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } قال ابن عباس : لما خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينهما ثماني ليل ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر وخرج حافياً فما وصل إليها حتى وقع خف قدميه .
{ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ } أي جماعة . قال ابن عباس : الأمة أربعون
. { يَسْقُونَ } يعني غنمهم ومواشيهم
. { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ } فيه وجهان
: أحدهما : تحبسان ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
أبيتُ على باب القوافي كأنما ... أذود بها سِرباً من الوحش نُزَّعا
الثاني : تطردان . قال الشاعر :
لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأيِّ عصى تذود
وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهما تحبسان غنمهما عن الماء لضعفهما عن زحام الناس . قاله أبو مالك والسدي .
الثاني : أنهما تذودان الناس عن غنمهما ، قاله قتادة .
الثالث : تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم الناس ، حكاه يحيى بن سلام .
{ قَالَ مَا خَطْبَكُمَا } أي ما شأنكما ، وفي الخطب تضخيم الشيء ومنه الخطبة لأنها من الأمر المعظم .
{ قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ } والصدور الانصراف ، ومنه الصّدر لأن التدبير يصدر عنه ، والمصدر لأن الأفعال تصدر عنه . والرعاء جمع راع .
وفي امتناعهما من السقي حتى يصدر الرعاء وجهان :
أحدهما : تصوناً عن الاختلاط بالرجال .
الثاني : لضعفهما عن المزاحمة بماشيتهما .
{ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } وفي قولهما ذلك وجهان
: أحدهما : أنهما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما .
الثاني : قالتا ذلك ترقيقاً لموسى ليعاونهما .
{ فَسَقَى لَهُمَا } فيه قولان
: أحدهما : أنه زحم القوم عن الماء حتى أخرجهم عنه ثم سقى لهما ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : أنه أتى بئراً عليه صخرة لا يقلها من أهل مدين إلا عشرة فاقتلعها بنفسه وسقى لهما . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ولم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم .
{ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } قال السدي : إلى ظل الشجرة وذكر أنها سَمْرة
. { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس : قال موسى ذلك وقد لصق بطنه بظهره من الجوع وهو فقير إلى شق تمرة ولو شاء إنسان لنظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع .
قال الضحاك : لأنه مكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً إلاّ بقل الأرض؛ فعرض لهما بحاله فقال { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فيه قولان :
أحدهما : شبعة من طعام ، قاله ابن عباس .
الثاني : شبعة يومين ، قاله ابن جبير .
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

قوله تعالى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ } قال ابن عباس : فاستبكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حُفّلا بطاناً فقال لهما : إن لكما اليوم لشأناً فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فجاءته تمشي على استحياء ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه استتارها بكم درعها ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
الثاني : أنه بعدها من النداء ، قاله الحسن .
وفي سبب استحيائها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها دعته لتكافئه وكان الأجمل مكافأته من غير عناء .
الثاني : لأنها كانت رسولة أبيها .
الثالث : ما قاله عمر لأنها ليست بسلفع من النساء خَرَّاجة ولاّجة .
{ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } وفي أبيها قولان
: أحدهما : أنه شعيب النبي عليه السلام .
الثاني : أنه يثرون ابن أخي شعيب ، قاله أبو عبيدة والكلبي .
وكان اسم التي دعت موسى وتزوجها : صفوريا . واسم الأخرى فيه قولان :
إحدهما : ليا ، قاله ابن اسحاق .
الثاني : شرفا ، قاله ابن جرير .
{ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي ليكافئك على ما سقيت لنا فمشت أمامه فوصف الريح عجيزتها فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت .
{ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } أي أخبره بخبره مع آل فرعون
. { قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال ابن عباس : يعني أنه ليس لفرعون وقومه عليّ سلطان ولسنا في مملكته .
قوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ أَسْتَأْجِرْهُ } والقائلة هي التي دعته وهي الصغرى يعني استأجره لرعي الغنم .
{ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } فيه قولان
: أحدهما : القوي فيما ولي ، الأمين فيما استودع ، قاله ابن عباس .
الثاني : القوي في بدنه ، الأمين في عفافه . وروي أن أباها لما قالت له ذلك دخلته الغيرة فقال لها : وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت : أما قوته فأنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ولا يكشفها دون عشرة ، وأما أمانته فإنه خلفني خلف ظهره حين مشى .
قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } فروى عبد الرحمن بن زيد أن موسى قال : فأيهما تريد أن تنكحني؟ قال : التي دعتك ، قال : لا إلا أن تكون تريد ما دخل في نفسك عليها فقال : هي عندي كذلك فزوجه وكانت الصغيرة واسمها صفوريا .
{ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حَجَجٍ } يعني عمل ثماني حجج فأسقط ذكر العمل واقتصر على المدة لأنه مفهوم منها ، والعمل رعي الغنم .
واختلف في هذه الثماني حجج على قولين :
أحدهما : أنها صداق المنكوحة .
الثاني : أنها شرط الأب في إنكاحها إياه وليس بصداق .
{ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرَاً فَمِنْ عِنْدِكَ } قال ابن عباس كانت على نبي الله موسى ثماني حجج واجبة وكانت سنتان عِدة منه فقضى الله عنه عِدته فأتمها عشراً .
{ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } فيه قولان
: أحدهما : من الصالحين في حسن الصحبة . قاله ابن إسحاق .
الثاني : فيما وعده به .
حكى يحيى بن سلام أنه جعل لموسى كل سخلة توضع على خلاف شبه أمها فأوحى الله إلىموسى أن ألق عصاك في الماء فولدت كلهن خلاف شبههن . وقال غير يحيى : بل جعل له كل بلقاء فولدن كلهن بُلْقاً .
قوله تعالى : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } قال السدي : لا سبيل عليّ .
{ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قول السدي : شهيد .
الثاني : حفيظ ، قاله قتادة .
الثالث : رقيب ، قاله ابن شجرة .
فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى؟ فَقَالَ أَبَرُّهُمَا وَأَوفَاهُمَا
» .
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)

قوله : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ } يعني العمل الذي شُرِطَ عليه
. { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } أي بزوجته
. { ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً } أي رأى ، وقد يعبر عن الرؤية بالعلم
. { قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بخبر الطريق الذي أراد قصده هل هو على صوبه أو منحرف عنه .
الثاني : بخبر النار التي رأها هل هي لخير يأنس به أو لشر يحذره .
{ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ } فيها أربعة أوجه
: أحدها : الجذوة أصل الشجرة فيها نار ، قاله قتادة .
الثاني : أنها عود في بعضه نار وليس في بعضه نار ، قاله الكلبي .
الثالث : أنها عود فيه نار ليس له لهب ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنها شهاب من نار ذي لهب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر :
وألقي على قبس من النار جذوة ... شديدٌ عليها حميها والتهابها .
{ لَعلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئون
. قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا } يعني النار أي قرب منها .
{ نُودِيَ مِن شَاطِيءِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارََكَةِ } وهي البقعة التي قال الله فيها لموسى { اخلَعْ نَعْلَيكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طَوًى } .
واحتمل وصفها بالبركة وجهين :
أحدهما : لأن الله كلم فيها موسى وخصه فيها بالرسالة .
الثاني : أنها كانت من بقاع الخصب وبلاد الريف .
ثم قال تعالى : { مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فأحل الله كلامه في الشجرة حتى سمعه موسى منها ، لأنه لا يستطيع أن يسمعه من الله وهذه أعلى منازل الأنبياء أن يسمعوا كلام الله من غير رسول مبلغ وكان الكلام مقصوراً على تعريفه بأنه الله رب العالمين إثباتاً لوحدانيته ونفياً لربوبية غيره ، وصار بهذا الكلام من أصفياء الله من رسله لأنه لا يصير رسولاً إلا بعد أمره بالرسالة ، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام .
فإن قيل : فكيف أضاف البركة إلى البقعة دون الشجرة والشجرة بالبركة أخص لأن الكلام عنها صدر ومنها سُمِعَ؟
قيل : عنه جوابان :
أحدهما : أن الشجرة لما كانت في البقعة أضاف البركة إلى البقعة لدخول الشجرة فيها ولم يخص به الشجرة فتخرج البقعةوصار إضافتها إلى البقعة أعم .
الثاني : أن البركة نفذت من الشجرة إلى البقعة فصارت البقعة بها مباركة فلذلك خصّها الله بذكر البركة ، قاله ابن عباس ، والشجرة هي العليق وهي العوسج .
قوله تعالى : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ . . . } الآية وإنما أمره بإلقاء عصاه في هذا الحال ليكون برهاناً عنده بأن الكلام الذي سمعه كلام الله ثم ليكون برهاناً له إلى من يرسل إليه من فرعون وملئه .
فإن قيل : فإذا كانت برهاناً إليه وبرهاناً له فلم ولَّى منها هارباً؟
قيل لأمرين :
أحدهما : رأى ما خالف العادة فخاف .
الثاني : أنه يجوز أن يظن الأمر بإلقائها لأجل أذاها فولَّى هارباً حتى نودي فعلم .
{ . . . ولَمْ يُعَقِّبْ } فيه وجهان
: أحدهما : ولم يثبت ، اشتقاقاً من العقب الذي يثبت القدم .

الثاني : ولم يتأخر لسرعة مبادرته .
ويحتمل ثالثاً : أي لم يلتفت إلى عقبه لشدة خوفه وسرعة هربه .
{ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مَنَ الآمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : الآمنين من الخوف .
الثاني : من المرسلين لقوله تعالى : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } قال ابن بحر : فصار على هذا التأويل رسولاً بهذا القول . وعلى التأويل الأول يصير رسولاً بقوله : { فَذَانِكَ بُرْهَاناَنِ مِنَ رَبِّكَ إلَى فِرْعَونَ وَمَلإِئْهِ } والبرهانان اليد والعصا .
وفي قوله تعالى : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وجهان :
أحدهما : أن الجناح الجيب جيب القميص وكان عليه مدرعة صوف .
الثاني : أن الجيب جنب البدن .
{ مِنَ الرَّهْبِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الرهب الكُمّ ، قاله مورق .
الثاني : أنه من الخوف .
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)

قوله تعالى : { رِدْءاً } فيه وجهان
: أحدهما : عوناً ، قاله مجاهد .
الثاني : زيادة ، والردء الزيادة وهو قول مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر :
وأسمر خطيّاً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذِراعاً على العشر
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

قوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } قال ابن عباس : كان بينها وبين قوله { أنا ربكم الأعلى } أربعون سنة .
{ فأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانَ عَلَى الطِّينِ } قال قتادة : هو أول من طبخ الآجر
. { فَاجْعَلَ لِّي صَرْحاً } الصرح القصر العالي . قال قتادة : هو أول من صنع له الصرح .
{ لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } الآية . فحكى السدي أن فرعون صعد الصرح ورمى نشابه نحو السماء فرجعت إليه متلطخة دماً : قد قتلت إِله موسى .
قوله تعالى : { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } قال قتادة : بحر يقال له أساف من وراء مصر غرقهم الله فيه .
قوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } يعني فرعون وقومه ، وفيه وجهان :
أحدهما : زعماء يُتْبَعُونَ على الكفر .
الثاني : أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر .
{ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } فيه وجهان
: أحدهما : يدعون إلى عمل أهل النار .
الثاني : يدعون إلى ما يوجب النار .
قوله : { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني خزياً وغضباً .
الثاني : طرداً منها بالهلاك فيها .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : من المقبحين بسواد الوجوه وزرقة الأعين ، قاله الكلبي .
الثاني : من المشوهين بالعذاب ، قاله مقاتل .
الثالث : من المهلكين ، قاله الأخفش وقطرب .
الرابع : من المغلوبين ، قاله ابن بحر .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } فيه قولان
: أحدهما : أنها ست من المثاني التي التي أنزلها الله على رسوله محمد صلىلله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ورواه مرفوعاً .
الثاني : أنها التوراة ، قاله قتادة . قال يحيى بن سلام : هو أول كتاب نزل فيه الفرائض والحدود والأحكام .
{ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى } قال أبو سعيد الخدري : ما أهلك الله أمة من الأمم ولا قرناً من القرون ولا قرية من القرى بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخهم الله قردة ، ألم تر إلى قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابِ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى } .
ومعنى قوله : { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } أي بينات . { وَهُدًى } أي دلالة { وَرَحْمَةً } أي نعمة .
{ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي ليذكروا هذه النعمة فيقيموا على إيمانهم في الدنيا ويثقوا بثوابهم في الآخرة .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : { وَمَا كُنتَ بِجَانِب الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وما كنت يا محمد { بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } وفيه وجهان :
أحدهما : نودي يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، قاله أبو هريرة .
الثاني : أنهم نودوا في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بُعِثْتَ ، قاله مقاتل .
{ وَلَكِن رَّحْمَةَ مِّن رَّبِّكَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن ما نودي به موسى من جانب الطور من ذكرك نعمة من ربك .
الثاني : أن إرسالك نبياً إلى قومك نعمة من ربك .
{ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } يعني العرب .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

قوله تعالى : { . . . قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } قرأ الكوفيون سحران ، فمن قرأ ساحران ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : موسى ومحمد عليهما السلام ، وهذا قول مشركي العرب ، وبه قال ابن عباس والحسن .
الثاني : موسى وهارون عليهما السلام وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة ، قاله ابن جبير ومجاهد وأبو زيد .
الثالث : عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول اليهود اليوم ، وبه قال قتادة .
ومن قرأ سحران ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها التوارة والقرآن ، قاله عاصم الجحدري والسدي .
الثاني : التوراة والإنجيل ، قاله إسماعيل وأبو مجلز .
الثالث : الإنجيل والقرآن ، قاله قتادة .
{ قَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } يعني بما ذكره على اختلاف الأقاويل وفي قائل ذلك قولان :
إحداهما : اليهود .
الثاني : قريش .
قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه بيَّنا لهم القول ، قاله السدي .
الثالث : أتبعنا بعضه بعضاً ، قاله علي بن عيسى .
وفي { الْقَوْلَ } وجهان :
أحدهما : أن الخبر عن الدنيا والآخرة ، قاله ابن زيد .
الثاني : إخبارهم بمن أهلكنا من قوم نوح بكذا وقوم صالح بكذا وقوم هود بكذا .
{ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يتذكرون محمداً فيؤمنوا به ، قاله ابن عباس .
الثاني : يتذكرون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأوثان ، حكاه النقاش .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

قوله تعالى : { الَّذِينَ ءَآتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني الذين آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل القرآن هم بالقرآن يؤمنون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الذي آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل محمد هم بمحمد يؤمنون ، قاله ابن شجرة .
وفيمن نزلت قولان :
أحدهما : نزلت في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها ، قاله قتادة .
الثاني : أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه وثمانية قدموا من الشام . منهم بحيراً وأبرهة والأشراف وعامر وأيمن وإدريس ونافع فأنزل الله فيهم هذه الآية ، والتي بعدها إلى قوله { أُوْلَئِكَ يُؤْتُوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } قال قتادة : [ بإيمانهم ] بالكتاب الأول وإيمانهم بالكتاب الآخر .
وفي قوله بما صبروا ثلاثة أوجه :
أحدها : بما صبروا على الإيمان ، قاله ابن شجرة .
الثاني : على الأذى ، قاله مجاهد .
الثالث : على طاعة الله وصبروا عن معصية الله ، قاله قتادة .
{ . . . وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يدفعون بالعمل الصالح ما تقدم من ذنب ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يدفعون بالحلم جهل الجاهل ، وهذا معنى قول يحيى بن سلام .
الثالث : يدفعون بالسلام قبح اللقاء ، وهذا معنى قول النقاش .
الرابع : يدفعون بالمعروف المنكر ، قاله ابن جبير .
الخامس : يدفعون بالخير الشر ، قاله ابن زيد .
ويحتمل سادساً : يدفعون بالتوبة ما تقدم من المعصية .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُفِقُونَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يؤتون الزكاة احتساباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول الزكاة ، قاله السدي .
الثالث : يتصدقون من أكسابهم ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يتلقونهم بالشتم والسب فيعرضون عنهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم قوم من اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غَيّره اليهود من التوراة وبدلوه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته أعرضوا عنه وكرهوا تبديله ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
الثالث : أنهم المؤمنون إذا سمعوا الشرك أعرضوا عنه ، قاله الضحاك ومكحول .
الرابع : أنهم أناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهوداً ولا نصارى وكانوا على دين أنبياء الله وكانوا ينتظرون بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بظهوره بمكة قصدوه ، فعرض عليهم القرآن وأسلمواْ .
وكان أبو جهل ومن معه من كفار قريش يلقونهم فيقولون لهم : أفٍّ لكم من قوم منظور إليكم تبعتم غلاماً قد كرهه قومه وهم أعلم به منكم فإذا ذلك لهم أعرضوا عنهم ، قاله الكلبي .
{ قَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : لنا ديننا ولكم دينكم ، حكاه النقاش .
الثاني : لنا حلمنا ولكم سفهكم .
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } رَدّوا خيراً واستكفوا شراً ، وفيه تأويلان
: أحدهما : لا نجازي الجاهلين ، قاله قتادة .
الثاني : لا نتبع الجاهلين ، قاله مقاتل .
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

قوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } فيه وجهان
: أحدهما : من أحببت هدايته .
الثاني : من أحببته لقرابته ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن : نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو هريرة أن النبي قال لعمه أبي طالب « قُل لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِندَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ » فقال : لولا أن تعيرني بها قريش لأقررت عينيك بها .
وروى مجاهد أنه قال : يا ابن أخي ملة الأشياخ ، فنزلت الآية تعني أبا طالب .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } قاله قتادة : يعني العباس
. { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } قال مجاهد : يعني بمن قدر له الهدى والضلالة
. قوله تعالى : { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } قيل إن هذه الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا يعني بمكة فإنما نحن أكلة رأس العرب ولا طاقة لنا بهم ، فأجاب الله عما اعتل به فقال :
{ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً } فيه وجهان
: أحدهما : أنه جعله آمناً بما طبع النفوس عليه من السكون إليه حتى لا ينفر منه الغزال والذئب والحمام والحدأة .
الثاني : أنه جعله آمناً بالأمر الوارد من جهته بأمان من دخله ولاذ به ، قاله يحيى بن سلام .
يقول كنتم آمنين في حرمي تأكلون وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي .
{ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد . وحكى مجاهد أن كتاباً وجد عند المقام فيه : إني أنا الله ذو بكة ، وضعتها يوم خلقت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل ، مبارك لأهلها في الماء واللحم ، أول من يحلها أهلها .
{ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } أي عطاء من عندنا
. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعقلون ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يتدبرون ، قاله ابن شجرة .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

قوله : { بَطِرَتْ مَعَيشَتَهَا } والبطر الطغيان بالنعمة . وفيه وجهان
: أحدها : يعني بطرت في معيشتها ، قاله الزجاج .
الثاني : أبطرتها معيشتها ، قاله الفراء .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلَكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في أوائلها ، قاله الحسن .
الثاني : في معظم القرى من سائر الدنيا ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أن أم القرى مكة ، قاله قتادة .
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

قوله : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ } فيه قولان
: أحدهما : هو حمزة بن عبد المطلب والوعد الحسن الجنة و { لاَقِيهِ } دخولها ، قاله السدي .
الثاني : هو النبي صلى الله عليه وسلم والوعد الحسن النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، قاله الضحاك .
{ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال السدي والضحاك : هو أبو جهل
. { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من المحضرين للجزاء ، قاله ابن عباس .
الثاني : من المحضرين في النار ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : من المحضرين : المحمولين ، قاله الكلبي .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

قوله : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَآءُ يَوْمَئِذٍ } فيه وجهان
: أحدهما : الحجج ، قاله مجاهد .
الثاني : الأخبار ، قاله السدي .
{ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : لا يسألون بالأنساب ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحتمل من ذنوبه ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحجة ، وهذا قول الضحاك .
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

قوله تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن قوماً كانوا يجعلون خير أموالهم لأهليهم في الجاهلية فقال { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } من خلقه { وَيَخْتَارُ } من يشاء لطاعته ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } من الخلق { وَيَخْتَارُ } من يشاء لنبوته ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } النبي محمداً صلى الله عليه وسلم { َوَيَخْتَارُ } الأنصار لدينه حكاه النقاش .
{ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } وفيه وجهان
: أحدهما : معناه ويختار للمؤمنين ما كان لهم فيه الخيرة فيكون ذلك إثباتاً .
الثاني : معناه ما كان للخلق على الله الخيرة ، فيكون ذلك نفياً . ومن قال بهذا فلهم في المقصود به وجهان :
أحدهما : أنه عنى بذلك قوماً من المشركين جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فنزل ذلك فيهم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال ما حكاه الله عنه في سورة الزخرف { وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ } الآية [ الزخرف : 31 ] يعني نفسه وعروة بن مسعود الثقفي فقال الله : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } أن يتخيروا على الله الأنبياء .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

قوله : { وَنَزَعْنَا مِن كُلَّ أُمَّةٍ شَهِيداً } فيه وجهان
: أحدهما : أخرجنا من كل أمة رسولاً مبعوثاً إليها .
الثاني : أحضرنا من كل أمة رسولاً يشهد عليها أن قد بلغ رسالة ربه إليها ، قاله قتادة .
{ فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : حجتكم ، قاله أبو العالية .
الثاني : بينتكم ، قاله قتادة .
{ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن العدل لله ، قاله ابن جبير .
الثاني : التوحيد لله ، قاله السدي .
الثالث : الحجة لله .
{ وَضَلَّ عَنْهُم } يعني في القيامة
. { مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } في الدنيا من الكذب .
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى } قال ابن عباس : كان ابن عمه ، قاله قتادة : ابن عم موسى أخي أبيه وكان قطع البحر مع بني إسرائيل وكان يسمى : المنور ، من حسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري .
{ فَبَغَى عَلَيْهِمْ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : بغيه عليهم أنه كفر بالله ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه زاد في طول ثيابه شبراً ، قاله شهر بن حوشب .
الثالث : أنه علا عليهم بكثرة ماله وولده ، قاله قتادة .
الرابع : أنه صنع بغياً ، حين أمر الله موسى برجم الزاني فعمد قارون إلى امرأة بغي فأعطاها مالاً وحملها على أن ادعت عليه أنه زنى بها وقال : فأنت قد زنيت . وحضرت البغي فادّعت ذلك عليه فعظم على موسى ما قالت وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلاّ صدقت فقالت : أشهد أنك بريء وأن قارون أعطاني مالاً وحملني على أن قلت وأنت الصادق وقارون الكاذب فكان هذا بغيه ، قاله ابن عباس ، قال السدي : وكان اسم البغي شجرتا وبذلك لها قارون ألفي درهم .
الخامس : أنه كان غلاماً لفرعون فتعدى على بني إسرائيل وظلمهم ، قاله يحيى بن سلام
. السادس : أنه نسب ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته ، قاله ابن بحر .
{ وَءَآتَيْنَهُ مِنَ الْكُنُوزِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه أصاب كنزاً من كنوز يوسف عليه السلام ، قاله عطاء .
الثاني : أنه كان يعمل الكيمياء ، قاله الوليد .
{ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : خزائنه ، قاله السدي وأبو رزين .
الثاني : أوعيته ، قاله الضحاك .
الثالث : مفاتيح خزائنه وكانت من جلود يحملها أربعون بغلاً .
الرابع : أن مفاتيح الكنوز إحاطة علمه بها ، حكاه ابن بحر لقول الله { وَعِندَهُ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] .
{ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لتثقل العصبة ، قاله ابن عباس وأبو صالح والسدي .
الثاني : لتميل بالعصبة ، قاله الربيع بن أنس مأخوذ من النأي وهو البعد قال الشاعر :
ينأوْن عنا وما تنأى مودتهم ... والقلب فيهم رهين حيثما كانوا
الثالث : لتنوء به العصبة كما قال الشاعر :
إنّا وجدنا خلفَاً بئس الخلف ... عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف
والعصبة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض واختلف في عددهم على سبعة أقاويل :
أحدها : سبعون رجلاً ، قاله أبو صالح .
الثاني : أربعون رجلاً ، قاله الحكم وقتادة والضحاك .
الثالث : ما بين العشرة إلى الأربعين ، قاله السدي .
الرابع : ما بين العشرة إلى الخمسة عشر ، قاله مجاهد .
الخامس : ستة أو سبعة . قاله ابن جبير .
السادس : ما بين الثلاثة والتسعة وهم النفر ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
السابع : عشرة لقول إخوة يوسف { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] قاله الكلبي ومقاتل .
وزعم أبو عبيدة أن هذا من المقلوب تأويله : إن العصبة لتنوء بالمفاتح .
{ أوْلِي الْقُوَّةِ } قال السدي أولي الشدة

. { إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قول المؤمنين منهم ، قاله السدي .
الثاني : قول موسى ، قاله يحيى بن سلام .
{ لاَ تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا تبغ إن الله لا يحب الباغين ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين ، قاله ابن بحر .
الثالث : لا تبطر إن الله لا يحب البطرين ، قاله السدي ، وقال الشاعر :
ولست بمفراحٍ إذا الدهر سَرَّني ... ولا جازعٍ من صرفه المتغلب
قوله تعالى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ } فيه وجهان
: أحدهما : طلب الحلال في كسبه ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الصدقة وصلة الرحم ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : وهو أعم أن يتقرب بنعم الله إليه ، والمراد بالدار الآخرة الجنة .
{ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } فيه ثلاثة تأويلات
. أحدها : لا تنس حظك من الدنيا أن تعمل فيها لآخرتك ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا تنس استغناك بما أحل الله لك عما حرمه عليك ، قاله قتادة .
الثالث : لا تنس ما أنعم الله عليك أن تشكره عليه بالطاعة وهذا معنى قول ابن زيد .
الثاني : وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن في إنعامه عليك ، وهذا معنى قول يحيى بن سلام .
الثالث : أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الإحلال .
{ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لا عمل فيها بالمعاصي .
الثاني : لا تقطع .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يحب أعمال المفسدين ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يقرب المفسدين ، قاله ابن قتيبة .
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

قوله : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمِ عِنْدِي . . . } فيه خمسة أوجه
: أحدها : أي بقوتي وعلمي ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : علىخير وعلم عندي ، قاله قتادة .
الثالث : لرضا الله عني ومعرفته باستحقاقي ، قاله ابن زيد .
الرابع : على علم بوجه المكاسب ، قاله ابن عيسى .
الخامس : العلم بصنعة الكيمياء .
حكى النقاش أن موسى عليه السلام علّم قارون الثلث من صنعة الكيمياء ، وعلم يوشع بن نون الثلث ، وعلم ابني هارون الثلث فخدعهما قارون وكان على إيمانه حتى علم ما عندهما وعمل الكيمياء فكثرت أمواله .
وفي قوله تعالى : { . . . وَلاَ يُسأُلَ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } أربعة تأويلات :
أحدها : يعذبون ولا يحاسبون ، قاله قتادة .
الثاني : لا يسألون عن إحصائها ويعطون صحائفها فيعرفون ويعترفون بها ، قاله الربيع .
الثالث : لأن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسأل عنهم ، قاله مجاهد .
الرابع : أنهم لا يُسألون سؤال استعتاب : لمَ لَمْ يؤمنوا ، قاله ابن بحر كما قال
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ الروم : 57 ] .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

قوله : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : في حشمه ، قاله قتادة .
الثاني : في تَبَعه في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات وكان أول يوم رؤيت فيه المعصفرات قاله ابن زيد ، قال أبو لبابة : أول من صبغ بالسواد قارون .
الثالث : خرج في جوارٍ بيض على بغال بيض بسروج من ذهب على قطف أرجوان ، قاله السدي .
{ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونَ } تمنوا ماله رغبة في الدنيا .
{ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : لذو درجة عظيمة ، قاله الضحاك .
الثاني : لذو جد عظيم ، قاله السدي .
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

قوله تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ } قال ابن عباس : لما شكا موسى إلى الله أمْر قارون أمر الله الأرض أن تطيع موسى ، ولما أقبل قارون وشيعته قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى أوساطهم ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم ، ثم قال : خذيهم فخسف الله بهم وبدار قارون وكنوزه . روى يزيد الرقاشي أن قارون لما أخذته الأرض إلى عنقه أخذ موسى نعليه فخفق بهما وجهه فقال قارون : يا موسى ارحمني ، قال الله تعالى { يَا مُوسَى مَا أَشَدَّ قَلْبَكَ ، دَعَاكَ عَبْدِي وَاسْتَرْحَمَكَ فَلَمْ تَرْحَمْهُ : وَعِزَّتِي لَو دَعَانِي عَبْدِي لأَجَبْتُهُ } روى سمرة بن جندب أنه يخسف بقارون وقومه في كل يوم بقدر قامة فلا يبلغ إلى الأرض السفلى إلى يوم القيامة .
قال مقاتل لما أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله لأنه كان ابن عمه أخي أبيه فخسف الله بداره وبجميع أمواله بعد ثلاثة أيام .
قوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنُّواْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ } فيه ثمانية أوجه :
أحدها : معناه أو لا يعلم أن الله؟ رواه معمر عن قتادة .
الثاني : أو لا يرى؟ رواه سعيد عن قتادة .
الثالث : { وَلكِنَّ اللَّهَ } بلغة حمير ، قاله الضحاك .
الرابع : { وَإِنَّ اللَّهَ } والياء ، والكاف صلتان زائدتان ، حكاه النقاش .
الخامس : { وَكَأَنَّ اللَّهَ } والياء وحدها صلة زائدة . وقال ابن عيسى بهذا التأويل غير أنه جعل الياء للتنبيه .
السادس : معناه ويك أن الله ففصل بين الكاف والألف وجعل ويك بمعنى ويح فأبدل الحاء كافاً ومنه قول عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبْرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدامِ
السابع : ويلك إن الله فحذف اللام إيجازاً ، حكاه ابن شجرة
. الثامن : وي منفصلة على طريق التعجب ثم استأنف فقال كأن الله ، قاله الخليل .
{ يَبْسُطُ الرِّزْقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معنى يقدر أن يختار له ، قاله ابن عباس .
الثاني : ينظر له فإن كان الغنى خيراً له أغناه وإن كان الفقر خيراً له أفقره ، قاله الحسن .
الثالث : يضيق ، وهذا معنى قول ابن زيد .
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

قوله تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ } أي الجنة نجعلها .
{ عُلُوّاً } فيها ستة أوجه
: أحدها : يعني بغياً ، قاله ابن جبير .
الثاني : تكبراً ، قاله مسلم .
الثالث : شرفاً وعزاً ، قاله الحسن .
الرابع : ظلماً ، قاله الضحاك .
الخامس : شركاً ، قاله يحيى بن سلام .
السادس : لا يجزعون من ذلها ولا يتنافسون على عزها ، قاله أبو معاوية .
ويحتمل سابعاً أن يكون سلطاناً فيها على الناس .
{ وَلاَ فَسَاداً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه الأخذ بغير حق ، قاله مسلم .
الثاني : أنه العمل بالمعاصي ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه قتل الأنبياء والمؤمنين ، قاله يحيى بن سلام .
ويحتمل رابعاً : أنه سوء السيرة .
{ وَاْلعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : والثواب للمتقين ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : معناه والجنة للمتقين ، قاله ابن شجرة .
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله تعالى : { إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنزل عليك القرآن ، قاله يحيى ابن سلام والفراء .
الثاني : أعطاكه ، قاله مجاهد .
الثالث : أوجب عليك العمل به ، حكاه النقاش .
الرابع : حمّلك تأديته وكلفك إبلاغه ، حكاه ابن شجرة .
الخامس : بينه على لسانك ، قال ابن بحر .
ويحتمل سادساً : أي قدر عليك إنزاله في أوقاته لأن الفرض التقدير .
{ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : إلى مكة ، قاله مجاهد والضحاك وابن جبير ، والسدي .
الثاني : إلى بيت المقدس ، قاله نعيم القاري .
الثالث : إلى الموت ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الرابع : إلى يوم القيامة ، قاله الحسن .
الخامس : إلى الجنة ، قاله أبو سعيد الخدري .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في الجحفة حين عسف به الطريق إليها فليست مكية ولا مدنية .
قوله تعالى : { . . . كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهُهُ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه إلا هو ، قاله الضحاك .
الثاني : إلا ما أريد به وجهه ، قاله سفيان الثوري .
الثالث : إلا ملكه ، حكاه محمد بن إسماعيل البخاري .
الرابع : إلا العلماء فإن علمهم باق ، قاله مجاهد .
الخامس : إلا جاهه كما يقال لفلان وجه في الناس أي جاه ، قاله أبو عبيدة .
السادس : الوجه العمل ومنه قولهم : من صلى بالليل حسن وجه بالنهار أي عمله . وقال الشاعر :
أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
{ لَهُ الْحُكْمُ } فيه وجهان
: أحدهما : القضاء في خلقه بما يشاء من أمره ، قاله الضحاك وابن شجرة .
الثاني : أن ليس لعباده أن يحكموا إلا بأمره ، قاله ابن عيسى .
{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء ، والله أعلم .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

قوله تعالى : { الم . أَحِسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ . . . } هذا لفظ استفهام أريد به التقرير والتوبيخ وفيه خمسة أقاويل :
أحدها : معناه أظن الذين قالوا لا إله إلا الله أن يتركوا فلا يختبروا أصدقوا أم كذبوا . قاله الحسن .
الثاني : أظن المؤمنون ألا يؤمروا ولا ينهوا ، قاله ابن بحر .
الثالث : أظن المؤمنون ألا يؤذوا ويقتلوا . قاله الربيع بن أنس . وقال قتادة : نزلت في أناس من أهل مكة خرجوا للهجرة فعرض لهم المشركون فرجعوا فنزلت فيهم فلما سمعها خرجوا فقتل منهم من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا } الآية .
الرابع : أنها نزلت في عمار بن ياسر ومن كان يعذب في الله بمكة ، قاله عبيد بن عمير . قال الضحاك : نزلت في عباس بن أبي ربيعة أسلم وكان أخا أبي جهل لأمه أخذه وعذبه على إسلامه حتى تلفظ بكلمة الشرك مكرهاً .
الخامس : نزلت في قوم أسلموا قبل فرض الجهاد والزكاة فلما فرضا شق عليهم فنزل ذلك فيهم ، حكاه ابن أبي حاتم .
وفي قوله : { . . . وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وجهان :
أحدهما : لا يسألون ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يختبرون في أموالهم وأنفسهم بالصبر على أوامر الله وعن نواهيه .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بما افترضه عليهم .
الثاني : بما ابتلاهم به .
{ فََيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ } فيه وجهان
: أحدهما : فليظهرن الله لرسوله صدق الصادق ، قاله ابن شجرة .
الثاني : فليميزن الله الذين صدقوا من الكاذبين ، قاله النقاش وذكر أن هذه الآية نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أول قتيل من المسلمين يوم بدر قتله عامر ابن الحضرمي ، ويقال إنه أول من يدعى إلى الجنة من شهداء المسلمين وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر « سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهجع
» . قوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } قال قتادة : الشرك وزعم أنهم اليهود .
{ أَن يَسْبِقُونَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن يسبقوا ما كتبنا عليهم في محتوم القضاء .
الثاني : أن يعجزونا حتى لا نقدر عليهم ، وهو معنى قول مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن يفوتونا حتى لا ندركهم .
{ سَآءَ مَا يَحْكُُمُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : ساء ما يظنون ، قاله ابن شجرة .
الثاني : ساء ما يقضون لأنفسهم على أعدائهم ، قاله النقاش .
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

قوله : { مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ اللَّهِ } فيه وجهان
: أحدهما : من كان يخشى لقاء الله ، قاله ابن جبير والسدي .
الثاني : من كان يؤمل .
وفي { لِقَآءَ اللَّهِ } وجهان :
أحدهما : ثواب الله ، قاله ابن جبير .
الثاني : البعث إليه ، قاله يحيى بن سلام .
{ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ } يعني الجزاء في القيامة فاستعدوا له
. { وَهُوَ السَّمِيعُ } لمقالتكم
. { الْعَلِيمُ } بمعتقدكم .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } فيه وجهان
: أحدهما : معناه ألزمناه أن يفعل بهما برّاً ، قاله السدي .
الثاني : أن ما وصيناه به من برهما حسناً .
{ وَإِن جَاهَدَاكَ } أي ألزماك
. { لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وفيه وجهان
: أحدهما : ما ليس لك به حجة لأن الحجة طريق العلم .
الثاني : أن تجعل لي شريكاً لأنه ليس لأحد بذلك من علم .
{ فَلاَ تُطِعْهُمَا } فأمر بطاعة الوالدين في الواجبات حتماً وفي المباحات ندباً ونهى عن طاعتهما في المحظورات جزماً ، وقد جاء في الأثر . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } يعني في القيامة
. { فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني في الدنيا من خير يستحق به الثواب وشر يستوجب به عقاب .
واختلفواْ في سبب نزولها وإن عم حكمها على قولين :
أحدهما : نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد حلفت أمّه عليه وأقسمت ألا تأكل طعاماً حتى يرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم . قاله مصعب وسعد وقتادة .
الثاني : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

قوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاَ مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : أنهم أعوان الظلمة .
الثاني : أنهم أصحاب البدع إذا أُتبِعوا عليها .
الثالث : أنهم محدِثو السنن الجائرة إذا عمل بها من بعدهم .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أَوَّلُ نَبِيٍ أُرْسِلَ نُوْحٌ » قال قتادة : وبعث من الجزيرة .
{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن هذا مبلغ عمره كله . قال قتادة : لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين سنة .
فإن قيل فلم قال { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } ولم يقل تسعمائة وخمسين عاماً فعنه جوابان :
أحدهما : أن المقصود به تكثير العدد فكان ذكر الألف أفخم في اللفظ وأكثر في العدد .
الثاني : ما روي أنه أعطي من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده فلما حضرته الوفاة راجع في استكمال الألف فذكر الله ذلك تنبيهاً على أن النقيصة كانت من جهته ، فهذا قول .
والقول الثاني : أنه بعث لأربعين سنة من عمره ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين عاماً فكان مبلغ عمره ألف سنة وخمسين سنة ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد ذلك سبعين سنة فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين سنة ، قاله كعب الأحبار .
والقول الرابع : أنه بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ولبث في قومه داعياً ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين عاماً فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة . قاله عون بن أبي شداد .
{ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الطوفان المطر ، قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة والسدي .
الثاني : أن الطوفان الغرق ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه الموت ، روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قول الشاعر :
أفناهم طوفان موت جارفٍ ... وقيل إن الطوفان كلُّ عامّ من الأذى . وحكى إسماعيل بن عبد الله أن الطوفان كان في نيسان .

=============

ج10. ج10.كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

قوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : يعذب من يشاء بالانقطاع إلى الدنيا ، ويرحم من يشاء بالإعراض عنها .
الثاني : يعذب من يشاء بالحرص ، ويرحم من يشاء بالقناعة .
الثالث : يعذب من يشاء بسوء الخلق ، ويرحم من يشاء بحسن الخلق .
الرابع : يعذب من يشاء ببغض الناس له ، ويرحم من يشاء بحبهم له .
الخامس : يعذب من يشاء بمتابعة البدعة ، ويرحم من يشاء بملازمة السنة .


فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

قوله تعالى : { فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } قال ابن إسحاق : آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخيه وآمنت به سارة وكانت بنت عمه .
{ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } يعني مهاجر عن الظالمين
. وفيما هاجر إليه قولان :
أحدهما : أنه هاجر إلى حرّان ، قاله كعب الأحبار .
الثاني : أنه هاجر من كوثي وهو من سواد الكوفة إلى أرض الشام ، قاله قتادة .
قوله تعالى : { وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } فيه ستة أقاويل :
أحدها : الذكر الحسن ، قاله ابن عباس .
الثاني : رضا أهل الأديان ، قاله قتادة .
الثالث : النية الصالحة التي اكتسب بها الأجر في الآخرة ، قاله الحسن .
الرابع : لسان صدق ، قاله عكرمة .
الخامس : ما أوتي في الدنيا من الأجر ، رواه ابن برزة .
السادس : الولد الصالح ، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي حتى أن أكثر الأنبياء من ولده .
ويحتمل سابعاً : أنه بقاء الصلاة عند قبره وليس ذلك لغيره من الأنبياء .


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

قوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } أي تنكحون الرجال
. { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه قطع الطريق على المسافر ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم بإتيان الفاحشة من الرجال قطعوا الناس عن الأسفار حذراً من فعلهم الخبيث ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : أنه قطع النسل للعدول عن النساء إلى الرجال ، قال وهب : استغنواْ عن النساء بالرجال .
{ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيِكُمُ الْمُنكَرَ } أي في مجالسكم المنكر فيه أربعة أوجه
: أحدها : هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم ، قالته عائشة رضي الله عنها .
الثاني : أنهم كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه روته أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أنهم كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم ، رواه منصور عن مجاهد .
الرابع : هو الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسحاق وحل أزرار القيان في المجلس ، رواه الحاكم عن مجاهد .


وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } يعني آلهة من الأصنام والأوثان عبدوها .
{ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } يعني أنهم عبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً كبيت العنكبوت الذي لا يدفع شيئاً وهو من أبلغ الأمثال فيهم .
{ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } لأنه يستر الإبصار ولا يدفع الأيدي ، وقد حكي عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله .
وقال عطاء : نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود ، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وجمع العنكبوت عناكب وتصغيره عنيكب .


خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

قوله تعالى : { اتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني القرآن وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو ما أنزل منه على أمته .
{ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن عمر .
الثاني : أنه الصلاة المفروضة . قاله ابن عباس .
الثالث : أن الصلاة هنا هي الدعاء ومعناه قم بالدعاء إلى أمر الله ، قاله ابن بحر .
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ } الفحشاء الزنى والمنكر الشرك ، قاله ابن عباس .
ثم فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، قاله الكلبي وابن زيد وحماد بن أبي سليمان .
الثاني : تنهى عن الفحشاء والمنكر قبلها وبعدها روى طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن لَّمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْداً
» الثالث : إن ما تدعوهم إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قاله ابن زيد .
{ وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ولذكر الله أفضل من كل شيء ، قاله سلمان .
الثالث : ولذكر الله في الصلاة التي أنت فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر ، قاله عبد الله بن عون .
الرابع : ولذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة ، قاله أبو مالك .
الخامس : ولذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم .
السادس : أكبر من قيامكم بطاعته .
السابع : أكبر من أن يبقي على صاحبه عقاب الفحشاء والمنكر .


وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

قوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلأَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن { الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : الكف عنهم عند بذل الجزية منهم وقتالهم إن أبوا ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم إن قالوا شراً فقولوا لهم خيراً ، رواه ابن أبي نجيح .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : وهو أن يحتج لشريعة الإٍسلام ولا يذم ما تقدمها من الشرائع .
{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم أهل الحرب ، قاله مجاهد .
الثاني : من منع الجزية منهم ، رواه خصيف .
الثالث : ظلموا بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : ظلموا في جدالهم فأغلظوا لهم ، قاله ابن عيسى .
واختلف في نسخ ذلك على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة؛ قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة .
{ وَقُولُواْ ءَآمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلِيْكُمْ } الآية ، فروى سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأُون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية لأهل الإٍسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لاَ تُصَدِّقُواْ أَهْلَ الكِتابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُم { وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } إلى قوله { مُسْلِمُونَ } » أي مخلصون وفيه قولان :
أحدهما : أنه يقوله لأهل الكتاب ، قاله مجاهد .
الثاني : يقوله لمن آمن ، قاله السدي .


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } فيه قولان
: أحدهما : معناه { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن } قبل القرآن كتاباً من كتب الله المنزلة ولا تخطه أي تكتبه بيمينك فتعلم ما أنزل الله فيه حتى يشكوا في إخبارك عنه إنه من وحي الله سبحانه إليك وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أنه كان أهل الكتاب يجدونه في كتبهم أن محمداً لا يخط بيمينه ولا يقرأ كتاباً فنزل ذلك فيهم ليدلهم على صحة نبوته ، وهو معنى قول مجاهد .
{ إِذَاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم مشركو قريش ، قاله مجاهد .
الثاني : مشركو العرب أن يقولوا لو كان يقرأ قد تعلمه من غيره ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم المكذبون من اليهود ، قاله السدي .
قوله تعالى : { بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه النبي صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً لا يكتب ولا يقرأ { ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } من أهل الكتاب لأنه منعوت في كتبهم بهذه الصفة ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه القرآن { ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به ، قاله الحسن .
قال الحسن : أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرأُون كتابهم إلا نظراً فإذا طبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيين .
وقال كعب في صفة هذه الأمة : إنهم حلماء علماء كأنهم في الفقه أنبياء .
{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ } قال ابن عباس : المشركون
.


وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِّن رَّبِهِ } وفيه قولان
: أحدهما : أنهم كانواْ يسألونه آيات يقترحونها عليه كما كان يفعله مشركو قريش أن يجعل الصفا ذهباً وأن يجري بمكة نهراً .
الثاني : أنهم سألوه مثل آيات الأنبياء قبله كما جاء صالح بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى .
{ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } أي أن الله هو الذي يعطي ما يشاء من الآيات لمن يشاء من الأنبياء بحسب ما يرى من المصلحة ولذلك لم تتفق آيات الأنبياء كلها وإنما جاء كل نبي بنوع منها .
{ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم مندوب للإنذار والبيان لا لما يقترح عليه من الآيات وإنما يلزم أن يأتي بما يشهد بصدقه من المعجزات وقد فعل الله ذلك فأجابهم به فقال .
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } يعني القرآن يتلى عليهم وفيه وجهان :
أحدهما : أولم يكفهم من الآيات التي سألوها أنا أنزلنا عليك الكتاب آية لك ودليلاً على صدقك لما فيه من الإعجاز في نظمه وصدق خبره وصحة وعده؟
الثاني : أنه محمول على ما رواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب في كتف فقال : كفى بقوم حمقاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكَتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يعني استنقاذهم من الضلال ، وبالذكرى إرشادهم إلى الحق .
{ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يريدون الإيمان ولا يقصدون العناد
. قوله تعالى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شِهِيداً } يعني شهيداً بالصدق والإبلاغ ، وعليكم بالتكذيب والعناد .
{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } وهذا احتجاج عليهم في صحة شهادته عليهم لأنهم قد أقرواْ بعلمه فلزمهم أن يقرواْ بشهادته .
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْبَاطِلِ } فيه وجهان
: أحدهما : بإبليس ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : بعبادة الأَوثان والأصنام ، قاله ابن شجرة .
{ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : لتكذيبهم برسله وجحدهم لكتبه .
الثاني : بما أشركوه معه من الآلهة وأضافوه إليه من الأولاد والأنداد .
{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : خسروا أنفسهم بإهلاكها ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : خسروا في الآخرة نعيم الجنة بعذاب النار ، قاله يحيى بن سلام .


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

قوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن استعجالهم له شدة عنادهم لنبيه .
الثاني : أنه استهزاؤهم بقولهم : { إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِن عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية .
{ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه يوم القيامة ، قاله ابن جبير .
الثاني : أجل الحياة إلى حين الموت وأجل الموت إلى حين البعث إليه بين أجلين من الله ، قاله قتادة .
الثالث : أنه النفخة الأولى ، قاله يحيى بن سلام .
{ لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ } يعني الذي استعجلوه
. { وَلَيِأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي فجأة
. { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } لا يعلمون بنزوله بهم
. روى نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رَفَعَ أَْكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ تَصِلُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
» .


يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

قوله تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَآمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أي جانبوا أهل المعاصي بالخروج من أرضهم ، قاله ابن جبير وعطاء .
الثاني : اطلبوا أولياء الله إذا ظهروا بالخروج إليهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : جاهدوا أعداء الله بالقتال لهم ، قاله مجاهد .
الرابع : إن رحمتي واسعة لكم ، قاله مطرف بن عبد الله .
الخامس : إن رزقي واسع لكم ، وهو مروي عن مطرف أيضاً .
{ فَإِيَّايَ فَاعْبدُونِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فارهبون ، قاله بلال بن سعد .
الثاني : فاعبدون بالهجرة إلى المدينة ، قاله السدي .
الثالث : فاعبدون بألا تطيعوا أحداً في معصيتي ، قاله علي بن عيسى .
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } وفيه وجهان :
أحدهما : يعني أن كل حي ميت .
الثاني : أنها تجد كربه وشدته ، وفي إعلامهم بذلك وإن كانوا يعلمونه وجهان :
أحدهما : إرهاباً بالموت ليقلعوا عن المعاصي .
الثاني : ليعلمهم أن أنبياء الله وإن اختصوا بكرامته وتفردوا برسالته فحلول الموت بهم كحلوله بغيرهم حتى لا يضلوا بموت من مات منهم ، وروى جعفر الصادق عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال لما توّفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمُوتِ } ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخَلَفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت؛ فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حُرِمَ الثواب .
{ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } يريد البعث في القيامة بعد الموت في الدنيا . قوله تعالى : { . . . لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً } قرأ حمزة والكسائي { لَنُثَوِّيَنَّهُم } بالثاء من الثواء وهو طول المقام وقرأ الباقون بالباء { لَنُبَوِّئَنَّهُم } معناه لنسكننهم أعالي البيوت . وإنما خصهم بالغرف لأمرين :
أحدهما : أن الغرف لا تستقر إلا فوق البيوت فصار فيها جمع بين أمرين .
الثاني : لأنها أنزه من البيوت لإشرافها وألذ سكنى منها لرياحها وجفافها .
وقد روى أبو مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِن بَاطِنِها ، وَبَاطِنُها مِن ظَاهِرِهَا ، أَعدَّهَا اللَّهُ لِمَن أَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَطَابَ الكَلاَمَ وَتَابَعَ الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَقَامَ باللِّيلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ
» . قوله : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : معناه تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاً ، قاله مجاهد .
الثاني : تأكل لوقتها ولا تدخر لغدها ، قاله الحسن .
الثالث : يأتيها من غير طلب .
الرابع : أنه النبي صلى الله عليه وسلم يكل ولا يدخر ، حكاه النقاش .
قال ابن عباس : الدواب هو كل ما دب من الحيوان . وكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر .
{ اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي يسوي بين الحريص المتوكل في رزقه وبين الراغب القانع وبين الجلود والعاجز حتى لا يغتر الجلْد أنه رزق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية لما أُذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأمر المسلمين بها خافوا الضيعة والجوع فقال قوم نهاجر إلى بلد ليس فيها معاش فنزلت هذه الآية فهاجرواْ .


وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

قوله تعالى : { إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } قال الضحاك : الحياة الدائمة وقال أبو عبيدة : الحيوان والحياة واحد .


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءَآمِناً } قال عبد الرحمن بن زيد : هي مكة وهم قريش أمنهم الله بها .
{ وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } قال الضحاك : يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً فأذكرهم الله بهذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة .
{ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أفبالشرك ، قاله قتادة .
الثاني : بإبليس ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بعافية الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : بعطاء الله وإحسانه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : بإطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، حكاه النقاش ، وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } بأن جعل لله شريكاً أو ولداً .
{ أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : بالتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن شجرة .
{ مَثْوًى . . . } أي مستقراً
. قوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : قاتلوا المشركين طائعين لنا .
الثاني : جاهدوا أنفسهم في هواها خوفاً منا .
الثالث : اجتهدوا في العمل بالطاعة والكف عن المعصية رغبة في ثوابنا وحذراً من عقابنا .
الرابع : جاهدوا أنفسهم في التوبة من ذنوبهم .
{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يعني الطريق إلى الجنة ، قاله السدي .
الثاني : نوفقهم لدين الحق ، حكاه النقاش .
الثالث : معناه الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون ، قاله عباس أبو أحمد .
الرابع : معناه لنخلصنّ نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم ، قاله يوسف بن أسباط .
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } أي في العون لهم ، الله أعلم .


الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

قوله تعالى : { الم . غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ } الآية . روى ابن جبير عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان .
قال ابن شهاب : فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب ، وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب .
وقيل : إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين الآيتين فلما قال :
{ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيْغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } سر بذلك المسلمون وبادر أبو بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب الفرس . قال قتادة : فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك ، وذلك قبل تحريم القمار مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس ، قاله السدي .
الثاني : خمس سنين ، قاله قتادة .
الثالث : سبع سنين ، قاله الفراء .
وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين :
أحدهما : أنه أبو سفيان بن حرب ، قاله السدي .
الثاني : أنه أُبي بن خلف ، قاله قتادة . وحكىلنقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلِق به أبي بن خلف وقال : اعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن .
واختلف في قدر العوض المبذول على قولين :
أحدهما : أربع قلائص ، قاله عامر .
الثاني : خمس قلائص ، قاله قتادة .
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال : « مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ؟ » قال : ثقة بالله وبرسوله ، قال : « فَكَم البِضْعُ » قال : ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « زِدْهُم فِي الخَطَرِ فِي وَزِدْ الأَجَلِ » فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستاً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني ، وصار الأجل خمساً على القول الأول ، وسبعاً على الثاني : وتسعاً على الثالث .
واختلف في الاستزاده والزيادة على قولين :
أحدهما : أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة ، قاله عامر .
الثاني : أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول ، قاله ابن شهاب ، فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقاً لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل .
واختلف في السنة التي غلبت الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه ، قاله أبو سعيد ، قال : فكان يوم بدر .

الثاني : أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين ، وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين ، ولعله قول عكرمة .
الثالث : عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسملين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية ، قاله عبيد الله بن عبد الله .
فأما قوله تعالى : { فِي أَدْنَى الأَرْضِ } ففيه قولان :
أحدهما : في أدنى أرض فارس؛ حكاه النقاش .
الثاني : في أدنى أرض الروم ، وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل :
أحدها : أطراف الشام ، قاله ابن عباس .
الثاني : الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس ، قاله مجاهد .
الثالث : الأردن وفلسطين ، قاله السدي .
الرابع : أذرعات الشام وكانت بها الوقعة ، قاله يحيى بن سلام .
وقرأ أبو عمرو وحده : { غَلَبَتِ } بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت؟ فقال : في أدنى ريف الشام .
قوله تعالى : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } وهو ما بين الثلاث إلى العشر وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع .
وأما النيف ففيه قولان :
أحدهما : ما بين الواحد والتسعة ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما بين الواحد والثلاثة ، وهو قول الجمهور .
{ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فيه وجهان
: أحدهما : من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت .
الثاني : من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس .
{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب .
الثاني : يعني به نصر الروم على فارس .
وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : تصديق خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لأنهم أهل كتاب مثلهم .
الثالث : لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين .
{ بِنَصْرِ اللَّهِ } يعني من أوليائه لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصر وإنما هو ابتلاء .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في نقمته { الرَّحِيمُ } لأهل طاعته
. قوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة . وقال الضحاك : هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها فهذا ظاهر الحياة الدنيا .
الثاني : يعلمون ما ألقته الشياطين لهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أن ظاهر الحياة الدنيا العمل لها ، وباطنها عمل الآخرة .
{ وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عما أعده الله في الآخرة من ثواب عن طاعته وعقاب على معصيته .
الثاني : عما أمرهم الله به من طاعة وألزمهم إياه .


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : بالعدل .
الثاني : بالحكمة .
الثالث : إلا ما استحق عليهم الطاعة والشكر .
والرابع : قاله الفراء ، معناه إلا للحق يعني الثواب والعقاب .
{ وَأَجَلِ مُّسَمًّى } فيه وجهان
: أحدهما : قيام الساعة ، قاله ابن عباس .
الثاني : وهو محتمل أنه أجل كل مخلوق على ما قدر له .
فدل ذل على أمرين :
أحدهما : دل به على الفناء وعلى أن لكل مخلوق أجلاً .
الثاني : نبه على ثواب المحسن وعقاب المسيء .
قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أَسَآءُواْ } قال ابن عباس : كفرواْ .
{ السُّوأَى } فيه وجهان
: أحدهما : جهنم ، قاله السدي .
الثاني : العذاب في الدنيا والآخرة ، قاله الحسن .
وفي الفرق بين الإساءة والسوء وجهان :
أحدهما : أن الإساءة إنفاق العمر في الباطل ، والسوء إنفاق رزقه في المعاصي .
الثاني : أن الإِساءَة فعل المسيء والسوء الفعل مما يسوء .
{ أَن كَذَّبُواْ } لأن كذبواْ
. { بِئَايَاتِ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : بالعذاب أن ينزل بهم ، قاله مقاتل .
الثالث : بمعجزات الرسل ، قاله الضحاك .
{ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ } أي بالآيات .


اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

قوله تعالى : { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } فيه ستة أوجه
: أحدها : أنه الفضيحة ، قاله مجاهد .
الثاني : الاكتئاب ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : الإياس ، قاله ابن عباس .
الرابع : الهلاك ، قاله السدي .
الخامس : الندامة ، قاله ابن قتيبة .
السادس : الحيرة ، قال العجاج :
يا صاح هل تعرف رسْماً مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسَا
قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : في الجزاء بالثواب والعقاب .
الثاني : في المكان بالجنة والنار .
قوله تعالى : { . . . فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يَحْبَرُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يمكرون ، قاله ابن عباس .
الثاني : ينعمون ، قاله مجاهد وقتادة .
الثالث : يتلذذون بالسماع والغناء ، قاله يحيى بن أبي كثير .
الرابع : يفرحون ، قاله السدي . والحبرة عند العرب السرور والفرح قال العجاج :
فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحي إن المولى يَسَر
فأما الروضة فهي البستان المتناهي منظراً وطيباً ولم يكن عند العرب أحسن منظراً ولا أطيب منها ريحاً قال الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل
قوله تعالى : { فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : مدخلون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نازلون ومنه قوله : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ } [ البقرة : 180 ] و [ المائدة : 106 ] أي نزل به .
الثالث : مقيمون ، قاله ابن شجرة .
الرابع : معذبون .
الخامس : مجموعون ، ومعاني هذه التأويلات متقاربة .


فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

قوله : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان :
أحدهما : لما تضمنتها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود .
الثاني : مأخوذ من السبحة ، والسبحة الصلاة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « تَكُونُ لَكُم سَبْحَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ » أي صلاة .
وقوله : { حِينَ تُمْسُونَ } أي صلاة المغرب والعشاء ، قاله ابن عباس وابن جبير والضحاك . { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } صلاة الصبح في قولهم أيضاً .
{ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان
: أحدهما : الحمد لله على نعمه وآلائه .
الثاني : الصلاة لاختصاصها بقراءة الحمد في الفاتحة .
{ وَعَشِّياً } يعني صلاة العصر
. { وَحِينَ تَظْهِرُونَ } يعني صلاة الظهر وإنما خص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن الإنسان في النهار متقلب في أحوال توجب حمد الله عليها ، وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار ، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل .
والفرق بين المساء والعشي أن المساء بدو الظلام بعد المغيب ، والعشي آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس ، فجاءت هذه الآية جامعة لأوقات الصلوات الخمس ، وقد روى سفيان عن عاصم أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس : هل تجد في كتاب الله الصلوات الخمس؟ فقرأ هذه الآية .
قال يحيى ابن سلام : كل صلاة ذكرت في كتاب الله قبل الليلة التي أسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فليست من الصلوات الخمس لأنها فرضت في الليلة التي أسري به فيها وذلك قبل الهجرة بسنة ، قال : وهذه الآية نزلت بعد ليلة الإسراء وقبل الهجرة .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي ، قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وابن جبير .
الثاني : يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والزهري ، ورواه الأسود بن عبد يغوث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : يخرج الدجاجة من البيضة ويخرج البيضة من الدجاج ، قاله عكرمة .
الرابع : يخرج النخلة من النواة ويخرج النواة من النخلة؛ والسنبلة من الحبة والحبة من السنبلة ، قاله ابن مالك والسدي .
ويحتمل خامساً : يخرج الفطن اللبيب من العاجز البليد ويخرج العاجز البليد من الفطن اللبيب .
{ وَيُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } يعني بالنبات لأنه حياة أهلها فصار حياة لها
. ويحتمل ثانياً : أنه كثرة أهلها لأنهم يحيون مواتها ويعمرون خرابها .
{ وَكَذِلِكَ تُخْرَجُونَ } أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات وأحيا الموتى كذلك يحييكم بالبعث . وفي هذا دليل على صحة القياس .


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قوله تعالى : { وَمِنَ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } فيه قولان
: أحدهما : حواء خلقها من ضلع آدم ، قاله قتادة .
الثاني : أن خلق سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال والنساء ، قاله علي بن عيسى .
{ لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } لتأنسوا إليها لأنه جعل بين الزوجين [ من ] الأنسية ما لم يجعله بين غيرهما .
{ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } فيه أربعة
: أحدها : أن المودة المحبة والرحمة والشفقة ، قاله السدي .
الثاني : أن المودة الجماع والرحمة الولد ، قاله الحسن .
الثالث : أن المودة حب الكبير والرحمة الحنو على الصغير ، قاله الكلبي .
الرابع : أنهما التراحم بين الزوجين ، قاله مقاتل .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : يتفكرون في أن لهم خالقاً معبوداً .
الثاني : يتفكرون في البعث بعد الموت .


وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان
: أحدهما : لما فيهما من الآيات والعبر .
الثاني : لإعجاز الخلق عن إحداث مثلهما .
{ وَاخْتلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : اختلاف ألسنتكم بالكلام ، فللعرب كلام وللفرس كلام وللروم كلام . وألوانكم أبيض وأسود وأحمر ، قاله السدي ، وحكى وهب بن منبه في المبتدأ أن جميع الألسنة اثنان وسبعون لساناً منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً ، وفي ولد حام سبعة عشر لساناً ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون لساناً .
والوجه الثاني : اختلاف ألسنتكم : النغمة والصوت حتى لا يشتبه صوتان من أخوين لأم وأب ، وألوانكم : الصورة حتى لا يشتبه الناس في المعارف والمناكح والحقوق .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } قال ابن عيسى : الجن والإنس . وروى حفص عن عاصم { للعالمين } بكسر اللام يعني جميع العلماء .
قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الليل والنهار معاً وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل ، لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلاً وينام نهاراً .
الثاني : أن الليل وقت النوم والنهار وقت لابتغاء الفضل ، ويكون تقدير الكلام : ومن آياته منامكم بالليل ، وابتغاؤكم من فضله بالنهار .
وفي ابتغاء الفضل وجهان :
أحدهما : التجارة ، قاله مجاهد .
الثاني : التصرف والعمل . فجعل النوم في الليل دليلاً على الموت ، والتصرف في النهار دليلاً على البعث .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } فيه ثلاث أوجه
: أحدها : يسمعون الحق فيتبعونه .
الثاني : يسمعون الوعظ فيخافونه .
الثالث : يسمعون القرآن فيصدقونه .


وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

قوله تعالى : { وَمِن ءَايَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم ، قاله قتادة .
الثاني : خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث ، قاله الضحاك .
الثالث : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع ، حكاه يحيى بن سلام .
الرابع : خوفاً أن يكون البرق برقاً خُلّباً لا يمطر وطمعاً أن يكون ممطراً ، ذكره ابن بحر ، وأنشد قول الشاعر :
لا يكن برقك برقاً خُلّباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
والعرب يقولون : إذا توالت أربعون برقة مطرت وقد أشار المتنبي إلى ذلك بقوله :
فقد أرد المياه بغير زادٍ ... سوى عَدّي لها بَرْق الغمام
قوله تعالى : { وَمِنْ ءَآيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن تكون .
الثاني : أن تثبت .
{ بِأَمْرِهِ } فيه وجهان
: أحدهما : بتدبيره وحكمته .
الثاني : بإذنه لها أن تقوم بغير عمد .
{ ثُمَّ إِذا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنْ الأَرْضِ } أي وأنتم موتى في قبوركم
. { إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي من قبوركم مبعوثين إلى القيامة . قال قتادة : دعاهم من السماء فخرجوا من الأرض .
ثم فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه أخرجهم بما هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة قوله كن فيكون ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنهم أخرجهم بدعاء دعاهم به ، قاله قتادة .
الثالث : أنه أخرجهم بالنفخة الثانية وجعلها دعاء لهم . ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام .


وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله : { . . . كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : مطيعون ، قاله مجاهد . روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة .
الثاني : مصلون ، قاله ابن عباس .
الثالث : مقرون بالعبودية ، قاله عكرمة وأبو مالك والسدي .
الرابع : كل له قائم يوم القيامة ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : كل له قائم بالشهادة أنه عبد له ، قاله الحسن .
السادس : أنه المخلص ، قاله ابن جبير .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته ، وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلاً على ما خفي من إعادته استدلالاً بالشاهد على الغائب .
ثم أكد ذلك بقوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن إعادة الخلق أهون من ابتداء إنشائهم لأنهم ينقلون في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم يعود رضيعاً ثم فطيماً ، وهو في الإعادة يصاح به .
فيقوم سوياً وهذا مروي عن ابن عباس .
الثالث : معناه وهو هين عليه فجعل { أهْونُ } مكان { هَيِّنٌ } كقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي دعائمه عزيرة طويلة
: وفي تأويل { أَهْوَنُ } وجهان :
أحدهما : أيسر ، قاله ابن عباس .
الثاني : أسهل ، وأنشد ابن شجرة قول الشاعر :
وهان على أسماءَ أن شطت النوى ... يحن إليها والهٌ ويتوق
أي هي أسهل عليه ، وقال الربيع بن هيثم في قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قال : ما شيء على الله بعزيز .
{ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى } أي الصفة العليا . وفيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه ليس كمثله شيء ، قاله ابن عباس .
الثاني : هو شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله قتادة .
الثالث : أنه يحيي ويميت ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : -هو أعلم- أنه جميع ما يختص به من الصفات التي لا يشاركه المخلوق فيها .
{ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } أي لا إله فيها غيره
. { وَهُوَ الْعَزِيزُ } فيه وجهان
: أحدهما : المنيع في قدرته .
الثاني : في انتقامه .
{ الْحَكِيمُ } فيه وجهان
: أحدهما : في تدبيره لأمره وهو معنى قول أبي العالية .
الثاني : في إعذاره وحجته إلى عباده ، قاله جعفر بن الزبير .


ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } اختلف في سبب ضرب الله لهم المثل على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأن المشركين أشركوا به في العبادة غيره ، قاله قتادة .
الثاني : لأنه كانت تلبية قريش في الجاهلية : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً وهو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله ابن جبير .
الثالث : لأنهم كانوا لا يورثون مواليهم فضرب الله هذا المثل ، قاله السدي .
وتأويله : أنه لم يشارككم عبيدكم في أموالكم لأنكم مالكون لهم ، فالله أوْلى ألا يشاركه أحد من خلقه في العبادة لأنه مالكهم وخالقهم .
{ تَخَافُونَهُم كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : تخافون أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون ذلك من شركائكم ، قاله أبو مجلز .
الثاني : تخافون أن يرثوكم كما تخافون ورثتكم ، قاله السدي .
الثالث : تخافون لائمتهم كما تخافون بعضكم بعضاً ، قاله يحيى بن سلام .


فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قصدك .
الثاني : دينك ، قاله الضحاك .
الثالث : عملك ، قاله الكلبي .
{ لِلدِّينِ حَنِيفاً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : مسلماً ، وهذا قول الضحاك .
والثاني : مخلصاً ، وهذا قول خصيف .
الثالث : متبعاً ، قاله مجاهد .
الرابع : مستقيماً ، قاله محمد بن كعب .
الخامس : حاجّاً ، قاله ابن عباس .
السادس : مؤمناً بالرسل كلهم ، قاله أبو قلابة .
{ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } فيها تأويلان
: أحدهما : صنعة الله التي خلق الناس عليها ، قاله الطبري .
الثاني : دين الله الذي فطر خلقه عليه ، قاله ابن عباس والضحاك والكلبي يريد به الإسلام وقد روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مِن فِطْرةِ إِبْرَاهِيمَ السُّوَاكُ » ومن قول كعب بن مالك :
إن تقتولنا فدين الله فطرتنا ... والقتل في الحق عند الله تفضيل
{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : لا تبديل لدين الله ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : لا تغيير لخلق الله من البهائم أن يخصي فحولها ، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعكرمة .
الثالث : لا تبديل خالق غير الله فيخلق كخلق الله ، لأنه خالق يخلق ، وغيره مخلوق لا يخلق ، وهو معنى قول ابن بحر .
ويحتمل رابعاً ، لا يشقى من خلقه سعيداً ولا يسعد من خلقه شقيّاً .
{ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } فيه تأويلان
: أحدهما : ذلك الحساب البين ، قاله مقاتل بن حيان .
الثاني : ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً وإلهاً قديماً :
قوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مقبلين إليه ، قاله يحيى بن سلام والفراء .
الثاني : داعين إليه ، قاله عبيد بن يعلى .
الثالث : مطيعين له ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الرابع : تائبين إليه من الذنوب ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا
وفي أصل الإنابة قولان
: أحدهما : أن أصله القطع ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة .
الثاني : أن أصله الرجوع مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد مرة ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة .
قوله تعالى : { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } أي أوقعوا فيه الاختلاف حتى صاروا فرقاً وقرىء { فَارَقُواْ دِينَهُم } أي تركوه وقد قرأ بذلك علي رضي الله عنه وهي قراءة حمزة والكسائي وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله معمر .
الثالث : أنهم الخوارج من هذه الأمة ، وهذا قول أبي هريرة ورواه أبو أمامة مرفوعاً .
الرابع : أنهم أصحاب الأهواء والبدع ، روته عائشة مرفوعاً .
{ وَكَانُواْ شِيَعاً } فيه وجهان
: أحدهما : فرقاً ، قاله الكلبي .
الثاني : أدياناً ، قاله مقاتل .
ويحتمل ثالثاً : أنهم أنصار الأنبياء وأتباعهم .
{ كُلُّ حِزْبٍ } أي فرقة
. { بِمَا لَدَيْهِمْ فِرِحُونَ } أي بما عندهم من الضلالة
. { فَرِحُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : مسرورون ، قاله الجمهور .
الثاني : معجبون ، قاله ابن زيد .
الثالث : متمسكون ، قاله مجاهد .


وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

قوله : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يعني كتاباً ، قاله الضحاك .
الثاني : عذراً ، قاله قتادة .
الثالث : برهاناً ، وهو معنى قول السدي وعطاء .
الرابع : رسولاً ، حكاه ابن عيسى محتملاً .
{ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : معناه يخبر به .
الثاني : يحتج له .
قوله : { وَإِذَآ أَذَقْنا النَّاسَ رَحْمَةً } فيها وجهان :
أحدهما : أنها العافية والسعة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : النعمة والمطر ، حكاه النقاش .
ويحتمل أنها الأمن والدعة .
{ فَرِحُواْ بِهَا } أي بالرحمة
. { وَإِن تُصِبْهُمْ سِيِّئَةً } فيها وجهان
: أحدهما : بلاء وعقوبة ، قاله مجاهد .
الثاني : قحط المطر ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : أنها الخوف والحذر .
{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي بذنوبهم
. { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : أن القنوط اليأس من الرحمة والفرج ، قاله الجمهور .
الثاني : أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر ، قاله الحسن .


فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

قوله : { فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } فيهم وجهان
: أحدهما : أنهم قرابة الرجل ، أن يصل رحمهم بماله ونفسه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنهم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب يعطون حقهم من الغنيمة والفيء ، قاله السدي .
{ وَالْمِسْكِينَ } هو الذي لا يجد كفايته
. { وَابْنَ السَّبِيلِ } فيه قولان
: أحدهما : المسافر ، قاله مجاهد فإن كان محتاجاً فحقه في الزكاة وإن كان غير محتاج فبرّاً وصلة .
الثاني : أنه الضيف الذي ينزل بك ، قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة ، فإن أطعمه كان برّاً وصلة ولم يجز أن يكون من الزكاة محتاجاً كان أو غير محتاج . وإن دفعت إليه مالاً جاز إذا كان فقيراً أن يكون من الزكاة ، ولم يجز إن كان غنيّاً .
قوله : { وَمَاءَ آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الرجل يهدي هدية ليكافأ عليها أفضل منها ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنه في رجل صحبه في الطريق فخدمه فجعل له المخدوم بعض الربح من ماله جزاء لخدمته لا لوجه الله ، قاله الشعبي .
الثالث : أنه في رجل يهب لذي قرابة له مالاً ليصير به غنيّاً ذا مال ولا يفعله طلباً لثواب الله ، قاله إبراهيم .
ومعنى قوله : { فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ } أي فلا يكون له ثواب عند الله .
قال ابن عباس : هما رِبَوان أحدهما حلال والآخر حرام ، فما تعاطيتم بينكم حلال ولا يصل إلى الله .
{ وَمَا ءَآتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } أي ثواب الله ، وفيها قولان
: أحدهما : أنها الزكاة المفروضة وهو الظاهر .
الثاني : أنها الصدقة ، قاله ابن عباس والسدي .
{ فَأُوْلَئِكَ الْمُضْعِفُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : تضاعف لهم الحسنات لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، قاله السدي .
الثاني : تضاعف أموالهم في الدنيا بالزيادة فيها ، وقال الكلبي : لم يقل مال رجل من زكاة .


ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)

قوله : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } في { الفَسَادِ } أربعة أقاويل
: أحدها : الشرك ، قاله السدي .
الثاني : ارتكاب المعاصي ، قاله أبو العالية .
الثالث : قحط المطر ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : فساد البر : قتل ابن آدم أخاه ، وفساد البحر : أخذ السفينة غصباً .
ويحتمل خامساً : أن ظهور الفساد ولاة السوء .
{ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } هنا أربعة أقاويل
: أحدها : أن البر الفيافي والبحر القرى ، قاله عكرمة ، وقال : إن العرب تسمي الأمصار البحار .
الثاني : البر أهل العمود والبحر أهل القرى والريف ، قاله قتادة .
الثالث : أن البر بادية الأعراب ، قاله الضحاك والبحر الجزائر؛ قاله عطاء .
الرابع : أن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر ، والبحر ما كان على شط نهر ، قاله ابن عباس .
وللمتعمقين في غوامض المعاني وجهان :
أحدهما : أن البر النفس والبحر القلب .
الثاني : أن البر اللسان والبحر القلب . لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب . وهو بعيد .
{ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } قال السدي : بما عملواْ من المعاصي واكتسبوا من الخطايا .
{ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } من المعاصي جزاءً معجلاً في الدنيا وجزاءً مؤجلاً في الآخرة فصار عذاب الدنيا بعض الجزاء .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يرجعون عن المعاصي ، قاله أبو العالية .
الثاني : يرجعون إلى حق ، قاله إبراهيم .
الثالث : يرجع من بعدهم ، قاله الحسن .


فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } فيه وجهان
: أحدهما : أقم وجهك للتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة ، قاله ابن عيسى .
{ مِن قَبْلِ يَأَتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } يعني يوم القيامة
. { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } قال ابن عباس : معناه يتفرقون قال الشاعر
:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل له يتصدعا
أي لن يتفرقا
. ويحتمل وجهاً ثانياً : أنه ما يصدعهم يوم القيامة من أهوال .
وفيه قولان :
أحدهما : يتفرقون في عرصة القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير ، قاله قتادة .
الثاني : يتفرق المشركون وآلهتهم في النار ، قاله الكلبي .
قوله : { . . . فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : يسوون المضاجع في القبور ، قاله مجاهد .
الثاني : يوطئون في الدنيا بالقرآن وفي الآخرة بالعمل الصالح ، قاله يحيى بن سلام .


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

قوله : { وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } قال الضحاك : بالغيث
. ويحتمل وجهاً ثانياً : بخصب الزمان وصحة الأبدان .
وقال أُبي بن كعب : كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب .
وقال عبد الله بن عمر : الريح ثمانية ، أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب ، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر ، والعاصف والقاصف وهما في البحر .
{ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } فيه تأويلان
: أحدهما : بردها وطيبها ، قاله الضحاك .
الثاني : المطر ، قاله مجاهد وقتادة .
{ وَلِتَجْزِي الْفُلْكُ } يعني السفن
. { بِأمْرِهِ . . . } يحتمل وجهين
: أحدهما : بقدرته في تسييرها .
الثاني : برحمته لمن فيها .
{ . . . وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } يعني ما عدّده من نعمه فتطيعوه لأن طاعة العبد لربه في شكره لنعمته إذ ليس مع المعصية شكر ولا مع كفر النعمة طاعة .
قوله : { . . . وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : نصر الأنبياء بإجابة دعائهم على المكذبين لهم من قومهم ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نصر المؤمنين بإيجاب الذبّ عن أعراضهم ، روت أم الدرداء ، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَا مِنِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلاَّ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَن يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامِةِ » ثم تلا هذه الآية { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } .


اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

قوله : { . . . وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : قطعاً ، قاله قتادة .
الثاني : متراكماً بعضه على بعض ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : في سماء دون سماء ، قاله الضحاك .
{ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي من خلال السحاب . وقرأ الضحاك بن مزاحم : من خلله ، وفي { الْوَدْقَ } تأويلان :
أحدهما : أنه البرق ، حكاه أبو نخيلة الحماني عن أبيه .
الثاني : أنه المطر ، قاله مجاهد والضحاك ومنه قول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودْقُها ... ولا أرض أبقل إبقالها
قوله : { فَانظُرْ إِلَى ءَآثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ } يعني المطر
. { كَيْفَ يُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهآ } يعني بالماء حتى أنبتت شجراً ومرعى بعد أن كانت بالجدب مواتاً ، قال عكرمة : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة .
{ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى } لأن القادر على إحياء الأرض الموات قادر على إحياء الأموات استدلالاً بالشاهد على الغائب .
وتأول من تعمّق في غوامض المعاني آثار رحمة الله أنه مواعظ القرآن وحججه تحيي القلوب الغافلة .
قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } فيه قولان :
أحدهما : فرأوا السحاب مصفراً ، لأن السحاب إذا كان كذلك لم يمطر ، حكاه علي ابن عيسى وقيل إنها الريح الدبور لأنها لا تلقح .
الثاني : فرأوا الزرع مصفراً بعد اخضراره ، قاله ابن عباس وأبو عبيدة .
{ لَظَلُّواْ مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ومعنى ظل هو أنه أوقع الفعل في صدر النهار وهو الوقت الذي فيه الظل ، لأنه وقت مختص بأهم الأمور لتقديمه عن نّية من الليل . وكذلك قولهم أضحى يفعل ، لكن قد يعبر بقولهم ظل يفعل عن فعل أول النهار وآخره اتساعاً لكثرة استعماله ، وقلَّما يستعمل أضحى يفعل إلا في صدر النهار دون آخره .
ويحتمل { يَكْفُرُونَ } هنا وجهين :
أحدهما : يَشْكَونَ .
الثاني : يذمّون .


فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

قوله : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى } فيه قولان
: أحدهما : أن الموتى الكفار الذين يموتون على الكفر وهم الصم الذين تولوا عن الهدى فلم يسمعوه ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن هذا مثل ضربه الله للكافرين كما أن الميت إذا خوطب لم يسمع والأصم إذا دعي لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع الوعظ لأن الكفر قد أماته والضلال قد أصمه .
قوله : { وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْ مُدْبِرِينَ } فالأصم لا يسمع الدعاء مقبلاً ولا مدبراً ولكن إذا دعي مقبلاً فقد يفهم الإشارة وإن لم يسمع الصوت ، فإذا دعي مدبراً فهو لا يفهم الإشارة ولا يسمع الصوت فلذلك صارت حاله مدبراً أسوأ ، فذكره بأسوأ أحواله . وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار .


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

قوله : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } قال قتادة : من نطفة
. { ثُمَّ جَعَلَ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } قاله مجاهد : شباباً
. { ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } يعني هرماً وشيبة ، قال قتادة : لأن بياض الشعر نذير بالفناء ، قال الشاعر :
أُريت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير
{ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } من قوة وضعف
. { وَهُوَ الْعَلِيمُ } بتدبيره { الْقَدِيرُ } على إرادته .


وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ } قال ابن عباس : الكفار
. { مَا لَبِثواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : في الدنيا استقلالاً لأجل الدنيا لما عاينوا من الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : في قبورهم ما بين موتهم ونشورهم ، قاله يحيى بن سلام .
{ كَذلِكَ } أي هكذا ، قاله ابن جبير
. { كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يكذبون في الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : يصدون في الدنيا عن الإيمان بالبعث . قاله يحيى بن سلام .
قوله : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله الكلبي .
الثاني : أهل الكتاب .
{ وَالإِيمَانَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : الإيمان بالكتاب المتقدم من غير تحريف له ولا تبديل فيه .
الثاني : الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لقد لبثتم في علم الله ، قاله الفراء .
الثاني : لقد لبثتم بما بيانه في كتاب الله ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } في كتاب الله والإيمان { لَقَدْ لَبِثْتُم إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } قاله قتادة .
وفي { لَبِثْتُمْ } قولان :
أحدهما : لبثوا في قبورهم .
الثاني : في الدنيا أحياء وفي قبورهم أموات .
{ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } يعني الذي كذبتم به في الدنيا
. { وَلكِنَّكُمْ كِنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } أي لا تعلمون في الدنيا أن البعث حق وقد علمتم الآن أنه حق .
قوله : { فَيَومَئِذٍ } يعني يوم القيامة .
{ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أي عذرهم الذي اعتذروا به في تكذيبهم
. { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يعاتبون على سيئاتهم ، قاله النقاش .
الثاني : لا يستتابون ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : لا يطلب منهم العتبى وهو أن يُرَدُوا إلى الدنيا لِيُعْتَبُوا أي ليؤمنوا ، قاله يحيى بن سلام .


وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

قوله : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل وجهين
: أحدهما : أن وعد الله في نصرك وتأييدك حق .
الثاني : أن وعده في انتقامه من أعدائك حق .
{ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : لا يَسْتَعْجَلَنَّكَ ، قاله ابن شجرة .
الثاني : لا يَسْتَفِزَّنَّكَ ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : لا يستنزلنك ، قاله النقاش .
{ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يؤمنون .
الثاني : لا يصدقون بالبعث والجزاء ، روى سعيد عن قتادة أن رجلاً من الخوارج قال لعلي كرم الله وجهه وهو خلفه في صلاة الصبح { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية . فقال له عليّ وهو في الصلاة { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } ، والله أعلم .


الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

قوله : { الم . تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : المحكم أَحكمت آياته بالحلال والحرام والأحكام . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : المتقن لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو قريب من المعنى الأول ، قاله ابن شجرة .
الثالث : البين أنه من عند الله ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه يظهر من الحكمة بنفسه كما يظهره الحكيم بقوله ، قاله ابن عيسى .
قوله تعالى : { هُدًى } فيه وجهان :
أحدهما : هدى من الضلالة ، قاله الشعبي .
الثاني : هدى إلى الجنة ، قاله يحيى بن آدم .
{ وَرَحْمَةً } فيه وجهان
: أحدهما : أن القرآن رحمة من العذاب لما في من الزجر عن استحقاقه وهو وجهان :
أحدهما : أنه خرج مخرج النعت بأنه هدى ورحمة .
الثاني : أنه خرج مخرج المدح بأن فيه هدى ورحمة .
{ لِلْمُحْسِنِينَ } وفي الإحسان ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه الإيمان الذي يحسن به إلى نفسه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنه الصلة والصلاة ، قاله الحسن .
الثالث : ما روى عمر بن الخطاب قال : بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فقال : يا رسول الله ما الإحسان؟ قال : « أًن تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَّمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ . وَتُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحبُ لِنَفْسِكَ » قال : فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال : « نعم » قال الرجل : صدقت . ثم انطلق الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « عَلَيَّ بِالرَّجُلِ » . فطلبناه فلم نقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُ أَكْبَرُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيِهِ السَّلاَمُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُم أَمُورَ دِينِكُم
» . قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِم } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على نور من ربهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : على بينة ، قاله ابن جبير .
الثالث : على بيان ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : بمعنى السعداء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : المنجحون ، قاله ابن شجرة .
الثالث : الناجحون ، قاله النقاش .
الرابع : أنهم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربواْ ، قاله ابن عباس .


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

قوله تعالى : { وَمِن النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فيه سبعة تأويلات
: أحدها : شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
} » . الثاني : الغناء ، قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة
. الثالث : أنه الطبل ، قاله عبد الكريم ، والمزمار ، قاله ابن زخر .
الرابع : أنه الباطل ، قاله عطاء .
الخامس : أنه الشرك بالله ، قاله الضحاك وابن زيد .
السادس : ما ألهى عن الله سبحانه ، قال الحسن .
السابع : أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل ، قاله سهل بن عبد الله .
ويحتمل إن لم يثبت فيه نص تأويلاً ثامناً : أنه السحر والقمار والكهانة .
وفيمن نزلت قولان :
أحدهما : أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمداً قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بحديث رستم واسفنديار ويقول لهم إن حديثي أحسن من قرآن محمد ، حكاه الفراء والكلبي .
الثاني : أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل بها الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، حكاه ابن عيسى .
{ لِيُضِلَّ عَن سَبيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ } فيه وجهان
: أحدهما : ليصد عن دين الله ، قاله الطبري .
الثاني : ليمنع من قراءة القرآن ، قاله ابن عباس .
{ بِغَيرِ عِلْمٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : بغير حجة .
الثاني : بغير رواية .
{ وَيَتَّخِذُهَا هُزُواً } فيه وجهان
: أحدهما : يتخذ سبيل الله هزواً يكذب بها ، قاله قتادة . وسبيل الله دينه .
الثاني : يستهزىء بها ، قاله الكلبي .
{ وَأُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي مذل .


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

قوله تعالى : { خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } فيه قولان
: أحدهما : بعمد لا ترونها ، قاله عكرمة ومجاهد .
الثاني : أنها خلقت بغير عمد ، قاله الحسن وقتادة .
{ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي جبالاً
. { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تميد بكم وفيه وجهان
: أحدهما : معناه أن لا تزول بكم ، قاله النقاش .
الثاني : أن لا تتحرك بكم ، قاله يحيى بن سلام . وقيل : إن الأرض كانت تتكفأ مثل السفينة فأرساها الله بالجبال وأنها تسعة عشر جبلاً تتشعب في الأرض حتى صارت لها أوتاداً فتثبتت وروى أبو الأشهب عن الحسن قال : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فلما رأت الملائكة ما تفعل الأرض قالوا : ربنا هذه لا يقر لك على ظهرها خلق ، فأصبح قد ربطها بالجبال فلما رأت الملائكة الذي أرسيت به الأرض عجبواْ فقالوا : يا ربنا هل خلقت خلقاً هو أشد من الجبال؟ قال : نَعَم الرِّيحُ قالوا : هل خلقت خلقاً هو أشد من الريح؟ قال : « نَعَمْ ابنُ آدَمَ » .
{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : وخلق فيها ، قاله السدي .
الثاني : وبسط ، قاله الكلبي .
الثالث : فرق فيها من كل دابة وهو الحيوان سُمِّيَ بذلك لدبيبه والدبيب الحركة .
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم الناس هم نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم ، قاله الشعبي .
الثاني : أن نبات الأرض أشجارها وزرعها ، والزوج هو النوع .
وفي الكريم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الحسن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الطيب الثمر ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه اليانع ، قاله ابن كامل .
ويحتمل رابعاً : أن الكريم ما كثر ثمنه لنفاسة القدر .


وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } اختلف في نبوته على قولين
: أحدهما : أنه نبي ، قاله عكرمة والشعبي .
الثاني : أنه حكيم وليس بنبي ، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب . ووهب بن منبه ، قال إسماعيل : كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة . وقال قتادة : خير الله لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح ينطق بها ، فقيل له : كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال : إنه لو أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيه العون منه ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إليّ .
واختلف في جنسه على قولين :
أحدهما : أنه كان من النوبة قصيراً أفطس ، قاله جابر بن عبد الله .
الثاني : كان عبداً حبشياً ، قاله ابن عباس .
واختلف في صنعته على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه كان خياطاً بمصر ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنه كان راعياً فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : قَدَرُ الله وأدائي الأمانة ، وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر .
الثالث : أنه كان نجاراً فقال له سيده : اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له : ما كان فيها شيء أطيب من هذين فسكت ، ثم أمره فذبح له شاة ثم قال : أَلقِ أخبثها مضغتين فألقى اللسان والقلب فقال له : أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت باللسان والقلب فقال إنه ليس شيىء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا ، قاله خالد الربعي .
واختلف في زمانه على قولين :
أحدهما : أنه كان فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام .
الثاني : أنه ولد كوش بن سام بن نوح ، ولد لعشر سنين من ملك داود عليه السلام وبقي إلى زمن يونس عليه السلام .
وفي { الْحِكْمَةَ } التي أوتيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الفهم والعقل ، قاله السدي .
الثاني : الفقه والعقل والإصابة في القول ، قاله مجاهد .
الثالث : الأمانة .
{ أَنِ اشكُرْ لِلَّهِ } يعني نعم اللَّه ، فيه وجهان
: أحدهما : معنى الكلام : ولقد آتيناه الحكمة وآتيناه الشكر لله ، قاله المفضل .
الثاني : آتيناه الحكمة لأن يشكر لله ، قاله الزجاج .
وفي شكره أربعة أوجه :
أحدها : هو حمده على نعمه .
الثاني : هو ألا يعصيه على نعمه .
الثالث : هو ألا يرى معه شريكاً في نعمه عليه .
الرابع : هو طاعته فيما أمره .
{ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي يعود شكره إلى نفسه لأنه على النعمة إذا زاد من الشكر .
{ وَمَن كَفَرَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني كفر بالله واليوم الآخر ، قاله مجاهد .
الثاني : كُفْرُ النعمة ، قاله يحيى بن سلام .
{ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فيه وجهان
: أحدهما : غني عن خلقه حميد في فعله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : غني عن شكره مستحمد إلى خلقه ، قاله ابن عيسى .


وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } أي واذكر يا محمد مقالة لقمان لابنه ، وفي اسم ابنه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مشكم ، قاله الكلبي .
الثاني : أنعم ، حكاه النقاش .
الثالث : بابان .
{ وَهُوَ يَعِظُهُ } أي يُذكِرُهُ ويؤدبه
. { يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } يعني عند اللَّه ، وسماه ظلماً لأنه قد ظلم به نفسه ، وقيل إنه قال ذلك لابنه وكان مشركاً ، وقوله { يَا بُنَيَّ } ليس هو حقيقة التصغير وإن كان على لفظه وإنما هوعلى وجه الترقيق كما يقال للرجل يا أُخَيّ . وللصبي هو كُوَيّس .
قوله تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } يعني براً وتحنناً عليهما . وفيهما قولان :
أحدهما : أنها عامة وإن جاءت بلفظ خاص والمراد به جميع الناس ، قاله ابن كامل .
الثاني : خاص في سعد بن أبي وقاص وُصي بأبويه؛ واسم أبيه مالك واسم أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ، حكاه النقاش .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه شدة على شدة ، قاله ابن عباس .
الثاني : جهداً على جهد . قاله قتادة .
الثالث : ضعفاً على ضعف ، قاله الحسن وعطاء . ومن قول قعنب ابن أم صاحب :
هل للعواذل من ناهٍ فيزجرها ... إن العواذل فيها الأيْنُ والوهن
يعني الضعف
. ثم فيه على هذا التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : ضعف الولد على ضعف الوالدة ، قاله مجاهد .
الثاني : ضعف نطفة الأب على نطفة الأم ، قاله ابن بحر .
الثالث : ضعف الولد حالاً بعد حال فضعفه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً سوياً ثم مولوداً ثم رضيعاً ثم فطيماً ، قاله أبو كامل .
ويحتمل رابعاً : ضعف الجسم على ضعف العزم .
{ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } يعني بالفصال الفطام من رضاع اللبن
. واختلف في حكم الرضاع بعد الحولين هل يكون في التحريم كحكمه في الحولين على أربعة أقاويل :
أحدهما : أنه لا يحرم بعد الحولين ولو بطرفة عين لتقدير الله له بالحولين ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ رَضَاعةَ بَعْدَ الحَولَينِ » وهذا قول الشافعي .
الثاني : أنه يحرم بعد الحولين بأيام ، وهذا قول مالك .
الثالث : يحرم بعد الحولين بستة أشهر استكمالاً لثلاثين شهراً لقوله : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] قاله أبو حنيفة .
الرابع : أن تحريمه غير مقدر وأنه يحرم في الكبير كتحريمه في الصغير ، وهذا قول بعض أهل المدينة .
{ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي اشكر لي النعمة ولوالديك التربية . وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة ، قال قتادة : إن الله فرق بين حقه وحق الوالدين وقال اشكر لي ولوالديك .
{ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } يعني إلى اللَّه المرجع فيجازي المحسن بالجنة والمسيء بالنار ، وقد روى عطاء عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رِضَا الرَّبِّ مِن رِضَا الوَالَدِ وَسَخَط الرَّبِّ مَن سَخَط الوَالِدِ
» . قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ } يعني أراداك
. { عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } معناه أنك لا تعلم أن لي شريكاً . { فَلا تُطِعْهُمَا } يعني في الشرك
. { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } أي احْتِسَاباً . قال قتادة : تعودهما إذا مرضا وتشيعهما إذا ماتا ، وتواسيهما مما أعطاك الله تعالى .
{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } قال يحيى بن سلام : من أقبل بقلبه مخلصاً وهو النبي صلى الله عليه السلام والمؤمنون . روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : حلفت أم سعد ألا تأكل ولا تشرب حتى تشرب حتى يتحوّل سعد عن دينه فأبى عليها فلم تزل كذلك حتى غشى عليها ثم دعت الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية .


يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

قوله تعالى : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ } وهذا مثل مضروب لمثقال حبة من خردل . قال قتادة : من خير أو شر .
{ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة قاله الرُبَيعُ بن أنس والسدي . قال عبد الله بن الحارث وهي صخرة على ظهر الحوت ، قال الثوري : بلغنا أن خضرة السماء من تلك الصخرة ، وقال ابن عباس هذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض . وقيل إن هذه الصخرة هي سجِّين التي يكتب فيها أعمال الكفار ولا ترفع إلى السماء .
الثاني : معنى قوله في صخرة أي في جبل ، قاله قتادة .
{ أَوْ فِي السَّمَواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } فيه وجهان
: أحدهما : بجزاء ما وازنها من خير أو شر .
الثاني : يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء ، كذلك قليل العمل من خير أو شر يعلمه الله فيجازي عليه .
{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } باستخراجها . { خَبِيرٌ } بمكانها ، قاله الربيع بن أنس
. روى علي بن رباح اللخمي قال : لما وعظ لقمان ابنه بهذا أخذ حبة من خردلٍ فأتى بها البحر فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء ثم ذكرها وبسط يده فبعث الله ذبابة فاختطفتها وحملتها حتى وضعتها في يده .
قوله تعالى : { وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : على ما أصابك من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني : على ما أصابك من البلوى في نفسك أو مالك .
{ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ما أمر الله به من الأمور .
الثاني : من ضبط الأمور ، قاله المفضل .
الثالث : من قطع الأمور .
وفي العزم والحزم وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما .
الثاني : معناهما مختلف وفي اختلافهما وجهان :
أحدهما : أن الحزم الحذر والعزم القوة ، ومنه المثل : لا خير في عزم بغير حزم .
الثاني : أن الحزم التأهب للأمر والعزم النفاذ فيه ، ومنه قولهم في بعض الأمثال : رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم .
قوله تعالى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع .
{ تُصَاعِر } بألف ، وتصاعر تفاعل من الصعر وفيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه الكبر ، قاله ابن عباس .
الثاني : الميل ، قاله المفضل .
الثالث : التشدق في الكلام ، حكاه اليزيدي ، وتُصِّعرْ هو على معنى المبالغة .
وفي معنى الآية خمسة أوجه :
أحدها : أنه إعراض الوجه عن الناس تكبراً ، قاله ابن جبير .
الثاني : هوالتشدق ، قاله إبراهيم النخعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : أن يلوي شدقه عند ذكر الإنسان احتقاراً ، قاله أبو الجوزاء ، قال عمرو بن كلثوم .
وكنا إذا الجبّارُ صعر خَدّه ... أقمنا له من صعره فتقوّما
الرابع : هو أن يعرض عمن بينه وبينه إحنة هجراً له فكأنه أمر بالصفح والعفو ، قاله الربيع بن أنس .
{ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً } فيه ثلاثة أوجه

: أحدها : يعني بالمعصية ، قاله الضحاك .
الثاني : بالخيلاء والعظمة ، قاله ابن جبير .
الثالث : أن يكون بطراً أشراً ، قاله ابن شجرة .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المنان ، قاله أبو ذر .
الثاني : المتكبر ، قاله مجاهد .
الثالث : البطر ، قاله ابن جبير . وروى أبو ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ثَلاَثَةٌ يَشْنَؤُهُم اللَّهُ : الفَقِيرُ المُخْتَالُ ، والبَخِيلُ المَنَّانُ ، والبَيّعُ الحَلاَّفُ
» . { فَخُورٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المتطاول على الناس بنفسه ، قاله ابن شجرة .
الثاني : أنه المفتخر عليهم بما يصفه من مناقبه ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله فيما أعطاه ، قاله مجاهد .
قوله تعالى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه تواضع في نفسك ، قاله مجاهد .
الثاني : انظر في مشيك موضع قدمك ، قاله الضحاك .
الثالث : اسرْع في مشيتك ، قاله يزيد بن أبي حبيب .
الرابع : لا تسرع في المشي ، حكاه النقاش . وقد روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ وَجْهِ المَرْءِ
» . الخامس : لا تختل في مشيتك ، قاله ابن جبير
. { وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ } أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة .
{ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } يعني شر الأصوات ، قاله عكرمة وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أقبح الأصوات ، قاله ابن جبير .
الثاني : قد تقدم .
الثالث : أشد ، قاله الحسن .
الرابع : أبعد ، قاله المبرد .
{ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فيه وجهان
: أحدهما : أنها العطسة المرتفعة ، قاله جعفر الصادق .
الثاني : أنه صوت الحمار .
وفي تخصيصه بالذكر من بين الحيوان وجهان :
أحدهما : لأنه أقبحها في النفس وأنكرها عند السمع وهو عند العرب مضروب به المثل ، قال قتادة : لأن أوله زفير وآخره شهيق .
الثاني : لأن صياح كل شيء تسبيحه إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان ، قاله سفيان الثوري ، وقد حكي عن بشر بن الحارث أنه قال : نهيق الحمار دعاء على الظلمة .
والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانواْ في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز ، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل ، فقال الله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته .


أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } وفي تسخيره ذلك وجهان :
أحدهما : تسهيله .
الثاني : الانتفاع به .
{ وَأَسْبَغَ عَلَيَكُمْ نِعَمَهُ } قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بغير تنوين على الجمع والباقون بالتنوين يعني نعمة واحدة ، وفي هذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنه عنى الإسلام فجعلها واحدة ، قاله إبراهيم .
الثاني : أنه قصد التكثير بلفظ الواحد كقول العرب : كثر الدينار والدرهم ، والأرض سيف وفرس ، وهذا أبلغ في التكثير من لفظ الجمع ، قاله ابن شجرة .
وفي قوله : { ظَاهِرةً وَبَاطِنَةً } خمسة أقاويل :
أحدها : أن الظاهرة الإسلام ، والباطنة ما ستره الله من المعاصي قاله مقاتل .
الثاني : أن الظاهرة على اللسان ، والباطنة في القلب ، قاله مجاهد ووكيع .
الثالث : أن الظاهرة ما أعطاهم من الزي والثياب ، والباطنة متاع المنازل ، حكاه النقاش .
الخامس : الظاهرة الولد ، والباطنة الجماع .
ويحتمل سادساً : أن الظاهرة في نفسه ، والباطنة في ذريته من بعده .
ويحتمل سابعاً : أن الظاهرة ما مضى ، والباطنة ما يأتي .
ويحتمل ثامناً : أن الظاهرة في الدنيا ، والباطنة في الآخرة .
ويحتمل تاسعاً : أن الظاهرة في الأبدان ، والباطنة في الأديان .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيرِ عَلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كَتَابٍ مُنِيرٍ } فيه قولان :
أحدهما : نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته .
الثاني : أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يقول : إن الملائكة بنات الله ، قاله أبو مالك .


وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)

قوله تعالى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلّى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه يخلص لله ، قاله السدي .
الثاني : يقصد بوجهه طاعة الله .
الثالث : يسلم نفسه مستسلماً إلى الله وهو محسن يعني في عمله .
{ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فيها أربعة تأويلات
: أحدها : قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : القرآن ، قاله أنس بن مالك .
الثالث : الإسلام ، قاله السدي .
الرابع : الحب في الله والبغض في الله ، قاله سالم بن أبي الجعد .
وفي تسميتها بالعروة الوثقى وجهان :
أحدهما : أنه قد استوثق لنفسه فيما تمسك به كما يستوثق من الشيء بإمساك عروته . الثاني : تشبيهاً بالبناء الوثيق لأنه لا ينحل .
{ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبةُ الأُمُورِ } قال مجاهد : وعند الله ثواب ما صنعواْ .


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

قوله تعالى : { وَلَو أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ . . } الآية . وفي سبب نزولها قولان :
أحدهما : ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام يعني القرآن يوشك أن ينفد ، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه .
الثاني : ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك : { وَمَا أُوتِيْتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإٍسراء : 85 ] إِيانا تريد أم قومك؟ قال : « كُلٌ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الُعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أَنْتُم وَهُمْ » قالوا : فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ » فنزلت هذه الآية
. ومعنى : { . . . يَمُدُّهُ . . . } أي يزيد فيه شيئاً بعد شيء فيقال في الزيادة .
مددته وفي المعونة أمددته . { . . . مَا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة : نفد .
وفي { كَلِمَاتُ اللُّهِ } هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنها نعم الله على أهل طاعته في الجنة .
الثاني : على أصناف خلقه .
الثالث : جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه .
الرابع : أنها علم الله .
قوله تعالى : { مَا خَلْقَكُمُ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يقال إنها نزلت في أُبي بن خلف وأبي الأشدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إِن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تقول إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية لأن الله لا يصعب عليه ما يصعب على العباد وخلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة .
{ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } سميع لما يقولون ، بصير بما يفعلون .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِج النَّهارِ فِي اللَّيلِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يأخذ الصيف من الشتاء ويأخذ الشتاء من الصيف ، قاله ابن مسعود ومجاهد .
الثاني : ينقص من النهار ليجعله في الليل وينقص من الليل ليجعله في النهار ، قاله الحسن وعكرمة وابن جبير وقتادة .
الثالث : يسلك الظلمة مسالك الضياء ويسلك الضياء مسالك الظلمة فيصير كل واحد منهما مكان الآخر ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل رابعاً : أنه يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل ، ويدخل ضوء النهار في ظلمة الليل إذا أقبل ، فيصير كل واحد منهما داخلاً في الآخر .
{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال وإتماماً للمنافع .
{ كَلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى } فيه وجهان
: أحدهما : يعني إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : إلى يوم القيامة ، قاله الحسن .
{ وَأَنَّ اللَّهَ بَمَا َعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يعني بما تعملون في الليل والنهار
. قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الله الذي لا إله غيره ، قاله ابن كامل .
الثاني : أن الحق اسم من أسماء الله ، قاله أبو صالح .
الثالث : أن الله هو القاضي بالحق .
ويحتمل رابعاً : أن طاعة الله حق .
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ } فيه وجهان
: أحدهما : الشيطان هو الباطل ، قاله مجاهد .
الثاني : ما أشركوا بالله تعالى من الأصنام والأوثان ، قاله ابن كامل .
{ وأن الله هو العلي الكبير } أي العلي في مكانته الكبير في سلطانه .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : برحمة الله لكم في خلاصكم منه .
الثاني : بنعمة الله عليكم في فائدتكم منه .
{ لِيُرِيَكُم مِّنَ ءَايَاتِهِ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني جري السفن فيه ، قاله يحيى بن سلام ، وقال الحسن : مفتاح البحار السفن ، ومفتاح الأرض الطرق ، ومفتاح السماء الدعاء .
الثاني : ما تشاهدونه من قدرة الله فيه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : ما يرزقكم الله منه ، قاله النقاش .
{ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : صبَّار على البلوى شكور على النعماء .
الثاني : صبَّار على الطاعة شكور على الجزاء .
قال الشعبي : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } وإلى قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } فيه وجهان :
أحدهما : كالسحاب ، قاله قتادة .
الثاني : كالجبال ، قاله الحسن ويحيى بن سلام .
وفي تشبيهه بالظل وجهان :
أحدهما : لسواده ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : لعظمه .
{ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } يعني موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه .
{ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى الْبَرِّ } يعني من البحر
. { فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه عَدل في العهد ، يفي في البر بما عاهَد الله عليه في البحر ، قاله النقاش .
الثاني : أنه المؤمن المتمسك بالتوحيد والطاعة ، قاله الحسن .
الثالث : أنه المقتصد في قوله وهو كافر ، قاله مجاهد .
{ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه الجاحد ، قاله عطية .
الثاني : وهو قول الجمهور أنه الغدار ، قال عمرو بن معدي كرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدرٍ وختر
وجحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات دلائلها .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخْشُوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه لا يغني والد عن ولده يقال جزيت عنك بمعنى أغنيت عنك ، قاله ابن عيسى . عيسى .
الثاني : لا يقضي والد عن ولده ، قاله المفضل وابن كامل .
الثالث : لا يحمل والد عن ولده ، قال الراعي :
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزي إلا كاملٌ وابن كامل
أي حملت
. { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ } يعني البعث والجزاء
. { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا } يحتمل وجهين
: أحدهما : لا يغرنكم الإمهال عن الانتقام .
الثاني : لا يغرنكم المال عن الإسلام .
{ وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } وهي تقرأ على وجهين
: أحدهما : بالضم .
الثاني : بالفتح وهي قراءة الجمهور .
ففي تأويلها بالضم وجهان :
أحدهما : أن الغُرور الشيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : الأمل وهو تمني المغفرة في عمل المعصية ، قاله ابن جبير .
ويحتمل ثالثاً : أن تخفي على الله ما أسررت من المعاصي .


إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

قوله : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن قيامها مختص بعلمه .
الثاني : أن قيامها موقوف على إرادته .
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } فيما يشاء من زمان ومكان
. { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ } فيه وجهان
: أحدهما : من ذكر وأنثى ، سليمٍ وسقيم .
الثاني : من مؤمن وكافر وشقي وسعيد .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } فيه وجهان
: أحدهما : من خير أو شر .
الثاني : من إيمان أو كفر .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } فيه وجهان
: أحدهما : على أي حكم تموت من سعادة أو شقاء ، حكاه النقاش .
الثاني : في أي أرض يكون موته ودفنه وهو أظهر . وقد روى أبو مليح عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَبْضَ رُوحٍ عَبْدٍ بَأَرْضٍ جَعَلَ إِلَيْهَا حَاجَةً فَلَمْ يَنْتهِ حَتَّى يُقَدِمَهَا » ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } إلى قوله : { بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } .
وقال هلال بن إساف : ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } يحتمل وجهين
: أحدهما : عليم بالغيب خبير بالنية .
الثاني : عليم بالأعمال خبير بالجزاء .
ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد ، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى تقول الساعة؟ فنزلت هذه الآية ، والله أعلم .


الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

قوله تعالى : { الم . تَنزِيلُ الْكِتَابِ } يعني القرآن
. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه تنزيل
. { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } والريب هو الشك الذي يميل إلى السوء والخوف ، قال أبو ذؤيب :
أسرين ثم سمعن حساً دونه ... سرف الحجاب وريب قرع يقرع
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } يعني كفار قريش يقولون إن محمداً افترى هذا القرآن ويكذبه .
{ بَلْ هَوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } يعني القرآن حق نزل عليك من ربك
. { لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } يعني قريشاً ، قاله قتادة : كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم .


اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)

قوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } فيه وجهان
: أحدهما : يقضي الأمر ، قاله مجاهد .
الثاني : ينزل الوحي ، قاله السدي .
{ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ } قال السدي من سماء الدنيا إلى الأرض العليا وفيه وجهان :
أحدهما : يدبر الأمر في السماء وفي الأرض .
الثاني : يدبره في السماء ثم ينزل به الملك إلى الأرض وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل ، فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود ، وأمَّا ميكائيل فموكل بالقطر والماء ، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم .
{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، قاله النقاش .
الثالث : أنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة ، قاله ابن شجرة .
{ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ثم كذلك أبداً ، قاله مجاهد .
الثاني : أن الملك ينزل ويصعد في يوم مسيرة ألف سنة ، قاله ابن عباس . والضحاك .
الثالث : أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة ومقدار صعوده خمسمائة سنة ، قاله قتادة : فيكون بين السماء والأرض على قول ابن عباس والضحاك مسيرة ألف سنة ، وعلى قول قتادة والسدي مسيرة خمسمائة سنة .
{ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي تحسبون من أيام الدنيا وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم وليس بيوم يستوعب نهاراً بين ليلتين لأنه ليس عند الله ليل استراحة ولا زمان تودع ، والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم كما قال الشاعر :
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سيرٍ إلى الأعداءِ تأويب
وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم .


الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)

قوله تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } فيه خمسة تأويلات
: أحدها : أنه جعل كل شيء خلقه حسناً حتى جعل الكلب في خلقه حسناً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أحكم كل شيء خلقه حتى أتقنه ، قاله مجاهد .
الثالث : أحسن إلى كل شيء خلق فكان خلقه له إحساناً ، قاله علي بن عيسى .
الرابع : ألهم ما خلقه ما يحتاجون إليه حتى علموه من قولهم فلان يحسن كذا أي يعلمه .
الخامس : أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ثم هداه إليه ، رواه حميد بن قيس .
ويحتمل سادساً : أنه عرف كل شيء خلقه وأحسنه من غير تعلم ولا سبق مثال حتى ظهرت فيه القدرة وبانت فيه الحكمة .
{ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ } يعني آدم ، روى عون عن أبي زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على ألوان الأرض منهم الأبيض والأحمر وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك .
{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } أي ذريته { مِن سُلاَلَةٍ } لاِنسِلاَلِهِ من صلبه { مِن مَّآءٍ مَّهِينٍ } قال مجاهد ضعيف .
قوله تعالى : { ثُمَّ سَوَّاهُ } فيه وجهان :
أحدهما : سوى خلقه في الرحم .
الثاني : سوى خلقه كيف يشاء .
{ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : من قدرته ، قاله أبو روق .
الثاني : من ذريته ، قاله قتادة .
الثالث : من أمره أن يكون فكان ، قاله الضحاك .
الرابع : روحاً من روحه أي من خلقه وأضافه إلى نفسه لأنه من فعله وعبر عنه بالنفخ لأن الروح من جنس الريح .
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } يعني القلوب وسمى القلب فؤاداً لأنه ينبوع الحرارة الغريزية مأخوذ من المفتأد وهو موضع النار ، وخصص الأسماع والأبصار والأفئدة بالذكر لأنها موضع الأفكار والاعتبار .


وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

قوله : { وَقَالُواْ أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : هلكنا ، قاله مجاهد .
الثاني : صرنا فيه رفاتاً وتراباً ، قاله قتادة والعرب تقول لكل شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيه أثره قد ضل ، قال الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... تقذف الأتيُّ به فَضَلَّ ضلالاً .
الثالث : غُيِّبنا في الأرض ، قاله قطرب وأنشد النابغة :
فآب مُضلُّوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزمٌ ونائل
وقرأ الحسن : صللنا ، بصاد غير معجمة وفيه على قراءته وجهان
: أحدهما : أي أنتنت لحومنا من قولهم صل اللحم إذا أنتن ، قاله الحسن .
الثاني : صللنا من الصلة وهي الأرض اليابسة ومنه قوله تعالى : { مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ } { أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أَتُعَادُ أجسامنا للبعث خلقاً جديداً تعجباً من إعادتها وإنكاراً لبعثهم وهو معنى قوله تعالى :
{ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِم كَافِرُونَ } وقيل إن قائل ذلك أُبي بن خلف
. قوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ } أي يقبض أرواحكم والتوفي أخذ الشيء على تمام ، مأخوذ من توفية العدد ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان .
ثم في توفي ملك الموت لهم قولان :
الأول : بأعوانه .
الثاني : بنفسه . روى جعفر الصادق عن أبيه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [ يا ملك الموت ] : « ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ » فقال ملك الموت عليه السلام يا محمد طب نفساً وقر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق واعلَمْ أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، واللَّه يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله تعالى هو الآمر بقبضها ، قال جعفر إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلوات .
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم تُرْجعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : إلى جزائه .
الثاني : إلى أن لا يملك لكم أحد ضراً ولاً نفعاً إلا اللَّه .


وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُسِهِم عِند رَبِّهمُ } أي عند محاسبة ربهم وفيه أربعة أوجه :
أحدها : من الغم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : من الذل ، قاله ابن شجرة .
الثالث : من الحياء ، حكاه النقاش .
الرابع : من الندم ، قاله يحيى بن سلام .
{ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا ، قال قتادة ، أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع .
{ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } أي ارجعنا إلى الدنيا نعمل فيها صالحاً
. { إِنَّا مُوقِنُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : مصدقون بالبعث ، قاله النقاش .
الثاني : مصدقون بالذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق ، قاله يحيى بن سلام .
قال سفيان : فأكذبهم الله فقال : { وَلَو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنهُ } [ الأنعام : 28 ] الآية .
قوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍٍ هُدَاهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هدايتها للإيمان .
الثاني : للجنة .
الثالث : هدايتها في الرجوع إلى الدنيا لأنهم سألوا الرجعة ليؤمنوا .
{ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنِّي } فيه وجهان
: أحدهما : معناه سبق القول مني ، قاله الكلبي ويحيى بن سلام .
الثاني : وجب القول مني ، قاله السدي كما قال كثير :
فإن تكن العتبى فأهلاً ومَرْحباً ... وحقت لها العتبى لدنيا وقلّت
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } يعني من عصاه من الجنة والناس . وفي الجنة قولان :
أحدهما : أنه الجن ، قاله ابن كامل .
الثاني : أنهم الملائكة ، رواه السدي عن عكرمة ، وهذا التأويل معلول لأن الملائكة لا يعصون الله فيعذبون . وسموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار ومنه قول زيد بن عمرو :
عزلت الجن والجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } فيه وجهان :
أحدهما : فذوقوا عذابي بما تركتم أمري ، قال الضحاك .
الثاني : فذوقوا العذاب بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم ، قاله يحيى بن سلام .
{ إِنَّا نَسِينَاكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : إنا تركناكم من الخير ، قاله السدي .
الثاني : إنا تركناكم في العذاب ، قاله مجاهد .
{ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } وهو الدائم الذي لا انقطاع له
. { بِمَ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني في الدنيا من المعاصي ، وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوماً لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام ، قال ابن أبي ربيعة :
فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا رب ما كذب الزعم


إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)

قوله : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئَايَاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : يصدق بحجتنا ، قاله ابن شجرة .
الثاني : يصدق بالقرآن وآياته ، قاله ابن جبير .
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } فيه وجهان
: أحدهما : الذين إذا دعوا إلى الصلوات الخمس بالأذان أو الإقامة أجابوا إليها قاله أبو معاذ ، لأن المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من أبواب المساجد .
الثاني : إذا قرئت عليهم آيات القرآن خضعوا بالسجود على الأرض طاعة لله وتصديقاً بالقرآن . وكل ما سقط على شيء فقد خر عليه قال الشاعر :
وخر على الألاءِ ولم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل
{ وَسَبَّحُواْ بِحْمْدِ رَبِّهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : معناه صلوا حمداً لربهم ، قاله سفيان .
الثاني : سبحوا بمعرفة الله وطاعته ، قاله قتادة .
{ وَهُمْ لاَ يَستَكْبِرُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : عن عبادته ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عن السجود كما استكبر أهل مكة عن السجود له ، حكاه النقاش .
قوله : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عِنِ الْمَضَاجِعِ } أي ترتفع عن مواضع الاضطجاع قال ابن رواحة :
يبيت يجافي جنبه عن فِراشِه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان
: أحدهما : لذكر الله إما في صلاة أو في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : للصلاة -روى ميمون بن شبيب عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال : « إِنْ شِئْتَ أَنبَأْتُكَ بَأبوابِ الْخَيرِ : الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَة وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيلِ » ثم تلا هذه الآية .
وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل :
أحدها : التنفل بين المغرب والعشاء ، قاله قتادة وعكرمة .
الثاني : صلاة العشاء التي يقال لها صلاة العتمة ، قاله الحسن وعطاء .
الثالث : صلاة الصبح والعشاء في جماعة ، قاله أبو الدرداء وعبادة .
الرابع : قيام الليل ، قاله مجاهد والأوزاعي ومالك وابن زيد .
{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } فيه وجهان
: أحدهما : خوفاً من حسابه وطمعاً في رحمته .
الثاني : خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه .
ويحتمل ثالثاً : يدعونه في دفع ما يخافون والتماس ما يرجون ولا يعدلون عنه في خوف ولا رجاء .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : يؤتون الزكاة احتساباً لها ، قاله ابن عباس .
الثاني : صدقة يتطوع بها سوى الزكاة ، قاله قتادة .
الثالث : النفقة في طاعة الله ، قال قتادة : أنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها .
الرابع : أنها نفقة الرجل على أهله .
قوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه للذين تتجافي جنوبهم عن المضاجع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه للمجهدين قاله تبيع . وفي { قُرَّةِ أَعْيُنٍ } التي أخفيت لهم أربعة أوجه :
أحدها : رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِي أَعْدَدْتُ لِعبَادي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ اقْرَأُواْ إِنْ شِئْتُم : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } » الآية .
الثاني : أنه جزاء قوم أخفوا عملهم فأخفى الله ما أعده لهم . قال الحسن بالخفية : خفية وبالعلانية علانية .
الثالث : أنها زيادة تحف من الله ليست في حياتهم يكرمهم بها في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه زيادة نعيمهم وسجود الملائكة لهم ، قاله كعب .
ويحتمل خامساً : اتصال السرور بدوام النعيم .
{ جَزَآءً بِمَ كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني من فعل الطاعات واجتناب المعاصي .


أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً } المؤمن هنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه والفاسق عقبة بن أبي معيط قال ابن عباس : سابّ عقبة علياً فقال أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأملأ منك حشواً فقال له علي كرم الله وجهه : ليس كما قلت يا فاسق فنزلت ، فيهما هذه الآية .
{ لاَ يَسْتَوُونَ } قال قتادة : لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة .
قوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ } أما العذاب الأدنى ففي الدنيا وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنها مصائب الدنيا في الأنفس والأموال ، قاله أُبي .
الثاني : القتل بالسيف ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنه الحدود ، قاله ابن عباس .
الرابع : القحط والجدب ، قاله إبراهيم .
الخامس : عذاب القبر ، قاله البراء بن عازب ومجاهد .
السادس : أنه عذاب الدنيا كلها ، قاله ابن زيد .
السابع : أنه غلاء السعر والأكبر خروج المهدي ، قاله جعفر الصادق .
ويحتمل ثامناً : أن العذاب الأدنى في المال ، والأكبر في الأنفس .
والعذاب الأكبر عذاب جهنم في الآخرة .
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيه وجهان
: أحدهما : يرجعون إلى الحق ، قاله إبراهيم .
الثاني : يتوبون من الكفر ، قاله ابن عباس .


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

قوله تعالى : { وَلَقْدَ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكَتِابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ولقد لقيته ليلة الإسراء روى أبو العالية الرياحي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَأيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عمرانَ رَجُلاً طُوَالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِن رِجَالِ شَنُوءَةَ . وَرَأَيْتُ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَجُلاً مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأُسِ » قال أبو العالية قد بين الله ذلك في قوله : { وَاسْأَلْ مِنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } .
الثاني : فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها .
الثالث : فلا تكن في شك من لقاء موسى في الكتاب ، قاله مجاهد والزجاج .
الرابع : فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقيه موسى ، قاله الحسن .
الخامس : فلا تكن في شك من لقاء موسى لربه حكاه النقاش .
{ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه وجهان :
أحدهما : جعلنا موسى ، قاله قتادة .
الثاني : جعلنا الكتاب ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم رؤساء في الخير تبع الأنبياء ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم أنبياء ، وهو مأثور .
{ لَمَّا صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على الدنيا ، قاله سفيان .
الثاني : على الحق ، قاله ابن شجرة .
الثالث : على الأذى بمصر لما كلفوا ما لا يطيقون ، حكاه النقاش .
{ وَكَانُوا بِئَايَاتِناَ } يعني بالآيات التسع { يُوقِنُونَ } أنها من عند الله
. قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } الآية فيها وجهان :
أحدهما : يعني بين الأنبياء وبين قومهم ، حكاه النقاش .
الثاني : يقضي بين المؤمنين والمشركين فيما اختلفوا فيه من الإيمان والكفر ، قاله يحيى بن سلام .


أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)

قوله تعالى : { نَسُوقُ الْمَآءَ } فيه وجهان
: أحدهما : بالمطر والثلج .
الثاني : بالأنهار والعيون .
{ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ } فيها خمسة أقاويل
: أحدها : أنها الأرض اليابسة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنها الأرض التي أكلت ما فيها من زرع وشجر ، قاله ابن شجرة .
الثالث : أنها الأرض التي لا يأتيها الماء إلا من السيول ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها أرض أبْينَ لا تنبت ، قاله مجاهد .
الخامس : أنها قرى نبيا بين اليمن والشام ، قاله الحسن . وأصل الجرز الانقطاع مأخوذ من قولهم سيف جراز أي قطاع وناقة جراز أي كانت تأكل كل شيء لأنها لا تبقي شيئاً إلا قطعته بفيها . ورجل جروز أكول قال الراجز :
حبُّ جروز وإذا جاع بكى ... يأكل التمر ولا يلقى النوى
وتأول ابن عطاء هذه الآية على أنه توصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية .


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه فتح مكة ، قاله الفراء .
الثاني : أن الفتح انقضى بعذابهم في الدنيا ، قاله السدي .
الثالث : الحكم بالثواب والعقاب في القيامة ، قاله مجاهد . قال الحسن لم يبعث الله نبياً إلا وهو يحذر من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .
{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيمَانهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذي قتلهم خالد بن الوليد يوم فتح مكة من بني كنانة ، قاله الفراء .
الثاني : أن يوم الفتح يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أن اليوم الذي يأتيهم من العذاب ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يؤخرون بالعذاب إذا جاء الوقت
. { فَأَعْرضْ عَنهُمْ } الآية . قال قتادة : نزلت قبل أن يؤمر بقتالهم ، ويحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عن أذاهم وانتظر عقابهم .
الثاني : أعرض عن قتالهم وانتظر أن يؤذن لك في جهادهم .
الثالث : فأعرض بالهجرة وانتظر ما يمدك به من النصرة ، والله أعلم .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } وهذا وإن كان معلوماً من حاله ففي أمره به أربعة أوجه :
أحدهما : أن معنى هذا الأمر الإكثار من اتقاء الله في جهاد أعدائه .
الثاني : استدامة التقوى على ما سبق من حاله .
الثالث : أنه خطاب توجه إليه والمراد به غيره من أمته .
الرابع : أنه لنزول هذه الآية سبباً وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة ليجددوا خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد بينه وبينهم فنزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومعتب بن قشير وائتمروا بينهم وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أموراً كره جميعها فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل الله : { يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتقِ اللَّهَ } يعني في نقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة المشروطة لهم .
{ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } من أهل مكة
. { وَالْمُنَافِقِينَ } من أهل المدينة فيما دعوا إليه
. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } يحتمل وجهين
: أحدهما : عليماً بسرائرهم حكيماً بتأخيرهم .
الثاني : عليماً بالمصلحة حكيماً في التدبير .


مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)

قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه إن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله هذه تكذيباً لهم؛ قاله ابن عباس ويكون معناه ما جعل الله لرجل من جسدين .
الثاني : أن رجلاً من مشركي قريش من بني فهر قال : إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد وكذب فنزلت فيه ، قاله مجاهد . ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من عقلين .
الثالث : أن جميل بن معمر ويكنى أبا معمر من بني جُمَح كان أحفظ الناس لما يسمع وكان ذا فهم ودهاء فقالت قريش ما يحفظ جميل ما يحفظ بقلب واحد إن له قلبين فلما كان يوم بدر وهزموا أفلت وفي يديه إحدى نعليه والأخرى في رجليه فلقيه أبو سفيان بشاطىء البحر فاستخبره فأخبره أن قريشا قتلوا وسمى من قتل من أشرافهم ، قال له : إنه قد ذهب عقلك فما بال نعليك إحداهما في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما كنت أظنها إلا في رجلي فظهر لهم حاله فنزلت فيه الآية ، قاله السدي ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من فهمين .
الرابع : أن رجلاً كان يقول إن لي نفسين نفساً تأمرني ونفساً تنهاني فنزل ذلك فيه ، قاله الحسن ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من نفسين .
الخامس : أنه مثل ضربه الله لزيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقه فلما نزل تحريم التبنّي منع من ادعائه ولداً ونزل فيه { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنَ قَلْبِينِ } يقول : ما جعل الله لرجل من أبوين ، كذلك لا يكون لزيد أبوين حارثة ومحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل بن حيان . وفيه إثبات لمذهب الشافعي في نفي الولد عن أبوين ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من أبوين .
السادس : معناه : أنه لا يكون لرجل قلب مؤمن معنا وقلب كافر علينا لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد ويكون معناه : ما جعل الله لرجل من دينين ، حكاه النقاش .
{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } وهو أن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي ، فهذا ظهار كانوا في الجاهلية يحرمون به الزوجات ويجعلونهن في التحريم كالأمهات فأبطل الله بذلك أن تصير محرمة كالأم لأنها ليست بأم وأوجب عليه بالظهار منها إذا صار فيه عامداً كفارة ذكرها في سورة المجادلة ومنعه من إصابتها حتى يكفر وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب .
{ وَمَا جَعلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } يعني بذلك أدعياء النبي . قال مجاهد كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً فيأتي ذا القوة والشرف فيقول : أنا ابنك فيقول نعم فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهله وكان زيد بن حارثة منهم قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يصنع أهل الجاهلية فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله أن يلحقوهم بآبائهم فقال : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } في الإسلام .

{ ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ } أن امرأته بالظهار أُمُّه وأن دَعيه بالتبني ابنه { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } في أن الزوجة لا تصير في الظهار أُمّاً والدعيُّ لا يصير بالتبني ابناً .
{ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } يعني في إلحاق النسب بالأب ، وفي الزوجة أنها لا تصير كالأم .
قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبآئِهِمْ } يعني التبني : قال عبد الله بن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ } قال السدي فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حارثة وعرف كل نسبه فأقرّوا به وأثبتوا نسبه .
{ هُوَ أَقْسَطُ عِنَد اللهِ } أي أعدل عند الله قولاً وحكماً .
{ فَإِنَ لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَآءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : فانسبوهم إلى أسماء إخوانكم ومواليكم مثل عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد العزيز ، قاله مقاتل بن حيان .
الثاني : قولوا أخونا فلان وولينا فلان ، قاله يحيى بن سلام . وروى محمد بن المنكدر قال : جلس نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم جابر بن عبد الله الأنصاري فتفاخروا بالآباء فجعل كل واحد منهم يقول أنا فلان بن فلان حتى انتهوا إلى سلمان فقال أنا سلمان ابن الإسلام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق سلمان وأنا عمر بن الإسلام وذلك قوله : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } .
الثالث : إنه إن لم يُعرف لهم أب ينسبون إليه كانوا إخواناً إن كانوا أحراراً ، وموالي إن كانوا عتقاء كما فعل المسلمون فيمن عرفوا نسبه وفيمن لم يعرفوه فإن المقداد بن عمرو كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فرجع إلى أبيه وسفيان بن معمر كانت أمه امرأة معمر في الجاهلية فادعاه ابناً ثم أسلم سفيان وشهد بدراً فنسب إلى أبيه ونسبه في بني زريق من الأنصار . وممن لم يعرف له أب سالم ، مولى أبي حذيفة ونسب إلى ولاء أبي حذيفة .
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأَتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدت قلوبكم بعد النهي في هذا وغيره ، قاله مجاهد .
الثاني : ما أخطأتم به ما سهوتم عنه ، وما تعمدمت قلوبكم ما قصدتموه عن عمد ، قاله حبيب بن أبي ثابت .
الثالث : ما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه ، قاله قتادة .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفوراً رَحيماً } أي غفوراً عما كان في الشرك ، رحيماً بقبول التوبة في الإسلام .


النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)

قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم ، وقاله مقاتل بن حيان .
الثاني : أنه أولى بهم فيما رآه له بأنفسهم ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه كان في الحرف الأول : هو أب لهم . وكان سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزاة تبوك أمرالناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية ، حكاه النقاش .
الرابع : أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَأُوا إِن شِئْتُم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا ، وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ
» . { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } يعني من مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه هن كالأمهات في شيئين .
أحدهما : تعظيم حقهن .
الثاني : تحريم نكاحهن . وليس كالأمهات في النفقة والميراث .
واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين :
أحدهما : هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن .
الثاني : أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر .
وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه :
أحدها : تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لا يثبت لهن ذلك بل هذه كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال : أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة .
الثالث : أن من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم يثبت لها هذه الحرمة ، وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي صلى الله عليه وسلم فنكحت بعده فقالت : لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً ، فكف عنها .
وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين :
أحدهما : أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء .

الثاني : أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر والإباحة بالرجال دون النساء . وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنا أم رجالكم .
{ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ } .
قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشاً . وفيه قولان :
أحدهما : أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ } .
الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرو عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك ، فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا .
قوله تعالى : { فِي كِتَابِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : في القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : في اللوح المحفوظ الذي قضى أحوال خلقه ، قاله ابن بحر .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبين دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ
» . { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً ، قاله مقاتل بن حيان .
الرابع : أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين ، قاله السدي .
{ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ .
والثاني : كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث .
الثالث : كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً .
وفي { الْكِتَابِ } أربعة أوجه :
أحدها : في اللوح المحفوظ ، قاله إبراهيم التيمي .
الثاني : في الذكر ، قاله مقاتل بن حيان .
الثالث : في التوراة أمر بني اسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب حكاه النقاش .
الرابع : في القرآن ، قاله قتادة .


وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ميثاقهم على قومهم أن يؤمنوا بهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ميثاق الأمم على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة إليهم ، قاله الكلبي .
الثالث : ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً ، قاله قتادة .
{ وَمِنكَ وَمِن نَّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِنَ نُّوحٍ } قال « كُنتُ أَوَّلَهُم فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُم في البَعْثِ
» . { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقاً غَلِيظاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الميثاق الغليظ تبليغ الرسالة .
الثاني : يصدق بعضهم بعضاً .
الثالث : أن يعلنوا أن محمداً رسول الله ، ويعلن محمد أنه لا نبي بعده .
وفي ذكر من سمى من الأنبياء مع دخولهم في ذكر النبيين وجهان :
أحدهما : تفضيلاً لهم .
الثاني : لأنهم أصحاب الشرائع .
قوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصَادِقِينَ عَنَ صِدْقِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم ، حكاه النقاش . الثاني : ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم ، حكاه النقاش ابن عيسى .
الثالث : ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم ، حكاه ابن شجرة .
الرابع : ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)

قوله تعالى : { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } قال ابن عباس يعني يوم الأحزاب حين أنعم الله عليهم بالصبر ثُم بالنصر .
{ إِذْ جَآءَتْكُم جُنُودٌ } قال مجاهد : جنود الأحزاب أبو سفيان وعيينة بن حصين وطلحة بن خويلد وأبو الأعور السلمي وبنو قريظة .
{ فَأرْسَلْنَا عَلَيِهِمْ رِيحاً } قال مجاهد : هي الصَّبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم وروى ابن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نُصِرْتُ بِالصّبَا وأُهْلِكَت عَادٌ بِالدَّبُورِ » وكان من دعائه يوم الأحزاب « اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَتَنَا وَآمِن رَوْعَتَنَا » فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصَبا .
{ وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا } قال مجاهد وقتادة : هم الملائكة
. وفي ما كان منهم أربعة أقاويل :
أحدها : تفريق كلمة المشركين وإقعاد بعضهم عن بعض .
الثاني : إيقاع الرعب في قلوبهم ، حكاه ابن شجرة .
الثالث : تقوية نفوس المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم وأنها كانت نصرتهم بالزجر حتى جاوزت بهم مسيرة ثلاثة أيام فقال طلحة بن خويلد : إن محمداً قد بدأكم بالسحر فالنجاة النجاة .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو
. قوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } يعني من فوق الوادي وهو أعلاه من قبل المشرق ، جاء منه عوف بن مالك في بني نضر ، وعيينة بن حصين في أهل نجد ، وطلحة بن خويلد الأسدي في بني أسد .
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } يعني من بطن الوادي من قبل المغرب أسفل أي تحتاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة ، ويزيد بن جحش على قريش ، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق .
{ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ } فيه وجهان
: أحدهما : شخصت .
الثاني : مالت :
{ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ } أي زالت عن أماكنها حتى بلغت القلوب الحناجر وهي الحلاقيم واحدها حنجرة . وقيل إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة . وروي عن ابي سعيد الخدري أنه قال يوم الخندق : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تأمر بشيء تقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال : « نعم قُولُواْ : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَنَا وَآمِنْ رَوْعَتَنَا » قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزموا بها .
{ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } فيه وجهان
: أحدهما : فيما وعدوا به من نصر ، قاله السدي .
الثاني : أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، قاله الحسن .


هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)

قوله تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : بالحصر ، حكاه النقاش .
الثاني : بالجوع فقد أصابهم بالخندق جوع شديد ، قاله الضحاك .
الثالث : امتحنوا في الصبر على إيمانهم وتميز المؤمنون عن المنافقين ، حكاه ابن شجرة . وحكى ابن عيسى أن { هُنالِكَ } للبعد من المكان ، وهناك للوسط وهنا للقريب .
{ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : حركوا بالخوف تحريكاً شديداً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه .
الثالث : أنه حركهم الأمر بالثبات والصبر ، وهو محتمل .
الرابع : هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق ، قاله الضحاك .
قوله تعالى : { وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المرض النفاق ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الشرك ، قاله الحسن .
{ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } حكى السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفر الخندق لحرب الأحزاب فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صفاة فطار منها كهيئة الشهاب من نار في السماء ، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك ، وضرب الثالث فخرج مثل ذلك فرأى ذلك سلمان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « رَأَيتَ مَا خَرَجَ فِي كُلّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا » قال : نعم يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « تُفْتَحُ لَكُمْ بِيضُ المَدَائِنِ وَقُصُورُ الرُّومِ وَمَدَائِنُ اليَمن » قال ففشا ذلك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدثواْ به ، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب . وقال غيره قشير بن عدي الأنصاري من الأوس : وعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وقصور الروم وبيض المدائن وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل؟ هذا والله الغرور فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالت طَّآئِفَةٌ مِّنهُمْ } يعني من المنافقين قيل إنهم من بني سليم ، وقيل إنه من قول أوس بن فيظي ومن وافقه على رأيه ، ذكر ذلك يزيد بن رومان ، وحكى السدي أنه عبد الله بن أُبي وأصحابه .
{ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مَقُامَ لَكُم فَارْجِعُواْ } قرأ حفص عن عاصم بضم الميم ، والباقون بالفتح . وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : وهو قول الفراء أن المقام بالفتح الثبات على الأمر ، وبالضم الثبات في المكان .
الثاني : وهو قول ابن المبارك انه بالفتح المنزل وبالضم الإقامة .
وفي تأويل ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أي لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب ، قاله الحسن .
الثاني : لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان ، قاله الكلبي .
الثالث : لا مقام في مكانكم فارجعوا إلى مساكنكم ، قال النقاش .
والمراد بيثرب المدينة وفيه قولان :
أحدهما : أن يثرب هي المدينة ، حكاه ابن عيسى .

الثاني : أن المدينة في ناحية من يثرب ، قاله أبو عبيدة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء بن عازب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن قَالَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ، هَي طَابَةُ » ثلاثة مرات
. { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } قال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة ، أحدهما أبو عرابة بن أوس ، والآخر أوس بن فيظي . قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن .
{ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : قاصية من المدينة نخاف على عورة النساء والصبيان من السبي ، قاله قتادة .
الثاني : خالية ليس فيها إلا العورة من النساء ، قاله الكلبي والفراء ، مأخوذ من قولهم قد اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب قال الشاعر :
له الشدة الأولى إذا القرن أعورا ... الثالث : مكشوفة الحيطان نخاف عليها السراق والطلب ، قاله السدي والعرب تقول قد أعور منزلك إذا ذهب ستره وسقط جداره وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة ، وقرأ ابن عباس : إن بيوتنا عَوِرة ، بكسر الواو ، أي ممكنة العورة .
ثم قال : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } تكذيباً لهم فيما ذكروه .
{ إِن يُريدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : فراراً من القتل .
الثاني : من الدِّين . وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار من بني حارثة وبني سلمة ، همّوا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ } [ آل عمران : 122 ] الآية . فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما سرّنا ما كنا هممنا به إن كان الله ولينا .


وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)

قوله تعالى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي لو دخل على المنافقين من أقطار المدينة ونواحيها .
{ ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوهَا } فيه وجهان
: أحدهما : ما تلبثوا عن الإجابة إلى الفتنة إلا يسيراً ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعدموا ، قاله السدي .
قوله : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ } الآية ، فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عاهدوه قبل الخندق وبعد بدر ، قاله قتادة .
الثاني : قبل نظرهم إلى الأحزاب ، حكاه النقاش .
الثالث : قبل قولهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا .
وحكي عن ابن عباس أنهم بنو حارثة .
{ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً } يحتمل وجهين
: أحدهما مسئولاً عنه للجزاء عليه .
الثاني : للوفاء به .
قوله تعالى : { قُل مَن الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّن اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } .
فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إن أراد بكم هزيمة أو أراد بكم نصراً ، حكاه النقاش .
الثاني : إن أراد بكم عذاباً ، أو أراد بكم خيراً ، قاله قتادة .
الثالث : إن أراد بكم قتلاً أو أراد بكم توبة ، قاله السدي .


قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)

قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } يعني المثبطين من المنافقين ، قيل إنهم عبد الله بن أُبي وأصحابه .
{ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِليْنَا } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم المنافقون قالوا للمسلمين ما محمد إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا .
الثاني : أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحداً .
الثالث : ما حكاه ابن زيد أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من عند يوم الأحزاب فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال : أنت هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف ، فقال له أخوه كان من أبيه وأمه . هلّم إليّ قد تُبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك ، فقال له : كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } .
{ وَلاَ يَأْتُونَ البََأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : لا يحضرون القتال إلا كارهين وإن حضروه كانت أيديهم مع المسلمين وقلوبهم مع المشركين قاله قتادة .
الثاني : لا يشهدون القتال إلا رياء وسمعة ، قاله السدي ، وقد حكي عن الحسن في قوله تعالى : { وَلاَ يَذْكُرُونَ إلاَّ قَلِيلاً } إنما قل لأنه كان لغير الله عز وجل .
قوله تعالى : { أَشِحَّةً عَلَيكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أشحة بالخير ، قاله مجاهد .
الثاني : بالقتال معكم ، قاله ابن كامل .
الثالث : بالغنائم إذا أصابوها ، قاله السدي .
الرابع : أشحة بالنفقة في سبيل الله ، قاله قتادة .
{ فَإِذَا جَآءَ الْخَوفُ } فيه قولان
: أحدهما : إذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل ، قاله السدي .
الثاني : الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلب ، قاله ابن شجرة .
{ رَأيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِليَكَ } خوفاً من القتال على القول الأول ، ومن النبي صلى الله عليه وسلم على القول الثاني .
{ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة .
الثاني : تدور أعينهم لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } فيه وجهان
: أحدهما : أي رفعوا أصواتهم عليكم بألسنة حداد أي شديدة ذربة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لَعَنَ اللَّهُ السَّالِقَةَ وَالخَارِقَةُ وَالحَالِقَةَ » يعني بالسالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والخارقة التي تخرق ثوبها في المصيبة وبالحالقة التي تحلق شعرها .
الثاني : معناه آذوكم بالكلام الشديد . والسلق الأذى ، قاله ابن قتيبة . قال الشاعر :
ولقد سلقن هوازنا ... بنواهلٍ حتى انحنينا
وقال الخليل : سلقته باللسان إذا أسمعته ما يكره وفي سلقهم بألسنةٍ حداد وجهان :
أحدهما : نزاعاً في الغنيمة ، قاله قتادة .
الثاني : جدالاً عن أنفسهم ، قاله الحسن .
{ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : على قسمة الغنيمة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : على المال ينفقونه في سبيل الله ، قاله السدي .
الثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم بظفره .
{ أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } يعني بقلوبهم
. { فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } يعني حسناتهم أن يثابوا عليها لأنهم لم يقصدوا وجه الله تعالى بها .
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : وكان نفاقهم على الله هيناً .
الثاني : وكان إحباط عملهم على الله هيناً .


يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)

قوله تعالى : { يَحْسَبُونَ الأَحْزَابِ لَمْ يَذْهَبُواْ } يعني أن المنافقين يحسبون أبا سفيان وأحزابه من المشركين حين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلوبين لم يذهبوا عنه وأنهم قريب منهم ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنهم كانواعلى ذلك لبقاء خوفهم وشدة جزعهم .
الثاني : تصنعاً للرياء واستدامة التخوف .
{ وَإِنَ يَأْتِ الأَحْزَابُ } يعني أبا سفيان وأصحابه من المشركين
. { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعرْابِ } أي يود المنافقون لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتل وتربصاً للدوائر .
{ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ } أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون : أما هلك محمد وأصحابه ، أما غلب أبو سفيان وأحزابه .
{ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : إلا كرهاً .
الثاني : إلا رياءً .


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)

قوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } فيه وجهان :
أحدهما : أي مواساة عند القتال ، قاله السدي .
الثاني : قدوة حسنة يتبع فيها ، والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً .
وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه .
الثاني : التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شُج وكُسِرَت رباعيته وقتل عمه حمزة .
{ لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر } فيه وجهان
: أحدهما : لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى .
الثاني : لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، قاله ابن جبير .
{ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } يحتمل وجهين
: أحدهما : أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره .
الثاني : أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين :
أحدهما : المنافقون عطفاً عل ما تقدم من خطابهم .
الثاني : المؤمنون لقوله : { لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } .
واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإِيجاب أو على الاستحباب على قولين :
أحدهما : على الإيجاب حتى يقوم دليل علىلاستحباب .
الثاني : على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب .
ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين ، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا .
قوله تعالى : { وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابِ . . . } الآية . فيه قولان :
أحدهما : أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] الآية . فلما رأواْ أحزاب المشركين يوم الخندق { قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } قاله قتادة .
الثاني : ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال : « أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ » فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ } الآية .
{ . . . إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } فيه قولان
: أحدهما : إلا إيماناً وتسلمياً للقضاء ، قاله الحسن .
الثاني : إلا إيماناً بما وعد الله وتسليماً لأمر الله .


مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)

قوله تعالى : { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } فيهم قولان
: أحدهما : أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا ، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب يشهدها أو أمر بها ، فوفوا بما عاهدوا الله عليه ، قاله أنس بن مالك .
{ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت ، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم :
قضى نحب الحياة وكلُّ حي ... إذا يُدْعى لميتته أجابا
الثاني : فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش ، ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء ، قاله مجاهد .
الثالث : فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي :
حتى تحنّ إلى ابن أكرمها ... حسباً وكن منجز النحب
فيكون النحب على التأويل الأول الأجل ، وعلى الثاني العهد ، وعلى الثالث النذر
. { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : ما غيروا كما غير المنافقون ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار ، وهذا معنى قول الحسن .
قوله : { لِّيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : الذين صدقوا لما رأواْ الأحزاب { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية .
الثاني : الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا .
{ وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ } فيه وجهان
: أحدهما : يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء ، قاله قتادة .
الثاني : يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء ، قاله السدي .
{ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } يحتمل وجهين
: أحدهما : غفرواً بالتوبة رحيماً بالهداية إليها .
الثاني : غفوراً لما قبل التوبة رحيماً لما بعدها .


وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)

قوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَغَيظِهِمْ } يعني أبا سفيان وجموعه من الأحزاب .
{ بِغَيظِهِمْ } فيه وجهان
: أحدهما : بحقدهم .
الثاني : بغمّهم .
{ لَمْ يَنَالُواْ خَيراً } قال السدي لم يصيبوا من محمد وأصحابه ظفراً ولا مغنماً
. { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } فيه وجهان
: أحدهما : بعلي بن ابي طالب كرم الله وجهه . حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بعلي بن أبي طالب .
الثاني : بالريح والملائكة ، قاله قتادة والسدي .
{ وََكَانَ اللَّهُ قَوِياً } في سلطانه . { عَزِيزاً } في انتقامه .


وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)

قوله تعالى : { وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْل الْكِتَابِ } هم بنو قريظة من اليهود ظاهرواْ أبا سفيان ومجموعة من الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عاونوه والمظاهرة هي المعاونة . وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه فغزاهم بعد ستة عشر يوماً من الخندق قال قتادة نزل عليه جبريل وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه فقال عفا الله عنك ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة فانهد إلى بني قريظة فإني قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى نزلوا على التحكيم في أنفسهم .
وفيمن نزلوا على حكمه قولان :
أحدهما : أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل مقاتلوهم ويسبى ذراريهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه : آثرت المهاجرين بالعقار علينا ، فقال : إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال « قُضِيَ فِيهِم بِحُكْمِ اللَّهِ » قاله قتادة
. الثاني : أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحكموا سعداً لكن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فقال : « أَشِر عَلَيَّ فِيهِم » فقال : لو وليتني أمرهم لقتلت مقاتليهم ولسبيت ذراريهم ولقسمت أموالهم فقال : « وَالَّذِي نَفْسِ بِيَدِهِ لََقَدْ أَشَرتَ عَلَيَّ فِيهِم بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ » وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبيه .
{ مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم قال الشاعر
:
فأصبحت النسوان عقرى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرْن الصياصيا .
وسميت بذلك لامتناعهم بها ، ومنه سميت قرون البقر صياصي لامتناعها بها ، وسميت شوكة الديك التي في ساقه صيصية .
{ وَقَذَفَ فِي قُُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } قال قتادة بصنيع جبريل بهم
. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } حكى عطية القرظي أنهم عُرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة فمن كان احتلم أو نبتت عانته قتل ، فنظروا إليّ فلم تكن نبتت عانتي فتركت فقيل إنه قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله بقوله { فَرِيقاً تقتلون } وسبي سبعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله { وتأسرون فريقاً } وقال قتادة : قتل أربعمائة وسبى سبعمائة .
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُم وَأَمْوَالَهُم } يريد بالأرض النخل والمزارع ، وبالدبار المنازل وبالأموال المنقولة .
{ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا } فيها أربعة أقاويل
: أحدها : أنها مكة ، قاله قتادة .
الثاني : خيبر ، قاله السدي وابن زيد .
الثالث : فارس والروم ، قاله الحسن .
الرابع : ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة ، قاله عكرمة .
{ وَكَانَ اللَّهُ علََى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قديرٌ ، قاله ابن اسحاق .
الثاني : على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى ، قدير ، قاله النقاش .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله تعالى : { يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا } الآية .
وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه ، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين :
أحدهما : خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل .
روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه ، فقال : « إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبُوَيكِ » وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي . وقال سعيد بن جبير : إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها .
واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل :
أحدها : لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة على الدنيا وقال : « اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين » فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره . حكاه أبو القاسم الصيمري .
الثاني : لأنهن تغايرن عليه ، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين ، فقلت يا رسول الله : ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً؟ فقال : « إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، » ثم خنس الإبهام ، ثم قال يا عائشة : « إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ » وخشي حداثة سني قلت : وما ذاك؟ قال « أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ
» . الثالث : أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً ، فلم يقدر عليه ، وسألته ميمونة حلة يمانية ، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني ، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً ، وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر ، وسألته جويرية معجزاً ، وسألته سودة قطيفة جبيرية ، وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً ، فأمر الله تعالى بتخييرهن ، حكاه النقاش .
الرابع : لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن : لو كنا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي ، فأنزل الله تعالى آية التخيير ، حكاه النقاش .
الخامس : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده ، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن . قال مقاتل بن حيان : قاله الحسن وقتادة : وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية ، خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة ، هؤلاء خمس من قريش ، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية . فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين :

أحدهما : بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ } تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن .
الثاني : أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال { لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد . . . } الآية . فكان تحريم طلاقهن مستداماً . وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته .
ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين :
أحدهما : أنه كان تحريمه عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن .
الثاني : أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه ، لأن علة التحريم الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها . قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء ، يعني اللاتي حظرن عليه ، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } الآية .
فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب .
أحدها : إن اخترن الزوج فلا فرقة ، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية . وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي .
الثاني : إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة ، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب ، وهذا قول عليّ رضي الله عنه .
الثالث : إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب ، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا قول زيد بن ثابت .


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)

قوله عز وجل : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فيها قولان
: أحدهما : الزنى ، قاله السدي .
الثاني : النشوز وسوء الخلق ، قاله ابن عباس .
{ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } فيه قولان
: أحدهما : أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال مقاتل : حدّان في الدنيا غير السرقة .
وقال أبو عبيدة والأخفش : الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة ، فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضِعْفا الواحد ثلاثة .
وقال ابن قتيبة : المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين .
وقال آخر : إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله .
قال سعيد بن جبير : فجعل عذابهن ضعفين ، وجعل على من قذفهن الحد ضعفين .
{ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } أي هيناً
. قوله عز وجل : { وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة .
{ وَتَعْمَلُ صَالِحاً } أي فيما بينها وبين ربها
. { نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين } أي ضعفين ، كما كان عذابها ضعفين . وفيه قولان
: أحدهما : أنهما جميعاً في الآخرة .
الثاني : أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة .
{ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا ، لكونه واسعاً حلالاً .
الثاني : في الآخرة وهو الجنة .
{ كَرِيماً } لكرامة صاحبه ، قاله قتادة .


يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)

قوله عز وجل : { يَا نِسَآءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَآءِ } قال قتادة : من نساء هذه الأمة .
{ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } قال مقاتل : إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء
. { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } فيه ستة أوجه
: أحدها : معناه فلا ترققن بالقول .
الثاني : فلا ترخصن بالقول ، قاله ابن عباس .
الثالث : فلا تُلِن القول ، قاله الفراء .
الرابع : لا تتكلمن بالرفث ، قاله الحسن . قال متمم .
ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة ... عليه بزوّار القرائب أخضعا
الخامس : هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب
. السادس : هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال ، قاله ابن زيد .
{ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } فيه قولان
: أحدهما : أنه شهوة الزنى والفجور ، قاله عكرمة والسدي .
الثاني : أنه النفاق ، قاله قتادة . وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون .
{ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : صحيحاً ، قاله الكلبي .
الثاني : عفيفاً ، قاله الضحاك .
الثالث : جميلاً .
قوله عز وجل : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرئت على وجهين :
أحدهما : بفتح القاف ، قرأه نافع وعاصم ، وتأويلها اقررن في بيوتكن ، من القرار في مكان .
الثاني : بكسر القاف : قرأها الباقون ، وتأويلها كن أهل وقار وسكينة .
{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } وفي خمسة أوجه
: أحدها : أنه التبختر ، قاله ابن أبي نجيح .
الثاني : كانت لهن مشية تكسرٍ وتغنج ، فنهاهن عن ذلك ، قاله قتادة ، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « المَائِلاَتُ المُمِيلاَتُ : اللاَّئِي يَسْتَمِلْنَ قُلُوبَ الرِّجَالِ إلَيهِنَّ
» . الثالث : أنه كانت المرأة تمشي بين يدي الرجل ، فذلك هو التبرج ، قاله مجاهد .
الرابع : هو أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ليواري قلائدها وعنقها وقرطها ، ويبدو ذلك كله منها ، فذلك هو التبرج ، قال مقاتل بن حيان .
الخامس : أن تبدي من محاسنها ما أوجب الله تعالى عليها ستره ، حكاه النقاش وأصله من برج العين وهو السعة فيها .
وفي { الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } أربعة أقاويل :
أحدها : ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، قاله الشعبي وابن أبي نجيح .
الثاني : زمان إبراهيم ، قاله مقاتل والكلبي ، وكانت المرأة في ذلك الزمان تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق ، وكان زمان نمرود .
الثالث : أنه ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة ، وكان نساؤهم أقبح ما تكون النساء ، ورجالهم حسان ، وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها ، فهو تبرج الجاهلية الأولى : قاله الحسن .
الرابع : أنه ما بين نوح وإدريس . روى عكرمة عن ابن عباس أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة . وفيه قولان :
أحدهما : أنه كانت المرأة في زمانها تجمع زوجاً وخلما ، والخلم الصاحب ، فتجعل لزوجها النصف الأسفل ولخلمها نصفها الأعلى ، ولذلك يقول بعض الخلوم :
فهل لك في البدال أبا خبيب ... فأرضى بالأكارع والعجُوز
الثاني : وهو مبدأ الفاحشة ، وهو أن بطنين من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة ، وأن إبليس اتخذ لهم عيداً فاختلط أهل السهل بأهل الجبل فظهرت الفاحشة فيهم ، فهو تبرج الجاهلية .

قوله عز وجل : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } وفي الرجس ها هنا ستة أقاويل :
أحدها : الإثم ، قاله السدي .
الثاني : الشرك ، قاله الحسن .
الثالث : الشيطان ، قاله ابن زيد .
الرابع : المعاصي .
الخامس : الشك .
السادس : الأقذار .
وفي قوله تعالى { أَهْلَ الْبَيْتِ } - ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، قاله أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم .
الثاني : أنه عنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، قاله ابن عباس وعكرمة .
الثالث : أنها في الأهل والأزواج ، قاله الضحاك .
{ وَيُطَهّرَكُمْ تطْهِيراً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : من الإثم ، قاله السدي .
الثاني : من السوء ، قاله قتادة .
الثالث : من الذنوب ، قاله الكلبي ، ومعانيها متقاربة .
وفي تأويل هذه الآية لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه :
أحدها : يذهب عنكم رجس الأهواء والتبرج ويطهركم من دنس الدنيا والميل إليها .
الثاني : يذهب عنكم رجس الغل والحسد ، ويطهركم بالتوفيق والهداية .
الثالث : يذهب عنكم رجس البخل والطمع ويطهركم بالسخاء والإيثار ، روى أبو ليلى الكندي عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها على منام له ، عليه كساء خيبري .
قوله عز وجل : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ } قال قتادة القرآن .
{ وَالْحِكْمَةِ } فيها وجهان
: أحدهما : السنة ، قاله قتادة .
الثاني : الحلال والحرام والحدود ، قاله مقاتل .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } قال عطية العوفي : لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها .


إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)

قوله عز وجل : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } سبب نزول هذه الآية ما رواه يحيى بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ما للرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء؛ فنزلت { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } - الآية وفيها قولان :
أحدهما : يعني بالمسلمين والمسلمات المتذللين والمتذللات . وبالمؤمنين والمؤمنات المصدقين والمصدقات .
الثاني : أنهما في الدين ، فعلى هذا في الإسلام والإيمان قولان :
أحدهما : أنهما واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء .
الثاني : أنهما مختلفان على قولين :
أحدهما : أن الإسلام الإقرار باللسان ، والإيمان التصديق به ، قاله الكلبي .
الثاني : أن الإسلام هو اسم الدين والإيمان هو التصديق به والعمل عليه .
{ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : المطيعين والمطيعات ، قاله ابن جبير .
الثاني : الداعين والداعيات .
{ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : الصادقين في إيمانهم والصادقات ، قاله ابن جبير .
الثاني : في عهودهم .
{ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : على أمر الله ونهيه ، قاله ابن جبير .
الثاني : في البأساء والضراء .
{ والْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : المتواضعين والمتواضعات ، قاله ابن جبير .
الثاني : الخائفين والخائفات : قاله يحيى بن سلام وقتادة .
الثالث : المصلين والمصليات ، قاله الكلبي .
{ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : المتصدقين والمتصدقات بأنفسهم في طاعة الله .
الثاني : بأموالهم . ثم فيه وجهان :
أحدهما : المؤدين الزكوات المفروضات .
الثاني : المتطوعين بأداء النوافل بعد المفروضات ، قاله ابن شجرة .
{ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : الإمساك عن المعاصي والقبائح .
الثاني : عن الطعام والشراب وهو الصوم الشرعي . وفيه وجهان :
أحدهما : صوم الفرض .
الثاني : شهر رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر ، قاله ابن جبير . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صَومُ الشَّهْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يُذْهِبْنَ وَغْرَ الصَّدْرِ
» . { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } فيه وجهان
: أحدهما : عن الفواحش .
الثاني : أنه أراد منافذ الجسد كلها فيحفظون أسماعهم عن اللغو والخنا ، وأفواههم عن قول الزور وأكل الحرام . وفروجهم عن الفواحش .
{ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } فيهم ثلاثة أوجه
: أحدها : باللسان قاله يحيى بن سلام .
الثاني : التالون لكتابه ، قاله ابن شجرة .
الثالث : المصلين والمصليات ، حكاه النقاش .
{ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجَرْاً عَظِيماً } لعلمهم ، قاله ابن جبير ، قال قتادة : وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء فذكرن بخير .


وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنُ أَمْرِهِمْ } فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله بن جحش وأنهما ولدا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهما أميمة بنت عبد المطلب وأن زيداً كان بالأمس عبداً فنزلت هذه الآية فقالت : أمري بيدك يا رسول الله فزوجها به ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة . قال مقاتل : ساق إليها عشرة دنانير وستين درهماً وملحفة ودرعاً وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر .
الثاني : أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال « قَدْ قَبِلْتُ » فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزّوجنا عبده فنزلت هذه الآية ، قاله ابن زيد .
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } فيه قولان
: أحدهما : فقد جار جوراً مبيناً ، قاله ابن شجرة .
الثاني : فقد أخطأ خطأ طويلاً ، قاله السدي ومقاتل .


وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)

قوله تعالى : { وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِيّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } قال قتادة والسدي وسفيان هو زيد بن حارثة وفيه وجهان :
أحدهما : أنعم الله عليه لمحبة رسوله وأنعم الرسول عليه بالتبني .
الثاني : أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعتق .
{ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } يعني زينب بنت جحش ، قاله الكلبي ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزل زيد زائراً فأبصرها قائمة فأعجبته فقال : « سُبْحَانَ مُقَلّبَ القُلُوبِ » فلما سمعت زينب منه ذلك جلست قال أبو بكر بن زياد : وجاء زيد إلى قوله فذكرت له ذلك فعرف أنها وقعت في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن فيها كِبْراً وإنها لتؤذيني بلسانها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم « اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ » وفي قلبه صلى الله عليه وسلم غير ذلك .
{ وَتُخْفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها .
الثاني : إشارة لطلاقها ، قاله ابن جريج .
الثالث : أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوجها .
الرابع : أن الذي أخفاه في نفسه أن الله أعلمه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، قاله الحسن .
{ وَتَخْشى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } فيه وجهان
: أحدهما : أن نبي الله خشي قالة الناس ، قاله قتادة .
الثاني : أنه خشي أن يبديه للناس فأيّد الله سره ، قاله مقاتل بن حيان .
قال الحسن : ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد عليه منها .
وقال عمر بن الخطاب : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية التي أظهرت غيبه .
{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر الأرب المنتهي وفيه هنا قولان
: أحدهما : أنه الحاجة ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه الطلاق ، قاله قتادة .
قال يحيى بن سلام : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد فقال له « ائْتِ زَينبَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ زَوَّجْنِيهَا » فانطلق زيد فاستفتح الباب فقالت من هذا؟ فقال : زيد قالت : وما حاجة زيد إليّ وقد طلقني؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك فقالت : مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد : لا أبْكَى الله لَكِ عيناً قد كنت نعمت المرأة إن كنت لتبرين قسمي وتطيعين أمر الله وتشبعين مسرتي فقد أبدلك الله خيراً مني فقالت : من لا أبا لك؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة لله تعالى قال الضحاك : فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ في عسرة فأصدقها قِرْبَةً وعَبَاءَةً ورحى اليد ووسادة حَشْوُهَا ليف وكانت الوليمة تمراً وسُوَيقاً . قال أنس فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن . قال قتادة : فكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني ربُّ العرش تبارك وتعالى .

{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } حكى ابن سلام أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم زعمت أن حليلة الابن لا تحل للأب وقد تزوجت حليلة ابنك زيد فقال الله تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجلٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ } أي أن زيداً دعيٌّ وليس بابن من الصلب فلم يحرم نكاح زوجته .
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفعُولاً } أي كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش حكماً لازماً وقضاء واجباً ، ومنه قول الشاعر :
حتى إذا نزلت عجاجة فتنة ... عمياء كان كتابها مفعولاً


مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)

قوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش ، قاله مقاتل .
الثاني : التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد تطوع عليها وأعطاها الصداق ، قاله الحسن .
الثالث : في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك ، قاله الضحاك .
قال الطبري : نكح رسول الله خمس عشرة ، ودخل بثلاثة عشرة ، ومات على تسع ، وكان يقسم لثمان .
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية .
{ وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } فيه وجهان
: أحدهما : فعلاً مفعولاً ، قاله الضحاك .
الثاني : قضاء مقضياً وهو قول الجمهور . وكانت زينب إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت : واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس : يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئاً فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال : نِعم خباء الظعينة .


الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)

قوله تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } يعني زيد بن حارثة فإن المشركين قالوا إن محمد تزوج امرأة ابنه فأكذبه الله بقوله { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم } أي لم يكن أباً لزيد .
{ وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ } يعني آخرهم وينزل عيسى فيكون حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيقتل الدجال ويكسر الصليب وقد روى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرجُ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاَثِينَ كُلُّهُم يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌ وَلا نَبِيَّ بَعْدِي » قال مقاتل بن سليمان ولم يجعل محمداً أبا أحد من الرجال لأنه لو جعل له ابناً لجعله نبياً وليس بعده نبي قال الله { وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ } .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)

قوله تعالى : { اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } فيه قولان
: أحدهما : ذاكروه بالقلب ذكراً مستديماً يؤدي إلى طاعته واجتناب معصيته .
الثاني : اذكروا الله باللسان ذكراً كثيراً ، قاله السدي . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَن عَجَزَ عَنِ اللَّيْلِ أَن يُكَابِدَهُ ، وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَن يُجَاهِدَهُ ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَن يُنفِقَهُ فَلْيَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ » وفي ذكره هنا وجهان :
أحدها : الدعاء له والرغبة إليه ، قاله ابن جبير .
الثاني : الإقرار له بالربوبية والاعتراف له بالعبودية .
قوله : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً } قال قتادة صلاة : الصبح والعصر ، قال الأخفش : والأصيل ما بين العصر والليل . وقال الكلبي : الأصيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء .
وفي التسبيح هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح الخاص الذي هو التنزيه .
الثاني : أنه الصلاة .
الثالث : أنه الدعاء ، قاله جرير .
فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يونسا ... دعا ربه فانتاشه حين سبحا .
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلآئِكَتُهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه ثناؤه ، قاله أبو العالية .
الثاني : كرامته ، قاله سفيان .
الثالث : رحمته ، قاله الحسن .
الرابع : مغفرته ، قاله ابن جبير .
وفي صلاة الملائكة قولان :
أحدهما أنه دعاؤهم ، قاله أبو العالية .
الثاني : استغفارهم ، قاله مقاتل بن حيان .
{ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : من الكفر إلى الإيمان ، قاله مقاتل .
الثاني : من الضلالة إلى الهدى ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثالث : من النار إلى الجنة .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)

قوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } قال ابن عباس شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار .
قوله : { وَدَاعِياَ إلَى اللَّه بِإِذْنِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلى طاعة الله ، قاله ابن عيسى .
الثالث : إلى الإسلام ، قاله النقاش .
وفي قوله : { بِإِذْنِهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : بأمره ، قاله ابن عباس .
الثاني : بعمله قاله الحسن .
الثالث : بالقرآن ، قاله يحيى بن سلام .
{ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } فيه قولان
: أحدهما : أنه القرآن سراج منير أي مضيء لأنه يُهْتدى به ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه الرسول كالسراج المنير في الهداية ، قاله ابن شجرة ، ومنه قول كعب بن زهير :
إن الرسول لنورُ يستضاءُ به ... مُهَنّدُ من سيوف الله مَسْلول
قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } فيه وجهان
: أحدهما : ثواباً عظيماً ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه الجنة ، قاله قتادة والكلبي ، وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أنزل الله عليه { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } [ الفتح : 1 ] الآيات فقال المسلمون هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما لنا يا رسول الله؟ فأنزل الله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية .
قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله ابن أُبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد اذكر أن لآلهتنا شفاعة .
فقال الله : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } وفيه أوجه :
أحدها : دع ذكر آلهتهم أن لها شفاعة ، قاله مقاتل .
الثاني : كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ، قاله الكلبي .
الثالث : معناه اصبر على أذاهم ، قاله قتادة وقطرب .
الرابع : هو قولهم زيد بن محمد وما تكلموا به حين نكح زينب . قاله الضحاك .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)

قوله تعالى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ . . . } الآية . أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث . وإن كان ثلاثاً حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثاً [ فهي ] طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور .
وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان :
أحدهما : وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما .
والقول الثاني : وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه .
{ . . فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلاً من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن .
فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان :
أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة .
الثاني : لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح .
وفي قوله : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } وجهان :
أحدهما : أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه طلاقها طاهراً من غير جماع ، قاله قتادة .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد . وأما إحلال غيرهن فلا لقوله { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعُدْ } .
الثاني : أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ } .
الثالث : أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله .
{ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } يعني الإماء
. { مِمَّا أَفَّآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم . ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما .
{ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ } قاله أُبي بن كعب ثم قال : { اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني المسلمات .
الثاني : المهاجرات إلى المدينة . روى أبو صالح عن أم هانىء قالت : نزلت هذه الآية وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين :
أحدهما : أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة .
الثاني : أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية . وليست شرطاً في إحلال الأجنبيات .
{ وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ } اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين :
أحدهما : لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل .
الثاني : أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها ، وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها ، ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها .
واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب ، وكانت امرأة صالحة ، قاله عروة بن الزبير .
الثاني : أنها خولة بنت حكيم ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها .
الثالث : أنها ميمونة بنت الحارث ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار . قاله الشعبي .
{ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر .
وليس ذلك لأحد من المؤمنين ، قاله قتادة .
الثاني : أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين ، قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب .
الثالث : أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين ، قاله الشافعي .
قوله عز وجل : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين .
الثاني : فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة ، وهذا قول مجاهد .
الثالث : فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن . قاله بعض الفقهاء .
{ وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ } يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق { لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه راجع إلى قوله : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } ؛ قال ابن عيسى .
الثاني : إلى قوله : { وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام .


تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)

قوله عز وجل : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن ، قاله ابن عباس .
الثاني : تترك نكاح من تشاء وتنكح من تشاء ، قاله الحسن .
الثالث : تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها ، وتأتي من شئت من أزواجك فلا تعزلها ، قاله مجاهد . ويدل على أن القَسم في هذا التأويل كان ساقطاً عنه .
الرابع : تؤخر من تشاء من أزواجك ، وتضم إليك من تشاء منهن ، قاله قتادة . وروى منصور عن ابن رزين قال : بلغ بعض نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يخلي سبيلهن ، فأتينه فقلن : لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك ، فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة فكان ممن أرجأ جويرية وميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة . وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما تشاء ، وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمه في ماله ونفسه فيهن سواء .
{ وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } أي من ابتغيت فأويته إليك ممن عزلت أن تؤديه إليك .
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فيهن وجهان
: أحدهما : فلا جناح عليك في من ابتغيت ، وفي من عزلت . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : فلا جناح في من عزلت أن تؤويه إليك ، قاله مجاهد .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتيتَهُنَّ كُلُهُنَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إذا علمن أنه لا يطلقهن قرت أعينهن ولم يحزن .
الثاني : إذا علمن أنه لا يتزوج عليهن قرت أعينهن ولم يحزن . قاله قتادة .
الثالث : إذا علمن أن هذا من حكم الله تعالى فيهن قَرَّت أعينهن ولم يحزن . قاله قتادة .
الرابع : أنهن علمن أن له ردهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرَّت أعينهن ولم يحزن ، قاله مجاهد .


لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)

قوله عز وجل : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : لا يحل لك نساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . قال ابن عباس وقتادة . وهن التسع صار مقصوراً عليهن وممنوعاً من غيرهن .
الثاني : لا يحل لك النساء من بعد الذي أحللنا لك بقولنا { إِنَّآ أحْلَلْنَا لَكَ أَزَْوَاجَكَ اللاَّتِي ءَآتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } إلى قوله { إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } الآية .
وكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته المهاجرات معه ، قاله أبي بن كعب .
الثالث : لا يحل لك النساء من غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات ، ويحل ما سواهن من المسلمات ، قاله مجاهد .
{ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنَهُنَّ } فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : ولا أن تبدل بالمسلمات مشركات ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تطلق زوجاتك لتستبدل بهن من أعجبك حسنهن ، قاله الضحاك . وقيل التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها .
الثالث : ولا أن تبدل بأزواجك زوجات غيرك فإن العرب كانوا في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويأخذ بها منه زوجته بدلاً منها ، قاله ابن زيد .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤذَنَ لَكُمْ } سبب نزل هذه الآية ما رواه أبو نضرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون ، فكره ذلك وكان إذا كره الشىء عُرف من وجهه فلما كان العَشي خرج فصعد المنبر فتلا هذه الآية .
قوله عز وجل : { إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ } فيه تأويلان :
أحدهما : غير منتظرين نضجه ، قاله الضحاك ومجاهد .
الثاني : غَيْرَ متوقعين لحينه ووقته ، قاله قتادة .
{ وَلكِن إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ } فدل هذا على حظر الدخول بغير إذن
. { فَإذَا طَعِمْتُمْ فآنتَشِرُواْ } أي فاخرجوا ، فدلّ على أن الدخول للأكل يمنع من المقام بعد الفراغ من الأكل .
{ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ . . . } روى أبو قلابة عن أنس . قال : لما أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش وضع طعاماً ودعا قوماً فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود فأنزل الله تعالى : { فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواْ } .
قوله عز وجل : { . . فَيَسْتَحْي مِنكُمْ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبركم .
{ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ } أن يأمركم به
. { وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : حاجة ، قاله السدي .
الثاني : صحف القرآن ، قاله الضحاك .
الثالث : عارية ، قاله مقاتل . ومعانيها متقاربة .
{ فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أمرن وسائر النساء بالحجاب عن أبصار الرجال وأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء .
وفي سبب الحجاب ثلاثة أقاويل :
أحدها ما رواه مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب ، فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال عمر لو أُطَاعُ فيكن ما رأتكن عين ، فنزلت آيات الحجاب .
الثاني : ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إلى المباضع وهي صعيد أفيح يتبرزن فيه ، وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : احجب نساءك يا رسول الله ، فلم يكن يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي ، وكانت امرأة طويلة فناداها بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ، حرصاً أن ينزل الحجاب قالت : فأنزل الله تعالى الحجاب .
الثالث : ما روى ابن مسعود أن عمر رضي الله عنه أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب بنت جحش : يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزلت الآية : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حَجَابٍ } .
{ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أطهر لها من الريبة .
الثاني : أطهر لها من الشهوة .
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤُذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلآَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً } حكى السدي أن رجلاً من قريش من بني تميم قال عند نزول الحجاب أيحجبنا رسول الله عن بنات عمنا ويتزوج نساءَنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده ، فأنزلت هذه الآية . ولتحريمه تعديهن لزمت نفقاتهن من بيت المال .
واختلف أهل العلم في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن على وجهين :
أحدهما : لا تجب عليهن العدة لأنها مدة تربص ينتظر بها الإباحة .
الثاني : تجب لأنها عبادة وإن لم تعقبها إباحة .


لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)

قوله عز وجل : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِّي ءَابَآئِهِنَّ وَلآ أَبْنَآئِهِنَّ } فيه قولان
: أحدهما : لا جناح عليهن في ترك الحجاب . قاله قتادة .
الثاني : في وضع الجلباب ، قاله مجاهد .
{ وَلاَ إخْوَانِهِنَّ وَلآَ أَبْنَآءِ إخَوَانِهِنَّ وَلآ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ } قال الشعبي لم يذكر العم لأنها تحل لابنه فيصفها له .
{ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } فيه وجهان
: أحدهما : يعني النساء المسلمات دون المشركات ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه في جميع النساء .
{ وَلاَ مَا مَلََكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيه قولان
: أحدهما : الإماء دون العبيد ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنه عام في الإماء والعبيد . واختلف من قال بهذا فيما أبيح للعبد على قولين :
أحدهما : ما أبيح لذوي المحارم من الآباء والأبناء ما جاوز السرة وانحدر عن الركبة لأنها تحرم عليه كتحريمها عليهم .
الثاني : ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها ، قاله إبراهيم . لأنه العبد وإن حرم في الحال فقد يستباح بالعتق في ثاني حال . وسبب نزول هذه الآية ما حكاه الكلبي أنه لما نزل في آية الحجاب { وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مَن ورَآءِ حَجَابٍ } قام الآباء والأبناء وقالوا يا رسول الله نحن لا نكلمهن أيضاً إلا من وراء حجاب ، فنزلت هذه الآية .


إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)

قوله عز وجل : { إنَّ اللَّهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء ، قاله أبو العالية .
الثاني : أن صلاة الله تعالى عليه المغفرة له ، وصلاة الملائكة الاستغفار له ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أن صلاة الله تعالى عليه رحمته ، وصلاة الملائكة الدعاء له ، قاله الحسن ، وهو معنى قول عطاء بن أبي رباح .
الرابع : أن صلاتهم عليه أن يباركوا عليه؟ قاله ابن عباس .
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيماً } روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : بلى . قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال : « قُولُواْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ . اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
» . قال أبو العباس ثعلب : معنى قولنا اللهم صل على محمد أي زد محمداً بركة ورحمة ، ويجري فيه التأويلات المذكورة .
وقوله تعالى : { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } يحتمل وجهين :
أحدهما : سلموا لأمره بالطاعة له تسليماً .
الثاني : وسلموا عليه بالدعاء له تسليماً أي سلاماً .
حكى مقاتل قال : لما نزلت هذه الآية قال المسلمون فما لنا يا رسول الله؟ فنزلت { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ } الآية .


إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)

قوله عز وجل : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أصحاب التصاوير؛ قاله عكرمة .
الثاني : أنهم الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبهتونه قاله يحيى بن سلام .
وفي قوله : { يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه يؤذون أولياء الله .
الثاني : أنه جعل أذى رسوله صلى الله عليه وسلم أذى له تشريفاً لمنزلته .
الثالث : هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يَشْتُمَنِي ، وَكَذَّبَنِي وَمَا كَانَ لَهُ أَن يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَولُهُ إِنَّ لِيَ وَلَداً وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ إنِّي لاَ أَبْعَثُ بَعدَ المَوتِ أَحداً . وَلَعنُة الدُّنْيَا التَّقْتِيلُ وَالجَلاَءُ ، وَلَعْنَةُ الآخرَةِ النَّارُ
» . قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الآية . فيمن نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الزناة وكانوا يمشون فيرون المرأة فيغمزونها؛ قاله الكلبي .
الثاني : نزلت في قوم كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه ، ويكذبون عليه ، قاله مقاتل والنقاش .
الثالث : أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك ، قاله الضحاك . وروى قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها ذات ليلة فأفزعه ذلك حتى انطلق إلى أبيّ فقال يا أبا المنذر إني قرأت كتاب الله فوقعت مني كل موقع . { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ } والله إني لأعاقبهم وأضربهم ، فقال : إنك لست منهم ، إنما أنت مؤدب ، إنما أنت معلم .


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)

قوله تعالى : { . . . يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أن الجلباب الرداء ، قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : أنه القناع؛ قاله ابن جبير .
الثالث : أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، قاله قطرب .
وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان :
أحدهما : أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها ، قاله عكرمة .
الثاني : أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى ، قاله عَبيدة السلماني .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } فيه وجهان
: أحدهما : ليعرفن من الإماء بالحرية .
الثاني : يعرفن من المتبرجات بالصيانة . قال قتادة : كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء .
قوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الزناة ، قاله عكرمة والسدي .
الثاني : أصحاب الفواحش والقبائح ، قاله سلمة بن كهيل .
وفي قوله : { لَّئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } قولان :
أحدهما : عن إيذاء نساء المسلمين قاله الكلبي .
الثاني : عن إظهار ما في قلوبهم من النفاق ، قاله الحسن وقتادة .
{ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الذين يكاثرون النساء ويتعرضون لهن ، قاله السدي .
الثاني : أنهم الذين يذكرون من الأخبار ما يضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين قاله قتادة .
الثالث : أن الإرجاف التماس الفتنة ، قاله ابن عباس ، وسيت الأراجيف لاضطراب الأصواب بها وإفاضة الناس فيها .
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لنعلمنك بهم ، قاله السدي .
الثالث : لنحملنك على مؤاخذتهم ، وهو معنى قول قتادة .
{ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً } قيل بالنفي عنها ، وقيل الذي استثناه ما بين قوله لهم اخرجوا وبين خروجهم .
قوله : { سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني سنته فيهم أن من أظهر الشرك قتل ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : سنته فيهم أن من زَنَى حُد ، وهو معنى قول السدي .
الثالث : سنته فيهم أن من أظهر النفاق أبعد ، قاله قتادة .
{ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } فيه وجهان
: أحدهما : يعني تحويلاً وتغييراً ، حكاه النقاش .
الثاني : يعني أن من قتل بحق فلا دية له على قاتله ، قاله السدي .


يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)

قوله : { . . . إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرآءَنَا } في السادة هنا ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم الرؤساء .
الثاني : أنهم الأمراء ، قاله أبو أسامة .
الثالث : الأشراف ، قاله طاوس .
وفي الكبراء هنا قولان :
أحدهما : أنهم العلماء ، قاله طاووس .
الثاني : ذوو الأسنان ، وهو مأثور .
{ فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ } يعني طريق الإيمان
. وفي قوله الرسولا والسبيلا وجهان :
أحدهما : لأنها مخاطبة يجوز مثل ذلك فيها عند العرب ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أن الألف للفواصل في رؤوس الآي ، قاله ابن عيسى ، وقيل إن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من قريش هم المطعمون يوم بدر .
قوله : { رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : عذاب الكفر وعذاب الإضلال .
{ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } بالباء قراءة عاصم يعني عظيماً وقرأ الباقون بالتاء يعني اللعن على اللعن .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)

قوله : { يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامُنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ أَذَواْ مُوسَى } معناه لا تؤذوا محمداً فتكونوا كالذين آذواْ موسى .
وفيما آذوا به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قولان :
أحدهما : قولهم زيد بن محمد ، حكاه النقاش .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : « رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبِرَ » قاله أبو وائل .
وفيما أوذي به موسى عليه السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن رَمَوهُ بالسحر والجنون .
الثاني : ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيّاً سَتِيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِن جَسَدِهِ شَيءٌ يَسْتَحَيا مِنُه فآذَاهُ مَن آذَاهُ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالُواْ مَا يَسْتَتِرُ إلاَّ مِن عَيبٍ بِجِلْدِهِ أَوْ جِسْمِهِ ، إمَّا مِن بَرَصٍ وَإمَّا آدَرٌ أَوْ بِهِ آفَةٌ وَإنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا قَالُواْ وَإنَّ مُوسَى خَلاَ يَوماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثَوبِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإنَّ الْحَجَرَ عَدَا بثيَابِهِ فَطَلَبَهُ مُوسَى فَانتَهَى إلَى مَلإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ فَرأَوهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجالِ خَلْقاً فَبَرَّأَهُ اللَّه مِمَّا قَالُواْ
» . الثالث : ما رواه ابن عباس عن علي رضي الله عنه أن موسى صعد وهارون الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حباً فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجلس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته ثم دفنته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وأن الله جعله أصم أبكم ومات هارون قبل موسى في التيه ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين .
{ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أنه المقبول ، قاله ابن زيد .
الوجه الثاني : لأنه مستجاب الدعوة قاله الحسن .
الثالث : لأنه ما سأل الله شيئاً إلا أعطاه إلى النظر ، قاله ابن سنان . قاله قطرب : والوجيه مشتق من الوجه لأنه أرفع الجسد .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)

قوله : { َوَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : عدلاً ، قاله السدي .
الثاني : صدقاً ، قاله قتادة .
الثالث : صواباً ، قاله ابن عيسى .
الرابع : هو قول لا إله إلا الله ، قاله عكرمة .
الخامس : هو الذي يوافق ظاهره باطنه .
السادس : أنه ما أريد به وجه الله دون غيره .
ويحتمل سابعاً : أن يكون الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض .
{ يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } فيه وجهان
: أحدهما : يصلحها بالقبول .
الثاني : بالتوفيق .


إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)

قوله : { إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته ، قاله أبو العالية .
الثاني : أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن جبير .
الثالث : هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج ، قاله أبي . وقيل إن أول ما خلق الله من آدم الفرج فقال : « يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ
» . الرابع : أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله ، وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل ، قاله السدي .
الخامس : أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين .
وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها . قاله بعض المتكلمين .
الثاني : الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها .
واختلف قائلو هذا على وجهين :
أحدهما : أنها عرضت على السموات والأرض والجبال ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن .
{ فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا } يحتمل وجهين
: أحدهما : أَبَينَ أن يحملنها عجزاً وأشفقن منها خوفاً .
الثاني : أبين أن يحملنها حذراً وأَشْفَقْنَ منها تقصيراً .
{ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } فيه قولان
: أحدهما : جميع الناس ، قاله ثعلب .
الثاني : أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده ، قاله الحسن . روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت : وما فيها؟ قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت : لا . قال مجاهد : فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال : وما هي؟ قال : { إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ } قال تحملتها يا رب . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر .
{ إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : ظلوماً لنفسه ، جهولاً بربه ، قاله الحسن .
الثاني : ظلوماً في خطيئته ، جهولاً فيما حَمَّلَ ولده من بعده ، قاله الضحاك .
الثالث : ظلوماً لحقها ، قاله قتادة . جهولاً بعاقبة أمره ، قاله ابن جريج .
قوله : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل .
الثاني : بخيانتهما الأمانة . قال الحسن : هما اللذان ظلماها ، واللذان خاناها : المنافق ، والمشرك .
{ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } لمن تاب من شِرْكه { رَحِيماً } بالهداية إلى طاعتهK والله أعلم .


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : الذي خلق ما في السموات وما في الأرض .
الثاني : الذي يملك ما في السموات وما في الأرض .
{ ولَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرَةِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : هو حمد أهل الجنة من غير تَكْلِفٍ فسرورهم بحمده كقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعْدَه ، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يعني أن له الحمد في السموات وفي الأرضين لأنه خلق السموات قبل الأرضين فصارت هي الأولى ، والأرضون هي الآخرة ، حكاه النقاش .
الثالث : له الحمد في الآخرة على الثواب والعقاب لأنه عَدْل منه ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } يعني الحكيم في أمره ، الخبير بخلقه
. قوله عز وجل : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وََمَا يَخْرُجُ مِنهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما يلج في الأرض المطر ، وما يخرج منها النبات ، قاله الضحاك .
الثاني : ما يلج فيها الأموات ، قاله الكلبي ، وما يخرج منها كنوز الذهب والفضة ، والمعادن ، حكاه النقاش .
الثالث : ما يلج فيها : البذور ، وما يخرج منها : الزروع .
{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : الملائكة تنزل من السماء وتعرج فيها ، قاله السدي .
الثاني : وما ينزل من السماء : القضاء ، وما يعرج فيها : العمل ، وهو محتمل .
الثالث : ما ينزل من السماء : المطر ، قاله الضحاك ، وما يعرج فيها : الدعاء . وهو محتمل .


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ سَعَواْ فِي ءَايَاتِنَا } فيه وجهان
: أحدهما : أن سعيهم فيها بالجحود لها ، قاله الضحاك .
الثاني : بالتكذيب بها .
{ مُعَاِجِزِينَ } وقرىء . { مُعْجِزِينَ } وفي تأويل معاجزين أربعة أوجه
: أحدها : مسابقين ، قاله قتادة .
الثاني : مجاهدين ، قاله ابن زيد .
الثالث : مراغمين مشاقين ، وهو معنى قول ابن عباس وعكرمة .
الرابع : أي لا يعجزونني هرباً ولا يفوتونني طلباً ، وهو معنى قول الكلبي . وفي تأويل معجزين ثلاثة أوجه :
أحدها : مثبطين الناس عن اتباع الرسول ، قاله مجاهد .
الثاني : مضعّفين لله أن يقدر عليهم ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : معجزين من آمن وصَدَّقَ بالبعث بإضافة العجز إليه .
ويحتمل رابعاً : أنهم نسبوا المؤمنين إلى العجز عن الانتصار لدينهم إما بضعف الحجة وإما بقلة القوة .
{ أُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ } قال قتادة : الرجز هو العذاب الأليم
. قوله عز وجل : { وَيَرَى الَّذينَ أوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم قولان :
أحدهما : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنهم المؤمنون من أهل الكتاب ، قاله الضحاك .
{ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } قال الحسن هو القرآن كله حق
. { وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } فيه قولان
: أحدهما : يهدي إلى دين الله وهو الإسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : إلى طاعة الله وسبيل مرضاته .


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني بالبعث
. { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم
. { يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي يخبركم أنكم إذا متم فأكلتكم الأرض أو الطير حتى صرتم عظاماً ورفاتاً .
{ إنَكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي تحشرون وتبعثون . قيل إن أبا سفيان ابن حرب قال هذا لأهل مكة ، فأجاب بعضهم بعضاً .
{ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } أي قائل هذا أن يكون كذاباً أو مجنوناً فرد الله تعالى عليهم قولهم هذا بأن قال :
{ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ } العذاب في الآخرة ، والضلال البعيد في الدنيا . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه البعيد من الهدى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه الشقاء الطويل ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ألم ينظروا إلى السماء والأرض كيف أحاطت بهم؟ لأنك إن نظرت عن يمينك أو شمالك ، أو بين يديك أو خلفك رأيت السماء والأرض ، قاله قتادة ، إذكاراً لهم بقدرة الله تعالى عليهم وإحاطتها بهم ، لأنهم ، لا يرون لأوليتهما ابتداء ولا لآخرتهما انتهاء ، وإن بعدوا شرقاً وغرباً .
الثاني : يعني { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } فمن أهلكهم الله تعالى من الأمم الماضية في أرضه { وَمَا خَلْفَهُم } من أمر الآخرة في سمائه ، قاله أبو صالح .
{ إن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ } يعني كما خسفنا بمن كان قبلهم
. { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن الكسف العذاب قاله السدي .
الثاني : قطعاً من السماء ليعلموا أنه قادر على أن يعذب بسمائه إن شاء ويعذب بأرضه إن شاء ، وكل خلقه له جند ، قاله قتادة .
{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } فيه أربعة تأويلات
: أحدها : أنه المجيب ، قاله مجاهد وعطاء .
الثاني : أنه المقبل بتوبته ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
أناب إلى قولي فأصبحت مرصداً ... له بالمكافأة المنيبة والشكر
الثالث : أنه المستقيم إلى ربه ، وهو قول الضحاك
. الرابع : أنه المخلص للتوحيد ، حكاه النقاش .


وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } فيه سبعة أقاويل
: أحدها : النبوة .
الثاني : الزبور .
الثالث : فصل القضاء بالعدل .
الرابع : الفطنة والذكاء .
الخامس : رحمة الضعفاء .
السادس : حسن الصوت .
السابع : تسخير الجبال له والطير .
{ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : سبحي معه ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : سيرى معه قاله الحسن وهو من السير ما كان في النهار كله أو في الليل كله ، وقيل : بل هو سير النهار كله دون الليل .
الثالث : ارجعي إذا رجع ، قال الشاعر :
يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب .
أي رجوع بعد رجوع
. { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } قال قتادة كان يعمل به كما يعمل بالطين لا يدخله النار ولا يضربه بمطرقة .
ويحتمل وجهاً آخر أنه سهل له الحديد أن يعمل منه ما شاء وإن كان على جوهره وطبعه من قولهم قد لان لك فلان إذا تسهل عليك .
قوله عز وجل : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } أي درعاً تامة ، ومنه إسباغ النعمة إتمامها ، قال الشاعر :
وأكثرهم دروعاً سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
{ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } فيه قولان
: أحدهما : عدِّل المسامير في الحلقة لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فيسلس ، ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فتنفصم الحلقة ، قاله مجاهد .
الثاني : لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها ، قال قتادة : وكان داود أول من عملها ، وكان قبل ذلك صفائح .
وفي { السَّرْدِ } قولان :
أحدهما : أنه النقب الذي في حلق الدرع ، قاله ابن عباس ، قال لبيد :
وما نسجت أسراد داود وابنه ... مضاعفة من نسجه إذ يقاتل
الثاني : أنه المسامير التي في حلق الدرع ، قاله قتادة ، مأخوذ من قولهم : سرد الكلام يسرده إذا تابع بينه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : في الأشهر الحرم ثلاثة سردٌ وواحد فرد . وقال الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
وحكى ضمرة بن شوذب أن داود عليه السلام كان يرفع كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلآف درهم ، ألفان لأهله ، وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري .
وحكى يحيى بن سلام والفراء أن لقمان حضر داود عند أول درع عملها فجعل يتفكر فيما يريد به ولا يدري ما يريد ، فلم يسله حتى إذا فرغ منها داود قام فلبسها وقال : نعمت جنة الحرب هذه ، فقال لقمان : الصمت حكمة وقليل فاعله .
{ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } فيه وجهان
: أحدهما : هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قاله ابن عباس .
الثاني : فعل جميع الطاعات .
{ إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي يعلم ما تعملون من خير أو شر .


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)

قوله عز وجل : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ } أي وسخرنا لسليمان الريح
. { غُدُوَّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } قال قتادة : تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين .
وقال الحسن : كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ويروح فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للمسرع .
{ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } قال قتادة هي عين بأرض اليمن ، قال السدي : سيلت له ثلاثة أيام ، قال عكرمة : سال له القطر ثلاثة أيام من صنعاء اليمن كما يسيل الماء .
وقال الضحاك : هي عين بالشام .
وفي القطر قولان :
أحدهما : أنه النحاس ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي .
الثاني : الصَّفر ، قاله مجاهد وعطاء وابن زيد .
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } يعني أن منهم من سخره الله تعالى للعمل بين يديه ، فدل على أن منهم غير مسخر .
{ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي بأمر ربه
. { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } فيه قولان
: أحدهما : يعني عن طاعة الله تعالى وعبادته ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عما يأمره سليمان ، قاله قتادة : لأن أمر سليمان كان كأمر الله تعالى لكونه نبياً من أنبيائه .
{ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ } أي النار المسعرة وفيه قولان
: أحدهما : نذيقه ذلك في الآخرة ، قاله الضحاك .
الثاني : في الدنيا ، قاله يحيى بن سلام . لأنه لم يكن يسخر منهم إلا الكفار فإذا آمنوا أرسلوا ، قال وكان مع المسخرين منهم ملك بيده سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان ضربه الملك بذلك السوط .
قوله عز وجل : { يَعْمَلَونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها قصور ، قاله عطية .
الثاني : المساجد ، قاله قتادة ، والحسن .
الثالث : المساكن ، قاله ابن زيد .
قال أبو عبيدة : محراب الدار أشرف موضع فيها ، ولا يكون إلا أن يرتقى إليه .
{ وَتَمَاثِيلَ } هي الصور ، قال الحسن ولم تكن يومئذ محرمة ، وفيها قولان
: أحدهما : أنها من نحاس ، قاله مجاهد .
الثاني : من رخام وشبَه ، قاله قتادة .
ثم فيها قولان :
أحدهما : أنها كانت طواويس وعقاباً ونسوراً على كرسيه ودرجات سريره لكي يهاب من شاهدها أن يتقدم ، قاله الضحاك .
الثاني : صور الأنبياء الذين قبله ، قاله الفراء .
{ وِجِفَانٍ } قال مجاهد : صحاف
. { كَالْجَوَابِ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : كالحياض ، قاله الحسن .
الثاني : كالجوبة من الأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : كالحائط ، قاله السدي .
{ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : عظام ، قاله مجاهد .
الثاني : أن أثافيها منها ، قاله ابن عباس .
الثالث : ثابتات لا يزلن عن أماكنهن ، قاله قتادة ، مأخوذ من الجبال الرواسي لثبوتها وثبوت الأرض بها . قال ابن جريج : ذكر لنا أن تلك القدور باليمن أبقاها الله تعالى آية وعبرة .
{ اعْمَلُواْ ءَال دَاوُدَ شُكْراً } فيه ستة تأويلات
: أحدها : أنه توحيد الله تعالى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : تقوى الله والعمل بطاعته ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : صوم النهار وقيام الليل ، قاله ابن أبي زياد ، فليس ساعة من نهار إلا وفيها من آل داود صائم ولا ساعة من الليل إلا وفيها من آل داود قائم .

الرابع : اعملوا من الأعمال ما تستوجبون عليه الشكر ، قاله ابن عطاء .
الخامس : اذكروا أهل البلاء وسلوا ربكم العافية .
السادس : ما حكاه الفضيل أنه لما قال الله تعالى : { اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً } فقال داود إِلهي كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قاله : « الآنَ شَكَرْتِنِي حِينَ عَلمْتَ أَنَّ النِّعَمَ مِنِّي
» . { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : المؤمن ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الموحّد ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : المطيع ، وهو مقتضى قول محمد بن كعب .
الرابع : ذاكر نعمه ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال : « ثَلاَثَةٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُتُي مِثْلُ مَا أوتِيَ ءَالُ دَاوُد : العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا ، والقَصدُ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى ، وَخَشَيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِ وَالعَلاَنِيَةِ
» . وفي الفرق بين الشاكر والشكور ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الشاكر من لم يتكرر شكره والشكور من تكرر شكره .
الثاني : أن الشاكر على النعم والشكور على البلوى .
الثالث : أن الشاكر خوفه أغلب والشكور رجاؤه أغلب .


فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)

قوله عز وجل : { فََلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ . . } الآية . روى عطاء بن السائب . عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ سُلَيْمَانَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يُصَلِّي صَلاَةً إلاَّ وَجَدَ شََجَرَةً ثَّابِتَةً بَيْنَ يَدَيهِ فَيقُولُ لَهَا : مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ : كَذَا كَذَا ، فَيقُولُ لَمَا أَنتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا ، فَصَلَّى يَوماً فَإِذَا شَجَرةٌ ثَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتْ : الخَرُّوبُ فَقَالَ : لِمَ أَنتَ؟ فَقَالَتْ لِخَرَابِ هذَا البَيْتِ . فَقَالَ سُلَيمَانُ اللَّهُمَّ أَغُمَّ عَلَى الجِنِّ مَوتي حَتَّى يَعْلَمُ الإنسُ أَنَّ الجِنَّ كَانُوا لاَ يَعْلَمُونَ الغَيبَ قَالَ فَهَيَّأََ عَصاً ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيهَا حَولاً وَهُم لا َ يَعلَمُونَ ، قَالَ ثُمَّ أَكَلَتْهَا الأَرَضَةُ فَسَقَطَ فَعَلِمُواْ عِندَ ذَلِكَ مَوتَهُ فَشَكَرَتِ الجِنُّة ذلِكَ لِلأَرضَةِ فَإنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالمَاءِ » قال السدي : والطين ، ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنما هو مما تأتيها به الشياطين شكراً : قال وقدروا مقدار أكلها العصا فكان مقدار سنة .
وفي { دَابَّةُ الأَرْضِ } قولان :
أحدهما : الأرضة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقد قرىء دابة الأرض بفتح الراء وهو واحد الأرضة .
الثاني : أنها دابة تأكل العيدان يقال لها القادح ، قاله ابن زيد .
والمنسأة العصا ، قال الشاعر :
إذا دببت على المنسأة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وأصلها مأخوذ من نسأت الغنم إذا سقتها ، وقال السدي هي العصا بلسان الحبشة .
وفي دلالتها للجنة على موته قولان :
أحدها : وهو المشهور المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان وقف في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه فمات وبقي على حاله قائماً على عصاه سنة والجن لا تعلم بموته ، وقد كان سأل الله أن لا يعلموا بموته حتى مضى عليه سنة .
واختلف في سبب سؤاله لذلك على قولين :
أحدهما : لأن الجن كانوا يذكرون للإنس أنهم يعلمون الغيب ، فسأل الله تعالى ذلك ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وهذا مأثور .
الثاني : لأن داود عليه السلام كان أسس بيت المقدس ثم مات فبناه سليمان بعده وسخر الجن في عمله ، وقد كان بقي من إتمامه بعد موته بناء سنة فسأل الله تعالى ألا يعلم الجن بموته حتى يتموا البناء فأتموه .
ثم دلتهم دابة الأرض في أكل منسأته على موته بعد سنة من موته لأنه سقط عنها حين أكلتها الأرضة فعلمت الجن أنه قد مات .
والقول الثاني : ما حكاه ابن عباس أن الله تعالى ما قبض نبيه سليمان إلا على فراشه وكان الباب في وجهه مغلقاً على عادته في عبادته فلما كان بعد سنة أكلت الأرضة العتبة فخر الباب ساقطاً فتبينت الجن ذلك . قال : وكان سليمان يعتمد على العتبة إذا جلس .

{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ } والشياطين ومن كانوا مسخرين في العمل
. { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .
الثاني : تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة . وروى سفيان عن عمر وعن ابن عباس أنه كان يقرأ التلاوة : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإنسُ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ سَنَةً } .
الثالث : أن الجن دخلت عليهم شبهة توهموا بها أنهم يعلمون الغيب لما خر تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين .
وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه واستكمل بناءه في السنة الحادية عشرة من ملكه وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة ، واتخذ اليوم الذي فرغ من بنائه عيداً ، وقام على الصخرة رافعاً يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني على بناء هذا المسجد فأوزعني [ أن ] أشكرك على ما أنعمت علي ، وتوفني على ملتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، اللهم إني اسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال : لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه ، ولا خائف إلا أمنته ، ولا سقيم إلا شفيته ، ولا فقير إلا أغنيته ، والخامس ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه ، إلا من أراد إلحاداً أو ظلماً يا رب العالمين .


لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)

قوله عز وجل : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِي مَسْكَنِهِمْ } الآية . وقد ذكرنا اختلاف الناس في سبإ على قولين :
أحدهما : أنه اسم أرض باليمن يقال لها مأرب ، قاله سفيان .
الثاني : اسم قبيلة .
واختلف من قال بهذا هل هو اسم امرأة أو رجل على قولين .
أحدهما : أنه اسم امرأة نسبت القبيلة إليها لأنها أمهم .
الثاني : أنه رجل . روي أن فروة الغطيفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أبلد أم رجل أم امرأة؟ فقال : « بَلْ رَجُلٍ وَلَدَ عَشْرَةً ، فَسَكَنَ اليَمَنَ مِنهُم سِتَّةٌ وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ أَمَّا اليَمَانِيُّونَ فَمَذْحَجٌ وَكِيْدَهٌ وَالأزد وَالأَشعَرِيُّونَ وَأَنَمَارُ وحِمْيَرُ وَأَمَّا الشَّامِيُّونَ فَلَخْمٌ وَخِذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ
» . وذكر أهل النسب أنه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . قال السدي : بعث إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً .
وأما { جَنَّتَانِ } فقال سفيان وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما : نحن بنينا سالمين ، في سبعين خريفاً دائبين ، وعلى الآخر : نحن بنينا صرواح ، مقيل ومراح ، وكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله .
وفي الآية التي لسبأ في مساكنهم قولان :
أحدهما : أنه لم يكن في قريتهم بعوضة قط ولا ذبابة ولا برغوث ولا حية ولا عقرب وان الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب فتموت تلك الدواب ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثاني : أن الآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلىء وما مسته بيدها ، قاله قتادة .
{ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبّكُمْ } يعني الذي رزقكم من جنتكم
. { وَاشْكُرُواْ لَهُ } يعني على ما رزقكم
. { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } قال مجاهد : هي صنعاء
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : لأن أرضها وليست بسبخة .
الثاني : لأنها ليس بها هوام .


وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

قوله عز وجل : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } فيها قولان :
أحدهما : أنها بيت المقدس ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها الشام ، قاله مجاهد وقتادة .
{ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني بالشجر والثمر والماء . وقيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية .
ويحتمل أن يكون التي باركنا فيها بكثرة العدد .
{ قُرىً ظَاهِرَةً } فيه أربعة أوجه
: أحدها : متصلة ينظر بعضهم إلى بعض ، قاله الحسن ، وأبو مالك .
الثاني : أنها العامرة .
الثالث : الكثيرة الماء .
الرابع : أن القرى الظاهرة هي القرى القريبة ، قاله سعيد بن جبير ، والضحاك .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها السروات ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها قرى لصنعاء ، قاله ابن منبه .
الثالث : أنها قرى ما بين مأرب والشام ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ } فيها ثلاثة أقاويل
: أحدها : قدرنا فيها المقيل والمبيت ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم كانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى ، قاله الحسن .
الثالث : أنه قدر فيها السير بأن جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً ، قاله ابن قتيبة .
{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ } فيه قولان
: أحدهما : من الجوع والظمأ ، قاله قتادة . حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلىء من الثمر .
الثاني : آمنين من الخوف قاله يحيى بن سلام ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه .
قوله عز وجل : { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير { بَعِّد } بغير ألف وبتشديد العين ، وقرأ الباقون { بَاعِدْ } بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو اسرائيل المن والسلوى ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى ، قاله ابن عيسى ، وهو قريب من الأول لأنه بطر . فصار نوعاً من الملل .
الثالث : معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا ، حكاه النقاش . وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة .
وقرأ بعض القراء { بَعُد } بضم العين وتخفيفها ، وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره .
{ وَظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا ، قاله بن زيد .
الثاني : بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر نبياً . قال الكلبي : أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذبون : وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض .
الثالث : أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين ، قاله الحسن .
{ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صارواْ إليه من هلاك ، حتى ضرب المثل فقيل : تفرقوا أيدي سبأ ، ومنه قول الشاعر :
باد قوم عصف الدهر بهم ... فرقوا عن صرفه أيدي سبأ
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فيه قولان
: أحدهما : أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنهم مزقوا بالتفريق والتباعد ، قاله قتادة .
حكى الشعبي قال : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما خزاعة فحلقوا بمكة ، وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان .
{ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يحتمل وجهين
: أحدهما : صبار على البلوى شكور على النعماء .
الثاني : صبور على أمر الله شكور في طاعة الله .


وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنه لما أُهْبِطَ آدم من الجنة ومعه حواء ، وهبط إبليس ، قال إبليس أما إذ أصيب من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف وكان ظناً من إبليس ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ } قاله الحسن .
الثاني : أن إبليس إذ قال : خُلِقْتُ من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء ، لأحتنكن ذريته إلا قليلاً ، فصدق ظنه عليه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه قال : يا رب أرأيت هؤلاء القوم الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علىّ لا تجد أكثرهم شاكرين ، ظن منه فصدق عليهم ظنه ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضَلّهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه قاله الكلبي .
{ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَريقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ } فيه وجهان
: أحدهما : فاتبعوا إبليس ، قاله الحسن .
الثاني : فاتبعوا ظنه ، قاله مجاهد .


قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } حكى الفراء فيه وجهين :
أحدهما : حتى يؤذن له في الشفاعة .
الثاني : حتى يؤذن له فيمن يشفع له ، ووجدت الأول قول الكلبي والثاني قول مقاتل .
{ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } فيه ستة تأويلات
: أحدها : معناه خلي عن قلوبهم الفزع ، قاله ابن عباس ، وقال قطرب : أخرج ما فيها من الخوف .
الثاني : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنهم الشياطين فزع عن قلوبهم ففارقوا ما كانوا عليه من إضلال أوليائهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنهم دعوا فاستجابوا من قبورهم مأخوذ من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ فسمي الداعي فزعاً والمجيب فزعاً ، قال زهير :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا قصار ولا عُزْلُ
الخامس : أنهم الملائكة فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا ، فخرُّوا عنده سجوداً مخافة القيامة فسألوا فقالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق أي الوحي ، وهذا معنى قول كعب .
السادس : وهو تأويل قراءة الحسن : حتى فرغ عن قلوبهم بالغين معجمة يعني فرغ ما فيها من الشك والشرك .
{ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي قال لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا
. { قَالُواْ الْحَقَّ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أن يجدوا ما وصفوه عن الله تعالى حقاً .
الثاني : أن يصدقوا بما قاله الله تعالى أنه حق .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } .


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله عز وجل : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ } فيه وجهان
: أحدهما : أن رزق السموات المطر ورزق الأرض النبات ، قاله الكلبي .
الثاني : أن رزق السموات ما قضاه من أرزاق عباده ، ورزق الأرض ما مكنهم فيه من مباح . { قُلِ اللَّهُ } وهذا جواب قل من يزرقكم من السموات والأرض ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للمشركين حين سئلوا عن ذلك لأنهم لا يجحدون أن الله رازقهم .
الثاني : أن يكون أمراً في أمر الله أي يجابوا به لأنهم لا يجحدونه لتقوم به الحجة عليهم .
{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : معناه : إننا نحن لعلى هدى وإنكم أنتم لفي ضلال مبين ، قاله عكرمة وأبو عبيدة وزياد بن أبي مريم . قال الفراء : أو بمعنى الواو .
الثاني : أن أحدنا لعلى هدى والآخر لفي ضلال مبين ، دفعاً لأنقصهما ، ومنعاً من أرذلهما كقول القائل : إن أحدنا لكاذب ، دفعا للكذب عن نفسه وإِضافته إلى صاحبه وإن أحدنا لصادق ، إضافة للصدق إلى نفسه ودفعاً عن صاحبه ، قاله مجاهد .
الثالث : معناه : الله رزقنا وإياكم لعلى هدى كنا أو في ضلال مبين حكاه النقاش .
قوله عز وجل : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يعني يوم القيامة .
{ ثُمُّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي يقضي بيننا لأنه بالقضاء يفتح وجه الحكم ، وقال السدي هي لغة يمانية .
قوله : { بِالْحَقِّ } قال مجاهد : بالعدل .
{ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَليمُ } أي القاضي العليم وفيه ثلاثة أوجه
: أحدها : العليم بما يخفون ، قاله محمد بن إسحاق .
الثاني : العليم بالحكم ، قاله ابن زياد .
الثالث : العليم بخلقه ، قاله مقاتل .


وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يعني أنه رسول إلى كافة الناس أي إلى جميعهم ، قال ابن عباس .
الثاني : معناه أنك رسول الله إلى جميع الناس وتضمهم ، ومنه كف الثوب لأنه ضم طرفيه .
الثالث : معناه إنا أرسلناك كافاً للناس أي مانعاً لهم من الشرك وأدخلت الهاء للمبالغة ، قاله ابن بحر .


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني كفار العرب ، { لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءانِ وَلاَ بِالَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : التوراة ، والإِنجيل ، قاله السدي .
الثاني : من الأنبياء والكتب ، قاله قتادة .
الثالث : من أمر الآخرة ، قاله ابن عيسى . قال ابن جريج : قائل ذلك أبو جهل ابن هشام .
قوله عز وجل : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه بل غركم اختلاف الليل والنهار ، قاله السدي .
الثاني : بل عملكم من الليل والنهار ، قاله سفيان .
الثالث : بل معصية الليل والنهار ، قاله قتادة .
الرابع : بل مر الليل والنهار ، قاله سعيد بن جبير .
الخامس : بل مكرهم في الليل والنهار ، قاله الحسن .
{ إذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } فيه وجهان
: أحدهما : أشباهاً ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : شركاء ، قاله أبو مالك .


وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } يعني من نبي ينذرهم بعذاب الله .
{ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } فيهم ثلاثة تأويلات
: أحدها : يعني جبابرتها ، قاله ابن جريج .
الثاني : أغنياؤها ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : ذوو النعم والبطر ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً } قالوا ذلك للأنبياء والفقراء ويحتمل قولهم ذلك وجهين :
أحدهما : أنهم بالغنى والثروة أحق بالنبوة .
الثاني : أنهم أولى بما أنعم الله عليهم من الغنى أن يكونوا على طاعة .
{ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } يحتمل وجهين
: أحدهما : أي ما عذبنا بما أنتم فيه من الفقر .
الثاني : أي ما أنعم الله علينا بهذه النعمة وهو يريد عذابنا ، فرد الله تعالى عليهم ما احتجوا من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم .
{ قُلْ إنَّ رَبِّي يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } أي يوسعه . { وَيَقْدِرُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أن يقترعليه ، قال الحسن يبسط لهذا مكراً به ، ويقدر لهذا نظراً له .
الثاني : بنظره له ، رواه حصين بن أبي الجميل .
الثالث : بخير له ، رواه حارث بن السائب .
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله يوسع على من يشاء ويقتر على من يشاء .
قوله عز وجل : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ بالتَّي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } قال مجاهد : أي قربى والزلفة القربة ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن أموالكم في الدنيا لا تدفع عنكم عذاب الآخرة .
الثاني : أن إنعامنا بها عليكم في الدنيا لا يقتضي إنعامنا عليكم بالجنة في الآخرة .
{ إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } روى ليث عن طاووس أنه كان يقول اللهم ارزقني الإيمان والعمل ، وجنبني المال والولد ، فإني سمعت فيما أوحيْتَ { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بَالَّتِي تُقَرِّبْكْمُ عِندَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صالِحاً } .
{ فَأُوْلئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } فيه ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنه أضعاف الحسنة بعشر أمثالها ، وأضعاف الدرهم بسبعمائة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن المؤمن إذا كان غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : يعني فله جزاء مثل عمله لأن الضعف هو المثل ويقتضي ذلك المضاعفة ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ } يعني غرفات الجنة
. { ءَامِنُونَ } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : آمنون من النار ، قاله يحيى ابن سلام .
الثاني : من انقطاع النعم ، قاله النقاش .
الثالث : من الموت ، قاله مقاتل .
الرابع : من الأحزان والأسقام .
قوله عز وجل : { وَمآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فهو يخلفه إن شاء إذا رأى ذلك صلاحاً كإجابة الدعاء ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يخلفه بالأجر في الآخرة إذا أنفقه في طاعة ، قاله السدي .
الثالث : معناه فهو أخلفه لأنه نفقته من خلف الله ورزقه ، قاله سفيان بن الحسين .
ويحتمل رابعاً : فهو يعني عنه .


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)

قوله عز وجل : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني المشركين ومن عبدوه من الملائكة .
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤلآَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } وهذا السؤال للملائكة تقرير وليس باستفهام ، وإن خرج مخرج الاستفهام .
{ قََالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم } فيه وجهان
: أحدهما : أنت الذي توالينا بالطاعة دونهم .
الثاني : أنت ناصرنا دونهم .
{ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني أنهم أطاعوا الجن في عبادتنا ، وصاروا بطاعتهم عابدين لهم دوننا .
{ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } أي جميعهم بهم مؤمنون ، وهذا خروج عن الظاهر .


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)

قوله عز وجل : { وََمَآ ءَاتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني مشركي قريش ما أنزل الله تعالى عليهم كتاباً قط يدرسونه ، فيه وجهان :
أحدهما : فيعلمون بدرسه أن ما جئت به حق أم باطل ، قاله السدي .
الثاني : فيعلمون أن الله تعالى شريكاً على ما زعموه ، قاله ابن زيد .
{ وَمَآ أَرْسَلْنَآ إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ } أي ما بعثنا إليهم رسولاً غيرك
. قوله عز وجل : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } يعني من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
{ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءاتَيْنَاهُمْ } فيه أربعة
: أحدها : يعني أنهم ما عملوا معشار ما أمروا به ، قاله الحسن .
الثاني : أنه يعني ما أعطى الله سبحانه قريشاً ومن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من أمته معشار ما أعطى من قبلهم من القوة والمال ، قاله ابن زيد .
الثالث : ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم ، حكاه النقاش .
الرابع : ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من البيان والحجة والبرهان . قال ابن عباس فليس أمة أعلم من أمته ولا كتاب أبين من كتابه .
وفي المعشار ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العشر وهما لغتان .
الثاني : أنه عشر العشر وهو العشير .
الثالث : هو عشير العشير ، والعشير عشر العشر ، فيكون جزءاً من ألف جزء ، وهو الأظهر ، لأن المراد به المبالغة في التقليل .
{ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي عقابي وفي الكلام إضمار محذوف وتقديره : فأهلكناهم فكيف كان نذير .


قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)

قوله عز وجل : { قُلْ إنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } فيه قولان
: أحدهما : يعني بطاعة الله عز وجل ، قاله مجاهد .
الثاني : بالا إله إلا الله ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : بالقرآن لأنه يجمع كل المواعظ .
{ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } يعني أن تقوموا لله بالحق ، ولم يُرد القيام على الأرجل كما قال تعالى : { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسطِ } [ النساء : 127 ] .
وفي قوله : { مَثْنَى وَفُرَادَى } ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه جماعة وفرادى ، قاله السدي .
الثاني : منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره ، وهذا قول مأثور .
الثالث : مناظراً مع غيره ومفكراً في نفسه ، قاله ابن قتيبة .
ويحتمل رابعاً : أن المثنى عمل النهار ، والفرادى عمل الليل ، لأنه في النهار . مُعانٌ وفي الليل وحيد .
{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } قال قتادة أي ليس بمحمد جنون . { إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } يعني في الآخرة ، قال مقاتل : وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل كفار قريش ألا يؤذوه ويمنعوا منه لقرابته منهم حتى يؤدي رسالة ربه ، فسمعوه يذكر اللات والعزى في القرآن فقالوا يسألنا ألا نؤذيه لقرابته منا ويؤذينا بسبب آلهتنا فنزلت هذه الآية .


قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

قوله عز وجل : { قُلْ مَا سأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } فيه قولان
: أحدهما : من مودة قاله ابن عباس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قريشاً أن يكفوا عن أذيته حتى يبلغ رسالة ربه .
الثاني : من جُعْل قاله قتادة ، ويشبه أن يكون في الزكاة .
ويحتمل ثالثاُ : أن أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي فهو لكم دوني .
{ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ } أي ما ثوابي إلا على الله في الآخرة
. { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ } فيه وجهان
: أحدهما : شهيد أن ليس بي جنون .
الثاني : شهيد أني لكم نذير بين يدي عذاب شديد .
قوله عز وجل : { قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } فيه تأويلان :
أحدهما : بالوحي ، قاله قتادة .
الثاني : بالقرآن ، رواه معمر .
وفي قوله : { يَقْذِفُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يتكلم .
الثاني : يوحي .
الثالث : يلقي .
{ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } قال الضحاك : الخفيات
. قوله عز وجل : { قُلْ جَآءَ الْحَقُّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
الثاني : القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : الجهاد بالسيف ، قاله ابن مسعود .
{ وَمَا يُبْدِيءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : أن الباطل الشيطان . رواه معمر .
الثاني : أنه إبليس . رواه خليد .
الثالث : أنه دين الشرك ، قاله ابن بحر .
وفي إبداء الباطل وإعادته ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يخلق ولا يبعث ، قاله قتادة .
الثاني : لا يحيي ولا يميت ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يثبت إذا بدا ، ولا يعود إذا زال ، قاله ابن بحر .


وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

قوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَى إذْ فِزَعُواْ } في فزعهم خمسة أقاويل
: أحدها : فزعهم يوم القيامة ، قاله مجاهد .
الثاني : فزعهم في الدنيا حين رأو بأس الله عز وجل : قاله قتادة .
الثالث : هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعوا فهذا هو فزعهم ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة ، قاله السدي .
الخامس : هو فزعهم في القبور من الصيحة ، قاله الحسن .
وفي قوله تعالى : { فَلاَ فَوْتَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : فلا نجاة ، قاله ابن عباس .
الثاني : فلا مهرب ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : فلا سبق ، قاله قتادة .
{ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } فيه ستة أقاويل
: أحدها : من تحت أقدامهم ، قاله مجاهد .
الثاني : يوم بدر ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : هو جيش السفياني ، قاله ابن عباس .
الرابع : عذاب الدنيا ، قاله الضحاك .
الخامس : حين خرجوا من القبور ، قاله الحسن .
السادس : هو يوم القيامة ، قاله القاسم بن نافع .
ويحتمل سابعاً : في أسرِّ ما كانوا فيه نفوساً ، وأقوى ما كانوا عليه أملاً لأنه أقرب بلاء من نعمه .
قوله عز وجل : { وَقَالُوا ءَامَنَّا بِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني بالله ، قاله مجاهد .
الثاني : بالبعث ، قاله الحسن .
الثالث : بالرسل ، قاله قتادة .
{ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } وفي التناوش ثلاثة أقاويل
: أحدها : هو الرجعة ، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تؤوب إليّ ميٌّ ... وليس إلى تناوشها سبيل
الثاني : هو التوبة ، قاله السدي
. الثالث : هو التناول من قولهم نشته أنوشه نوشاً إذا تناوله من قريب ، وقد تناوش القوم إذا دنا بعضهم من بعض ولم يلتحم القتال بينهم ، قال الشاعر :
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا
{ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } فيه ثلاثة أقوايل
: أحدها : من الآخرة إلى الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : ما بين الآخرة والدنيا ، رواه القاسم بن نافع .
الثالث : هو طلبهم الأمر من حيث لا ينال ، قاله الحسن .
ويحتمل قولاً رابعاً : بعيد عليهم لاستحالته عندهم .
قوله عز وجل : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كفروا بالله تعالى ، قاله مجاهد .
الثاني : بالبعث ، قاله الحسن .
الثالث : بالرسول ، قاله قتادة .
{ مِن قَبْلُ } فيه وجهان
: أحدهما : في الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : من قبل العذاب .
{ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : معناه يرجمون بالظن ويقولون في الدنيا لا بعث ولا جنة ولا نار ، قاله الحسن .
الثاني : أنه طعنهم في القرآن ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثالث : هو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر ، قاله مجاهد ، وسماه قذفاً لخروجه عن غير حق .
قوله عز وجل : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } يعني بالموت ، وفيه خمسة تأويلات :

أحدها : حيل بينهم وبين الدنيا ، قاله مجاهد .
الثاني : بينهم وبين الإيمان ، قاله الحسن .
الثالث : بينهم وبين التوبة ، قاله السدي .
الرابع : بينهم وبين طاعة الله تعالى ، قاله خليد .
الخامس : حيل بين المؤمن وبين العمل ، وبين الكافر وبين الإيمان ، قاله يزيد بن أبي يزيد .
{ كَمَا فُعِلَ بِأَشْياعِهِم مّن قَبْلُ } فيهم ثلاثة أقاويل
: أحدها : أنهم أوائلهم من الأمم الخالية ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة ، قاله الضحاك .
الثالث : هم أمثالهم من الكفار الذين لم يقبل الله سبحانه منهم التوبة عند المعاينة .
{ إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ } فيه وجهان
: أحدهما : لا يعرفون نبيهم ، قاله مقاتل .
الثاني : هو شكهم في وقوع العذاب ، قاله الضحاك .


الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)

قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } والفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحسن يقال فطر ناب الناقة إذا طلع ، وفطر دمه إذا أخرجه . قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها .
وفي تأويله ههنا وجهان :
أحدهما : خالق السموات والأرض ، قاله قتادة ، والكلبي ، ومقاتل .
الثاني : أنه شقها لما ينزل منها وما يعرج فيها .
{ جَاعِلِ الْمَلآَئِكَةِ رُسُلاً } فيه قولان
: أحدهما : إلى الأنبياء ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلى العباد رحمة أو نقمة ، قاله السدي .
{ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } قال قتادة : بعضهم له جناحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة . والمثنى والثلاث والرباع ما تكرر فيه الاثنان والثلاثة والأربعة .
{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } فيه ثلاثة تأويلات
: أحدها : أنه حسن الصوت ، قاله الزهري وابن جريج .
الثاني : أنه الشعر الجعد ، حكاه النقاش .
الثالث : يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أنه العقل والتمييز .
ويحتمل خامساً : أنه العلوم والصنائع . ويكون معناه على هذين التأويلين :
كما يزيد في الخلق ما يشاء كذلك يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء .


مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)

قوله عز وجل : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : من خير ، قاله قتادة .
الثاني : من مطر ، قاله السدي .
الثالث : من توبة ، قاله ابن عباس .
الرابع : من وحي ، قاله الحسن .
الخامس : من رزق وهو مأثور .
السادس : من عافية ، قاله الكلبي .
السابع : من دعاء ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثامناً : من توفيق وهداية .


الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

قوله عز وجل : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً } فيه أربعة أقاويل
: أحدها : أنهم اليهود والنصارى والمجوس ، قاله أبو قلابة ، ويكون سوء عمله معاندة الرسول .
الثاني : أنهم الخوارج ، رواه عمرو بن القاسم ، ويكون سوء عمله تحريف التأويل .
الثالث : الشيطان ، قاله الحسن ويكون سوء عمله الإغواء .
الرابع : كفار قريش ، قاله الكلبي ، ويكون سوء عملهم الشرك .
وقيل إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب ، وقال غيره نزلت في أبي جهل بن هشام .
في قوله : { فَرءَاهُ حَسَناً } وجهان :
أحدهما : صواباً ، قاله الكلبي .
الثاني : جميلاً .
وفي الكلام محذوف اختلف فيه على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المحذوف منه : فإنه يتحسر عليه يوم القيامة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن المحذوف منه : كمن آمن وعمل صالحاً لا يستويان ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أن المحذوف منه : كمن عمل الحسن والقبح .


وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)

قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } فيه قولان
: أحدهما : يعني بالعزة المنعة فيتعزز بطاعة الله تعالى ، قاله قتادة .
الثاني : علم العزة لمن هي ، فلله العزة جميعاً .
وقيل إن سبب نزول هذه الآية ما رواه الحسن أن المشركين عبدوا الأوثان لتعزهم كما وصف الله تعالى عنهم في قوله : { وَاتَّخَذُواْ مِن اللهِ دُونِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُم عِزّاً } فأنزل الله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فِلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } .
{ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } فيه قولان
: أحدهما : أنه التوحيد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : الثناء علىمن في الأرض من صالح المؤمنين يصعد به الملائكة المقربون ، حكاه النقاش .
{ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فيه قولان
: أحدهما : أنه أداء الفرائض .
الثاني : أنه فعل القرب كلها .
وفي قوله : { يَرْفَعُهُ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب ، قاله الحسن ، ويحيى بن سلام .
الثاني : أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب ، قاله الضحاك وسعيد بن جبير .
الثالث : أن العمل يرفعه الله بصاحبه ، قاله قتادة ، السدي .
{ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } يعني يشركون في الدنيا
. { لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ } يعني في الآخرة
. { وَمَكْرُ أُوْلئِكَ هُوَ يَبُورُ } فيه ثلاثة أوجه
: أحدها : يفسد عند الله تعالى ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : يبطل ، قاله قتادة .
الثالث : يهلك ، والبوار الهلاك ، قاله قطرب .
وفي المراد : { أُوْلئِكَ } قولان :
أحدهما : أهل الشرك .
الثاني : أصحاب الربا ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ } يعني آدم .
{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } يعني نسله
. { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } فيه وجهان :
أحدهما : أصنافاً ، قاله الكلبي .
الثاني : ذكراناً وإناثاً ، والواحد الذي معه آخر من شكله زوج والاثنان زوجان ، قال الله تعالى : { وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينَ الذَّكَرَ والأُنْثَى } [ النجم : 45 ] وتأول قتادة قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي زوّج بعضكم لبعض .
{ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } يعني بأمره
. { وَمَا يَعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ منْ عَمُرِهِ . . } الآية . فيه قولان
: أحدهما : ما نمد في عمر معمر حتى يصير هرماً . ولا ينقص من عمر أحد حتى يموت طفلاً إلا في كتاب .
الثاني : ما يعمر من معمر قدر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه بالأيام الماضية عليه في كتاب عند الله .
قال سعيد بن جبير : هي صحيفة كتب الله تعالى في أولها أجله ، ثم كتب في أسفلها ذهب يوم كذا ويوم كذا حتى يأتي على أجله ، وبمثله قال أبو مالك ، والشعبي .
وفي عمر المعمر ثلاثة أقاويل :
أحدها : ستون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربعون سنة .
الثالث : ثماني عشرة سنة ، قاله أبو غالب .
{ . . . إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي هين
. ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن إثبات ذلك على الله يسير .
الثاني : أن زيادة عمر المعمر ونقصان عمر الآخر عند الله تعالى يسير .
وللكلبي فيه ثالث : أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير .


وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ } يحتمل وجهين
: أحدهما : ما يستويان في أنفسهما .
الثاني : في منافع الناس بهما .
{ هذَا عَذْبٌ فُراتٌ } والفرات هو العذب وذكره تأكيداً لاختلاف اللفظين كما يقال هذا حسن جميل .
{ سَآئَغٌ شَرَابُهُ } أي ماؤه
. { وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي مُرٌّ مأخوذ من أجة النار كأنه يحرق من شدة المرارة ، قال الشاعر :
دُرَّةٌ في اليمين أخرجها الغا ... ئص من قعر بحر ملح أجاج
{ وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني لحم الحيتان مأكول من كلا البحرين
. { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } اللؤلؤ والمرجان يستخرج من الملح ، ويكون المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما .
وقيل : بل هو مأخوذ منهما لأن في البحر عيوناً عذبة ، وما بينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج وقيل من مطر السماء .
ثم قال : { تَلْبَسُونَهَا } وإن لبسها النساء دون الرجال لأن جمالها عائد عليهم جميعاً .
{ وَتَرى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } فيه خمسة أوجه
: أحدها : مقبلة ومدبرة وريح واحدة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : مواقر ، قاله الحسن . قال الشاعر :
تراها إذا راحت ثقالاً كأنها ... مواخر فلك أو نعام حوافل
الثالث : معترضة ، قاله أبو وائل
. الرابع : جواري ، قاله ابن قتيبة .
الخامس : تمخر الماء أي تشقه في جريها شقاً ، قاله علي بن عيسى .
{ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال مجاهد : التجاة في الفلك
. ويحتمل وجهاً آخر ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتان .
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فيه وجهان ] :
أحدهما : على ما آتاكم من نعمه .
الثاني : على ما آتاكم من فضله .
ويحتمل ثالثاً : على ما أنجاكم من هوله .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى } أي لا تحمل نفس ما تحمله نفس أخرى من ذنوبها ، ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال الملك بتدبيره .
{ وَإن تَدَعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَل مِنْهُ شَيْءٌ } قال مجاهد مثقلة بالذنوب ، ومعنى الكلام أن النفس التي قد أثقلتها ذنوبها إذا دعت يوم القيامة من يتحمل الذنوب عنها لم تجد من يتحمل عنها شيئاً من ذنوبها .
{ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ولو كان المدعو إلى التحمل قريباً مناسباً ، ولو تحمله عنها ما قُبل تحمله ، لما سبق من قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
{ إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهَم بِالْغَيْبِ } فيه وجهان
: أحدهما : في السر حيث لا يطلع عليه أحد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : في التصديق بالآخرة ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : يخشونه في ضمائر القلوب كما يخشونه في ظواهر الأفعال .


وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . . } الآية . فيه قولان
: أحدهما : أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، كما لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا تستوي الظلمات ولا النور ، ولا يستوي الظل ولا الحرور لا يستوي المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
الثاني : أن معنى قوله وما يستوي الأعمى والبصير أي عمى القلب بالكفر وبصره بالإيمان ، ولا تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ، ولا يستوي ظل الجنة وحرور النار ، قاله السدي .
والحرور الريح الحارة كالسموم ، قال الفراء : الحرور يكون بالليل والنهار ، والسموم لا يكون إلا بالنهار .
وقال الأخفش : الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل والنهار .
قال قطرب : الحرور الحر ، والظل البرد . ومعنى الكلام : أنه لا يستوي الجنة والنار .
قوله عز وجل : { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، قاله قتادة .
الثاني : أن الأحياء المؤمنون الذين أحياهم الإيمان . والأموات الكفار الذين أماتهم الكفر وهذا مقتضى قول السدي .
الثالث : أن الأحياء العقلاء ، والأموات الجهال ، قاله ابن قتيبة وفي { لاَ } في هذا الموضع وفيما قبله قولان :
أحدهما : أنها زائدة مؤكدة .
الثاني : أنا نافية لاستواء أحدهما بالآخر .
{ إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } أي يهدي من يشاء
. { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِِ } فيه وجهان
: أحدهما : أنه مثل ضربه الله ، كما أنك لا تُسمع الموتى في القبور كذلك لا تسمع الكافر .
الثاني : أن الكافر قد أماته الكفر حتى أقبره في كفره فلذلك لا يسمع ، وقيل إن مراد الله تعالى بهذه الآية الإخبار أن بين الخير فروقاً ، كما أن بين الشر فروقاً ، ليطلب من درجات الخير أعلاها ولا يحتقر من درجات الشر أدناها ، وهو الظاهر من قول علي ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً } أي بالقرآن بشرى بالجنة .
{ وَنَذِيراً } من النار . { وَإن مَّنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أي سلف فيها نبي ، قال ابن جريج : إلا العرب .


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَنْا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } وفيه مضمر محذوف تقديره مختلف ألوانها وطعومها وروائحها ، فاقتصر منها على ذكر اللون لأنه أظهرها { وَمِنَ الْجبَالَ جُدَدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ، حكاه ابن بحر .
الثاني : أنها الخطط واحدتها جُدة مثل مُدة ومدد ، ومنه قول زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جُدد ... طاوٍ ويرتع بعد الصيف عريانا
{ بِيضُ وَحُمرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } والغربيب الشديد السواد الذي لونه كلون الغراب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الشَّيخَ الْغِرْبِيبَ » يعني الذي يخضب بالسواد ، قال امرؤ القيس :
العين طامعة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب
وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره سود غرابيب
. وفي المراد بالغرابيب السود ثلاثة أوجه :
أحدها : الجبال السود ، قاله السدي .
الثاني : الطرائف السود ، قاله ابن عباس .
الثالث : الأودية السود ، قاله قتادة .
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوآبِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ } فيه وجهان
: أحدهما : كذلك مختلف ألوانه أبيض وأحمر وأسود .
الثاني : يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية .
ثم استأنف فقال : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَآءُ } يعني بالعلماء الذين يخافون .
قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله فليس بعالم . قال ابن مسعود : المتقون سادة ، والعلماء قادة . وقيل : فاتحة الزبور الحكمة خشية الله=ج11وج12.= 

النكت والعيون  ج11.وج12.

 ج11. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي ثم ج12.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

قوله عز وجل : { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } يعني الجنة ، وفيها وجهان
:
أحدهما : لن تفسد ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : لن تكسد ، قاله علي بن عيسى والأول أشبه لقول الشاعر :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنا بور
قوله عز وجل : { لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ } يعني ثواب أعمالهم
. {
وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } فيه أربعة أوجه
:
أحدها : يفسح لهم في قبورهم ، قاله الضحاك .
الثاني : يشفعهم فيمن أحسن إليهم في الدنيا ، قاله أبو وائل .
الثالث : يضاعف لهم حسناتهم ، وهو مأثور .
الرابع : غفر الكثير والشكر اليسير ، قاله بعض المتأخرين .
ويحتمل خامساً : يوفيهم أجورهم على فعل الطاعات ويزيدهم من فضله على اجتناب المعاصي { إنَّهُ غَفُورٌ } للذنب .
{
شَكُورٌ } للطاعة . ووصفه بأنه شكور مجاز ومعناه أن يقابل بالإحسان مقابلة الشكور لأنه يقابل على اليسير بأضعافه .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

{
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا } فيه وجهان
:
أحدهما : أن الكتاب هو القرآن ، ومعنى الإرث انتقال الحكم إليهم .
الثاني : أن إرث الكتاب هو الإيمان بالكتب السالفة لأن حقيقة الإرث انتقال الشيء من قوم إلى قوم .
وفي { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنهم بنو إسرائيل لقوله عز وجل : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً } [ آل عمران : 33 ] الآية . قاله ابن بحر .
الثالث : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قاله الكلبي .
{
فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ } كلام مبتدأ لا يرجع إلى المصطفين ، وهذا قول من تأول المصطفين الأنبياء ، فيكون من عداهم ثلاثة أصناف على ما بينهم .
الثاني : أنه راجع إلى تفصيل أحوال الذين اصطفينا ، ومعنى الاصطفاء الاختيار وهذا قول من تأول المصطفين غير الأنبياء ، فجعلهم ثلاثة أصناف .
فأما الظالم لنفسه ها هنا ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل الصغائر من هذه الأمة ، روى شهر بن حوشب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له .
الثاني : أنهم أهل الكبائر وأصحاب المشأمة ، قاله السدي .
الثالث : أنهم المنافقون وهم مستثنون .
الرابع : أنهم أهل الكتاب ، قاله الحسن .
الخامس : أنه الجاحد ، قاله مجاهد .
وأما المقتصد ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه المتوسط في الطاعات وهذا معنى حديث أبي الدرداء ، روى ابراهيم عن أبي صالح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال : « أَمَّا السَّابِقُ فَيدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَيُحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً ، وَأمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فِيُحْصَرُ فِي طُولِ الحِبْسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنهُ
»
الثاني : أنهم أصحاب اليمين ، قاله السدي
.
الثالث : أنهم أصحاب الصغائر وهو قول متأخر .
الرابع : أنهم الذين اتبعوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم من بعده ، قاله الحسن .
{
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } فيه أربعة أقاويل
:
أحدها : أنهم المقربون ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم المستكثرون من طاعة الله تعالى ، وهو مأثور .
الثالث : أنهم أهل المنزلة العليا في الطاعات ، قاله علي بن عيسى .
الرابع : أنه من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة .
روى عقبة بن صهبان قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت : كلهم من أهل الجنة ، السابق من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالحياة والرزق ، والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق به ، والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : أنه خوف النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه حزن الموت ، قاله عطية .
الثالث : تعب الدنيا وهمومها ، قاله قتادة .
الرابع : حزن المنّة ، قاله سمُرة .
الخامس : حزن الظالم لما يشاهد من سوء حاله ، قاله ابن زيد .
السادس : الجوع حكاه النقاش .
السابع : خوف السلطان ، حكاه الكلبي .
الثامن : طلب المعاش ، حكاه الفراء .
التاسع : حزن الطعام ، وهو مأثور .
ويحتمل عاشراً : أنه حزن التباغض والتحاسد لأن أهل الجنة متواصلون لا يتباغضون ولا يتحاسدون .
وفي وقت قولهم لذلك قولان :
أحدهما : عند إعطاء كتبهم بأيمانهم لأنه أول بشارات السلامة ، فيقولون عندها : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } .
الثاني : بعد دخول الجنة ، قاله الكلبي ، وهو أشبه لاستقرار الجزاء والخلاص من أهوال القيامة فيقولون ذلك عند أمنهم شكراً .
قوله عز وجل : { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمَقَامَةِ مِن فَضْلِهِ } أي دار الإقامة وهي الجنة .
وفي الفرق بين المقامة بالضم والفتح وجهان :
أحدهما : أنها بالضم دار الإقامة ، وبالفتح موضع الإقامة .
الثاني : أنها بالضم المجلس الذي يجتمع فيه للحديث .
{
لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } فيه وجهان
:
أحدهما : تعب ، قاله ابن عيسى .
الثاني : وجع ، قاله قتادة .
{
وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } فيه وجهان
:
أحدهما : أنه العناء ، قاله أبو جعفر الطبري .
الثاني : أنه الإعياء ، قاله قطرب وابن عيسى .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)

قوله عز وجل : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } قال ابن جريج : وهم يستغيثون فيها { َرَبَّنَآ أخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } أي نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية .
{
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } فيه خمسة تأويلات
:
أحدها : أنه البلوغ ، قاله الحسن لأنه أول زمان التذكر .
الثاني : ثماني عشرة سنة .
الثالث : أربعون سنة ، قاله ابن عباس ومسروق .
الرابع : ستون سنة ، قاله علي بن أبي طالب مرفوعاً .
الخامس : سبعون سنة لأنه آخر زمان التذكر ، وما بعده هرم . روى أبو هريرة .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى عَبدٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتّىَ بلَغَ سِتِيّنَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً
» .
قوله عز وجل : { وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ } فيه أربعة أقاويل
:
أحدها : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن زيد .
الثاني : الشيب ، حكاه الفراء والطبري .
الثالث : الحمى .
الرابع : موت الأهل والأقارب .
ويحتمل خامساً : أنه كمال العقل .
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)

{
فَذُوقُواْ } يحتمل وجهين
:
أحدهما : حسرة الندم .
الثاني : عذاب جهنم .
قوله عز وجل : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْض } قال قتادة خلفاً بعد خلف قرناً بعد قرن ، والخلف هو الثاني للمتقدم ، ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله ، فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا راضٍ بذلك . وقال بعد السلف إنما يستخلف من يغيب أو يموت ، والله تعالى لا يغيب ولا يموت .
{
فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي فعليه عقاب كفره
.
قوله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : شركاءكم في الأموال التي جعلتم لهم قسطاً منها الأوثان .
الثاني : الذين أشركتموهم في العبادة .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)

{
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } قاله السدي يعني في الأرض
. {
أَمْ لَهُمْ شرْكٌ فِي السَّموَاتِ } حتى صاروا شركاء في خلقها
. {
أَمْ ءَآتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنهُ } فيه ثلاثة أوجه
:
أحدها : أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن لله تعالى شركاء من الملائكة والأصنام فيهم مستمسكون به ، وهذا قول ابن زياد .
الثاني : أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن الله لا يعذبهم على كفرهم فهم واثقون به ، وهو معنى قول الكلبي .
{
بَلْ إن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إلاَّ غُرُوراً } فيه وجهان
:
أحدهما : وعدوهم بأن الملائكة يشفعون .
الثاني : وعدوهم بأنهم ينصرون عليهم .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)

قوله عز وجل : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله تعلى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فلعنوا من كذب نبيه منهم ، وحلفوا بالله جل اسمه يميناً .
{
لَئِن جَآءَهُم نَذِيرٌ } أي نبي
. {
لَّيَكُوننَّ أَهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمْ } يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب
. {
فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم
. {
مَّا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً } فيه وجهان
:
أحدهما : نفوراً عن الرسول .
الثاني : نفوراً عن الحق .
قوله عز وجل : { اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : استكباراً عن عبادة الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : استكباراً بمعاصي الله ، وهذا قول متأخر .
{
وَمَكْرَ السَّيِّىءِ } فيه وجهان
:
أحدهما : الشرك بالله ، قاله يحيى .
الثاني : أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه كما قال تعالى : { وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } [ الأنفال : 30 ] الآية .
{
وَلاَ يَحِيقُ الْمُكْرُ السَّيِّىءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ } فيه وجهان
:
أحدهما : قاله الكلبي ، يحيق بمعنى يحيط .
الثاني : قاله قطرب ، يحيق بمعنى ينزل ، وأنشد قول الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعاً بعدما كادت تحيقُ
قال فعاد ذلك عليهم بقتلهم يوم بدر
. {
فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ } يعني سنة الله في الأولين ، وفيها وجهان
:
أحدهما : نزول العذاب بهم عند إصرارهم في التكذيب .
الثاني : لا تقبل منهم التوبة عند نزول العذاب .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

قوله عز وجل : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ } يعني من الذنوب
. {
مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } قال يحيى بن سلام بحبس المطر عنهم وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني جميع الحيوان مما دب ودرج ، قاله ابن مسعود ، قال قتادة : وقد فعل ذلك زمان نوح عليه السلام .
الثاني : من الإنس والجن دون غيرهما لأنهما مكلفان بالعقل ، قاله الكلبي .
الثالث : من الناس وحدهم ، قاله ابن جريج .
{
وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } فيه قولان
:
أحدهما : الأجل المسمى الذي وعدهم في اللوح المحفوظ ، قاله مقاتل .
الثاني : إلى يوم القيامة ، قاله يحيى .
{
فَإذَا جَآءَ أَجَلُهُم } فيه قولان
:
أحدهما : نزول العذاب .
الثاني : البعث في القيامة .
{
فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } يحتمل وجهين
:
أحدهما : بصيراً بأجلهم .
الثاني : بصيراً بأعمالهم ، والله أعلم .
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)

قوله عز وجل : { يس } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه فواتح من كلام الله تعالى افتتح به كلامه ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه : يا محمد ، قاله محمد بن الحنفية ، وروى علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّانِي في القُرآنِ بِسَبْعَةِ أَسْمَاءَ : مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَطه وَيس وَالمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ وَعَبدَ اللَّهِ
» .
الخامس : أنه يا إنسان : قاله الحسن ، وعكرمة ، والضحاك ، وسعيد ابن جبير . ثم اختلفوا فيه فقال سعيد بن جبير وعكرمة هي بلغة الحبشة . وحكى الكلبي أنه بالسريانية وقال الشعبي : هو بلغة طيىء . وقال آخرون : هي بلغة كلب .
ويحتمل سادساً : يئس من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مؤمناً بالله ، نفياً للإيمان أن يكون إلا بالشهادتين ، واليأس أبلغ في النفي من جميع ألفاظه ، ثم أثبت رسالته بقسَمه فقال :
{
وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ . إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : على شريعة واضحة .
الثاني : على حجة بينة .
قوله عز وجل : { لِّتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم قريش أنذروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينذر آباؤهم من قبلهم ، قاله قتادة .
الثاني : أنه عام ومعناه لتنذر قوماً كما أنذر آباؤهم ، قاله السدي . { فَهُمْ غَافِلُونَ } يحتمل وجهين
:
أحدهما : عن قبول الإِنذار . الثاني : عن استحقاق العذاب .
قوله عز وجل : { لَقَدْ حَقَّ الْقَولُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه لقد وجب العذاب على أكثرهم ، قاله السدي .
الثاني : لقد سبق علم الله في أكثرهم ، قاله الضحاك .
وفي هذا القول الذي حق عليهم وجهان :
أحدهما : أنه الوعيد الذي أوجبه الله تعالى عليهم من العذاب .
الثاني : أنه الإِخبار عنهم بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .
{
فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني الأكثرية الذين حق القول عليهم ، وهم الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش ، وأكثرهم لم يؤمنوا فكان المخبر كالخبر .
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

قوله عز وجل : { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِِهِمْ أَغْلاَلاً } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول من التصرف ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ما حكاه السدي أن ناساً من قريش ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا يريدون ذلك فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يداً .
الثالث : أن المراد به جعل الله سبحانه لهم في النار من الأغلال في أعناقهم ويكون الجعل ها هنا مأخوذاً من الجُعالة التي هي الأجرة كأن جعالتهم في النار الأغلال ، حكاه ابن بحر .
وفي قوله : { فِي أَعْنَاقِهِمْ } قولان :
أحدهما : في أيديهم ، فكنى بالأعناق عن الأيدي لأن الغُل يكون في الأيدي ، قاله الكلبي ، وحكى قطرب أنها في قراءة ابن عباس : { إنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِم أَغْلاَلاً }
الثاني : أنها في الأعناق حقيقة ، لأن الأيدي تجمع في الغل إلى الأعناق ، قاله ابن عباس { فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ } فيه وجهان :
أحدهما : إلى الوجوه فكنى عنها بالأذقان لأنها منها ، قاله قتادة ، أي قد غلت يده عند وجهه .
الثاني : أنها الأذقان المنحدرة عن الشفة في أسفل الوجه لأن أيديهم تماسها إذا علت .
{
فَهُم مُّقْمَحُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : رفع رؤوسهم ووضع أيديهم على أفواههم ، قاله مجاهد .
الثاني : هو الطامح ببصره إلى موطىء قدمه ، قاله الحسن . الثالث : هو غض الطرف ورفع الرأس مأخوذ من البعير المقمح وهو أن يرفع رأسه ويطبق أجفانه في الشتاء إذا ورد ماء كريهاً ، حكاه النقاش . وقال المبرد ، وأنشد قول الشاعر :
ونحن على جوانبها قعود ... نغض الطرف كالإبل القماح
الرابع : هو أن يجذب ذقنه إلى صدره ثم يرفعه مأخوذ من القمح وهو رفع الشيء إلى الفم ، حكاه عليّ بن عيسى وقاله أبو عبيدة .
قوله عز وجل : { وَجَعَلْنَا مِن بَينِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني ضلالاً ، قاله قتادة .
الثاني : سداً عن الحق ، قاله مجاهد .
الثالث : ظلمة سدت قريشاً عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ائتمروا لقتله قاله السدي . قال عكرمة : ما صنع الله تعالى فهو السُدُّ بالضم ، وما صنع الإنسان فهو السد بالفتح .
{
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فأغشيناهم بظلمة الكفر فهم لا يبصرون الهدى ، قاله يحيى بن سلام ، ومعنى قول مجاهد .
الثاني : فأغشيناهم بظلمة الليل فهم لا يبصرون محمداً صلى الله عليه وسلم حين ائتمروا على قتله ، قاله السدي ، ومحمد بن كعب .
قوله عز وجل : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكرَ } يعني القرآن . { وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما يغيب به عن الناس من شر عمله ، قاله السدي .
الثاني : ما غاب من عذاب الله وناره ، قاله قتادة .
{
فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } لذنبه .
{
وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لطاعته ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه الكثير . الثاني : الذي تنال معه الكرامة .

قوله عز وجل : { إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } فيه وجهان :
أحدهما : نحييهم بالإيمان بعد الكفر ، قاله الضحاك .
الثاني : بالبعث للجزاء ، قاله يحيى بن سلام .
{
ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ } فيه تأويلان : أحدهما : ما قدموا هو ما عملوا من خير أو شر ، وآثارهم ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعدهم ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : ما قدموا : أعمالهم ، وآثارهم : خطاهم إلى المساجد ، قاله مجاهد .
روى سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد ، فنزلت : { إنَّا نَحْنُ نُحِيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ } وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إن آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلَمْ يَنتَقِلُوا
» .
ويحتمل إن لم يثبت نقل هذا السبب تأويلاً ثالثاً أن آثارهم هو أن يصلح من صاحبهم بصلاحهم ، أو يفسد بفسادهم .
{
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } فيه وجهان :
أحدهما : علمناه .
الثاني : حفظناه .
{
في إمَامٍ مُّبِينٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : اللوح المحفوظ ، قاله السدي . الثاني : أم الكتاب قاله مجاهد .
الثالث : معناه طريق مستقيم ، قاله الضحاك .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)

قوله عز وجل : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ } هذه القرية هي أنطاكية من قول جميع المفسرين .
{
إذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا } اختلف في اسميهما على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهما شمعون ويوحنا ، قاله شعيب .
الثاني : صادق وصدوق ، قاله ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه .
الثالث : سمعان ويحيى ، حكاه النقاش .
{
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فشددنا ، قاله مجاهد .
الثاني : فزدنا ، قاله ابن جريج .
الثالث : قوينا مأخوذ من العزة وهي القوة المنيعة ، ومنه قولهم : من عز وبز : واختلف في اسمه على قولين :
أحدهما : يونس قاله شعيب .
الثاني : شلوم ، قاله ابن عباس وكعب ووهب . وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة يعبد الأصنام مع أهلها ، وكانت لهم ثلاثة أصنام يعبدونها ، ذكر النقاش أن أسماءها رومس وقيل وارطميس .
واختلف في اسم الملك على قولين :
أحدهما : أن اسمه أنطيخس ، قاله ابن عباس وكعب ووهب .
الثاني : انطرا ، قاله شعيب .
قوله عز وجل : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وهذا القول منهم إنكار لرسالته ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنكم مثلنا غير رسل وإن جاز أن يكون البشر رسلاً .
الثاني : إن مثلكم من البشر لا يجوز أن يكونوا رسلاً .
{
وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْءٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك منهم إنكاراً للرحمن أن يكون إلهاً مرسلاً .
الثاني : أن يكون ذلك إنكاراً أن يكونوا للرحمن رسلاً .
{
إنْ أَنتُمْ إِلاَّ تُكْذِبُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تكذبون في أن لنا إلهاً .
الثاني : تكذبون في أن تكونوا رسلاً .
قوله عز وجل : { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } فإن قيل يعلم الله تعالى أنهم لا تكون حجة عند الكفار لهم .
قيل يحتمل قولهم ذلك وجهين :
أحدهما : معناه ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون بما يظهره لنا من المعجزات ، وقد قيل إنهم أحيوا ميتاً وأبرؤوا زمِناً .
الثاني : أن تمكين ربنا لنا إنما هو لعلمه بصدقنا .
واختلف أهل العلم فيهم على قولين :
أحدهما : أنهم كانوا رسلاً من الله تعالى إليهم .
الثاني : أنهم كانوا رسل عيسى عليه السلام من جملة الحواريين أرسلهم إليهم فجاز ، لأنهم رسل رسول الله ، أن يكونوا رسلاً لله ، قاله ابن جريج .
{
وَمَا عَلَيْنَآ إلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } يعني بالإعجاز الدال على صحة الرسالة أن الذي على الرسل إبلاغ الرسالة وليس عليهم الإجابة ، وإنما الإجابة على المدعوين دون الداعين .
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

قوله عز وجل : { قَالُواْ إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تشاءَمنا بكم ، وعساهم قالوا ذلك لسوء أصابهم ، قاله يحيى بن سلام . قيل إنه حبس المطر عن أنطاكية في أيامهم .
الثاني : معناه إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، قاله قتادة : تحذيراً من الرجوع عن دينهم .
الثالث : استوحشنا منكم فيما دعوتمونا إليه من دينكم .
{
لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : لنرجمنكم بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : لنقتلنكم ، قاله السدي .
الثالث : لنشتمنكم ونؤذيكم ، قاله النقاش .
{
وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه القتل .
الثاني : التعذيب المؤلم قبل القتل .
قوله عز وجل : { قَالُواْ طَآئِرَكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن أعمالكم معكم أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ، قاله قتادة .
الثاني : أن الشؤم معكم إن أقمتم على الكفر إذا ذكرتم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه أن كل من ذكركم بالله تطيرتم به ، حكاه بعض المتأخرين .
الرابع : أن عملكم ورزقكم معكم ، حكاه ابن حسام المالكي .
{
بَل أَنتُمْ قومٌ مُّسْرفُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : في تطيركم ، قاله قتادة .
الثاني : مسرفون في كفركم ، قاله يحيى بن سلام . وقال ابن بحر : السرف ها هنا الفساد ومعناه بل أنتم قوم مفسدون ، ومنه قول الشاعر :
إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماءِ غمامة شتمي
وقيل : إن شمعون من بينهم أحيا بنت ملك أنطاكية من قبرها ، فلم يؤمن أحد منهم غير حبيب النجار فإنه ترك تجارته حين سمع بهم وجاءهم مسرعاً فآمن ، وقتلوا جميعاً وحبيب معهم ، وألقوا في بئر . قال مقاتل : هم أصحاب الرس : ولما عرج بروح حبيب إلى الجنة تمنى فقال { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بَمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)

قوله عز وجل : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } اختلف فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان إسكافاً ، قاله عمربن عبد الحكيم .
الثاني : أنه كان قصاراً ، قاله السدي .
الثالث : أنه كان حبيب النجار ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد .
{
قَالَ يَا قَومِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ } وفي علمه بنبوتهم وتصديقه لهم قولان :
أحدهما : لأنه كان ذا زمانة أو جذام فأبرؤوه ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنهم لما دعوه قال أتأخذون على ذلك أجراً؟ قالوا لا ، فاعتقد صدقهم وآمن بهم ، قاله أبو العالية .
قوله عز وجل : { اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون قال ذلك تنبيهاً على صدقهم .
الثاني : أن يكون قال ذلك ترغيباً في أجابتهم .
{
وُهُم مُّهْتَدُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مهتدون لهدايتكم .
الثاني : مهتدون فاهتدوا بهم .
قوله عز وجل : { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي } أي خلقني { وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ } أي تبعثون . فإن قيل : فلم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو معترف أن الله فطرهم جميعاً ويبعثهم إليه جميعاً؟
قيل : لأنه خلق الله تعالى له نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث في القيامة وعيد يقتضي الزجر ، فكان إضافة النعمة ، إلى نفسه إضافة شكر ، وإضافة الزجر إلى الكافر أبلغ أثراً .
قال قتادة : بلغني أنهم لما قال لهم : وما لي لا أعبد الذي فطرني وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه وهو يقول : يا رب اهدِ قومي ، أحسبه قال : فإنهم لا يعلمون .
قوله عز وجل : { إِنِّي ءَامَنتُ بِرَبِّكُم فَاسْمَعُونِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه خاطب الرسل بذلك أنه يؤمن بالله ربهم { فَاسْمَعُونِ } أي فاشهدوا لي ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه خاطب قومه بذلك ، ومعناه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي ، قاله وهب بن منبه .
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

قوله عز وجل : { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بدخول الجنة .
الثاني : أنه أخبر بأنه قد استحق دخول الجنة لأن دخولها يستحق بعد البعث .
{
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } في هذا التمني منه قولان :
أحدهما : أنه تمنى أن يعلموا حاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته .
الثاني : أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً .
ويحتمل قوله : { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكرَمِينَ } وجهين :
أحدهما : ممن أكرمه بقبول عمله . الثاني : ممن أحله دار كرامته .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)

قوله عز وجل { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } فيه قولان : أحدهما : معنى جند من السماء أي رسالة ، قاله مجاهد ، لأن الله تعالى قطع عنهم الرسل حين قتلوا رسله .
الثاني : أن الجند الملائكة الذين ينزلون الوحي على الأنبياء ، قاله الحسن .
{
وما كنا منزلين } أي فاعلين .
{
إن كانت إلا صيحة واحدةً } فيها قولان :
أحدهما : أنَّ الصيحة هي العذاب .
الثاني : أنها صيحة من جبريل عليه السلام ليس لها مثنوية ، قاله السدي .
{
فإذا هم خامدون } أي ميتون تشبيهاً بالرماد الخامد .
قوله عز وجل : { يا حسرةً على العباد ما يأتيهم } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : يا حسرة العباد على أنفسها ، قال قتادة ، وحكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم في بعض القراءات متلوٍّا .
الثاني : أنها حسرتهم على الرسل الثلاثة ، قاله أبو العالية .
الثالث : أنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل ، قاله الضحاك .
وفيه وجه رابع : عن ابن عباس أنهم حلوا محل من يتحسر عليهم .
{
ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءُون } الاستهزاء منهم قبل العذاب .
وفي الحسرة منهم قولان :
أحدهما : بعد معاينة العذاب .
الثاني : في القيامة ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل : { وإن كلُّ لما جميعٌ } يعني الماضين والباقين .
{
لدينا محضرون } فيه وجهان :
أحدهما : معذبون ، قاله السدي .
الثاني : مبعثون ، قاله يحيى بن سلام .
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)

قوله عز وجل : { وفجرنا فيها مِن العيون ليأكلوا من ثمَرِه وما عَمِلتْهُ أيديهم } فيه وجهان :
أحدهما : أنها إثبات وتقديره : ومما عملته أيديهم ، قاله الكلبي والفراء وابن قتيبة .
والوجه الثاني : أنها جحد وفيها على هذا القول وجهان :
أحدهما : وما لم تعمله أيديهم من الأنهار التي أجراها الله سبحانه لهم . قال الضحاك يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ ونيل مصر .
الثاني : وما لم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله تعالى لهم .
قوله عز وجل : { سبحان الذي خَلَق الأزواج كلها } فيه وجهان :
أحدهما : يعني الأصناف كلها ، قاله السدي .
الثاني : يعني من النخل والشجر والزرع كل صنف منه زوج .
{
ومن أنفسهم } وفي ذلك دليل على مشاكلة الحيوان لهم في أنها زوج ذكر وأنثى .
{
ومما لا يَعْلمون } فيه وجهان :
أحدهما : يعني الروح التي يعلمها الله ولا يعلمها غيره .
الثاني : ما يرى نادراً من حيوان ونبات .
ويحتمل ثالثاً : مما لا تعلمون من تقلب الولد في بطن أمه .
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

قوله عز وجل : { وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار } أي نخرج منه النهار يعني ضوءه ، مأخوذ من سلخ الشاة إذا خرجت من جلدها .
{
فإذا هم مظلمون } أي في ظلمة لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضىء ، فإذا خرج منه أظلم .
{
والشمس تجري لمستقر لها } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : لوقت واحد لا تعدوه ، قاله قتادة .
الثالث : أي أبعد منازلها في الغروب ، ثم ترجع إلى أدنى منازلها ، قاله الكلبي . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأها : والشمس تجري لا مستقر لها . وتأويل هذه القراءة أنها تجري في الليل والنهار ولا وقوف لها ولا قرار .
وقوله عز وجل : { والقمر قدرناه منازل } فيه وجهان :
أحدهما : جعله في كل ليلة على مقر له ، يزيد في كل ليلة من أول الشهر حتى يستكمل ثم ينقص بعد استكماله حتى يعود كما بدأ ، وهو محتمل .
الثاني : أنه يطلع كل ليلة في منزل حتى يستكمل جميع المنازل في كل شهر ، ولذلك جعل بعض الحساب السنة الشمسية ثلاثة عشر شهراً قمرياً .
{
حتى عَادَ كالعرجون القديم } فيه قولان :
أحدهما : أنه العذق اليابس إذا استقوس ، وهو معنى قول ابن عباس ، ومنه قول أعشى قيس :
شرق المسك والعبير بها ... فهي صفراء كعرجون القمر
الثاني : أنه النخل إذا انحنى مائلاً ، قاله الحسن .
{
لا الشمس ينبغي لها أن تُدْرِك القَمر } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يجتمع ضوء أحدهما مع ضوء الآخر ، لأن ضوء القمر ليلاً وضوء الشمس نهاراً ، فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر ، قاله قتادة .
الثالث : معناه أنهما إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، قاله الحسن .
الخامس : أنه لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها ، حكاه يحيى بن سلام .
{
ولا الليلُ سابق النهار } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه لا يتقدم الليل قبل استكمال النهار وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أنه لا يأتي ليل بعد ليل متصل حتى يكون بينهما نهار منفصل ، وهو معنى قول عكرمة .
ومن الناس من يجعل هذا دليلاً على أن أول الشهر النهار دون الليل ، لأنه إذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما وجب أن يكون النهار سابقاً . وهذا قول يدفعه الشرع ويمنع منه الإجماع .
{
وكلٌّ في فلك يسْبَحون } قال الحسن : الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملتصقة بالسماء ، ولو كانت ملتصقة ما جرت .
وفي قوله تعالى : { يسبحون } ثلاثة أقاويل :
أحدها : يجرون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة ، قاله عكرمة ومجاهد .
الثالث : يعملون ، قاله الضحاك .
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)

قوله عز وجل : { وآية لهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عبرة لهم لأن في الآيات اعتباراً .
الثاني : نعمة عليهم لأن في الآيات إنعاماً .
الثالث : إنذار لهم لأن في الآيات إنذاراً .
{
أنَّا حَملْنا ذُرّيتَهم في الفلك المشحون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذرية الآباء حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام ، قاله أبان بن عثمان ، وسمى الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء .
الثاني : أن الذرية الأبناء والنساء لأنهم ذرء الآباء حملوا في السفن ، والفلك هي السفن الكبار ، قاله السدي .
الثالث : أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهاً بالفلك المشحون ، قاله عليّ رضي الله عنه .
وفي { المشحون } قولان :
أحدهما : الموقر ، قاله ابن عباس .
الثاني : المملوء ، حكاه ابن عباس أيضاً .
{
وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } فيه أربعة تأويلات : أحدها : أنه خلق مثل سفينة نوح مما يركبونها من السفن ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها السفن الصغار خلقها لهم مثل السفن الكبار ، قاله أبو مالك .
الثالث : أنها سفن الأنهار خلقها لهم مثل سفن البحار ، قاله السدي .
الرابع : أنها الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر ، قاله الحسن وعبد الله بن شداد . والعرب تشبه الإبل بالسفن ، قال طرفة :
كأنَّ حدوج المالكية غدوةً ... خلايا سَفينٍ بالنواصِف من رَدِ
ويجيء على مقتضى تأويل عليّ رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء . قولٌ خامس في قوله : { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } :
أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج ، لكن لم أره محكياً .
قوله عز وجل : { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } فيه وجهان :
أحدهما : فلا مغيث لهم ، رواه سعيد عن قتادة .
الثاني : فلا منعة لهم ، رواه شيبان عن قتادة .
{
ولا هم ينقذون } فيه وجهان :
أحدهما : من الغرق .
الثاني : من العذاب .
{
إلا رحمة منا } فيه وجهان :
أحدهما : إلا رحمتنا ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلا نعمة منا ، قاله مقاتل .
{
ومتاعاً إلى حين } فيه وجهان :
أحدهما : إلى الموت ، قاله قتادة .
الثاني : إلى القيامة ، قاله يحيى .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)

قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم اتَّقوا ما بين أيديكم وما خلْفكم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب ، وما خلفكم ما يأتي من الذنوب ، قاله مجاهد .
الثاني : ما بين أيديكم من الدنيا ، وما خلفكم من عذاب الآخرة ، قاله سفيان .
الثالث : ما بين أيديكم عذاب الله لمن تقدم من عاد وثمود ، وما خلفكم من أمر الساعة ، قاله قتادة .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : ما بين أيديكم ما ظهر لكم ، وما خلفكم ما خفي عنكم .
{
لعلكم ترحمون } معناه لكي ترحموا فلا تعذبوا . ولهذا الكلام جواب محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه .
قوله عز وجل : { وما تأتيهم مِن آيةٍ مِنْ آيات ربِّهم } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : من آية من كتاب الله ، قاله قتادة .
الثاني : من رسول ، قاله الحسن .
الثالث : من معجز ، قاله النقاش .
ويحتمل رابعاً : ما أنذروا به من زواجر الآيات والعبر في الأمم السالفة .
قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم اللهُ قال الذين كفروا } الآية . فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود أمروا بإطعام الفقراء فقالوا { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } قال الحسن .
الثاني : أنهم الزنادقة أمروا فقالوا ذلك ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم مشركو قريش جعلوا لأصنامهم في أموالهم سهماً فلما سألهم الفقراء أجابوهم بذلك ، قاله النقاش .
ويحتمل هذا القول منهم وجهين :
أحدهما : إنكارهم وجوب الصدقات في الأموال .
الثاني : إنكارهم على إغناء من أفقره الله تعالى ومعونة من لم يعنه الله تعالى .
{
إن أنتم إلا في ضلال مبين } فيه قولان :
أحدهما : أنه من قول الكفار لمن أمرهم بالإطعام ، قاله قتادة .
الثاني : أنه من قول الله تعالى لهم حين ردوا بهذا الجواب ، حكاه ابن عيسى .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)

قوله عز وجل : { ويقولون متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين } فيه وجهان :
أحدهما : ما وعدوا به من العذاب ، قاله يحيى بن سلام . الثاني : ما وعدوا به من الظفر بهم ، قاله قتادة .
قوله عز وجل : { ما ينظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم } قال السدي : هي النفخة الأولى من إسرافيل ينتظرها آخر هذه الأمة من المشركين ، وروى نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم
» . {
وهم يخصمون } فيه وجهان :
أحدهما : يتكلمون في معايشهم ومتاجرهم ، قاله السدي .
الثاني : يخصمون في دفع النشأة الثانية ، حكاه ابن عيسى .
{
فلا يستطيعون توصية } أي يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما في يديه من حق .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أنه لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضاً بالتوبة والإقلاع .
{
ولا إلى إهلهم يرجعون } أي إلى منازلهم ، قال قتادة لأنهم أعجلوا عن ذلك .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

قوله عز وجل : { ونفخ في الصور } وهذه هي النفخة الثانية للنشأة وقيل إن بينهما أربعين سنة . روى المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « بين النفختين أربعون : الأولى يميت الله سبحانه بها كل حي ، والآخرة يحيي الله بها كل ميت »
والنفخة الثانية من الآخرة . وفي الأولى قولان : أحدهما : أنها من الدنيا ، قاله عكرمة .
الثاني : أنها من الآخرة ، قاله الحسن .
{
فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } والأجداث القبور ، وأحدها جدث . وفي قوله تعالى { ينسلون } ثلاثة تأويلات :
أحدها : يخرجون ، قاله ابن عباس وقتادة ، قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ...
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
الثاني : يسرعون ، كقول الشاعر :
عسلان الذئب أمسى قاربا ... بَرَدَ الليلُ عليه فنسل
الثالث : يتخلصون من السلو ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { قالوا يا ويلنا من بعثنا مِن مَرقدنا } قال قتادة : هي النومة بين النفختين لا يفتر عنهم عذاب القبر إلا فيها . وفي تأويل هذا القول قولان :
أحدهما : أنه قول المؤمنين ثم يجيبون أنفسهم فيقولون : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } حكاه ابن عيسى .
الثاني : أنه قول الكفار لإنكارهم البعث فيقال لهم : { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } .
وفي قائل ذلك لهم قولان :
أحدهما : أنه قول المؤمنين لهم عند قيامهم من الأجداث معهم ، قاله قتادة .
الثاني : أنه قول الملائكة لهم ، قاله الحسن .
وفي { هذا } وجهان :
أحدهما : أنه إشارة إلى المرقد تماماً لقوله تعالى { من بعثنا من مرقدنا هذا } وعليه يجب أن يكون الوقف .
الثاني : أنه ابتداء { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } فيكون إشارة إلى الوعد ويكون الوقف قبله والابتداء منه .
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)

قوله عز وجل : { إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُل فاكهون } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : في افتضاض الأبكار ، قاله الحسن وسعيد بن جبير وابن مسعود وقتادة .
الثاني : في ضرب الأوتار ، قاله ابن عباس ومسافع بن أبي شريح .
الثالث : في نعمة ، قاله مجاهد .
الرابع : في شغل مما يَلقى أهل النار ، قاله إسماعيل بن أبي خالد وأبان بن تغلب . وروي بضم الغين وقرىء بتسكينها وفيها وجهان :
أحدهما : أن الشغل بالضم المحبوب .
الثاني : الشغل بالإسكان يعني المروة ، فعلى هذا لا يجوز أن يقرأ بالإسكان في أهل الجنة ولا يقرأ بالضم في أهل النار .
{
فاكهون } ويقرأ : فكهون ، بغير ألف . وفي اختلاف القراءتين وجهان :
أحدهما : أنها سواء ومعناهما واحد يقال فاكه وفكه كا يقال حاذر وحذر قاله الفراء .
الثاني : أن معناهما في اللغة مختلف فالفكه الذي يتفكه بأعراض الناس . والفاكه ذو الفاكهة ، قاله أبو عبيد وأنشد :
فكه إلى جنب الخوان إذا عدت ... نكْباء تقلع ثابت الأطنابِ
وفيه ها هنا أربعة تأويلات :
أحدها : فرحون ، قاله ابن عباس .
الثاني : ناعمون ، قاله قتادة .
الثالث : معجبون ، قاله مجاهد .
الرابع : ذو فاكهة كما يقال شاحم لاحم أي ذو شحم ولحم ، وكما قال الشاعر :
وغررتني وزعمت أنَّك لابنٌ بالصيف تامر ... أي ذو لبن وتمر .
قوله عز وجل : { هم وأزواجُهم في ظلال } فيه وجهان :
أحدهما : وأزواجهم في الدنيا من وافقهم على إيمانهم .
الثاني : أزواجهم اللاتي زوّجهم الله تعالى بهن في الجنة من الحور العين .
{
في ظِلال } يحتمل وجهين :
أحدهما : في ظلال النعيم .
الثاني : في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم .
قوله عز وجل : { لهم فيها فاكهةٌ ولهُم ما يَدَّعون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ما يشتهون ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : ما يسألون ، قاله ابن زياد . الثالث : ما يتمنون ، قاله أبو عبيدة .
الرابع : ما يدعونه فيأتيهم ، قاله الكلبي قال الزجاج : وهو مأخوذ من الدعاء .
ويحتمل خامساً : ما يدّعون أنه لهم فهو لهم لا يدفعون عنه ، وهم مصروفون عن دعوى ما لا يستحقون .
قوله عز وجل : { سلامٌ قولاً مِن رَبِّ رحيم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه سلام الله تعالى عليهم إكراماً لهم ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : أنه تبشير الله تعالى لهم بسلامتهم .
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)

قوله عز وجل : { وامتازوا اليوم أيُّها المجرمون } فيه وجهان :
أحدهما : قاله الكلبي ، لأن المؤمنين والكفار يحشرون مع رسلهم فلذلك يؤمرون بالامتياز .
الثاني : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ، فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة ، قاله الضحاك .
فيحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون الامتياز عند الوقوف .
الثاني : عند الانكفاء إلى النار .
قال دواد بن الجراح : فيمتاز المسلمون من المجرمين إلا صاحب الهوى فيكون مع المجرمين .
قوله عز وجل : { ولقد أَضَلَّ منكم جبلاً كثيراً } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : جموعاً كثيرة ، قاله قتادة .
الثاني : أمماً كثيرة ، قاله الكلبي .
الثالث : خلقاً كثيراً ، قاله مجاهد ومطرف . وحكى الضحاك أن الجِبِلّ الواحد عشرة آلاف ، والكثير ما لا يحصيه إلاّ الله تعالى .
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)

قوله عز وجل : { اليوم نختم على أفواههم } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون منعها من الكلام هو الختم عليها .
الثاني : أن يكون ختماً يوضع عليها فيرى ويمنع من الكلام .
وفي سبب الختم أربعة أوجه :
أحدها : لأنهم قالوا { والله ربنا ما كنا مشركين } فختم الله تعالىعلى أفواههم حتى نطقت جوارحهم ، قاله أبو موسى الأشعري .
الثاني : لِيَعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم ، قاله ابن زياد .
الثالث : لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الإلزام من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز وإن كان يوماً لا يحتاج فيه إلى الإعجاز .
الرابع : ليعلم أن أعضاءه التي كانت لهم أعواناً في حق نفسه صارت عليه شهوداً في حق ربه .
{
وتُكلِّمنا أيديهم وتشهدُ أرجلهم بما كانوا يكسبون } وفي كلامها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يظهر منها سِمة تقوم [ مقام ] كلامها كما قال الشاعر :
وقد قالت العينان سمعاً وطاعة ... وحَدَّرنا كالدر لما يثَقّبِ
الثاني : أن الموكلين بها يشهدون عليها .
الثالث : أن الله تعالى يخلق فيها ما يتهيأ معه الكلام منها . روى الشعبي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل » . فإن قيل فلم قال { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } فجعل ما كان من اليد . كلاماً ، وما كان من الرجل شهادة؟
قيل لأن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه إقرار ، فلذلك عبّر عما صدر من الأيدي بالقول ، وعما صدر من الأرجل بالشهادة . وقد روى شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى
» .
فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي في الشطر الأعلى من جسده ، وأقرب أعضاء الشطر الأسفل منها الفخذ ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها ، وتقدمت اليسرى لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها ، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها .
قوله عز وجل : { ولو نشاءُ لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصِّراطَ } فيه وجهان :
أحدهما : لأعمينا أبصار المشركين في الدنيا فضلوا عن الطريق فلا يبصرون عقوبة لهم ، قاله قتادة .
الثاني : لأعمينا قلوبهم فضلوا عن الحق فلم يهتدوا إليه ، قاله ابن عباس .
قال الأخفش وابن قتيبة : المطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق مأخوذ من طمس الريح الأثر .
{
ولو نشاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ } فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : لأقعدناهم على أرجلهم ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : لأهلكناهم في مساكنهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : لغيّرنا خلْقهم فلا ينقلبون ، قاله السدي .
{
فما استطاعوا مُضِيّاً ولا يرجعون } فيه وجهان :
أحدهما : فما استطاعوا لو فعلنا ذلك بهم أن يتقدموا ولا يتأخروا ، قاله قتادة .
الثاني : فما استطاعوا مُضِيّاً في الدنيا ، ولا رجوعاً فيها ، قاله أبو صالح .
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

قوله عز وجل : { ومَن نعمِّره ننكِّسهُ في الخَلْق } في قوله { نعمره } قولان :
أحدهما : بلوغ ثمانين سنة ، قاله سفيان .
الثاني : هو الهرم ، قاله قتادة . وفي قوله تعالى { ننكِّسْه } تأويلان :
أحدهما : نردُّه في الضعف إلى حال الضعف فلا يعلم شيئاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : نغير سمعه وبصره وقوته ، قاله قتادة .
و { في الخلق } وجهان :
أحدهما : جميع الخلق ويكون معناه : ومن عمرناه من الخلق نكسناه في الخلق .
والوجه الثاني : أنه عنى خلقه ، ويكون معنى الكلام : من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، فصار مكان القوة الضعف ، ومكان الشباب الهرم ، ومكان الزيادة النقصان .
{
أفلا تعقلون } أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم .
قوله عز وجل : { وما علّمْناه الشِّعر وما ينبغي له } يحتمل وجهين :
أحدهما : أي ليس الذي علمناه من القرآن شعراً .
الثاني : أي لم نعلم رسولنا أن يقول الشعر .
{
وما ينبغي له } يحتمل وجهين :
أحدهما : وما ينبغي له أن يقول شعراً .
الثاني : وما ينبغي لنا أن نعلمه شعراً .
{
إنْ هو لا ذكر وقرآن مُبين } يحتمل وجهين :
أحدهما : إنْ علّمناه إلا ذكراً وقرآناً مبيناً .
الثاني : إنْ هذا الذي يتلوه عليكم إلا ذكر وقرآن مبين .
قوله عز وجل : { لينذر من كان حَيّاً } فيه قولان :
أحدهما : لتنذر يا محمد من كان حياً ، وهذا تأويل من قرأ بالتاء .
الثاني : لينذر القرآن من كان حياً ، وهو تأويل من قرأ بالياء .
وفي { مَن كان حَيّاً } ها هنا أربعة تأويلات :
أحدها : من كان غافلاً ، قاله الضحاك .
الثاني : من كان حي القلب حي البصر ، قاله قتادة .
الثالث : من كان مؤمناً ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : من كان مهتدياً ، قاله السدي .
{
ويحِقَّ القَوْل على الكافرين } معناه : ويجب العذاب على الكافرين .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)

قوله عز جل : { أو لم يروا أَنا خلقنا لهم مما عَمِلتْ أيدينا أنعاماً } فيه وجهان :
أحدهما يعني بقوتنا : قاله الحسن كقوله تعالى { والسماء بنيناها بأيد } [ الذاريات : 47 ] أي بقوة .
الثاني : يعني من فعلنا وعملنا من غير أن نكله إلى غيرنا ، قاله السدي . والأنعام : الإبل والبقر والغنم .
{
فهم لها مالكون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضابطون ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
أصبحت لا أحمل السِّلاح ولا ... أملِك رأس البعير إن نَفَرا
الثاني : مطبقون رواه معمر .
الثالث : مقتنون وهو معنى قول ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وذللناها لهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وطيبناها لهم؛ قاله ابن عيسى .
الثاني : سخرناها لهم ، قاله ابن زيد .
الثالث : ملكناها لهم .
{
فمنها ركوبُهم } والركوب بالضم مصدر ركب يركب ركوباً ، والركوب بالفتح الدابة التي تصلح أن تركب .
{
ومنها يأكلون } يعني لحوم المأكول منها .
{
ولهم فيها منافع } قال قتادة : هي لبس أصوافها .
{
ومشارب } يعني شرب ألبانها { أفلا يشكرون } يعني رب هذه النعمة بتوحيده وطاعته .
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)

قوله عز وجل : { . . . وهم لهم جندٌ محضرون } يعني أن المشركين لأوثانهم جند ، وفي الجند ها هنا وجهان :
أحدهما : شيعة ، قاله ابن جريج .
الثاني : أعوان .
{
محضرون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محضرون عند الحساب ، قاله مجاهد .
الثاني : محضرون في النار ، قاله الحسن .
الثالث : محضرون للدفع عنهم والمنع منهم ، قاله حميد . قال قتادة : يغضبون لآلهتهم ، وآلهتهم لا تنصرهم .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)

قوله عز وجل : { أو لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نفطةٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنها نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله في بعث الموتى ، قاله عكرمة ومجاهد والسدي .
الثاني : أنها نزلت في العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم : أيحيي اللَّه هذا بعدما أرمّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعم ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم » فنزلت هذه الآيات فيه ، قاله ابن عباس .
{
فإذا هو خصيمٌ مبينٌ } أي مجادل في الخصومة مبين للحجة ، يريد بذلك أنه صار بعد أن لم يكن شيئاً خصيماً مبيناً ، فاحتمل ذلك أمرين :
أحدهما : أن ينبهه بذلك على نعمه عليه .
الثاني : أن يدله بذلك على إحياء الموتى كما ابتدأه بعد أن لم يكن شيئاً .
قوله عز وجل : { وضَرب لنا مثلاً ونَسي خلقه } وهو من قدمنا ذكره ويحتمل وجهين :
أحدهما : أي ترك خلقه أن يستدل به .
الثاني : سها عن الاعتبار به .
{
قال مَن يُحْيِ العظَامَ وهي رَميمٌ } استبعاداً أن يعود خلقاً جديداً . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبه بما فيه دليل لأولي الألباب .
{
قل يحييها الذي أنشأها أول مَرَّة } أي من قدر عل إنشائها أول مرة من غير شيءٍ فهو قادرعلى إعادتها في النشأة الثانية من شيء .
{
وهو بكل خَلقٍ عليم } أي كيف يبدىء وكيف يعيد .
قوله عز وجل : { الذي جَعَلَ لكم مِنَ الشجر الأخضر ناراً } الآية أي الذي جعل النار المحرقة في الشجر الرطب المَطفي وجمع بينهما مع ما فيهما من المضادة ، لأن النار تأكل الحطب ، وأقدركم على استخراجها هو القادر على إعادة الموتى وجمع الرفات .
ويحتمل ذلك منه وجهين :
أحدهما : أن ينبه الله تعالى بذلك على قدرته التي لا يعجزها شيء .
الثاني : أن يدل بها على إحياء الموتى كما أحييت النار بالإذكاء .
قال الكلبي : كل الشجر يقدح منه النار إلا العناب .
وحكى أبو جعفر السمرقندي عن أحمد بن معاذ النحوي في قوله تعالى { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر } يعني به إبراهيم ، { ناراً } أي نوراً يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{
فإذا أنتم منه توقِدون } أي تقتبسون الدين .
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

قوله عز وجل : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } فيه وجهان :
أحدهما : معناه أن يأمر فيوجد .
الثاني : ما قاله قتادة أنه ليس شيء أخف في الكلام من { كن } ولا أهون على لسان العرب من ذلك ، فجعله الله تعالى مثلاُ لأمره في السرعة .
{
فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ } فيه وجهان :
أحدهما : خزائن كل شيء .
الثاني : ملك كل شيء إلا أن فيه مبالغة .
{
وإليه ترجعون } يعني يوم القيامة ، فيجازي المحسن ويعاقب المسيء .
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لكل شيءٍ قلْباً وإنَّ قلْبَ القرآن يس ، ومن قرأها في ليلة أعطي يُسْر تلك الليلة ، ومن قرأها في يوم أعطي يُسْرَ ذلك اليوم ، وإنّ أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرأون منه شيئاً إلا طه ويس
» .
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)

قوله عز وجل : { والصافات صفّاً } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم الملائكة ، قاله ابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة .
الثاني : أنهم عبّاد السماء ، قاله الضحاك ورواه عن ابن عباس .
الثالث : أنهم جماعة المؤمنين إذا قاموا في صفوفهم للصلاة ، حكاه النقاش لقوله تعالى { صفّاً كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 4 ] .
ويحتمل رابعاً : أنها صفوف المجاهدين في قتال المشركين .
واختلف من قال الصافات الملائكة في تسميتها بذلك على ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها صفوف في السماء ، قاله مسروق وقتادة .
الثاني : لأنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله تبارك وتعالى بما يريد ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { فالزاجرات زجراً } فيه ثلاثة أقاول :
أحدها : الملائكة ، قاله ابن مسعود ومسروق وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد .
الثاني : آيات القرآن ، قاله الربيع .
الثالث : الأمر والنهي الذي نهى الله تعالى به عباده عن المعاصي ، حكاه النقاش .
ويحتمل رابعاً : أنها قتل المشركين وسبيهم .
واختلف من قال إن الزاجرات الملائكة في تسميتها بذلك على قولين :
أحدهما : لأنها تزجر السحاب ، قاله السدي .
الثاني : لأنها تزجر عن المعاصي قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { فالتاليات ذكراً } أي فالقارئات كتاباً ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، قاله ابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير والسدي .
الثاني : ما يتلى في القرآن من أخبار الأمم السالفة ، قاله قتادة .
الثالث : الأنبياء يتلون الذكر على قومهم ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنَّ إلهكم لواحد } كل هذا قَسَم أن الإِله واحد ، وقيل إن القسم بالله تعالى على تقدير ورب الصافات ولكن أضمره تعظيماً لذكره .
ثم وصف الإله الواحد فقال :
{
رب السموات والأرض وما بينهما } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : خالق السموات والأرض وما بينهما ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : مالك السموات والأرض وما بينهما .
الثالث : مدبر السموات والأرض وما بينهما .
{
ورب المشارق } فيه وجهان :
الأول : قال قتادة : ثلاثمائة وستون مشرقاً ، والمغارب مثل ذلك ، تطلع الشمس كل يوم من مشرق ، وتغرب في مغرب ، قاله السدي .
الثاني : أنها مائة وثمانون مشرقاً تطلع كل يوم في مطلع حتى تنتهي إلى آخرها ثم تعود في تلك المطالع حتى تعود إلى أولها ، حكاه يحيى بن سلام ، ولا يذكر المغارب لأن المشارق تدل عليها ، وخص المشارق بالذكر لأن الشروق قبل الغروب .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)

قوله عز وجل : { إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب } يحتمل تخصيص سماء الدنيا بالذكر وجهين :
أحدهما : لاختصاصها بالدنيا .
الثاني : لاختصاصها بالمشاهدة ، وقوله بزينة الكواكب لأن من الكواكب ما خلق للزينة ، ومنها ما خلق لغير الزينة .
حكى عقبة بن زياد عن قتادة قال : خلقت النجوم لثلاث : رجوماً للشياطين ونوراً يهتدى به ، وزينة لسماء الدنيا .
{
وحفظاً مِن كُلِّ شيطان مارِدٍ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني من الكواكب حفظاً من كل شيطان ، قاله السدي .
الثاني : أن الله سبحانه حفظ السماء من كل شيطان مارد ، قاله قتادة .
وفي المارد ثلاثة أوجه :
أحدها : الممتنع ، قاله ابن بحر .
الثاني : العاتي مأخوذ من التمرد وهو العتو .
الثالث : أنه المتجرد من الخير ، من قولهم شجرة مرداء ، إذا تجردت من الورق .
قوله عز وجل : { لا يسمعون إلى الملإِ الأعلى } فيه قولان :
أحدهما : أنهم منعوا بها أن يسمعوا أو يتسمعوا ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم يتسمعون ولا يسمعون ، قاله ابن عباس .
وفي الملإ الأعلى قولان :
أحدهما : السماء الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : الملائكة ، قاله السدي .
{
ويُقذفون من كل جانب } قال مجاهد : يرمون من كل مكان من جوانبهم ، وقيل من جوانب السماء .
{
دُحوراً } فيه تأويلان :
أحدهما : قذفاً في النار ، قاله قتادة .
الثاني : طرداً بالشهب ، وهو معنى قول مجاهد .
قال ابن عيسى : والدحور : الدفع بعنف .
{
ولهم عذابٌ واصبٌ } فيه وجهان :
أحدهما : دائم .
الثاني : أنه الذي يصل وجعه إلى القلوب ، مأخوذ من الوصب .
قوله عز وجل : { إلا من خَطِفَ الخطفَة } فيه تأويلان :
أحدهما : إلا من استرق السمع ، قاله سعيد بن جبير ، مأخوذ من الاختطاف وهو الاستلاب بسرعة ، ومنه سمي الخطاف .
الثاني : من وثب الوثبة ، قاله علي بن عيسى . { فأتبعه شهابٌ ثاقب } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الشعلة من النار .
الثاني : أنه النجم .
وفي الثاقب ستة أوجه :
أحدها : أنه الذي يثقب ، قاله زيد الرقاشي .
الثاني : أنه المضيء ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه الماضي ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : أنه العالي ، قاله الفراء .
الخامس : أنه المحرق ، قاله السدي .
السادس : أنه المستوقد ، من قولهم : اثقب زندك أي استوقد نارك ، قاله زيد بن أسلم والأخفش ، وأنشد قول الشاعر :
بينما المرء شهابٌ ثاقب ... ضَرَبَ الدَّهر سناه فخمد
و { إلا } ها هنا بمعنى لكن عند سيبويه . وقيل : إن الشهاب يحرقهم ليندفعوا عن استراق السمع ولا يموتون منه .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)

قوله عز وجل : { فاستفتهم أهم أشد خلقاً } فيه وجهان :
أحدهما : فسلهم قال قتادة ، مأخوذ من استفتاء المفتي .
الثاني : فحاجِّهم أيهم أشد خلقاً ، قاله الحسن .
{
أم مَنْ خلقنا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من السموات والأرض والجبال ، قاله مجاهد .
الثاني : من الملائكة ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : من الأمم الماضية فقد هلكوا وهم أشد خلقاً منهم ، حكاه ابن عيسى .
{
إنَّاخلقناهم مِن طينٍ لازبٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لاصق ، قاله ابن عباس منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
تعلم فإن الله زادك بسطة ... وأخلاق خير كلها لك لازب
الثاني : لزج ، قاله عكرمة .
الثالث : لازق ، قاله قتادة .
والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق هو الذي قد لصق بعضه ببعض ، واللازق هو الذي يلزق بما أصابه .
الرابع : لازم ، والعرب تقول طين لازب ولازم ، وقال النابغة :
ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
نزلت هذه الآية في ركانة بن زيد بن هاشم بن عبد مناف وأبي الأشد ابن أسيد بن كلاب الجمحي .
قوله عز وجل : { بل عجبت ويسخرون } وفي { عجبت } قراءتان :
إحداهما : بضم التاء ، قرأ بها حمزة والكسائي ، وهي قراءة ابن مسعود ، ويكون التعجب مضافاً إلى الله تعالى ، وإن كان لا يتعجَّبُ من شيء لأن التعجب من حدوث العلم بما لم يعلم ، واللَّه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها .
وفي تأويل ذلك على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : يعني بل أنكرت حكاه النقاش .
الثاني : هو قول علي بن عيسى أنهم قد حلّوا محل من يتعجب منه .
والقراءة الثانية : بفتح التاء قرأ بها الباقون ، وأضاف التعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال : بل عجبت يا محمد ، قاله قتادة .
وفيما عجبت منه قولان :
أحدهما : من القرآن حين أعطيه ، قاله قتادة .
الثاني : من الحق الذي جاءهم به فلم يقبلوه ، وهو معنى قول ابن زياد . وفي قوله { وتسخرون } وجهان :
أحدهما : من الرسول إذا دعاهم .
الثاني : من القرآن إذا تلي عليهم .
قوله عز وجل : { وإذا ذكِّروا لا يذكرون } فيه وجهان :
أحدهما : وإذا ذكروا بما نزل من القرآن لا ينتفعون ، وهو معنى قول قتادة .
والثاني : وإذا ذكروا بمن هلك من الأمم لا يبصرون ، وهو معنى ما رواه سعيد .
قوله عز وجل : { وإذا رأوا آيةً يَسْتَسْخِرُونَ } وفي هذه الآية قولان : أحدهما : أنه انشقاق القمر ، قاله الضحاك .
الثاني : ما شاهدوه من هلاك المكذبين ، وهو محتمل .
وفي قوله { يستسخِرون } وجهان :
أحدهما : يستهزئون ، قاله مجاهد .
الثاني : هو أن يستدعي بعضهم من بعض السخرية بها لأن الفرق بين سخر واستسخر كالفرق بين علم واستعلم .
وقيل إن ذلك في ركانة بن زيد وأبي الأشد بن كلاب .
قوله عز وجل : { فانما هي زجرةٌ واحدةٌ } أي صيحة واحدة ، قاله الحسن : وهي النفخة الثانية وسميت الصيحة زجرة لأن مقصودها الزجر .
{
فإذا هم ينظرون } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : البعث الذي كذبوا به .
الثاني : ينظرون سوء أعمالهم .
الثالث : ينتظرون حلول العذاب بهم ، ويكون النظر بمعنى الانتظار .
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

قوله عز وجل : { وقالوا يا ويلنا هذا يومُ الدين } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يوم الحساب ، قاله ابن عباس .
الثاني : يوم الجزاء ، قاله قتادة .
{
هذا يوم الفصل } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يوم القضاء بين الخلائق ، قاله يحيى .
الثاني : يفصل فيه بين الحق والباطل ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { احشروا الذين ظلموا } الآية . فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : المكذبون بالرسل .
الثاني : هم الشُرَط ، حكاه الثوري .
الثالث : هم كل من تعدى على الخالق والمخلوق .
وفي { وأزواجهم } أربعة أوجه :
أحدها : أشباههم فيحشر صاحب الزنى مع صاحب الزنى ، وصاحب الخمر مع صاحب الخمر ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
الثاني : قرناؤهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : أشياعهم ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
فكبا الثور في وسيل وروض ... مونق النبت شامل الأزواج
الرابع : نساؤهم الموافقات على الكفر ، رواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
{
وما كانوا يعبدون من دون الله } وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : إبليس ، قاله ابن زياد .
الثاني : الشياطين ، وهو مأثور .
الثالث : الأصنام ، قاله قتادة وعكرمة .
{
فاهدُوهم إلى صراط الجحيم } أي طريق النار .
وفي قوله تعالى : { فاهدوهم } ثلاثة أوجه :
أحدها : فدلوهم ، قاله ابن .
الثاني : فوجهوهم ، رواه معاوية بن صالح .
الثالث : فادعوهم ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { وقفُوهم إنَّهم مسئولون } أي احبسوهم عن دخول النار .
{
إنهم مسئولون } فيه ستة أوجه :
أحدها : عن لا إله إلا الله ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : عما دعوا إليه من بدعة ، رواه أنس مرفوعاً .
الثالث : عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري .
الرابع : عن جلسائهم ، قاله عثمان بن زيادة .
الخامس : محاسبون ، قاله ابن عباس .
السادس : مسئولون .
{
ما لكم لا تناصرون } على طريق التوبيخ والتقريع لهم ، وفيهم ثلاثة أوجه :
أحدها : لا ينصر بعضكم بعضاً ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : لا يمنع بعضكم بعضاً من دخول النار ، قاله السدي .
الثالث : لا يتبع بعضكم بعضاً في النار يعني العابد والمعبود ، قاله قتادة .
فإن قيل : فهلا كانوا مسئولين قبل قوله { فاهْدوهم . . . } الآية؟
قيل : لأن هذا توبيخ وتقريع فكان نوعاً من العذاب فلذلك صار بعد الأمر بالعذاب .
قال مجاهد : ولا تزول من بين يدي الله تعالى قدم عبد حتى يُسأل عن خصال أربع : عمره فيهم أفناه ، وجسده فيم أبلاه ، وماله مم اكتسبه وفيم أنفقه ، وعلمه ما عمل فيه .
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

قوله عز وجل : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } فيهم قولان :
أحدهما : أنه أقبل الإنس على الجن ، قاله قتادة .
الثاني : بعضهم على بعض ، قاله ابن عباس .
ويحتمل ثالثاً : أقبل الاتباع على المتبوعين .
وفي { يتساءلون } وجهان :
أحدهما : يتلاومون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يتوانسون ، وهذا التأويل معلول لأن التوانس راحة ، ولا راحة لأهل النار .
ويحتمل ثالثاً : يسأل التابع متبوعه أن يتحمل عنه عذابه .
قوله عز وجل : { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } وفي تأويل ذلك قولان :
أحدهما : قاله الإنس للجن . قاله قتادة .
الثاني : قاله الضعفاء للذين استكبروا ، قاله ابن عباس .
وفي قوله : { تأتوننا عن اليمين } ثمانية تأويلات :
أحدها : تقهروننا بالقوة ، قاله ابن عباس ، واليمين القوة ، ومنه قول الشاعر :
اذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تَلقاها عَرابةُ باليمين
أي بالقوة والقدرة .
الثاني : يعني من قبل ميامنكم ، قاله ابن خصيف .
الثالث : من قبل الخير فتصدوننا عنه وتمنعوننا منه ، قاله الحسن .
الرابع : من حيث نأمنكم ، قاله عكرمة .
الخامس : من قبل الدين أنه معكم ، وهو معنى قول الكلبي .
السادس : من قبل النصيحة واليمين ، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين ويجعلونه من دلائل الخير ويسمونه السانح ، وتتطير بما جاء عن الشمال ويجعلونه من دلائل الشر ويسمونه البارح ، وهو معنى قول عليّ بن عيسى .
السابع : من قبل الحق أنه معكم ، قاله مجاهد .
الثامن : من قبل الأموال ترغبون فيها أنها تنال بما تدعون إليه فتتبعون عليه ، وهو معنى قول الحسن .
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

قوله عز وجل : { يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعينٍ } أي من خمر معين وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الجاري؛ قاله الضحاك .
الثاني : الذي لا ينقطع ، حكاه جويبر .
الثالث : أنه الذي لم يعصر ، قاله سعيد بن أبي عروبة .
ويحتمل رابعاً : أنه الخمر بعينه الذي لم يمزج بغيره .
وفي المعين من الماء خمسة أوجه :
أحدها : أنه الظاهر للعين ، قاله الكلبي .
الثاني : ما مدّته العيون فاتصل ولم ينقطع ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الشديد الجري من قولهم أمعن في كذا إذا اشتد دخوله فيه .
الرابع : أنه الكثير مأخوذ من المعين وهو الشيء الكثير .
الخامس : أنه المنتفع به مأخوذ من الماعون ، قاله الفراء .
{
بيضاء لذَّةٍ للشاربين } يعني أن خمر الجنة بيضاء اللون ، وهي في قراءة ابن مسعود صفراء .
ويحتمل أن تكون بيضاء الكأس صفراء اللون فيكون اختلاف لونهما في منظرهما قال الشاعر :
فكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نار ونور قيّدا بوعاء .
قوله عز وجل : { لا فيها غَوْلٌ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أي ليس فيها صداع ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثاني : ليس فيها وجع البطن ، قاله مجاهد .
الثالث : ليس فيها أذى ، قاله الفراء وعكرمة وهذه الثلاثة متقاربة لاشتقاق الغول من الغائلة .
الرابع : ليس فيها إثم ، قاله الكلبي .
الخامس : أنها لا تغتال عقولهم ، قاله السدي وأبو عبيدة ، ومنه قول الشاعر :
وهذا من الغيلة أن ... يصرع واحد واحدا
{
ولا هم عنها ينزفون } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا تنزف العقل ولا تذهب الحلم بالسكر ، قاله عطاء ، ومنه قول الشاعر :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتُم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
الثاني : لا يبولون ، قاله ابن عباس ، وحكى الضحاك عنه أنه قال : في الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال .
الثالث : أي لا تفنى مأخوذ من نزف الركية ، قاله أبو عمرو بن العلاء ، ومنه قول الشاعر :
دعيني لا أبا لك أن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي
وقد يختلف هذا التأويل باختلاف القراءة ، فقرأ حمزة والكسائي ، ينزفون بكسر الزاي ، وقرأ الباقون يُنزَفون بفتح الزاي ، والفرق بينهما أن الفتح من نزف فهو منزوف إذا ذهب عقله بالسكر ، والكسر من أنزف فهو منزوف إذا فنيت خمره ، وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع عنهم التذاذ نعيمهم .
قوله عز وجل : { وعندهم قاصِراتُ الطّرفِ عينٌ } يعني بقاصرات الطرف النساء اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم مأخوذ من قولهم : قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره ، قال امرؤ القيس :
من القاصرات الطرف لو دب مُحولٌ ... من الذّرّ فوق الخد منها لأثّرا
وفي العين وجهان :
أحدهما : الحسان العيون ، قاله مجاهد ومقاتل .
الثاني : العظام الأعين ، قاله الأخفش وقطرب .
{
كأنهن بيضٌ مكنون } فيه وجهان :
أحدهما : يعني اللؤلؤ في صدفه ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
الثاني : يعني البيض المعروف في قشره ، والمكنون المصون .
وفي تشبيههم بالبيض المكنون أربعة أوجه :
أحدها : تشبيهاً ببيض النعام يُكنّ بالريش من الغبار والريح فهو أبيض إلى الصفرة ، قاله الحسن .
الثاني : تشبيهاً ببطن البيض إذا لم تمسه يد ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : تشبيهاً ببياض البيض حين ينزع قشرة ، قاله السدي .
الرابع : تشبيهاً بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض ، قاله عطاء .
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)

قوله عز وجل : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يعني أهل الجنة كما يسأل أهل النار .
{
قال قائلٌ منهم } يعني من أهل الجنة .
{
إني كان لي قرين } يعني في الدنيا ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الشيطان كان يغويه فلا يطيعه ، قاله مجاهد .
الثاني : شريك له كان يدعوه إلى الكفر فلا يجيبه ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهما اللذان في سورة الكهف { واضرب لهم مثلاً رجلين } إلى آخر قصتهما ، فقال المؤمن منهما في الجنة للكافر في النار .
{
يقول أئنك لمن المصدقين } يعني بالبعث .
{
أئذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون } فيه تأويلان :
أحدهما : لمحاسبون ، قاله مجاهد وقتادة والسدي .
الثاني : لمجازون ، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب من قوله : كما تدين تدان .
قوله عز وجل : { قال هل أنتم مطلعون } وهذا قول صاحب القرين للملائكة وقيل لأهل الجنة ، هل أنتم مطلعون يعني في النار . يحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : لاستخباره عن جواز الاطلاع .
الثاني : لمعاينة القرين .
{
فاطّلَعَ } يعني في النار . { فرآه } يعني قرينه { في سواءِ الجحيم } قال ابن عباس في وسط الجحيم ، وإنما سمي الوسط سواءً لاستواء المسافة فيه إلى الجوانب قال قتادة : فوالله لولا أن الله عَرّفه إياه ما كان ليعرفه ، لقد تغير حبْرُهُ وسبرُه يعني حسنه وتخطيطه .
قوله عز وجل : { قال تالله إن كِدْتَ لتُرْدين } هذا قول المؤمن في الجنة لقرينه في النار ، وفيه وجهان :
أحدهما : لتهلكني لو أطعتك ، قاله السدي .
الثاني : لتباعدني من الله تعالى ، قاله يحيى .
{
ولولا نعمة ربي } يعني بالإيمان { لكنت من المحْضَرين } يعني في النار ، لأن أحضر لا يستعمل مطلقاً إلا في الشر .
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

قوله عز وجل : { أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم } والنُّزل العطاء الوافر ومنه إقامة الإنزال ، وقيل ما يعد للضيف والعسكر . وشجرة الزقوم هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار ، مرة الثمر خشنة اللمس منتنة الريح .
واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أولا؟ على قولين :
أحدهما : أنها معروفة من شجر الدنيا ، ومن قال بهذا اختلفوا فيها فقال قطرب : إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر ، وقال غيره بل كل نبات قاتل .
القول الثاني : أنها لا تعرف في شجر الدنيا ، فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قال كفار قريش : ما نعرف هذه الشجرة ، فقال ابن الزبعرى : الزقوم بكلام البربر : الزبد والتمر فقال أبو جهل لعنه الله : يا جارية ابغينا تمراً وزبداً ثم قال لأصحابه تزقموا هذا الذي يخوفنا به محمد يزعم أن النار تنبت الشجر ، والنار تحرق الشجر .
{
إنا جعلناها فتنة للظالمين } فيه قولان :
أحدهما : أن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها الشجر وهذا قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه فكان هذا هو الفتنة للظالمين ، قاله مجاهد .
الثاني : أن شدة عذابهم بها هي الفتنة التي جعلت لهم ، حكاه ابن عيسى .
قوله عز وجل : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } فكان المقصود بهذا الذكر أمرين :
أحدهما : وصفها لهم لاختلافهم فيها .
الثاني : ليعلمهم جواز بقائها في النار لأنها تنبت من النار .
قال يحيى بن سلام : وبلغني أنها في الباب السادس وانها تحيا بلهب النار كما يحيا شجركم ببرد الماء .
{
طلعها كأنه رؤُوس الشياطين } يعني بالطلع الثمر ، فإن قيل فكيف شبهها برؤوس الشياطين وهم ما رأوها ولا عرفوها؟
قيل عن هذا أربعة أجوبة :
أحدها : أن قبح صورتها مستقر في النفوس ، وإن لم تشاهد فجاز أن ينسبها بذلك لاستقرار قبحها في نفوسهم كما قال امرؤ القيس :
ايقتُلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونةٍ زُرقٍ كأنياب أغوال
فشببها بأنياب الأغوال وإن لم يرها الناس .
الثاني : أنه أراد رأس حية تسمى عندالعرب شيطاناً وهي قبيحة الرأس .
الثالث : أنه أراد شجراً يكون بين مكة واليمن يسمى رؤوس الشياطين ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم } يعني لمزاجاً من حميم والحميم الحار الداني من الإحراق قال الشاعر :
كأن الحميم على متنها ... إذا اغترفته بأطساسها
جُمان يجول على فضة ... عَلَتْه حدائد دوّاسها
ومنه سمي القريب حميماً لقربه من القلب ، وسمي المحموم لقرب حرارته من الإحراق ، قال الشاعر :
أحم الله ذلك من لقاءٍ ... آحاد آحاد في الشهر الحلال
أي أدناه فيمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم تغليظاً لعذابهم وتشديداً لبلاتهم .
قوله عز وجل : { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } فيه أربعة أوجه : أحدها : يعني بأن مأواهم لإلى الجحيم ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
الثاني : أن منقلبهم لإلى الجحيم ، قاله سفيان .
الثالث : يعني أن مرجعهم بعد أكل الزقوم إلى عذاب الجحيم ، قاله ابن زياد .
الرابع : أنهم فيها كما قال الله تعالى { يطوفون بينها وبين حميم آن } ثم يرجعون إلى مواضعهم ، قاله يحيى بن سلام .
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

قوله عز وجل : { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون } أي دعانا ، ودعاؤه كان على قومه عند إياسه من إيمانهم ، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد طول الاستدعاء لأمرين :
أحدهما : ليطهر الله الأرض من العصاة .
الثاني : ليكونوا عبرة يتعظ بها من بعدهم من الأمم .
وقوله : { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فلنعم المجيبون لنوح في دعائه .
الثاني : فلنعم المجيبون لمن دعا لأن التمدح بعموم الإجابة أبلغ .
{
ونجيناه وأهله } قال قتادة : كانوا ثمانية : نوح وثلاثة بنين ونساؤهم ، أربعة [ أي ] رجال وأربعة نسوة .
{
من الكرب العظيم } فيه وجهان :
أحدهما : من غرق الطوفان ، قاله السدي .
الثاني : من الأذى الذي كان ينزل من قومه ، حكاه ابن عيسى .
{
وجعلنا ذريته هم الباقين } قال ابن عباس : والناس كلهم بعد نوح من ذريته وكان بنوه ثلاثة : سام وحام ويافث ، فالعرب والعجم أولاد سام ، والروم والترك والصقالبة أولاد يافث والسودان من أولاد حام ، قال الشاعر :
عجوز من بني حام بن نوح ... كأن جبينها حجر المقام
قوله عز وجل : { وتركنا عليه في الآخرين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أبقى الله الثناء الحسن في الآخرين ، قاله قتادة .
الثاني : لسان صدق للأنبياء كلهم ، قاله مجاهد .
الثالث : هو قوله سلام عل نوح في العالمين ، قاله الفراء .
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)

قوله عز وجل : { وإن من شيعته لإبراهيم } فيه وجهان :
أحدهما : من أهل دينه ، قاله ابن عباس .
الثاني : على منهاجه وسنته ، قاله مجاهد .
وفي أصل الشيعة في اللغة قولان :
أحدهما : أنهم الأتباع ومنه قول الشاعر :
قال الخليط غداً تصدُّ عَنّا ... أو شيعَه أفلا تشيعنا
قوله أو شيعه أي اليوم الي يتبع غداً ، قاله ابن بحر .
الثاني : وهو قول الأصمعي الشيعة الأعوان ، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار الذي يوضع مع الكبار حتى يستوقد لأنه يعين على الوقود .
ثم فيه قولان :
أحدهما : إن من شيعة محمد لإبراهيم عليهما السلام ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : من شيعة نوح لإبراهيم ، قاله مجاهد ومقاتل .
وفي إبراهيم وجهان :
أحدهما : أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثرين .
الثاني : مشتق من البرهمة وهي إدّامة النظر .
قوله عز وجل : { إذ جاء ربّه بقَلْب سليم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : سليم من الشك ، قاله قتادة .
الثاني : سليم من الشرك ، قاله الحسن .
الثالث : مخلص ، قاله الضحاك .
الرابع : ألا يكون لعاناً ، قاله عروة بن الزبير .
ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين :
أحدهما : عند دعائه إلى توحيده وطاعته .
الثاني : عند إلقائه في النار .
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)

قوله عز وجل : { فنظر نظرة في النجوم } فيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنه رأى نجماً طالعاً ، فعلم بذلك أن له إلهاً خالقاً ، فكان هذا نظره في النجوم ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنها كلمة من كلام العرب إذا تفكر الرجل في أمره قالوا قد نظر في النجوم ، قاله قتادة .
الثالث : أنه نظر فيما نجم من قولهم ، وهذا قول الحسن .
الرابع : أن علم النجوم كان من النبوة ، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك ، فنظر إبراهيم فيها [ كان ] علماً نبوياً ، قاله ابن عائشة .
وحكى جويبر عن الضحاك أن علم النجوم كان باقياً إلى زمن عيسى ابن مريم عليه السلام حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه فقالت لهم مريم من أين علمتم موضعه؟ قالوا : من النجوم ، فدعا ربه عند ذلك فقال : اللهم فوهمهم في علمها فلا يعلم علم النجوم أحد ، فصار حكمها في الشرع محظوراً وعلمها في الناس مجهولاً . قال الكلبي وكانوا بقرية بين البصرة والكوفة يقال لها هرمزجرد وكانوا ينظرون في النجوم .
{
فقال إني سقيم } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : أنه استدل بها على وقت حمى كانت تأتيه .
الثاني : سقيم بما في عنقي من الموت .
الثالث : سقيم بما أرى من قبح أفعالكم في عبادة غير الله .
الرابع : سقيم لشكه .
الخامس : لعلمه بأن له إلهاً خالقاً معبوداً ، قاله ابن بحر .
السادس : لعلة عرضت له .
السابع : أن ملكهم أرسل إليه أن غداً عيدنا فاخرج ، فنظر إلى نجم فقال : إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقمي ، فتولوا عنه مدبرين ، قاله عبد الرحمن بن زيد قال سعيد بن المسيب : كابد نبي الله عن دينه فقال إني سقيم . وقال سفيان : كانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلوا بآلهتهم فقال : إني سقيم أي طعين وهذه خطيئته التي قال اغفر لي خطيئتي يوم الدين وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لم يكذب إبراهيم غير ثلاث : ثنتين في ذات الله عز وجل قوله إني سقيم ، وقوله بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله في سارة هي أختي
» . {
فراغ إلى ءَالَهِتِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ذهب إليهم ، قاله السدي .
الثاني : مال إليهم ، قاله قتادة .
الثالث : صال عليهم ، قاله الأخفش .
الرابع : أقبل عليهم ، قاله الكلبي وقطرب ، وهذا قريب من المعنيين المتقدمين .
{
فقال ألا تأكلون } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك استهزاء بهم ، قاله ابن زياد .
الثاني : أنه وجدهم حين خرجوا إلى عيدهم قد صنعوا لآلهتهم طعاماً لتبارك لهم فيه فلذلك قال للأصنام وإن كانت لا تعقل عنه الكلام احتجاجاً على جهل من عبدها . وتنبيهاً على عجزها ، ولذلك قال :
{
ما لكم لا تنطقون } .

{
فراغ عليهم ضرباً باليمين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يده اليمنى . قاله الضحاك ، لأنها أقوى والضرب بها أشد .
الثاني : باليمين التي حلفها حين قال { وتالله لأكيدن أصنامكم } حكاه ابن عيسى .
الثالث : يعني بالقوة ، وقوة النبوة أشد ، قاله ثعلب .
{
فأقبلوا إليه يزفون } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يخرجون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يسعون ، قاله الضحاك .
الثالث : يتسللون ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : يرعدون غضباً ، حكاه يحيى بن سلام .
الخامس : يختالون وهو مشي الخيلاء ، وبه قال مجاهد ، ومنه أخذ زفاف العروس إلى زوجها ، وقال الفرزدق :
وجاء قريع الشول قَبل إفالها ... يزفّ وجاءت خَلْفه وهي زفّف
قوله عز وجل : { والله خلقكم وما تعملون } فيه وجهان :
أحدهما : أن الله خلقكم وخلق عملكم .
الثاني : خلقكم وخلق الأصنام التي عملتموها .
{
فأرادوا به كيداً } يعني إحراقه بالنار التي أوقدوها له .
{
فجعلناهم الأسفلين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : الأسفلين في نار جهنم ، قاله يحيى .
الثاني : الأسفلين في دحض الحجة ، قال قتادة : فما ناظروه بعد ذلك حتى أهلكوا .
الثالث : يعني المهلكين فإن الله تعالى عقب ذلك بهلاكهم .
الرابع : المقهورين لخلاص إبراهيم من كيدهم . قال كعب : فما انتفع بالنار يومئذٍ أحد من الناس وما أحرقت منه يومئذٍ إلا وثاقه .
وروت أم سبابة الأنصارية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثها أن « إبراهيم لما ألقي في النار كانت الدواب كلها تطفىء عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ عليها » فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها .
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

{
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } وفي زمان هذا القول منه قولان :
أحدهما : أنه قال عند إلقائه في النار ، وفيه على هذا القول تأويلان :
أحدهما : إني ذاهب إلى ما قضى به عليّ ربي .
الثاني : إني ميت كما يقال لمن مات قد ذهب إلى الله تعالى لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها إلى أن قيل لها كوني برداً وسلاماً ، فحينئذٍ سلم إبراهيم منها .
وفي قوله : { سيهدين } على هذا القول تأويلان :
أحدهما : سيهدين إلى الخلاص من النار .
الثاني : إلى الجنة .
فاحتمل ما قاله إبراهيم من هذا وجهين :
أحدهما : أن بقوله لمن يلقيه في النار فيكون ذلك تخويفاً لهم .
الثاني : أن بقوله لمن شاهده من الناس الحضور فيكون ذلك منه إنذارً لهم ، فهذا تأويل ذلك على قول من ذكر أنه قال قبل إلقائه في النار .
والقول الثاني : أنه قاله بعد خروجه من النار .
{
إني ذاهب إلى ربي } وفي هذا القول ثلاثة تأويلات :
أحدها : إني منقطع إلى الله بعبادتي ، حكاه النقاش .
الثاني : ذاهب إليه بقلبي وديني وعملي ، قاله قتادة .
الثالث : مهاجر إليه بنفسي فهاجر من أرض العراق . قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة .
وفي البلد الذي هاجر إليه قولان :
أحدهما : إلى أرض الشام .
الثاني : إلى أرض حران ، حكاه النسائي .
وفي قوله : سيهدين على هذا القول تأويلان :
أحدهما : سيهدين إلى قول : حسبي الله عليه توكلت ، قاله سليمان .
الثاني : إلى طريق الهجرة ، قاله يحيى .
واحتمل هذا القول منه وجهين :
أحدهما : أن بقوله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم .
الثاني : أن بقوله لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك منه ترغيباً .
قوله عز وجل : { فبشرناه بغُلام حليم } أي وقور . قال الحسن : ما سمعت الله يحل عباده شيئاً أجل من الحلم .
وفي قولان :
أحدهما : أنه إسحاق ، ولم يثن الله تعالى على أحد بالحلم إلا على إسحاق وإبراهيم قاله قتادة .
الثاني : إسماعيل وبشر بنبوة إسحاق بعد ذلك ، قاله عامر الشعبي . قال الكلبي وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة .
قوله عز وجل : { فلما بلغ معه السعي } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يمشي مع أبيه ، قاله قتادة .
الثاني : أدرك معه العمل ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه سعي العمل الذي تقوم به الحجة ، قاله الحسن .
الرابع : أنه السعي في العبادة ، قاله ابن زيد .
قال ابن عباس : صام وصلى ، ألم تسمع الله يقول { وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] قال الفراء والكلبي ، وكان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة .
{
قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحُك } فروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«
رؤيا الأنبياء في المنام وحي
» . {
فانظُرْ ماذا تَرَى } لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قاله إخباراً بما أمره الله تعالى به ليكون أطوع له .
الثاني : أنه قاله امتحاناً لصبره على أمر الله تعالى .
الثالث : أي ماذا تريني من صبرك أو جزعك ، قاله الفراء .
{
قال يا أبت افْعَلْ ما تؤمرُ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : على الذبح ، قاله مقاتل .
الثاني : على القضاء ، حكاه الكلبي ، فوجده في الامتحان صادق الطاعة سريع الإجابة قوي الدين .
قوله عز وجل : { فلما أسْلَما } فيه وجهان :
أحدهما : اتفقا على أمر واحد ، قاله أبو صالح .
الثاني : سلما لله تعالى الأمر ، وهو قول السدي .
قال قتادة : سلم إسماعيل نفسه لله ، وسلم إبراهيم ابنه لله تعالى .
{
وتله للجبين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه صرعه على جبينه ، قاله ابن عباس ، والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها ، قال الشاعر :
وتله أبو حكم للجبين ... فصار إلى أمِّه الهاوية
الثاني : أنه أكبَّه لوجهه ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه وضع جبينه على تل ، قاله قطرب .
وحكى مجاهد عن إسحاق أنه قال : يا أبت اذبحني وأنا ساجد ، ولا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني .
{
وناديناه أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا } أي عملت ما رأيته في المنام ، وفي الذي رآه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي رآه أنه قعد منه مقعد الذابح ينتظر الأمر بإمضاء الذبح .
الثاني : أن الذي رآه أنه أمر بذبحه بشرط التمكين ولم يمكن منه لما روي أنه كان كلما اعتمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفيحة من نحاس .
الثالث : أن الذي رآه أنه ذبحه وقد فعل ذلك وإنما وصل الله تعالى الأوداج بلا فصل .
{
إنا كذلك نجزِي المحسنين } بالعفو عن ذبح ابنه .
وفي الذبيح قولان مثل اختلافهم في الحليم الذي بشر به .
أحدهما : أنه إسحاق ، قاله علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وقتادة والحسن . قال ابن جريج ذبح إبراهيم ابنه إسحاق وهو ابن سبع سنين وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة .
وفي الموضع الذي أراد ذبحه فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بمكة في المقام .
الثاني : في المنحر بمنى .
الثالث : بالشام ، قاله ابن جريج وهو من بيت المقدس على ميلين . ولما علمت سارة ما أراد بإسحاق بقيت يومين وماتت في اليوم .
القول الثاني : أنه إسماعيل ، قاله ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب ، وأنه ذبحه بمنى عند الجمار التي رمى إبليس في كل جمرة بسبع حصيات حين عارضه في ذبحه حتى جمر بين يديه أي أسرع فسميت جماراً .
وحكى سعيد بن جبير أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى :
قوله عز وجل : { إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين } فيه وجهان :
أحدهما : الاختبار العظيم ، قاله ابن قتيبة .

الثاني : النعمة البينة ، قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة :
وإن بلاءهم ما قد علمتم ... على الأيام إن نفع البلاءُ
قوله عز وجل : { وفديناه بذبح عظيم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه فدى بوعل أنزل عليه من ثبير ، قاله ابن عباس ، وحكى عنه سعيد ابن جبير أنه كبش رعي في الجنة أربعين خريفاً .
الثاني : أنه فدي بكبش من غنم الدنيا ، قاله الحسن .
الثالث : أنه فدي بكبش أنزل عليه من الجنة وهو الكبش الذي قربه هابيل بن آدم فقيل منه . قال ابن عباس حدثني من رأى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام معلقين بالكعبة . والذبح بالكسر هو المذبوح ، والذبح بالفتح هو فعل الذبح .
وفي قوله : { عظيم } خمسة تأويلات :
أحدها : لأنه قد رعى في الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأنه ذبح بحق ، قاله الحسن .
الثالث : لأنه عظيم الشخص .
الرابع : لأنه عظيم البركة .
الخامس : لأنه متقبل ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وتركنا عليه في الآخِرين } فيه قولان :
أحدهما : الثناء الحسن ، قاله قتادة .
الثاني : هو السلام على إبراهيم ، قاله عكرمة .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

قوله عز وجل : { ولقد مننا على موسى وهارون } فيه قولان :
أحدهما : بالنبوة ، قاله مقاتل .
الثاني : بالنجاة من فرعون ، قاله الكلبي .
{
ونجيناهما } الآية . فيه قولان :
أحدهما : من الغرق .
الثاني : من الرق .
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

قوله عز وجل : { وإن إلياس لمن المرسلين } فيه قولان :
أحدهما : أنه إدريس قاله ابن عباس وقتادة ، وهي قراءة ابن مسعود : وابن إدريس .
الثاني : أنه من ولد هارون ، قاله محمد بن إسحاق ، قال مقاتل : هو إلياس بن بحشر ، وقال الكلبي هو عم اليسع . وجوز قوم أن يكون هو إلياس بن مضر .
وقيل لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل بعد حزقيل بعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبياً ، وتبعه اليسع وآمن به ، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يقبضه إليه ففعل وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة إنيساً ملكياً ، أرضياً سماوياً ، والله أعلم .
قوله عز وجل : { أتدعون بعلاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني ربّاً ، قاله عكرمة ومجاهد . قال مقاتل هي لغة أزد شنوءة ، وسمع ابن عباس رجلاً من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال : من بعل هذه أي ربها ، ومنه قول أبي دؤاد :
ورأيت بعلك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحا
الثاني : أنه صنم يقال له بعل كانوا يعبدونه وبه سميت بعلبك ، قاله الضحاك وابن زيد وقال مقاتل : كسره إلياس وذهب .
الثالث : أنه اسم امرأة كانوا يعبدونها ، قاله ابن شجرة .
{
وتذرون أحْسَنَ الخالقين } فيه وجهان :
أحدهما : من قيل له خالق .
الثاني : أحسن الصانعين لأن الناس يصنعون ولا يخلقون .
قوله عز وجل :
{
سلامٌ على إِلْ يَاسِينَ } قرأ نافع وابن عامر : سلامٌ على آل ياسين بفتح الهمزة ومدها وكسر اللام ، وقرأ الباقون بكسر الهمزة وتسكين اللام ، وقرأ الحسن : سلام على ياسين بإسقاط الألف واللام ، وقرأ ابن مسعود : سلام على ادراسين ، لأنه قرأ وإن إدريس لمن المرسلين .
فمن قرأ الياس ففيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع يدخل فيه جميع آل إلياس بمعنى أن كل واحد من أهله يسمى الياس .
الثاني : أنه إلياس فغير بالزيادة لأن العرب تغير الأسماء الأعجمية بالزيادة كما يقولون ميكال وميكاييل وميكائين . قال الشاعر :
يقول أهل السوق لما جينا ... هذا وربِّ البيت إسرائينا
ومن قرأ آل ياسين ففي قراءته وجهان :
أحدهما : أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم آل إلياس .
فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان :
أحدهما : أنها زيدت لتساوي الآي ، كما قال في موضع طور سيناء ، وفي موضع آخر طور سينين ، فعلى هذا يكون السلام على أهله دونه وتكون الإضافة إليه تشريفاً له .
الثاني : أنها دخلت للجمع فيكون داخلاً في جملتهم ويكون السلام عليه وعليهم .
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)

{
إلا عجوزاً في الغابرين } فيها أربعة أوجه :
أحدها : الهالكين ، قاله السّدي .
الثاني : في الباقين من الهالكين ، قاله ابن زيد .
الثالث : في عذاب الله تعالى ، قاله قتادة .
الرابع : في الماضين في العذاب ، حكاه مقاتل .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)

قوله عز وجل : { وإن يونس لمن المرسلين } قال السدي : يونس بن متى نبي من أنبياء الله تعالى بعثه إلى قرية يقال لها نينوى على شاطىء دجلة : قال قتادة : وهي من أرض الموصل .
{
إذ أبق إلى الفُلك المشحون } والآبق الفارّ إلى حيث لا يعلم به ، قال الحسن : فر من قومه وكان فيما عهد إليهم أنهم إن لم يؤمنوا أتاهم العذاب ، وجعل علامة ذلك خروجاً من بين أظهرهم ، فلما خرج عنه جاءتهم ريح سوداء فخافوها فدعوا الله بأطفالهم وبهائمهم فأجابهم وصرف العذاب عنهم فخرج مكايداً لقومه مغاضباً لدين ربه حتى أتى البحر فركب سفينة وقد استوقرت حملاً ، فلما اشتطت بهم خافوا الغرق .
وفيما خافوا الغرق به قولان :
أحدهما : أمواج من ريح عصفت بهم قاله ابن عباس .
الثاني : من الحوت الذي عارضهم ، حكاه ابن عيسى ، فقالوا عند ذلك : فينا مذنب لا ننجو إلا بإلقائه ، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فألقوه ، وهو معنى قوله تعالى :
{
فساهَم } أي قارع بالسهام ، قاله ابن عباس والسدي .
{
فكان من المدحضين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من المقروعين ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : من المغلوبين ، قاله سعيد بن جبير ، ومنه قول أبي قيس :
قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون
الثالث : أنه الباطل الحجة ، قاله السدي مأخوذ من دحض الحجة وهو بطلانها فلما ألقوه في البحر آمنوا .
قوله عز وجل : { فالتقمه الحوت وهُو مليم } قال ابن عباس : أوحى الله تعالى إلى سمكة يقال لها اللخم من البحر الأخضر أن شقي البحار حتى تأخذي يونس ، وليس يونس لك رزقاً ، ولكن جعلت بطنك له سجناً ، فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً ، فالتقمه الحوت حين ألقي .
وفي قوله : { وهو مليم } ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي مسيء مذنب ، قاله ابن عباس .
الثاني : يلوم نفسه على ما صنع ، وهو معنى قول قتادة .
الثالث : يلام على ما صنع ، قاله الكلبي .
والفرق بين الملوم والمليم أن المليم اذا أتى بما يلام عليه ، والملوم إذا ليم عليه .
{
فلولا أنه كان مِن المسبحين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : من القائلين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، قاله الحسن .
الثاني : من المصلين قاله ابن عباس .
الثالث : من العابدين ، قاله وهب بن منبه .
الرابع : من التائبين ، قاله قطرب . وقيل تاب في الرخاء فنجاه الله من البلاء .
{
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } قال قتادة : إلى يوم القيامة حتى يَصير الحوت له قبراً ، وفي مدة لبثه في بطن الحوت أربعة أقاويل :
أحدها : بعض يوم ، قال الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية .
الثاني : ثلاثة أيام ، قاله قتادة .
الثالث : سبعة أيام ، قاله جعفر .
الرابع : أربعون يوماً ، قاله أبو مالك ، وقيل إنه سار بيونس حتى مر به إلى الإيلة ثم عاد في دجلة إلى نينوى .

{
فنبذناه بالعراء } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بالساحل ، قاله ابن عباس .
الثاني : بالأرض ، قاله السدي ، قال الضحاك : هي أرض يقال لها بلد .
الثالث : موضع بأرض اليمن .
الرابع : الفضاء الذي لا يواريه نبت ولا شجر ، قال الشاعر :
ورفعت رِجْلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
{
وهو سقيم } فيه وجهان :
أحدهما : كهيئة الصبي ، قاله السدي .
الثاني : كهيئة الفرخ الذي ليس له ريش ، قاله ابن مسعود لأنه ضعف بعد القوة ، ورق جلده بعد الشدة .
قوله عز وجل : { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه القرع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه كل شجرة ليس فيها ساق يبقى من الشتاء إلى الصيف ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أنها كل شجرة لها ورق عريض ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه كل ما ينبسط على وجه الأرض من البطيخ والقثاء ، رواه القاسم بن أبي أيوب .
الخامس : أنها شجرة سماها الله تعالى يقطيناً أظلته رواه هلال بن حيان . وهو تفعيل من قطن بالمكان أي أقام إقامة زائل لا إقامة راسخ كالنخل والزيتون ، فمكث يونس تحتها يصيب منها ويستظل بها حتى تراجعت نفسه إليه ، ثم يبست الشجرة فبكى حزناً عليها ، فأوحى الله تعالى إليه : أتبكي على هلاك شجرة ولا تبكي على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ حكاه ابن مسعود .
وحكى سعيد بن جبير أنه لما تساقط ورق الشجر عنه أفضت إليه الشمس فشكاه فأوحى الله تعالى إليه : يا يونس جزعت من حر الشمس ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا إليّ فتبت عليهم .
قوله عز وجل : { وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون } فيهم قولان :
أحدهما : أنه أرسل إليهم بعدما نبذه الحوت ، قاله ابن عباس ، فكان أرسل إلى قوم بعد قوم .
الثاني : أنه أرسل إلى الأولين فآمنوا بشريعته ، وهو معنى قول ابن مسعود .
وفي قوله : { أو يزيدون } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه للإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين .
الثاني : أنه على شك المخاطبين .
الثالث : أن معناه : بل يزيدون ، قاله ابن عباس وعدد من أهل التأويل ، مثله قوله فكان قاب قوسين أو أدنى يعنى بل أدنى ، قال جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا
والمعنى أثعلبة بل رباحاً .
واختلف من قال بهذا في قدر زيادتهم على مائة ألف على خمسة أقاويل :
أحدها : يزيدون عشرين ألفاً ، رواه أُبي بن كعب مرفوعاً .
الثاني : يزيدون ثلاثين ألفاً ، قاله ابن عباس .
الثالث : يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً ، قاله الحكم .
الرابع : بضعة وأربعين ألفاً رواه سفيان بن عبد الله البصري .
الخامس : سبعين ألفاً ، قاله سعيد بن جبير .
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

قوله عز وجل : { أم لكم سلطان مبين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عذر مبين ، قاله قتادة .
الثاني : حجة بينة ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : كتاب بيّن ، قاله الكلبي .
قوله عز وجل : { وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه إشراك الشيطان في عبادة الله تعالى فهو النسب الذي جعلوه ، قاله الحسن .
الثاني : هو قول يهود أصبهان أن الله تعالى صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم ، قاله قتادة .
الثالث : هو قول الزنادقة : إن الله تعالى وإبليس أخوان ، وأن النور والخير والحيوان النافع من خلق الله ، والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس ، قاله الكلبي وعطية العوفي .
الرابع : هو قول المشركين ، إن الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر : فمن أمهاتهم؟ قالوا : بنات سروات الجن ، قاله مجاهد .
وفي تسمية الملائكة على هذا الوجه جنة ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة ، قاله مجاهد .
الثاني : لأنهم على الجنان ، قاله أبو صالح .
الثالث : لاستتارهم عن العيون كالجن المستخفين .
قوله عز وجل : { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } وفي الجنة قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله السدي .
الثاني : أنهم الجن ، قاله مجاهد .
وفيما علموه قولان :
أحدهما : أنهم علموا أن قائل هذا القول محضرون ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : علموا أنهم في أنفسهم محضرون ، وهو قول من زعم أن الجنة هم الجن .
وفي قوله محضرون تأويلان :
أحدهما : للحساب ، قال مجاهد .
الثاني : محضرون في النار ، قاله قتادة .
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169)

قوله عز وجل : { فإنكم وما تعبدون } يعني المشركين وما عبدوه من آلهتهم .
{
ما أنتم عليه بفاتنين } أي بمضلين ، قال الشاعر :
فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لها فاتناً
{
إلا من هو صالِ الجحيم } فيه وجهان :
أحدهما : إلا من سبق في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل { وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم } فيه قولان :
أحدهما : ما منا ملك إلا له في السماء مقام معلوم ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير .
الثاني : ما حكاه قتادة قال : كان يصلي الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت { وما منا إلا له مقام معلوم } قال فتقدم الرجال وتأخر النساء .
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل .
ثالثاً : وما منا يوم القيامة إلا من له فيها مقام معلوم بين يدي الله عز وجل .
قوله عز وجل : { وإنا لنحن الصّافون } فيه قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة يقفون صفوفاً في السماء ، قيل حول العرش ينتظرون ما يؤمرون به ، وقيل في الصلاة مصطفين . وحكى أبو نضرة أن عمر رضي الله كان إذا قام إلى الصلاة قال : يريد ، الله بكم هدى الملائكة { وإنا لنحن الصافون } تأخر يا فلان ، ثم يتقدم فيكبر .
الثاني : ما حكاه أبو مالك قال كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله عز وجل { وإنا لنحن الصافون } فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا
.
وقوله عز وجل : { وإنا لنحن المسبحون } فيه قولان :
أحدهما : المصلّون ، قاله قتادة .
الثاني : المنزِّهون الله عما أضافه إليه المشركون أي فكيف لا تعبدونه ونحن نعبده .
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

قوله عز وجل : { ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المرسلين } فيه قولان :
أحدهما : سبقت بالحجج ، قاله السدي .
الثاني : أنهم سينصرون ، قال الحسن : لم يقتل من الرسل أصحاب الشرائع أحد قط .
{
إنهم لهم المنصرون } فيه قولان :
أحدهما : بالحجج في الدنيا والعذاب في الآخرة ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : بالظفر إما بالإيمان أو بالانتقام ، وهو معنى قول قتادة .
قوله عز وجل : { فتولَّ عنهم حتى حين } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يوم بدر ، قاله السدي .
الثاني : فتح مكة ، حكاه النقاش .
الثالث : الموت ، قاله قتادة .
الرابع : يوم القيامة ، وهو قول زيد بن أسلم .
وفي نسخ هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها منسوخة ، قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة .
قوله عز وجل : { وأبْصِر فسوف يبصرون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يبصرون ما يحل بهم من عذاب الله وهو معنى قول ابن زيد .
الثاني : أبصرهم في وقت النصرة عليهم فسوف يبصرون ما يحل لهم ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ذلك في القيامة .
الرابع : أعلمهم الآن فسوف يعلمونه بالعيان وهو معنى قول ثعلب .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)

قوله عز وجل : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } روى الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين }
» .
قوله تعالى : { رب العزة } يحتمل وجهين :
أحدهما : مالك العزة .
الثاني : رب كل شيء متعزز من مالك أو متجبر .
{
وسلامٌ على المرسلين } يحتمل وجهين :
أحدهما : سلامه عليهم إكرماً لهم .
الثاني : قضاؤه بسلامتهم بعد إرسالهم فإنه ما أمر نبي بالقتال إلا حرس من القتل .
{
والحمد لله رب العالمين } يحتمل وجهين :
أحدهما : على إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين .
الثاني : على جميع ما أنعم به على الخلق أجمعين .
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)

قوله عز وجل : { ص } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : أنه فواتح الله تعالى بها القرآن ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه حرف هجاء من أسماء الله تعالى ، قاله السدي .
الخامس : أنه بمعنى صدق الله ، قاله الضحاك .
السادس : أنه من المصادة وهي المعارضة ومعناه عارض القرآن لعلمك ، قاله الحسن .
السابع : أنه من المصادة وهي الاتباع ومعناه اتبع القرآن بعلمك ، قاله سفيان .
{
والقرآن ذي الذكر } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ذي الشرف ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي .
الثاني : بالبيان ، قاله قتادة .
الثالث : بالتذكير ، قاله الضحاك .
الرابع : ذكر ما قبله من الكتب ، حكاه ابن قتيبة . قال قتادة : ها هنا وقع القسم .
واختلف أهل التأويل في جوابه على قولين :
أحدهما : أن جواب القسم محذوف وحذفه أفخم له لأن النفس تذهب فيه كل مذهب . ومن قال بحذفه اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن تقدير المحذوف منه لقد جاء الحق .
الثاني : تقديره ما الأمر كما قالوا .
والقول الثاني : من الأصل أن جواب القسم مظهر ، ومن قال بإظهاره اختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : قوله تعالى { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } قاله الفراء .
الثاني : من قوله تعالى { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وهو قول مقاتل .
أحدها : يعني في حمية وفراق ، قاله قتادة .
الثاني : في تعزز واختلاف ، قاله السدي .
الثالث : في أنفة وعداوة .
ويحتمل رابعاً : في امتناع ومباعدة .
{
كم أهلكنا مِن قَبْلِهم } يعني قبل كفار هذه الأمة .
{
من قرن } فيه قولان :
أحدهما : يعني من أمة ، قاله أبو مالك .
الثاني : أن القرن زمان مقدور وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه عشرون سنة ، قاله الحسن .
الثاني : أربعون سنة ، قاله إبراهيم .
الثالث : ستون سنة ، رواه أبو عبيدة الناجي .
الرابع : سبعون سنة ، قاله قتادة .
الخامس : ثمانون سنة ، قاله الكلبي .
السادس : مائة سنة ، رواه عبد الله بن بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السابع : عشرون ومائة سنة ، قاله زرارة بن أوفى .
قوله عز وجل : { فنادوا ولات حين مناص } يحتمل وجهين :
أحدهما : استغاثوا .
الثاني : دعوا . ولات حين مناص التاء من لات مفصولة من الحاء وهي كذلك في المصحف ، ومن وصلها بالحاء فقد أخطأ . وفيها وجهان :
أحدها : أنها بمعنى لا وهو قول أبي عبيدة .
الثاني : أنها بمعنى ليس ولا تعمل إلا في الحين خاصة ، قال الشاعر :
تذكر حب ليلى لات حيناً ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا
وفي تأويل قوله تعالى { ولات حين مناص } خمسة أوجه :
أحدها : وليس حين ملجأ ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : وليس حين مَغاث ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، ومنه قول علي رضي الله عنه في رجز له :
لأصبحنّ العاصي بن العاصي ... سبعين ألفاً عاقِدي النواصي
قد جنبوا الخيل على الدلاصِ ... آساد غيل حين لا مناص

الثالث : وليس حين زوال ، وراه أبو قابوس عن ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
فهم خشوع لدية لا مناص لهم ... يضمهم مجلس يشفي من الصيد
الرابع : وليس حين فرار ، قاله عكرمة والضحاك وقتادة قال الفراء مصدر من ناص ينوص . والنوص بالنون التأخر ، والبوص بالباء التقدم وأنشد قول امريء القيس :
أمِن ذكر ليلى إن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص
فجمع في هذا البيت بين البوص والنوص فهو بالنون التأخر وبالباء التقدم .
الخامس : أن النوص بالنون التقدم ، والبوص بالباء التأخر ، وهو من الأضداد ، وكانوا إذا أحسوا في الحرب بفشل قال بعضهم لبعض : مناص : أي حملة واحدة ، فينجو فيها من نجا ويهلك فيها من هلك ، حكاه الكلبي : فصار تأويله على هذا الوجه ما قاله السدي أنهم حين عاينوا الموت لم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة .
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)

قوله عز وجل : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } أمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله أيسع لحاجَاتنا جميعاً إله واحد إن هذا لشيء عجاب بمعنى عجيب كما يقال رجل طوال وطويل ، وكان الخليل يفرق بينهما في المعنى فيقول العجيب هو الذي قد يكون مثله والعجاب هو الذي لا يكون مثله ، وكذلك الطويل والطوال .
قوله عز وجل : { وانطلق الملأ منهم } والانطلاق الذهاب بسهولة ومنه طلاقة الوجه وفي الملأ منهم قولان :
أحدهما : أنه عقبة بن معيط ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه أبو جهل بن هشام أتى أبا طالب في مرضه شاكياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق من عنده حين يئس من كفه ، قاله ابن عباس .
{
أَنِ امشوا واصبروا على آلهتكم } فيه وجهان :
أحدهما : اتركوه واعبدوا آلهتكم .
الثاني : امضوا على أمركم في المعاندة واصبروا على آلهتكم في العبادة ، والعرب تقول : امش على هذا الأمر ، أي امض عليه والزمه .
{
إن هذا لشيء يراد } فيه وجهان :
أحدهما : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وقوي به الإسلام شق على قريش فقالوا إن الإسلام عمر فيه قوة للإسلام وشيء يراد ، قاله مقاتل .
الثاني : أن خلاف محمد لنا ومفارقته لديننا إنما يريد به الرياسة علينا والتملك لنا .
قوله عز وجل : { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } فيه أربعة أقويل :
أحدها : في النصرانية لأنها كانت آخر الملل ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي .
الثاني : فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، قاله الحكم .
الثالث : في ملة قريش ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه أننا ما سمعنا أنه يخرج ذلك في زماننا ، قاله الحسن .
{
إن هذا إلا اختلاق } أي كذب اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : { أم عندهم خزائن رحمة ربك } قال السدي مفاتيح النبوة فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها من شاءُوا .
قوله عز وجل : { فليرتقوا في الأسباب } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : في السماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : في الفضل والدين ، قاله السدي .
الثالث : في طرق السماء وأبوابها ، قاله مجاهد .
الرابع : معناه فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة ، وهو معنى قول أبي عبيدة .
قوله عز وجل : { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } قال سعيد بن جبير : هم مشركو مكة و { ما } صلة للتأكيد ، تقول : جئتك لأمر ما . قال الأعشى :
فاذهبي ما إليك ادركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشغالي
ومعنى قوله جند أي أتباع مقلِّدون ليس فيهم عالم مرشد .
{
مهزوم من الأحزاب } يعني مشركي قريش أنه أحزاب إبليس وأتباعه وقيل لأنهم تحازبوا على الجحود لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : فبشره بهزيمتهم وهو بمكة فكان تأويلها يوم بدر .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)

قوله عز وجل : { كذبت قبلهم قوم نوح } ذكر الله عز وجل القوم بلفظ التأنيث ، واختلف أهل العربية في تأنيثه على قولين :
أحدهما : أنه قد يجوز فيه التأنيث والتذكير .
الثاني : أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه إلا أن يقع المعنى على العشيرة فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيهاً عليه كقوله تعالى { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } ولم يقل ذكرها لأنه لما كان المضمر فيه مذكوراً ذكره وإن كان اللفظ مقتضياً للتأنيث .
{
وعادٌ } وهم قوم هود كانوا بالأحقاف من أرض اليمن ، قال ابن اسحاق : كانوا أصحاب أصنام يعبدونها ، وكانت ثلاثة يقال لأحدها هدر وللآخر صمور للآخر الهنا ، فأمرهم هود أن يوحدوا الله سبحانه ولا يجعلوا معه إِلهاً غيره ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم إلا بذلك .
{
وفرعون ذُو الأوتاد } وفي تسميته بذي الأوتاد أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كان كثير البنيان ، والبنيان يسمى أوتاداً ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب عليها ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثالث : لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد ، قاله السدي .
والرابع : أنه يريد ثابت الملك شديد القوة كثبوت ما يشج بالأوتاد كما قال الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
{
وثمود } وهم عرب وحكى مقاتل أن عاداً وثمود أبناء عم ، وكانت منازل ثمود بالحجر بين الحجاز والشام منها وادي القرى ، بعث الله إليهم صالحاً ، واختلف في إيمانهم به ، فذكر ابن عباس أنهم آمنوا ثم مات فرجعوا بعده عن الإيمان فأحياه الله تعالى وبعثه إليهم وأعلمهم أنه صالح فكذبوه وقالوا قد مات صالح فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأتاهم الله الناقة ، فكفروا وعقروها ، فأهلكهم الله .
وقال ابن إسحاق : إن الله بعث صالحاً شاباً فدعاهم حتى صار شيخاً ، فقروا الناقة ولم يؤمنوا حتى هلكوا .
{
وقوم لوط } لم يؤمنوا حتى أهلكهم الله تعالى . قال مجاهد : وكانوا أربعمائة ألف بيت في كل بيت عشرة . وقال عطاء ما من أحد من الأنبياء إلا يقوم معه يوم القيامة قوم من أمته إلا آل لوط فإنه يقوم القيامة وحده .
{
وأصحاب الأيكة } بعث الله إليهم شعيباً . وفي { الأيكة } قولان :
أحدهما : أنها الغيضة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الملتف من النبع والسدر قاله أبو عمرو بن العلاء . قال قتادة : بعث شعيب إلى أمتين من الناس إلى أصحاب الإيكة وإلى مدين ، وعذبتا بعذابين .
{
أولئك الأحزاب } يحتمل وجهين :
أحدهما : أحزاب على الأنبياء بالعداوة .
الثاني : أحزاب الشياطين بالموالاة .
قوله عز وجل : { وما ينظر هؤلاء } يعني كفار هذه الأمة .
{
إلا صيحة واحدة } يعني النفخة الأولى .
{
ما لها من فواق } قرأ حمزة والكسائي بضم الفاء ، والباقون بفتحها ، واختلف في الضم والفتح على قولين :
أحدهما : أنه بالفتح من الإفاضة وبالضم فُواق الناقة وهو قدر ما بين الحلبتين تقديراً للمدة .

الثاني : معناهما واحد ، وفي تأويله سبعة أقاويل :
أحدها : معناه ما لها من ترداد ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما لها من حبس ، قاله حمزة بن إسماعيل .
الثالث : من رجوع إلى الدنيا ، قاله الحسن وقتادة .
الرابع : من رحمة . وروي عن ابن عباس أيضاً .
الخامس : ما لها من راحة ، حكاه أبان بن تغلب .
السادس : ما لها من تأخير لسرعتها قال الكلبي ، ومنه قول أبي ذؤيب :
إذا ماتت عن الدنيا حياتي ... فيا ليت القيامة عن فواق
السابع : ما لهم بعدها من إقامة ، وهو بمعنى قول السدي .
قوله عز وجل : { وقالوا ربنا عَجَّل لنا قِطنا . . . } الآية . فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معنى ذلك عجل لنا حظنا من الجنة التي وعدتنا ، قاله ابن جبير .
الثاني : عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي وعدتنا استهزاء منهم بذلك ، قاله ابن عباس .
الثالث : عجل لنا رزقنا ، قاله إسماعيل بن أبي خالد .
الرابع : أرنا منازلنا ، قاله السدي .
الخامس : عجل لنا في الدنيا كتابنا في الآخرة وهو قوله { فأما من أوتي كتابه بيمينه . . . وأما من أوتي كتابه بشماله } استهزاء منهم بذلك . وأصل القط القطع ، ومنه قط القلم وقولهم ما رأيته قط أي قطع الدهر بيني وبينه وأطلق على النصيب . والكتاب والرزق لقطعه من غيره إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالاً وأقوى حقيقة ، قال أمية بن أبي الصلت :
قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلح
وفيه لمن قال بهذا قولان :
أحدهما أنه ينطلق على كل كتاب يتوثق به .
الثاني : أنه مخص بالكتاب الذي فيه عطية وصلة ، قاله ابن بحر .
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)

قوله عز وجل : { اصبر على ما يقولون } يعني كما صبر أولو العزم من الرسل لا كمن لم يصبر مثل يونس .
{
واذكر عبدنا داود } أي فإنا نحسن إليك كما أحسنا إلى داود قبلك بالصبر .
{
ذا الأيد } فيه قولان :
أحدهما : ذا النعم التي أنعم الله بها عليه لأنها جمع يد حذفت منه الياء ، واليد النعمة .
الثاني : ذا القوة ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد ، ومنه { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة . وفيما نسب داود إليه من القوة قولان :
أحدهما : القوة في طاعة الله والنصر في الحرب ، قاله مجاهد .
الثاني : ذا القوة في العبادة والفقه في الدين قاله قتادة . وذكر أنه كان يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر .
{
إنه أواب } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه التواب ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : أنه الذي يؤوب إلى الطاعة ويرجع إليها ، حكاه ابن زيد .
الثالث : أنه المسبح ، قاله الكلبي .
الرابع : أنه الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها ، قاله المنصور .
قوله عز وجل : { وشَدَدنا ملكه } فيه وجهان :
أحدهما : بالتأييد والنصر .
الثاني : بالجنود والهيبة . قال قتادة : باثنين وثلاثين ألف حرس .
{
وآتيناه الحكمة } فيها خمسة تأويلات :
أحدها : النبوة ، قاله السدي .
الثاني : السنّة ، قاله قتادة .
الثالث : العدل ، قاله ابن نجيح .
الرابع : العلم والفهم ، قاله شريح .
الخامس : الفضل والفطنة .
{
وفصل الخطاب } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : على القضاء والعدل فيه ، قاله ابن عباس والحسن .
الثاني : تكليف المدعي البينة والمدعَى عليه اليمين ، قاله شريح وقتادة .
الثالث : قوله أما بعد ، وهو أول من تكلم بها ، قاله أبو موسى الأشعري والشعبي .
الرابع : أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود .
الخامس : أنه الفصل بين الكلام الأول والكلام الثاني .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)

قوله عز وجل : { وهل أتاك نبأ الخَصْم } والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر .
{
إذ تسوروا المحراب } ومعنى تسوروا أنهم أتوه من أعلى سورة وفي المحراب أربعة أقاويل :
أحدها : أنه صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد ، قاله أبو عبيدة .
الثاني : مجلس الأشراف الذي يتحارب عليه لشرف صاحبه ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : أنه المسجد ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : أنه الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها .
{
إذ دخلوا على داود ففزع منهم } وسبب ذلك ما حكاه ابن عيسى : إن داود حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم ، فقيل له إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك ، فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه ، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير فجعل يدرج بين يديه ، فهمّ أن يستدرجه بيده فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فانتفض فاطلع لينظره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها ، قال السدي فوقعت في قلبه ، قال ابن عباس وكان زوجها غازياً في سبيل الله ، قال مقاتل وهو أوريا بن حنان ، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا ، فقدمه فيهم فقتل ، فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده ، وكتبت عليه بذلك كتاباً وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل فلم يشعر بفتنتها حتى ولدت سليمان وشب وتسور عليه الملكان وكان من شأنهما ما قَصَّه الله في كتابه .
وفي فزعه منهما قولان :
أحدهما : لأنهم تسوروا عليه من غير باب .
الثاني : لأنهم أتوه في غير وقت جلوسه للنظر .
{
قالوا لا تخف خصمان بَغَى بعضنا على بعض } وكانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا باغيين ، ولا يأتي منهما كذب ، وتقدير كلامها : ما تقول إن أتاك خصمان وقالا بغى بعضنا على بعض .
وثنى بعضهم هنا وجمعه في الأول حيث قال : { وهل أتاك نبأ الخصم } لأن جملتهم جمعت ، وهم فريقان كل واحد منهما خصم .
{
فاحكم بيننا بالحق } أي بالعدل .
{
ولا تشطط } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا تملْ ، قاله قتادة .
الثاني : لا تَجُر ، قاله السدي .
الثالث : لا تسرف ، قاله الأخفش .
وفي أصل الشطط قولان :
أحدهما : أن أصله البعد من قولهم شطط الدار إذا بعدت ، قال الشاعر :
تشطط غداً دار جيراننا ... والدار بعد غد أبعد
الثاني : الإفراط . قال الشاعر :
ألا يالقومي قد اشطّت عواذلي ... وزعمن أن أودى بحقّي باطلي
{
واهدِنا إلى سواءِ الصراط } فيه وجهان :
أحدهما : أرشدنا إلى قصد الحق ، قاله يحيى .
الثاني : إلى عدل القضاء ، قاله السدي .
{
إن هذا أخي } فيه وجهان :
أحدهما : يعني على ديني ، قاله ابن مسعود .
الثاني : يعني صاحبي ، قاله السدي .

{
له تسع وتسعونَ نعجةً وليَ نعجةٌ واحدةٌ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه أراد تسعاً وتسعين امرأة ، فكنى عنهن ، بالنعاج ، قاله ابن عيسى . قال قطرب : النعجة هي المرأة الجميلة اللينة .
الثاني : أنه أراد النعاج ليضربها مثلاً لداود ، قاله الحسن .
{
فقال أكفلنيها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمها إليَّ ، قاله يحيى .
الثاني : أعطنيها ، قاله الحسن .
الثالث : تحوّل لي عنها ، قاله ابن عباس وابن مسعود .
{
وعزّني في الخطاب } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أي قهرني في الخصومة ، قاله قتادة .
الثاني : غلبني على حقي ، من قولهم من عزيز أي من غلب سلب ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه إن تكلم كان أبين ، وإن بطش كان أشد مني ، وإن دعا كان أكثر مني ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجتِك إلى نعِاجه } فإن قيل فكيف يحكم لأحد الخصمين على الآخر بدعواه؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الآخر قد كان أقر بذلك فحكم عليه داود عليه السلام بإقراره ، فحذف اكتفاء بفهم السامع ، قاله السدي .
الثاني : إن كان الأمر كما تقول لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه .
{
وإنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : الأصحاب .
الثاني : الشركاء .
{
لَيَبْغِي بعضهم على بعض } أي يتعدى .
{
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } تقديره فلا يبغي بعضهم على بعض ، فحذف اكتفاء بفهم السامع .
{
وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : وقليل ما فيه من يبغي بعضهم على بعض ، قاله ابن عباس .
الثاني : وقليل من لا يبغي بعضهم على بعض ، قاله قتادة .
وفي { ما } التي في قوله { وقليل ما هم } وجهان :
أحدهما : انها فضلة زائدة تقديره : وقليل هم .
الثاني : أنها بمعنى الذي : تقديره : وقليل الذي هم كذلك .
{
وظن داود أنما فتناه } قال قتادة أي علم داود أنما فتناه وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اختبرناه ، قاله ابن عباس .
الثاني : ابتليناه ، قاله السدي .
الثالث : شددنا عليه في التعبد ، قاله ابن عيسى .
{
فاستغفر ربَّه } من ذنبه . قال قتادة : قضى نبي الله على نفسه ولم يفطن لذلك ، فلما تبين له الذنب استغفر ربه .
واختلف في الذنب على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر .
الثاني : هو أن وقعت عينه على امرأة أوريا بن حنان واسمها اليشع وهي تغتسل فأشبع نظره منها حتى علقت بقلبه .
الثالث : هو ما نواه إن قتل زوجها تزوج بها وأحسن الخلافة عليها ، قاله الحسن .
وحكى السدي عن علي كرم الله وجهه قال : لو سمعت رجلاً يذكر أن داود قارف من تلك المرأة محرَّماً لجلدته ستين ومائة لأن حد الناس ثمانون وحد الأنبياء ستون ومائة ، حَدّان .
{
وخَرّ راكعاً وأناب } أي خرّ ساجداً وقد يعبر عن السجود بالركوع ، قال الشاعر :
فخر على وجهه راكعاً ... وتاب إلى الله من كل ذنب
قال مجاهد : مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى :
{
فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } أي مرجع .

في الزلفى وجهان :
أحدهما : الكرامة ، وهو المشهور .
الثاني : الرحمة قاله الضحاك . فرفع رأسه وقد قرح جبينه .
واختلف في هذه السجدة على قولين :
أحدهما : أنها سجدة عزيمة تسجد عند تلاوتها في الصلاة وغير الصلاة ، قاله أبو حنيفة .
الثاني : أنها سجدة شكر لا يسجد عند تلاوتها لا في الصلاة ، ولا في غير الصلاة وهو قول الشافعي .
قال وهب بن منبه : فمكث داود حيناً لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه ، ولا يأكل طعاماً إلا بلّه بدموعه ، ولا ينام على فراش إلا غرقه بدموعه . وحكي عن داود أنه كان يدعو على الخطائين فلما أصاب الخطيئة كان لا يمر بواد إلا قال : اللهم اغفر للخاطئين لعلك تغفر لي معهم .
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)

قوله عز وجل : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض } فيه وجهان :
أحدهما : خليفة لله تعالى وتكون الخلافة هي النبوة .
الثاني : خليفة لمن تقدمك لأن الباقي خليفة الماضي وتكون الخلافة هي الملك .
{
فاحكم بين الناس بالحق } فيه وجهان :
أحدهما : بالعدل .
الثاني : بالحق الذي لزمك لنا .
{
ولا تتبع الهوى } فيه وجهان :
أحدهما : أن تميل مع من تهواه فتجور .
الثاني : أن تحكم بما تهواه فتزلّ .
{
فيضلك عن سبيل الله } فيه وجهان :
أحدهما : عن دين الله .
الثاني : عن طاعة الله .
{
إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نَسُوا يوم الحساب } فيه وجهان :
أحدهما : بما تركوا العمل ليوم الحساب ، قاله السدي .
الثاني : بما أعرضوا عن يوم الحساب ، قاله الحسن .
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)

قوله عز وجل : { إذ عُرِض عليه بالعشي الصافنات الجياد } الخيل وفيه وجهان :
أحدهما : أن صفونها قيامها ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من سره أن يقوم الرجال له صفوفاً فليتبوأ مقعده من النار » أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد قول النابغة :
لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهاري والجياد الصوافن
الثاني : أن صفونها رفع احدى اليدين على طرف الحافر حتى تقوم على ثلاث كما قال الشاعر :
ألف الصفون فما يزل كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
وفي { الجياد } وجهان :
أحدهما : أنها الطوال العناق مأخوذ من الجيد وهو العنق لأن طول أعناق الخيل من صفات فراهتها .
الثاني : أنها السريع ، قاله مجاهد واحدها جواد سمي بذلك لأنه يجود بالركض .
قوله عز وجل : { فَقَالَ إِني أحببت حُبَّ الخَيْرِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني حب المال ، قاله ابن جبير والضحاك .
الثاني : حب الخيل قاله قتادة والسدي . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة » وفي قراءة ابن مسعود : حب الخيل .
الثالث : حب الدنيا ، قاله أسباط .
وفي { أحببت حب الخير } وجهان :
أحدهما : أن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره : أحببت الخير حباً فقدم ، فقال : أحببت حب الخير ثم أضاف فقال أحب الخير ، قاله بعض النحويين .
الثاني : أن الكلام على الولاء في نظمه من غير تقديم ولا تأخير ، وتأويله : آثرت حب الخير .
{
عَن ذِكر ربي } فيه وجهان :
أحدهما : عن صلاة العصر ، قاله علي رضي الله عنه .
الثاني : عن ذكر الله تعالى ، قاله ابن عباس .
وروى الحارث عن علي كرم الله وجهه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الوسطى فقال : « هي صلاة العصر التي فرط فيها نبي الله سليمان عليه السلام » .
{
حتى توارت بالحجاب } فيه قولان :
أحدهما : حت توارت الشمس بالحجاب ، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق ، قاله قتادة وكعب .
الثاني : توارت الخيل بالحجاب أي شغلت بذكر ربها إلى تلك الحال ، حكاه ابن عيسى .
والحجاب الليل يسمى حجاباً لأنه يستر ما فيه .
قوله عز وجل : { رُدُّوها عليَّ } يعني الخيل لأنها عرضت عليه فكانت تجري بين يديه فلا يستبين منها شيء لسرعتها وهو اللهم أغضَّ بصري ، حتى غابت الحجاب ثم قال ردوها عليّ .
{
فطفق مسحاً بالسوق والأعناق } فيه قولان :
أحدهما : أنه من شدة حبه لها مسح عراقيبها وأعناقها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه لما رآها قد شغلته عن الصلاة ضرب عراقيبها وأعناقها ، قاله الحسن وقتادة .
ولم يكن ما اشتغل عنه من الصلاة فرضاً بل كان نفلاً لأن ترك الفرض عمداً فسق ، وفعل ذلك تأديباً لنفسه . والخيل مأكولة اللحم فلم يكن ذلك منه إتلافاً يأثم به .
قال الكلبي : كانت ألف فرس فعرقب تسعمائة وبقي منها مائة . فما في أيدي الناس من الخيل العتاق من نسل تلك المائة .
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)

قوله عز وجل : { ولقد فتنا سُليمان } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ابتليناه قاله السدي .
الثاني : عاقبناه ، حكاه النقاش .
وفي فتنته التي عوقب بها ستة أقاويل :
أحدهما : أنه كان قارب بعض نسائه في بعض الشيء من حيض أو غيره قاله الحسن .
الثاني : ما حكاه ابن عباس قال كانت لسليمان امرأة تسمى جرادة وكان بين أهلها وبين قوم خصومة فاختصموا إلى سليمان ففصل بينهم بالحق ولكنه ود أن الحق كان لأهلها فقيل له إنه سيصيبك بلاء فجعل لا يدري أمن الأرض يأتيه البلاء أم من السماء .
الثالث : ما حكاه سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ولم ينصف مظلوماً من ظالم فأوحى الله تعالى إليه إني لم أستخلفك لتحجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم .
الرابع : ما حكاه شهر بن حوشب أن سليمان سبى بنت ملك غزان في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون ، فألقيت عليه محبتها وهي معرضة عنه تذكر أمر أبيها لا تنظر إليه إلا شزراً ولا تكلمه إلا نزراً ، ثم إنها سألته أن يضع لها تمثالاً على صورته فصنع لها فعظمته وسجدت له وسجد جواريها معها ، وصار صنماً معبوداً في داره وهو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوماً وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره وحرقه ثم ذراه في الريح .
الخامس : ما حكاه مجاهد أن سليمان قال لآصف الشيطان كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان أعطني خاتمك حتى أخبرك ، فأعطاه خاتمه فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه .
السادس : ما حكاه أبان عن أنس أن سليمان قال ذات ليلة : والله لأطوفن على نسائي في هذه الليلة وهن ألف امرأة كلهن تشتمل بغلام ، كلهم يقاتل في سبيل الله ، ولم يستثن . قال أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفس محمد بيده لو استثنى لكان ما قال » فما حملت له تلك الليلة إلا امرأة واحدة فولدت له شق إنسان .
{
وألقينا على كُرْسيِّه جسداً } فيه قولان :
أحدهما : معناه وجعلنا في ملكه جسداً ، والكرسي هو الملك .
الثاني : وألقينا على سرير ملكه جسداً .
وفي هذا الجسد أربعة أقاويل :
أحدها : أنه جسد سليمان مرض فكان جسده ملقى على كرسيه ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه ولد له ولد فخاف عليه فأودعه في السحاب يغذى في اليوم كالجمعة ، وفي الجمعة كالشهر وفي الشهر كالسنة ، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتاً ، قاله الشعبي .
الثالث : أنه أكثر من وطء جواريه طلباً للولد ، فولد له نصف إنسان ، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه ، حكاه النقاش .
الرابع : أن الله كان قد جعل ملك سليمان في خاتمه فكان إذا أجنب أو ذهب للغائط خلعه من يده ودفعه إلى أوثق نسائه حتى يعود فيأخذه ، فدفعه مرة إلى بعض نسائه وذهب لحاجته فجاء شيطان فتصور لها في صورة سليمان فطلب الخاتم منها فأعطته إياه ، وجاء سليمان بعده فطلبه ، فقالت قد أخذته فأحس سليمان .

واختلف في اسم امرأته هذه على قولين :
أحدهما : جرادة ، قاله ابن عباس وابن جبير .
الثاني : الأمينة ، قاله شهر بن حوشب .
وقال سعيد بن المسيب : كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه فأخذه الشيطان من تحته . وقال مجاهد : بل أخذه الشيطان من يده لأن سليمان سأل الشيطان كيف تضل الناس؟ فقال الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك فأعطاه خاتمه ، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان متشبهاً بصورته داخلاً على نسائه ، يقضي بغير الحق ويأمر بغير صواب . واختلف في إصابته النساء ، فحكي عن ابن عباس : أنه كان يأتيهن في حيضهن . وقال مجاهد : منع من إتيانهن ، وزال عن سليمان ملكه فخرج هارباً إلى ساحل البحر يتضيف الناس ويحمل سموك الصيادين بالأجرة ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه ، فجلس الشيطان على سريره ، وهو معنى قوله تعالى وألقينا على كرسيه جسداً .
واختلف في اسم هذا الشيطان على أربعة أقاويل :
أحدها : أن اسمه صخر ، قاله ابن عباس .
الثاني : آصف ، قاله مجاهد .
الثالث : حقيق ، قاله السدي .
الرابع : سيد ، قاله قتادة .
ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد قيل إنه استطعمها ، وقال ابن عباس أخذها أجراً في حمل حوت حمله ، فلما شق بطنه وجد خاتمه فيها ، وذكل بعد أربعين يوماً من زوال ملكه عنه ، وهي عدة الأيام التي عُبد الصنم في داره . قاله مقاتل وملك أربعين سنة ، عشرين سنة قبل الفتنة وعشرين بعدها . وكانت الأربعون يوماً التي خرج فيها عن ملكه ذا القعدة وعشراً من ذي الحجة ، فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه وصار إلى ملكه .
وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعاً لله .
قال ابن عباس : ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تخت من رخام وشده بالنحاس وألقاه في البحر . فهذا تفسير قوله تعالى { وألقينا على كرسيه جسداً } .
{
ثم أناب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ثم رجع إلى ملكه ، قاله الضحاك .
الثاني : ثم أناب من ذنبه ، قاله قتادة .
الثالث : ثم برأ من مرضه ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { قال ربِّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ليكون ذلك معجزاً له يعلم به الرضا ويستدل به على قبول التوبة .
الثاني : ليقوى به على من عصاه من الجن ، فسخرت له الريح حينئذٍ .
الثالث : لا ينبغي لأحد من بعدي في حياتي أن ينزعه مني كالجسد الذي جلس على كرسيه ، قاله الحسن .

{
إنك أنت الوهاب } أي المعطي ، قال مقاتل : سأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده بعد الفتنة فزاده الله تعالى الريح والشياطين بعدما ابتلى ، وقال الكلبي حكم سليمان في الحرث وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وملك وهو ابن اثنتي عشرة سنة .
قوله عز وجل : { فسخرنا له الريح } أي ذللناها لطاعته .
{
تجري بأمره } يحتمل وجهين :
أحدهما : تحمل ما يأمرها .
الثاني : تجري إلى حيث يأمرها .
{
رخاء } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : طيبة ، قاله مجاهد .
الثاني : سريعة ، قاله قتادة .
الثالث : مطيعة ، قاله الضحاك .
الرابع : لينة ، قاله ابن زيد .
الخامس : ليست بالعاصفة المؤذية ولا بالضعيفة المقصرة ، قاله الحسن .
{
حيث أصاب } فيه وجهان :
أحدهما : حيث أراد ، قاله مجاهد وقال قتادة : هو بلسان هجر . قال الأصمعي : العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، أي أراد الصواب .
الثاني : حيث ما قصد مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود .
قوله عز وجل : { والشياطين كلَّ بناءٍ وغواص } يعني سخرنا له الشياطين كل بناء يعني في البر ، وغواص يعني في البحر على حليّه وجواهره .
{
وآخرين مقرنين في الأصفاد } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في السلاسل : قاله قتادة .
الثاني : في الأغلال ، قاله السدي .
الثالث : في الوثاق ، قاله ابن عيسى ، قال الشاعر :
فآبُوا بالنهابِ وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مُصَفّدينا
قال يحيى بن سلام : ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفرهم ، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم . ووجد على سور مدينة سليمان عليه السلام :
لو أن حيّاً ينال الخُلد في مهل ... لنال ذاك سليمان بن داوِد
سالت له العين عين القطر فائضة ... فيه ومنه عطاءٌ غير موصود
لم يبق من بعدها في الملك مرتقياً ... حتى تضمن رمْساً بعد أخدود
هذا التعْلَم أنّ الملك منقطع ... إلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود
قوله عز وجل : { هذا عطاؤنا . . . } في المشار إليه بهذا ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما تقدم ذكره من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بتسخير الريح والشياطين .
فعلى هذا في قوله { فامنن أو أمسك بغير حساب } وجهان :
أحدهما : امنن على من شئت من الجن بإطلاقه ، أو امسك من شئت منهم في عمله من غير حرج عليك فيما فعلته بهم ، قاله قتادة والسدي .
الثاني : اعط من شئت من الناس وامنع من شئت منهم .
{
بغير حساب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بغير تقدير فيما تعطي وتمنع حكاه ابن عيسى .
الثاني : بغير حرج ، قاله مجاهد .
الثالث : بغير حساب تحاسب عليه يوم القيامة ، قاله سعيد بن جبير .
قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان فإن الله تعالى يقول : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } وحكى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { هذا عطاؤنا } الآية . قال سليمان عليه السلام : أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا ، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا فلم نر شيئاً هو أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة ، والقصد في الغنى والفقر ، وكلمة الحق في الرضا والغضب .

والقول الثاني : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك ، فعلى هذا في قوله فامنن أو أمسك وجهان :
أحدهما : بغير جزاء .
الثاني : بغير قلة .
والقول الثالث : إن هذا إشارة إلى مضمر غير مذكور وهو ما حكي أن سليمان كان في ظهره ماء مائة رجل وكان له ثلاثمائة امرأته وسبعمائة سرية فقال الله تعالى { هذا عطاؤنا } يعني الذي أعطيناك من القوة على النكاح { فامنن } بجماع من تشاء من نسائِك { أو أمسك } عن جماع من تشاء من نسائِك . فعلى هذا في قوله بغير حساب وجهان :
أحدهما : بغير مؤاخذة فيمن جامعت أو عزلت .
الثاني : بغير عدد محصور فيمن استبحت أو نكحت . وهذا القول عدول من الظاهر إلى ادعاء مضمر بغير دليل لكن قيل فذكرته .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

قوله عز وجل : { واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصبٍ وعذابٍ } قيل هو أيوب بن حوص بن روعويل وكان في زمن يعقوب بن إسحاق ، وتزوج بنته إليا بنت يعقوب وكانت أمّه بنت لوط عليه السلام ، وكان أبوه حوص ممن آمن بإبراهيم عليه السلام .
وفي قوله { مسني الشيطان } وجهان :
أحدهما : أن مس الشيطان وسوسته وتذكيره بما كان فيه من نعمة وما صار إليه من محنة ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : الشيطان استأذن الله تعالى أن يسلطه على ماله فسلطه ، ثم أهله وداره فسلطه ، ثم جسده فسلطه ، ثم على قلبه فلم يسلطه ، قال ابن عباس فهو قوله : { مسني الشيطان } الآية .
{
بنصب وعذاب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بالنصب الألم وبالعذاب السقم ، قاله مبشر بن عبيد .
الثاني : النصب في جسده ، والعذاب في ماله ، قاله السدي .
الثالث : أن النصب العناء ، والعذاب البلاء .
قوله عز وجل : { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشرابٌ } قال قتادة هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية . وفيهما قولان :
أحدهما : أنه اغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه ، قاله الحسن .
الثاني : أنه اغتسل من إحداهما فبرىء ، وشرب من الأخرى فروي ، قاله قتادة .
وفي المغتسل وجهان :
أحدهما : أنه كان الموضع الذي يغتسل منه ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه الماء الذي يغتسل به ، قاله ابن قتيبة .
وفي مدة مرضه قولان :
أحدهما : سبع سنين وسبعة أشهر ، قاله ابن عباس .
الثاني : ثماني عشرة سنة رواه أنس مرفوعاً .
قوله عز وجل : { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } وفيما أصابهم ثلاثة أقويل :
أحدها : أنهم كانوا مرضى فشفاهم الله .
الثاني : أنهم غابوا عنه فردهم الله عليه ، وهذا القولان حكاهما ابن بحر .
الثالث : وهو ما عليه الجمهور أنهم كانوا قد ماتوا .
فعلى هذا في هبتهم له ومثلهم معهم خمسة أقاويل :
أحدها : أن الله تعالى رد عليه أهله وولده ومواشيه بأعيانهم ، لأنه تعالى أماتهم قبل آجالهم ابتلاء ووهب له من أولادهم مثلهم ، قاله الحسن .
الثاني : أن الله سبحانه ردهم عليه بأعيانهم ووهب له مثلهم من غيرهم قاله ابن عباس .
الثالث : أنه رد عليه ثوابهم في الجنة ووهب له مثلهم في الدنيا ، قاله السدي .
الرابع : أنه رد عليه أهله في الجنة ، وأصاب امرأته فجاءته بمثلهم في الدنيا .
الخامس : أنه لم يرد عليه منهم بعد موتهم أحداً وكانوا ثلاثة عشرا ابناً فوهب الله تعالى له من زوجته التي هي أم من مات مثلهم فولدت ستة وعشرين ابناً ، قاله الضحاك .
{
رحمة منا } أي نعمة منا .
{
وذكرَى لأولي الألباب } أي عبرة لذوي العقول .
قوله عز وجل : { وخُذْ بيدك ضِغْثاً فاضرب له ولا تحنثْ } كان أيوب قد حلف في مرضه على زوجته أن يضربها مائة جلدة .

وفي سبب ذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما قاله ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت نعم ، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها .
الثاني : ما حكاه سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها .
الثالث : ما حكاه يحيى بن سلام أن الشيطان أغواها على أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة ليبرأ بها فحلف ليجلدنها فلما برىء أيوب وعلم الله تعالى بإيمان امرأته أمره رفقاً بها وبراً له يأخذ بيده ضغثاً .
وفيه سبعة أقاويل :
أحدها : أنه أشكال النخل الجامع لشماريخه ، قاله ابن عباس .
الثاني : الأثل ، حكاه مجاهد وقاله مجاهد .
الثالث : السنبل ، حكاه يحيى بن سلام .
الرابع : الثمام اليابس ، قاله سعيد بن المسيب .
الخامس : الشجر الرطب ، قاله الأخفش .
السادس : الحزمة من الحشيش ، قاله قطرب وأنشد قول الكميت :
تحيد شِماساً إذا ما العسيفُ ... بضِغثِ الخلاء إليها أشارا
السابع : أنه ملء الكف من القش أو الحشيش أو الشماريخ ، قاله أبوعبيدة .
{
فاضرب } فاضرب بعدد ما حلفت عليه وهو أن يجمع مائة من عدد الضغث فيضربها به في دفعة يعلم فيها وصول جميعها إلى بدنها فيقوم ذلك فيها مقام مائة جلدة مفردة .
{
ولا تحنث } يعني في اليمين وفيه قولان :
أحدهما : أن ذلك لأيوب خاصة ، قاله مجاهد .
الثاني : عام في أيوب وغيره من هذه الأمة ، قاله قتادة . والذي نقوله في ذلك مذهباً : إن كان هذا في حد الله تعالى جاز في المعذور بمرض أو زمانة ولم يجز في غيره ، وإن كان في يمين جاز في المعذور وغيره إذا اقترن به ألم المضروب ، فإن تجرد عن ألم ففي بره وجهان :
أحدهما : يبر لوجود العدد المحلوف عليه .
الثاني : لا يبر لعدم المقصود من الألم .
{
إنا وجدناه صابراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : على الطاعة .
الثاني : على البلاء .
{
نِعم العبد } يعني نعم العبد في صبره .
{
إنه أوّاب } إلى ربه .
وفي بلائه قولان :
أحدهما : أنه بلوى اختبار ودرجة ثواب من غير ذنب عوقب عليه .
الثاني : أنه بذنب عوقب عليه بهذه البلوى وفيه قولان :
أحدهما : أنه دخل على بعض الجبابرة فرأى منكراً فسكت عنه .
الثاني : أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع لم يطعمه .
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)

قوله عز وجل : { واذكُرْ عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الأيدي القوة على العبادة ، والأبصار الفقه في الدين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الأيدي القوة في أمر الله ، والأبصار العلم بكتاب الله ، قاله قتادة .
الثالث : أن الأيدي النعمة رواه الضحاك ، والأبصار العقول ، قاله مجاهد .
الرابع : الأيدي القوة في أبدانهم ، والأبصار القوة في أديانهم ، قاله عطية .
الخامس : أن الأيدي العمل والأبصار العلم ، قاله ابن بحر .
قال مقاتل : ذكر الله إبراهيم واسحاق ويعقوب ولم يذكر معهم إسماعيل لأن إبراهيم صبر على إلقائه في النار ، وصبر إسحاق على الذبح ، وصبر يعقوب على ذهاب بصره ولم يبتل إسماعيل ببلوى .
قوله عز وجل : { إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار } فيه خمسة أوجه :
أحدها : نزع الله ما في قلوبهم من الدنيا وذكرها ، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها ، قاله مالك بن دينار .
الثاني : اصطفيناهم لأفضل ما في الآخرة وأعطيناهم ، قاله ابن زياد .
الثالث : أخلصناهم بخالصة الكتب المنزلة التي فيها ذكرى الدار الآخرة ، وهذا قول مأثور .
الرابع : أخلصناهم بالنبوة وذكرى الدار الآخرة ، قاله مقاتل .
الخامس : أخلصناهم من العاهات والآفات وجعلناهم ذاكرين الدار الآخرة ، حكاه النقاش .
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)

قوله عز وجل : { وعندهم قاصرات الطرف أتراب } يعني قاصرات الطرف على أزواجهم .
{
أتراب } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أقران ، قاله عطية .
الثاني : أمثال ، قاله مجاهد .
الثالث : متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
الرابع : مستويات الأسنان بنات ثلاث وثلاثين قاله يحيى بن سلام .
الخامس : أتراب أزواجهن بأن خلقهن على مقاديرهم ، وقال ابن عيسى : الترب اللدة وهو مأخوذ من اللعب بالتراب .
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

قوله عز وجل : { هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق } أي منه حميم ومنه غساق والحميم الحار ، وفي الغساق ستة أوجه :
أحدها : أنه البارد الزمهرير ، قاله ابن عباس فكأنهم عذبوا بحارّ التراب وبارده .
الثاني : أنه القيح الذي يسيل من جلودهم ، قاله عطية .
الثالث : أنه دموعهم التي تسيل من أعينهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنها عين في جهنم تسيل إليها حِمة كل ذي حِمة من حية أو عقرب ، قاله كعب الأحبار .
الخامس : أنه المنتن ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
السادس : أنه السواد والظلمة وهو ضد ما يراد من صفاء الشراب ورقته ، قاله ابن بحر .
وفي هذا الاسم وجهان :
أحدهما : حكاه النقاش أنه بلغة الترك .
الثاني : حكاه ابن بحر وابن عيسى أنه عربي مشتق واختلف في اشتقاقه على وجهين :
أحدهما : من الغسق وهو الظمة ، قاله ابن بحر .
الثاني : من غسقت القرحة تغسق غسقاً . إذا جرت ، وأنشد قطرب قول الشاعر :
فالعين مطروقة لبينهم ... تغسق في غربة سرها
وإليه ذهب ابن عيسى .
وفي { غساق } قراءتان بالتخفيف والتشديد وفيها وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان معناهما واحد ، قاله الأخفش .
الثاني : معناهما مختلف والمراد بالتخفيف الاسم وبالتشديد الفعل وقيل إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : هذا حميم وهذا غساق فليذوقوه .
قوله عز وجل : { وآخر مِنْ شكله أزواج } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : وآخر من شكل العذاب أنواع ، قاله السدي .
الثاني : وآخر من شكل عذاب الدنيا أنواع في الآخرة لم تر في الدنيا ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الزمهرير ، قاله بن مسعود .
وفي الأزواج هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنواع .
الثاني : ألوان .
الثالث : مجموعة .
قوله عز وجل : { هذا فوج مقتحم معكم . . . } فوج بعد فوج أي قوم بعد قوم ، مقتحمون النار أي يدخلونها . وفي الفوج قولان :
أحدهما : أنهم بنو إبليس .
والثاني : بنو آدم ، قاله الحسن .
والقول الثاني : أن كلا الفوجين بنو آدم إلى أن الأول الرؤساء والثاني الأتباع . وحكىلنقاش أن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر ، والفوج الثاني أتباعهم ببدر .
وفي القائل { هذا فوجٌ مقتحم معكم } قولان :
أحدهما : الملائكة قالوا لبني إبليس لما تقدموا في النار هذا فوج مقتحم معكم إشارة لبني آدم حين دخلوها . قال بنو إبليس { لا مرحَباً بهم إنهم صالوا النار قالوا } أي بنو آدم : { بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار } .
والقول الثاني : أن الله قال للفوج الأول حين أمر بدخول الفوج الثاني : { هذا فوج مقتحم معكم } فأجابوه { لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار } فأجابهم الفوج الثاني { بل أنتم مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أنتم شرعتموه لنا وجعلتم لنا إليه قدماً ، قاله الكلبي .
الثاني : قدمتم لنا هذا العذاب بما أضللتمونا عن الهدى { فبئس القرار } أي بئس الدار النار ، قاله الضحاك .
الثالث : أنتم قدمتم لنا الكفر الذي استوجبنا به هذا العذاب في النار ، حكاه ابن زياد .

{
قالوا ربنا من قدم لنا هذا } الآية . يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قاله الفوج الأول جواباً للفوج الثاني .
الثاني : قاله الفوج تبعاً لكلامهم الأول تحقيقاً لقولهم عند التكذيب .
وفي تأويل { من قدم لنا هذا } وجهان :
أحدهما : من سنه وشرعه ، قاله الكلبي .
الثاني : من زينه ، قاله مقاتل . والمرحب والرحب : السعة ومنه سميت الرحبة لسعتها ومعناه لا اتسعت لكم أماكنكم؛ وأنشد الأخفش قول أبي الأسود .
اذا جئت بوّاباً له قال مرحباً ... ألا مَرْحباً واديك غير مضيق
قوله عز وجل : { وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً . . . } الآية . قال مجاهد هذا يقوله أبو جهل وأشياعه في النار : ما لنا لا نرى رجلاً كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار لا نرى عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً .
{
أتخذناهم سخرياً } قال مجاهد اتخذناهم سخرياً في الدنيا فأخطأنا .
{
أم زاغت عنهم الأبصار } فلم نعلم مكانهم . قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم . وقال أبو عبيدة من كسر { سخرياً } جعله من الهزء ، ومن ضمه جعله من التسخير { أم زاغت عنهم الأبصار } يعني أهم معنا في النار أم زاغت أبصارنا فلا نراهم وإن كانوا معنا .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)

قوله عز وجل : { قُلْ هو نبأ عظيم } فيه قولان :
أحدهما : أنه القيامة لأن الله تعالى قد أنبأنا بها في كتبه .
والقول الثاني : هو القرآن ، قاله مجاهد والضحاك والسدي .
{
أنتم عنه معرضون } قال الضحاك أنتم به مكذبون . قال السدي : يريد به المشركين .
وفي تسميته نبأ وجهان :
أحدهما : لأن الله أنبأ به فعرفناه .
الثاني : لأن فيه أنباء الأولين .
وفي وصفه بأنه عظيم وجهان :
أحدهما : لعظم قدره وكثرة منفعته .
الثاني : لعظيم ما تضمنه من الزواجر والأوامر .
قوله عز وجل : { ما كان لي من عِلم بالملإِ الأعلى } قال ابن عباس يعني الملائكة .
{
إذ يختصمون } فيه وجهان :
أحدهما : في قوله تعالى للملائكة : { إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها } الآية . فهذه الخصومة ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما رواه أبو الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سألني ربي فقال يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات والدرجات ، قال وما الكفارات؟ قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في السبرات ، والتعقيب في المساجد انتظار الصلوات بعد الصلوات . قال وما الدرجات؟ قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بليل والناس نيام
» .
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

قوله عز وجل : { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خَلَقْتُ بيديَّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بقوتي ، قاله علي بن عاصم .
الثاني : بقدرتي ، ومنه قول الشاعر :
تحملت من عفراء ، ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
الثالث : لما توليت خلقه بنفسي ، قاله ابن عيسى .
{
أستكبرت } أي عن الطاعة أم تعاليت عن السجود؟
قوله عز وجل : { قال فالحق والحق أقول } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنا الحق ، وأقول الحق ، قاله مجاهد .
الثاني : الحق مني والحق قولي ، رواه الحكم .
الثالث : معناه حقاً لأملأن جهنم منك ومن تبعك منهم أجمعين ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { قل ما أسألكم عليه من أجْر } فيه وجهان :
أحدهما : قل يا محمد للمشركين ما أسألكم على ما أدعوكم إليه من طاعة الله أجراً قاله ابن عباس .
الثاني : ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن أجراً ، قاله عطاء .
{
وما أنا من المتكلفين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما أنا من المتكلفين لهذا القرآن من تلقاء نفسي .
الثاني : وما أنا من المتكلفين لأن آمركم بما لم أؤمر به .
الثالث : وما أنا بالذي أكلفكم الأجر وهو معنى قول مقاتل .
قوله عز وجل : { ولتعلَمُنَّ نبأه بَعْد حين } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نبأ القرآن أنه حق .
الثاني : نبأ محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول .
الثالث : نبأ الوعيد أنه صدق .
{
بعد حين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : بعد الموت ، قاله قتادة . وقال الحسن : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
الثاني : يوم بدر ، قاله السدي .
الثالث : يوم القيامة ، قاله ابن زيد وعكرمة ، والله أعلم .
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)

قوله عز وجل : { تنزيل الكتاب } والكتاب هو القرآن سمي بذلك لأنه مكتوب .
{
من الله العزيز الحكيم } فيه وجهان :
أحدهما : العزيز في ملكه الحكيم في أمره .
الثاني : العزيز في نقمته الحكيم في عدله . قوله عز وجل : { فاعبد الله مخلصاً له الدين } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الإخلاص بالتوحيد ، قاله السدي .
الثاني : إخلاص النية لوجهه ، وفي قوله { له الدين } وجهان :
أحدهما : له الطاعة ، قاله ابن بحر .
الثاني : العبادة .
{
ألا لله الدين الخالص } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله قتادة .
الثاني : الإسلام ، قاله الحسن .
الثالث : ما لا رياء فيه من الطاعات .
{
والذين اتخذوا من دونه أولياء } يعني آلهة يعبدونها .
{
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } قال كفار قريش هذه لأوثانهم وقال من قبلهم ذلك لمن عبدوه من الملائكة وعزير وعيسى ، أي عبادتنا لهم ليقربونا إلى الله زلفى ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الزلفى الشفاعة في هذا الموضع ، قاله قتادة .
الثاني : أنها المنزلة ، قاله السدي .
الثالث : أنها القرب ، قاله ابن زيد .
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

قوله عز وجل : { يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يحمل الليل على النهار ، ويحمل النهار على الليل ، قاله ابن عباس .
الثاني : يغشى الليل على النهار فيذهب ضوءَه ، ويغشى النهارعلى الليل فيذهب ظلمته ، قاله قتادة .
الثالث : هو نقصان أحدهما عن الآخر ، فيعود نقصان الليل في زيادة النهار ونقصان النهار في زيادة الليل ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : يجمع الليل حتى ينتشر النهار ، ويجمع النهار حتى ينتشر الليل .
قوله عز وجل : { خلقكم من نفسٍ واحدة } يعني من آدم .
{
ثم جعل منها زوجها } يعني حواء . فيه وجهان :
أحدهما : أنه خلقها من ضلع الخَلْف من آدم وهو أسفل الأضلاع ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم ، فيكون معنى قوله { جعل منها } أي من مثلها ، قاله ابن بحر .
{
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } قال قتادة : من الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، ومن الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، كل واحد زوج .
وفي قوله { أنزل } وجهان :
أحدهما : يعني جعل ، قاله الحسن .
الثاني : أنزلها بعد أن خلقها في الجنة ، حكاه ابن عيسى .
{
يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق } فيه وجهان :
أحدهما : نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم لحماً ، قاله قتادة والسدي .
الثاني : خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهرآدم ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : خلقاً في ظهر الأب ثم خلقاً في بطن الأم ثم خلقاً بعد الوضع .
{
في ظلمات ثلاث } فيه وجهان :
أحدهما : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة .
الثاني : ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أنها ظلمة عتمة الليل التي تحيط بظلمة المشيمة مظلمة الأحشاء وظلمة البطن .
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)

قوله عز وجل : { وإذا مس الإنسان ضُرٌّ دعا ربَّهُ منيباً إليه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مخلصاً إليه ، قاله الضحاك .
الثاني : مستغيثاً به ، قاله السدي .
الثالث : مقبلاً عليه ، قاله الكلبي وقطرب .
{
ثم إذا خوّله منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } فيه وجهان :
أحدهما : إذا أصابته نعمة ترك الدعاء ، قاله الكلبي .
الثاني : إذا أصابته نعمة ترك الدعاء ، قاله الكلبي .
الثاني : إذا أصابته عافية نَسي الضر . والتخويل العطية العظيمة من هبة أو منحة ، قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ ... كوم الذّرى من خول المخوِّلِ
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)

قوله عز وجل : { أمَّن هو قانتٌ } في الألف التي في { أمّن } وجهان :
أحدهما : أنها ألف استفهام .
الثاني : ألف نداء .
وفي قانت أربعة أوجه :
أحدها : أنه المطيع ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه الخاشع في صلاته ، قاله ابن شهاب .
الثالث : القائم في صلاته ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : أنه الداعي لربه .
{
آناء الليل } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طرف الليل ، قاله ابن عباس .
الثاني : ساعات الليل ، قاله الحسن .
الثالث : ما بين المغرب والعشاء ، قاله منصور .
{
ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } قال السدي : يحذر عذاب الآخرة ويرجوا نعيم الجنة .
وفيمن أريد به هذا الكلام خمسة أقاويل :
أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حكاه يحيى بن سلام .
الثاني : أبو بكر ، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه .
الثالث : عثمان بن عفان ، قاله ابن عمر .
الرابع : عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وابن مسعود ، قاله الكلبي .
الخامس : أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال قانتاً آناء الليل .
فمن زعم أن الألف الأولى استفهام أضمر في الكلام جواباً محذوفاً تقديره : أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً كمن جعل لله أنداداً؟ قاله يحيى . وقال ابن عيسى : المحذوف من الجواب : كمن ليس كذلك .
ومن زعم أن الألف للنداء لم يضمر جواباً محذوفاً ، وجعل تقدير الكلام : أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه .
{
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يستوي الذين يعلمون هذا فيعملون به والذين لا يعلمون هذا فلا يعملون به ، قاله قتادة .
الثاني : أن الذين يعلمون هم المؤمنون يعلمون أنهم لاقو ربهم ، والذين لا يعلمون هم المشركون الذين جعلوا لله أنداداً قاله يحيى .
الثالث : ما قاله أبو جعفر محمد بن علي قال : الذين يعلمون نحن ، والذين لا يعلمون عدونا .
ويحتمل رابعاً : أن الذين يعلمون هم الموقنون ، والذين لا يعلمون هم المرتابون .
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)

قوله عز وجل : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الآخرة ، وهي الجنة .
الثاني : للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا فيكون ذلك زائداً على ثواب الآخرة .
وفيما أريد بالحسنة التي لهم في الدنيا أربعة أوجه :
أحدها : العافية والصحة ، قاله السدي .
الثاني : ما رزقهم الله من خير الدنيا ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : ما أعطاهم من طاعته في الدنيا وجنته في الآخرة ، قاله الحسن .
الرابع : الظفر والغنائم ، حكاه النقاش .
ويحتمل خامساً : إن الحسنة في الدنيا الثناء وفي الآخرة الجزاء .
{
وأرض الله واسعة } فيها قولان :
أحدهما : أرض الجنة رغبهم في سعتها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : هي أرض الهجرة ، قاله عطاء .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه . ورزق الله واسع ، وهو أشبه لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان بها .
{
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني بغير مَنٍّ عليهم ولا متابعة ، قاله السدي .
الثاني : لا يحسب لهم ثواب عملهم فقط ولكن يزدادون على ذلك ، قاله ابن جريج .
الثالث : لا يعطونه مقدراً لكن جزافاً .
الرابع : واسعاً بغير تضييق قال الراجز :
يا هند سقاك بلا حسابه ... سقيا مليك حسن الربابة
وحكي عن علي كرم الله وجهه قال : كل أجر يكال كيلاً ويوزن وزناً إلا أجر الصابرين فإنه يحثى حثواً .
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)

قوله عز وجل : { قل إن الخاسرين الَّذِينَ خَسِروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : خسروا أنفسهم بإهلاكها في النار ، وخسروا أهليهم بأن لا يجدوا في النار أهلاً ، وقد كان لهم في الدنيا أهل ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : خسروا أنفسهم بما حرموها من الجنة وأهليهم من الحور العين الذين أعدوا [ لهم ] في الجنة ، قاله الحسن وقتادة .
الثالث : خسروا أنفسهم وأهليهم بأن صاروا هم بالكفر إلى النار ، وصار أهلوهم بالإيمان إلى الجنة وهو محتمل .
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)

قوله عز وجل : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } فيه قولان :
أحدهما : أن الطاغوت الشيطان ، قاله مجاهد وابن زيد .
الثاني : الأوثان ، قاله الضحاك والسدي .
وفيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم أعجمي مثل هاروت وماروت .
الثاني : عربي مشتق من الطغيان .
{
وأنابوا إلى الله } فيه وجهان :
أحدهما : أقبلوا الى الله ، قاله قتادة .
الثاني : استقاموا إلى الله ، قاله الضحاك .
ويحتمل ثالثاً : وأنابوا الى الله من ذنوبهم .
{
لهم البشرى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الجنة ، قاله مقاتل ويحيى بن سلام .
الثاني : بشرى الملائكة للمؤمنين ، قاله الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : أنها البشرى عند المعاينة بما يشاهده من ثواب عمله .
قوله عز وجل : { فبشر عبادِ الذين يستمعون القول } فيه قولان :
أحدهما : أن القول كتاب الله ، قاله مقاتل ويحيى بن سلام .
الثاني : أنهم لم يأتهم كتاب من الله ولكن يستمعون أقاويل الأمم ، قاله ابن زيد .
{
فيتبعون أحسنَه } فيه خمسة أوجه :
أحدها : طاعة الله ، قاله قتادة .
الثاني : لا إله إلا الله ، قاله ابن زيد .
الثالث : أحسن ما أمروا به ، قاله السدي .
الرابع : أنهم إذا سمعوا قول المسلمين وقول المشركين اتبعوا أحسنه وهو الإسلام ، حكاه النقاش .
الخامس : هو الرجل يسمع الحديث من الرجل فيحدث بأحسن ما يسمع منه ، ويمسك عن أسوإه فلا يتحدث به ، قاله ابن عباس .
ويحتمل سادساً : أنهم يستمعون عزماً وترخيصاً فيأخذون بالعزم دون الرخص .
{
أولئك الذين هداهم الله } الآية . قال عبد الرحمن بن زيد : نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم ، واتبعوا أحسن ما صار من العقول إليهم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)

قوله عز وجل : { أفمن شرح الله صدره للإسلام } فيه وجهان :
أحدهما : وسع صدره للإسلام حتى يثبت فيه ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : وسع صدره بالإسلام بالفرح به والطمأنينة إليه ، فعلى هذا لا يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام .
{
فهو على نور من ربه } فيه وجهان :
أحدهما : على هدى من ربه ، قاله السدي .
الثاني : أنه كتاب الله الذي به يأخذ وإليه ينتهي ، قاله قتادة .
وروى عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سدر قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال : « نور يقذف به في القلب » قالوا : يا رسول الله هل لذلك من أمارة؟ قال : « نعم » قالوا : ما هي؟ قال : « الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت .
»
وفي من نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي .
الثاني : في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حكاه النقاش .
الثالث : في عمار بن ياسر ، قاله مقاتل .
{
فويل للقاسية قلوبُهم من ذِكر الله } قيل أنه عنى أبا جهل وأتباعهُ من كفار قريش ، وفي الكلام مضمر محذوف تقديره ، فهو على نور من ربه كمن طبع الله على قلبه فويل للقاسية قلوبهم .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)

قوله عز وجل : { الله نزّل أحسن الحديث } يعني القرآن ، ويحتمل تسميته حديثاً وجهين :
أحدهما : لأنه كلام الله ، والكلام يسمى حديثاً كما سمي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً .
الثاني : لأنه حديث التنزيل بعدما تقدمه من الكتب المنزلة على من تقدم من الأنبياء .
ويحتمل وصفه بأحسن الحديث وجهين :
أحدهما : لفصاحته وإعجازه .
الثاني : لأنه أكمل الكتب وأكثرها إحكاماً .
{
كِتاباً متشابها } فيه قولان :
أحدهما : يشبه بعضه بعضاً من الآي والحروف ، قاله قتادة .
الثاني : يشبه بعضه بعضاً في نوره وصدقه وعدله ، قاله يحيى بن سلام .
ويحتمل ثالثاً : يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وإن كان أعم وأعجز . ثم وصفه فقال :
{
مثاني } وفيه سبعة تأويلات :
أحدها : ثنى الله فيه القضاء ، قاله الحسن وعكرمة .
الثاني : ثنى الله فيه قصص الأنبياء ، قاله ابن زيد .
الثالث : ثنى الله فيه ذكر الجنة والنار ، قاله سفيان .
الرابع : لأن الآية تثنى بعد الآية ، والسورة بعد السورة ، قاله الكلبي .
الخامس : يثنى في التلاوة فلا يمل لحسن مسموعه ، قاله ابن عيسى .
السادس : معناه يفسر بعضه بعضاً ، قاله ابن عباس .
السابع : أن المثاني اسم لأواخر الآي ، فالقرآن اسم لجميعه ، والسورة اسم لكل قطعة منه ، والآية اسم لكل فصل من السورة ، والمثاني اسم لآخر كل آية منه ، قاله ابن بحر .
{
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تقشعر من وعيده وتلين من وعده ، قال السدي .
الثاني : أنها تقشعر من الخوف وتلين من الرجاء ، قاله ابن عيسى .
الثالث : تقشعر الجلود لإعظامه ، وتلين عند تلاوته .
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)

{
أفمن يتقي بوجهه سوءَ العذَاب يومَ القيامة } فيه وجهان :
أحدهما : أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار يوم القيامة .
الثاني : لأن النار تبدأ بوجهه إذا دخلها .
قوله عز وجل : { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } فيه وجهان :
أحدهما : من مأمنهم ، قاله السدي .
الثاني : فجأة ، قاله يحيى .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

قوله عز وجل : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : غير ذي لبس ، قاله مجاهد .
الثاني : غير مختلف ، قاله الضحاك .
الثالث : غير ذي شك ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { ضرب الله مثلاً رجلاً } يعني الكافر .
{
فيه شركاء } أي يعبد أوثاناً شتى .
{
متشاكسون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : متنازعون ، قاله قتادة .
الثاني : مختلفون ، قاله ابن زياد .
الثالث : متعاسرون .
الرابع : متظالمون مأخوذ من قولهم : شكسني مالي أي ظلمني .
{
ورَجُلاً سَلَماً لرجُلٍ } يعني المؤمن سلماً لرجل أي مخلصاً لرجل ، يعني أنه بإيمانه يعبد إلهاً واحداً .
{
هل يستويان مثلاً } أي هل يستوي حال العابد لله وحده وحال من يعبد آلهة غيره؟ فضرب لهما مثلاً بالعبدين اللذين يكون أحدهما لشركاء متشاكسين ، لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم حق خدمته ، ويكون الآخر لسيد واحد يقدر أن يوفيه حق خدمته .
{
الحمد لله } يحتمل وجهين :
أحدهما : على احتجاجه بالمثل الذي خَصم به المشركين .
الثاني : على هدايته التي أعان بها المؤمنين .
{
بل أكثرهم لا يعلمون } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يعلمون المثل المضروب .
الثاني : لا يعلمون بأن الله هو الإله المعبود .
قوله عز وجل : { إنك ميت وإنهم ميتون } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته وموتهم ، فاحتمل خسمة أوجه : أحدها : أن يذكر ذلك تحذيراً من الآخرة .
الثاني : أن يذكره حثاً على العمل .
الثالث : أن يذكره توطئة للموت .
الرابع : لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى إن عمر لما أنكر موته احتج أبو بكر بهذه الآية فأمسك .
الخامس : ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوى وتقل الحسرة . ومعنى إنك ميت أي ستموت ، يقال ميت بالتشديد للذي سيموت ، وميت بالتخفيف لمن قد مات .
قوله عز وجل : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : في الدماء ، قاله عكرمة .
الثاني : في المداينة ، قاله الربيع بن أنس .
الثالث : في الإيمان والكفر ، قاله ابن زيد ، فمخاصمة المؤمنين تقريع ، ومخاصمة الكافرين ندم .
الرابع : ما قاله ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهتدي الضال ، والضعيف المستكبر . قال إبراهيم النخعي : لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ما خصومتنا بيننا .
ويحتمل خامساً : أن تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى فيما تغالبوا عليه في الدنيا من حقوقهم خاصة دون حقوق الله ليستوفيها من حسنات من وجبت عليه في حسنات من وجبت له .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)

قوله عز وجل : { والذي جاء بالصدق } الآية . وفي الذي جاء بالصدق أربعة أقاويل :
أحدها : أنه جبريل ، قاله السدي .
الثاني : محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة ومجاهد .
الثالث : أنهم المؤمنون جاءوا بالصدق يوم القيامة ، حكاه النقاش .
الرابع : أنهم الأنبياء ، قاله الربيع وكان يقرأ : والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به .
وفي ( الصدق ) قولان :
أحدهما : أنه لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثاني : القرآن ، قاله مجاهد وقتادة .
ويحتمل ثالثاً : أنه البعث والجزاء .
وفي الذي صدق به خمسة أقاويل :
أحدها : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : المؤمنون من هذه الأمة ، قاله الضحاك .
الثالث : أتباع الأنبياء كلهم ، قاله الربيع .
الرابع : أنه أبو بكر ، رضي الله عنه حكاه الطبري عن علي رضي الله عنه ، وذكره النقاش عن عون بن عبد الله .
الخامس : أنه علي كرم الله وجهه ، حكاه ليث عن مجاهد .
ويحتمل سادساً : أنهم المؤمنون قبل فرض الجهاد من غير رغبة في غنم ولا رهبة من سيف .
{
أولئك هم المتقون } إنما جاز الجمع في { هم المتقون } و { الذي } واحد في مخرج لفظه وجمع في معناه على طريق الجنس كقوله تعالى { إن الإنسان لفي خسر } قوله عز وجل : { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عَمِلوا } قبل الإيمان والتوبة ، ووجه آخر : أسوأ الذي عملوا من الصغائر لأنهم يتقون الكبائر .
{
ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } أي يجزيهم بأجر أحسن الأعمال وهي الجنة .
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)

قوله عز وجل : { أليس الله بكافٍ عبده } في قراءة بعضهم ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يكفيه الله المشركين ، وقرأ الباقون { عباده } وهم الأنبياء .
{
ويخوفونك بالذين من دونه } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم كانوا يخوفونه بأوثانهم يقولون تفعل بك وتفعل ، قاله الكلبي ، والسدي .
الثاني : يخوفونه من أنفسهم بالوعيد والتهديد .
قوله عز وجل : { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : على ناحيتكم ، قاله الضحاك ومجاهد .
الثاني : على تمكنكم ، قاله ابن عيسى .
الثالث : على شرككم ، قاله يحيى .
{
إني عامل } على ما أنا عليه من الهدى .
{
فسوف تعلمون } وهذا وعيد .
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

قوله عز وجل : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الله عند توفي الأنفس يقبض أرواحها من أجسادها والتي لم تمت وهي في منامها يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها .
{
فيمسك التي قضى عليها الموت } أنى تعود الأرواح إلى أجسادها .
{
ويرسلُ الأخرى } وهي النائمة فيطلقها باليقظة للتصرف إلى أجل موتها ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما حكاه ابن جريج عن ابن عباس أن لكل جسد نفساً وروحاً فيتوفى الله الأنفس في منامها بقبض أنفسها دون أرواحها حتى تتقلب بها وتتنفس ، فيمسك التي قضى عليها الموت أن تعود النفس إلى جسدها ويقبض الموت روحها ، ويرسل الأخرى وهي نفس النائم إلى جسدها حتىتجتمع مع روحها إلى أجل موتها .
الثالث : قاله سعيد بن جبير إن الله تعالى يقبض أرواح الموتى إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يعيدها ويرسل الأخرى فيعيدها . قال علي رضي الله عنه : فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

قوله عز وجل : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبُ . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : انقبضت ، قاله المبرد .
الثاني : نفرت .
الثالث : استكبرت .
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)

قوله عز وجل : { قل اللهم فاطر السموات والأرض } أي خالقهما .
{
عالمَ الغيب والشهادة } يحتمل وجهين :
أحدهما : السر والعلانية .
الثاني : الدنيا والآخرة .
{
أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } من الهدى والضلالة .
ويحتمل ثانياً : من التحاكم إليه في الحقوق والمظالم .
قال ابن جبير ، اني لأعرف موضع آية ما قرأها أحدٌ فسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، قوله { قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } .
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

قوله عز وجل : { فإذا مسّ الإنسان ضرٌّ دعانا } قيل إنها نزلت في أبي حذيفة . ابن المعيرة .
{
ثم إذا خوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيتُه على عِلمٍ } فيه خسمة أوجه :
أحدها : على علم برضاه عني ، قاله ابن عيسى .
الثاني : بعلمي ، قاله مجاهد .
الثالث : بعلم علمني الله إياه ، قاله الحسن .
الرابع : علمت أني سوف أصيبه : حكاه النقاش .
الخامس : على خبر عندي ، قاله قتادة .
{
بل هي فتنة } فيه وجهان :
أحدهما : النعمة لأنه يمتحن بها .
الثاني : المقالة التي اعتقدها لأنه يعاقب عليها .
{
ولكن أكثرهم لا يعلمون } البلوى من النعمى .
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)

قوله عز وجل : { قُلْ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } أي أسرفوا على أنفسهم في الشرك .
ويحتمل ثانياً : أسرفوا على أنفسهم في ارتكاب الذنوب مع ثبوت الإيمان والتزامه { لا تقنطوا من رحمة الله } أي لا تيأسوا من رحمته .
{
إن الله يغفر الذنوب جميعاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يغفرها بالتوبة منها ، قاله الحسن .
الثاني : يغفرها بالعفو عنها إلا الشرك .
الثالث : يغفر الصغائر باجتناب الكبائر .
{
إنه هو الغفور الرحيم } قيل نزلت هذه الآية والتي بعدها في وحشي قاتل حمزة ، قاله الحسن والكلبي ، وقال علي عليه السلام : ما في القرآن آية أوسع منها . وروى ثوبان قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « ما أحب أن لي الدنيا وما عليها بهذه الآية
» .
قوله عز وجل : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : هو ما أمرهم الله به في الكتاب ، قاله السدي .
الثاني : أن يأخذوا ما أمر وينتهوا عما نهوا عنه ، قاله الحسن .
الثالث : هو الناسخ دون المنسوخ ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : هو طاعة الله تعالى في الحرام والحلال قاله ابن زياد .
الخامس : تأدية الفرائض ، قاله زيد بن علي ، ومعاني أكثرها متقاربة .
ويحتمل سادساً : أنه الأخذ بالعزيمة دون الرخصة . وجعله منزلاً عليهم لأنه منزل إليهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : { أن تقول نفس يا حَسْرتَا } فيه وجهان :
أحدهما : معناه لئلا تقول نفس .
الثاني : أن لا تقول نفس ، والألف التي في يا حسرتا بدل من ياء الإضافة ففعل ذلك في الاستغاثة لمدة الصوت بها .
{
على ما فرطت في جنب الله } فيه ستة تأويلات :
أحدها : في مجانبة أمر الله ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : في ذات الله ، قاله الحسن .
الثالث : في ذكر الله ، قاله السدي ، وذكر الله هنا القرآن .
الرابع : في ثواب الله من الجنة حكاه النقاش .
الخامس : في الجانب المؤدي إلى رضا الله ، والجنب والجانب سواء .
السادس : في طلب القرب من الله ومنه قوله تعالى { والصاحب بالجنب } أي بالقرب .
{
وإن كنت لمن الساخرين } فيه وجهان : أحدهما : من المستهزئين في الدنيا بالقرآن ، قاله النقاش .
الثاني : بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين ، قاله يحيى بن سلام .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

قوله عز وجل : { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بنجاتهم من النار .
الثاني : بما فازوا به من الطاعة .
الثالث : بما ظفروا من الإدارة .
ويحتمل رابعاً : بما سلكوا فيه مفاز ، الطاعات الشاقة ، مأخوذ من مفازة السفر .
{
لا يمسهم السُّوءُ } لبراءتهم منه . { ولا هم يحزنون } فيه وجهان :
أحدهما : لا يحزنون ، بألا يخافوا سوء العذاب .
الثاني : لا يحزنون على ما فاتهم من ثواب الدنيا .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

{
وما قدروا الله حق قدرِه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما عظموه حق عظمته إذ عبدوا الأوثان من دونه ، قاله الحسن .
الثاني : وما عظموه حق عظمته إذ دعوا إلى عبادة غيره ، قاله السدي .
الثالث : ما وصفوه حق صفته ، قاله قطرب .
{
والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } فيه وجهان :
أحدهما : أن قبضه استبدالها بغيرها لقوله { يوم تبدل الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وهو محتمل .
الثاني : أي هي في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض في قبضته .
{
والسموات مطويات بيمينه } فيه وجهان :
أحدهما : بقوته لأن اليمين القوة .
الثاني : في ملكه كقوله { وماملكت أيمانكم } [ النساء : 36 ] .
ويحتمل طيها بيمينه وجهين :
أحدهما : طيها يوم القيامة . لقوله يوم نطوي السماء .
الثاني : أنها في قبضته مع بقاء الدنيا كالشيء المطوي لاستيلائه عليها .
{
سبحانه وتعالى عما يشركون } روى صفوان بن سليم أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم إن الله أنزل عليك { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } فأين يكون الخلق؟ قال « يكونون في الظلمة عند الجسر حتى ينجي الله من يشاء . » قال : والذي أنزل التوراة على موسى ما على الأرض أحد يعلم هذا غيرى وغيرك .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)

قوله عز وجل : { ونفخ في الصُّور فصعق مَنْ في السموات ومن في الأرض } فيه وجهان :
أحدهما : أن الصعق الغَشي ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : وهو قول الجمهور أنه الموت وهذا عند النفخة الأولى .
{
إلا من شاء الله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام . وملك الموت يقبض أرواحهم بعد ذلك ، قاله السدي ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الشهداء ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : هو الله الواحد القهار ، قاله الحسن .
{
ثم نفخ فيه أخرى } وهي النفخة الثانية للبعث .
{
فإذا هم قيام ينظرون } قيل قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به .
ويحتمل وجهاً آخر ينظرون ما يؤمرون به .
قوله عز وجل : { وأشرقتِ الأرض } إشراقها إضاءتها ، يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت ، وشَرَقت إذا طلعت .
وفي قوله { بِنُورِ رَبِّها } وجهان :
أحدهما : بعدله ، قاله الحسن .
الثاني : بنوره وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه نور قدرته .
الثاني : نور خلقه لإشراق أرضه .
الثالث : أنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه لأنه نهار لا ليل معه .
{
ووضع الكتاب } فيه وجهان :
أحدهما : الحساب ، قاله السدي .
الثاني : كتاب أعمالهم ، قاله قتادة .
{
وجيء بالنبين الشهداء } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم للأنبياء أنهم قد بلغوا ، وأن الأمم قد كذبوا ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم الذين استشهدوا في طاعة الله ، قاله السدي .
{
وقضي بينهم بالحق } قال السدي بالعدل { وهم لا يظلمون } قال سعيد بن جبير لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

قوله عز وجل : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أفواجاً ، قاله الحسن .
الثاني : أمماً ، قاله الكلبي .
الثالث : جماعات ، قاله السدي . قال الأخفش جماعات متفرقة ، بعضها إثر بعض واحدها زمرة . قال خفاف بن ندبة :
كأن إخراجها في الصبح غادية ... من كل شائبةٍ في أنها زُمَر
الرابع : دفعاً وزجراً بصوت كصوت المزمار ، ومن قولهم مزامير داود .
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)

قوله عز وجل : { سلام عليكم طبتم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طبتم بطاعة الله قاله مجاهد .
الثاني : طبتم بالعمل الصالح ، قاله النقاش .
الثالث : ما حكاه مقاتل أن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم فذلك قوله { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم ، فعندها يقول لهم خزنتها :
{
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } فإذا دخلوها قالوا { الحمد لله الذي صدقنا وعده } .
وفي معنى طبتم ثلاثة أوجه :
أحدها : نعمتم ، قاله الضحاك .
الثاني : كرمتم ، قاله ثعلب .
الثالث : زكوتم ، قاله الفراء وابن عيسى .
{
وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } وعده في الدنيا بما نزل به القرآن ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه وعده بالجنة في الآخرة ثواباً على الإيمان .
الثاني : أنه وعده في الدنيا بظهور دينه على الأديان ، وفي الآخرة بالجزاء على الإيمان . { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاءُ } وفي هذه الأرض قولان :
أحدهما : أرض الجنة ، قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين .
الثاني : أرض الدنيا . فإن قيل إنها أرض الجنة ففي تسميتها ميراثاً وجهان :
أحدهما : لأنها صارت إليهم في آخر الأمر كالميراث .
الثاني : لأنهم ورثوها من أهل النار ، وتكون هذه الأرض من جملة الجزاء والثواب ، والجنة في أرضها كالبلاد في أرض الدنيا لوقوع التشابه بينهما قضاء بالشاهد على الغائب .
{
نتبوأ من الجنة حيث نشآء } يعني منازلهم التي جوزوا بها ، لأنهم مصروفون عن إرادة غيرها .
وفي تأويل قوله { حيث نشاء } وجهان :
أحدهما : حيث نشاء من منزلة وعلو .
الثاني : حيث نشاء من منازل ومنازه ، فإن قيل إنها أرض الدنيا فهي من النعم دون الجزاء .
ويحتمل تأويله وجهين :
أحدهما : أورثنا الأرض بجهادنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بثوابنا .
الثاني : وأورثنا الأرض بطاعة أهلها لنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بطاعتنا له لأنهم أطاعوا فأطيعوا .
{
فنعم أجر العاملين } يحتمل وجهين :
أحدهما : فنعم أجر العاملين في الدنيا الجنة في الآخرة .
الثاني : فنعم أجر من أطاع أن يطاع .
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

قوله عز وجل : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } قال قتادة : محدقين .
{
يسبحون بحمد ربهم } وتسبيحهم تلذذ لا تعبد . وفي قوله .
{
بحمد ربهم } وجهان :
أحدهما : بمعرفة ربهم ، قاله الحسن .
الثاني : يذكرون بأمر ربهم ، قاله مقاتل .
{
وقضي بينهم بالحق } أي بالعدل وفيه قولان :
أحدهما : وقضي بينهم بعضهم لبعض .
الثاني : بين الرسل والأمم ، قاله الكلبي .
{
وقيل الحمد لله رب العالمين } وفي قائله قولان :
أحدهما : أنه من قول الملائكة ، فعلى هذا يكون حمدهم لله على عدله في قضائه .
الثاني : أنه من قول المؤمنين .
فعلى هذا يحتمل حمدهم وجهين :
أحدهما : على أن نجاهم مما صار إليه أهل النار .
الثاني : على ما صاروا إليه من نعيم الجنة ، فختم قضاؤه في الآخرة بالحمد كما افتتح خلق السموات والأرض بالحمد في قوله { الحمد لله الذي خلق السموات وَالأَرضَ } [ الأنعام : 1 ] فتلزم الاقتداء به والأخذ بهديه في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمه بحمده وبالله التوفيق .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

قوله عز وجل : { حم } فيه خمسة أوجه :
أحدهما : أنه اسم من أسماء الله أقسم به ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أنها حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن ، قاله سعيد بن جبير وقال : الر وحم ون هو الرحمن .
الرابع : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله جعفر بن محمد .
الخامس : فواتح السور ، قاله مجاهد قال شريح بن أوفى العبسي :
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ويحتمل سادساً : أن يكون معناه حُم أمر الله أي قرب ، قال الشاعر :
قد حُمّ يومي فسر قوم ... قومٌ بهم غفلة ونوم
ومنه سميت الحمى لأنها تقرب منه المنية .
فعلى هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يريد به قرب قيام الساعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « بعثت في آخرها ألفاً
»
الثاني : أنه يريد به قرب نصره لأوليائه وانتقامة من أعدائه يوم بدر .
قوله عز وجل : { غافر الذنب } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه غافره لمن استغفره ، قاله النقاش .
الثاني : ساتره على من يشاء ، قاله سهل بن عبد الله .
{
وقابل التوب } يجوز أن يكون جمع توبة ، ويجوز أن يكون مصدراً من تاب يتوب توباً ، وقبوله للتوبة إسقاط الذنب بها مع إيجاب الثواب عليها .
قوله عز وجل : { ذي الطول } فيه ستة تأويلات :
أحدها : ذي النعم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذي القدرة ، قاله ابن زيد .
الثالث : ذي الغنى والسعة ، قاله مجاهد .
الرابع : ذي الخير ، قاله زيد بن الأصم .
الخامس : ذي المن ، قاله عكرمة .
السادس : ذي التفضيل ، قاله محمد بن كعب .
والفرق بين المن والفضل أن المن عفو عن ذنب ، والفضل إحسان غير مستحق والطول مأخوذ من الطول كأنه إنعامه على غيره وقيل لأنه طالت مدة إنعامه .
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

قوله عز وجل : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } فيه وجهان :
أحدهما : ما يماري فيها ، قاله السدي .
الثاني : ما يجحد بها ، قاله يحيى بن سلام .
وفي الفرق بين المجادلة والمناظرة وجهان :
أحدهما : ان المجادلة لا تكون إلا بين مبطلين أو مبطل ومحق ، والمناظرة بين محقين .
الثاني : أن المجادلة فتل الشخص عن مذهبه محقاً أو مبطلاً ، والمناظرة التوصل إلى الحق في أي من الجهتين كان .
وقيل إنه أراد بذلك الحارث بن قيس السهمي وكان أحد المستهزئين .
{
فلا يغررك تقلبهم في البلاد } قال قتادة : إقبالهم وإدبارهم وتقلبهم في أسفارهم ، وفيه وجهان :
أحدهما : لا يغررك تقلبهم في الدنيا بغير عذاب ، قاله يحيى .
الثاني : لا يغررك تقلبهم في السعة والنعمة قاله مقاتل وقيل إن المسلمين قالوا نحن في جهد والكفار في السعة ، فنزل { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } حكاه النقاش وفيه حذف تقديره : فلا يغررك تقلبهم في البلاد سالمين فسيؤخذون .
قولة عز وجل : { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } فيه وجهان :
أحدهما : ليحبسوه ويعذبوه ، حكاه ابن قتيبة .
الثاني : ليقتلوه ، قاله قتادة والسدي . والعرب تقول : الأسير الأخيذ لأنه مأسور للقتل ، وأنشد قطرب قول الشاعر :
فإما تأخذوني تقتلوني ... ومن يأخذ فليس إلى خلود
وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان :
أحدهما : عند دعائه لهم .
الثاني : عند نزول العذاب بهم .
{
وجادلوا بالباطل ليُدْحضوا به الحقَّ } قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان .
{
فأخذتهم } قال السدي : فعذبتهم .
{
فكيف كان عقاب } في هذا السؤال وجهان :
أحدهما : أنه سؤال عن صدق العقاب ، قال مقاتل وجدوه حقاً .
الثاني : عن صفته ، قال قتادة : شديد والله .
قوله عز وجل : { وكذلك حقت كلمة ربِّك على الذين كفروا } أي كما حقت على أولئك حقت على هؤلاء . وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : وكذلك وجب عذاب ربك .
الثاني : وكذلك صدق وعد ربك .
{
أنهم أصحاب النار } جعلهم أصحابها لأنهم يلزمونها وتلزمهم .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

قوله عز وجل : { ربنا وسعت كل شَيْءٍ رحمة وعلماً } فيه وجهان :
أحدهما : ملأت كل شيء رحمة وعلماً ، أو رحمة عليه وعلماً به ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : معناه : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء .
{
فاغفر للذين تابوا } قال يحيى : من الشرك .
{
واتبعوا سبيلك } قال الإسلام لأنه سبيل إلى الجنة .
{
وقهم عذاب الجحيم } بالتوفيق لطاعتك .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)

قوله عز وجل : { إن الذين كفروا ينادَوْنَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ينادون يوم القيامة ، قاله قتادة .
الثاني : ينادون في النار ، قاله السدي .
{
لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعوْن إلى الإيمان فتكفرون } فيه وجهان :
أحدهما : لمقت الله بكم في الدنيا إذا دعيتم إلى الإيمان فكفرتم أكبر من مقتكم لأنفسكم في الآخرة حين عاينتم العذاب وعلمتم أنكم من أهل النار ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : معناه : إن مقت الله لكم إذ عصيتموه أكبر من مقت بعضكم لبعض حين علمتم أنهم أضلوكم ، حكاه ابن عيسى .
فإن قيل : كيف يصح على الوجه الأول أن يمقتوا أنفسهم؟
ففيه وجهان :
أحدهما : أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت .
الثاني : أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى وعلموا أن نفوسهم هي التي أوبقتهم في المعاصي مقتوها .
وفي اللام التي في { لمقت الله } وجهان :
أحدهما : أنها لام الابتداء كقولهم لزيد أفضل من عمرو ، قاله البصريون .
الثاني : أنها لام اليمين تدخل على الحكاية وما ضارعها ، قاله ثعلب .
قوله عز وجل : { قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه خلقهم أمواتاً في أصلاب آبائهم ، ثم أحياهم بإخراجهم ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم ، ثم أحياهم للبعث ، فهما ميتتان إحداهما في أصلاب الرجال ، الثانية في الدنيا ، وحياتان : إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة ، قاله ابن مسعود وقتادة .
الثاني : أن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم قوله { وإذ أخذ رَبُكَ مِن ابني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذرِيتَهُمْ } [ الأعراف : 171 ] الآية . ثم إن اللَّه أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم ، ثم أحياهم حين أخرجهم ، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم ، ثم أحياهم للبعث فتكون حياتان وموتتان في الدنيا وحياة في الآخرة ، قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
الثالث : أن الله أحياهم حين خلقهم في الدنيا ، ثم أماتهم فيها عند انقضاء أجالهم ، ثم أحياهم في قبورهم للمساءلة ، ثم أماتهم إلى وقت البعث . ثم أحياهم للعبث ، قاله السدي .
{
فاعترفنا بذنوبنا } أنكروا البعث في الدنيا وأن يحيوا بعد الموت ، ثم اعترفوا في الآخرة بحياتين بعد موتتين .
{
فهل إلى خروج مِن سبيل } فيه وجهان :
أحدهما : فهل طريق نرجع فيها إلى الدنيا فنقر بالبعث ، وهو معنى قول قتادة .
الثاني : فهل عمل نخرج به من النار ، ونتخلص به من العذاب؟ قاله الحسن .
وفي الكلام مضمر تقديره : لا سبيل إلى الخروج .
قوله عز وجل : { ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم } أي كفرتم بتوحيد الله .
{
وإن يُشرك به تؤمنوا } فيه وجهان :
أحدهما : معناه تصدقوا من أشرك به ، قاله النقاش .
الثاني : تؤمنوا بالأوثان ، قاله يحيى بن سلام .
{
فالحكم لله } يعني في مجازاة الكفار وعقاب العصاة .
{
العلي الكبير } إنما جاز وصفه بأنه علي ولم تجز صفته بأنه رفيع لأنها صفة قد تنقل من علو المكان إلى علو الشأن والرفيع لا يستعمل إلا في ارتفاع المكان .
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

قوله عز وجل : { رفيع الدرجات } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : رفع السموات السبع ، قاله سعيد بن جبير والكلبي .
الثاني : عظيم الصفات ، قاله ابن زياد .
الثالث : هو رفعه درجات أوليائه ، قاله يحيى .
{
ذو العرش } فيه وجهان :
أحدهما : أن عرشه فوق سماواته ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنه رب العرش ، قاله يحيى .
{
يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الروح الوحي ، قاله قتادة .
الثاني : النبوة ، قاله السدي .
الثالث : القرآن ، قاله ابن عباس .
الرابع : الرحمة ، حكاه إبراهيم الجوني .
الخامس : أرواح عباده ، لا ينزل ملك إلا ومعه منها روح ، قاله مجاهد .
السادس : جبريل يرسله الله بأمره ، قاله الضحاك .
{
لينذر يوم التلاق } فيه قولان :
أحدهما : لينذر الله به يوم القيامة ، قاله الحسن .
الثاني : لينذر أنبياؤه يوم التلاق وهو يوم القيامة وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، قاله السدي وابن زيد .
الثاني : لأنه يلتقي فيه الأولون والآخرون ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : يلتقي فيه الخلق والخالق ، قاله قتادة .
قوله عز وجل : { يومَ هم بارزون } يعني من قبورهم .
{
لا يخفى على الله منهم شَيْءٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أبرزهم جميعاً لأنه لا يخفى على الله منهم شيء .
الثاني : معناه يجازيهم من لا يخفى عليه من أعمالهم شيء .
{
لمن الملك اليوم } هذا قول الله ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه قوله بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى - غير نفسه - مالكاً ولا مملوكاً : لمن الملك اليوم فلا يجيبه لأن الخلق أموات ، فيجيب نفسه فيقول : { لله الواحد القهار } لأنه بقي وحده وقهر خلقه ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : أن هذا من قول الله تعالى في القيامة حين لم يبق من يدَّعي ملكاً ، أو يجعل له شريكاً .
وفي المجيب عن هذا السؤال قولان :
أحدهما : أن الله هو المجيب لنفسه وقد سكت الخلائق لقوله ، فيقول : لله الواحد القهار ، قاله عطاء .
الثاني : ان الخلائق كلهم يجيبه من المؤمنين . والكافرين ، فيقولون : لله الواحد القهار ، قاله ابن جريج .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

قوله عز وجل : { وأنذرهم يوم الآزفة } فيه قولان :
أحدهما : يوم حضور المنية ، قاله قطرب .
الثاني : يوم القيامة وسميت الآزفة لدنوها ، وكل آزف دانٍ ، ومنه قوله تعالى { أزفت الآزفة } [ النجم : 57 ] أي دنت القيامة .
{
إذ القلوب لَدَى الحناجر } فيه قولان :
أحدهما : أن القلوب هي النفوس بلغت الحناجر عند حضور المنية ، وهذا قول من تأول يوم الآزفة بحضور المنية ، قاله قتادة . ووقفت في الحناجر من الخوف فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها .
{
كاظمين } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مغمومون قاله الكلبي .
الثاني : باكون ، قاله ابن جريج .
الثالث : ممسكون بحناجرهم ، ماخوذ من كظم القربة وهو شد رأسها .
الرابع : ساكتون ، قاله قطرب ، وأنشد قول الشماخ :
فظلت كأن الطير فوق رؤوسها ... صيامٌ تنائي الشمس وهي كظوم
{
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } في الحميم قولان :
أحدهما : انه القريب ، قاله الحسن .
الثاني : الشفيق ، قاله مجاهد ، ومعنى الكلام : ما لهم من حميم ينفع ولا شفيع يطاع أي يجاب إلى الشفاعة ، وسميت الإجابة طاعة لموافقتها إرادة المجاب .
قوله عز وجل : { يعلم خائنة الأعين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه الرمز بالعين ، قاله السدي .
الثاني : هي النظرة بعد النظرة ، قاله سفيان .
الثالث : مسارقة النظر ، قاله ابن عباس .
الرابع : النظر إلى ما نهى عنه ، قاله مجاهد .
الخامس : هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى ، أو رأيت وما رأى ، قاله الضحاك .
وفي تسميتها خائنة الأعين وجهان :
أحدهما : لأنها أخفى الإشارات فصارت بالاستخفاء كالخيانة .
الثاني : لأنها باستراق النظر إلى المحظور خيانة .
{
وما تُخفي الصدور } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : الوسوسة ، قاله السدي .
الثاني : ما تضمره [ عندما ترى امرأة ] إذا أنت قدرت عليها أتزني بها أم لا ، قاله ابن عباس .
الثالث : ما يسره الإنسان من أمانة أو خيانة ، وعبر عن القلوب بالصدور لأنها مواضع القلوب .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

قوله عز وجل : { . . . كانوا هم أشدَّ منهم قوة } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بطشاً ، قاله يحيى .
الثاني : قدرة ، قاله ابن عيسى .
{
وآثاراً في الأرض } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنها آثارهم من الملابس والأبنية ، قاله يحيى .
الثاني : خراب الأرضين وعمارتها ، قاله مجاهد .
الثالث : المشي فيها بأرجلهم ، قاله ابن جريج .
الرابع : بُعْد الغاية في الطلب ، قاله الكلبي .
الخامس : طول الأعمار ، قاله مقاتل .
ويحتمل سادساً : ما سنوا فيها من خير وشر .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

قوله عز وجل : { وقال فرعون ذروني أقتُل موسى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أشيروا عليّ بقتل موسى لأنهم قد كانوا أشاروا عليه بأن لا يقتله لأنه لو قتله منعوه ، قاله ابن زياد .
الثاني : ذروني أتولى قتله ، لأنهم قالوا إن موسى ساحر إن قتلته هلكت لأنه لو أمر بقتله خالفوه .
الثالث : أنه كان في قومه مؤمنون يمنعونه من قتله . فسألهم تمكينه من قتله .
{
وليدع ربه } فيه وجهان :
أحدهما : وليسأل ربه فإنه لا يجاب .
الثاني : وليستعن به فإنه لا يعان .
{
إني أخاف أن يبدِّل دينكم } فيها وجهان :
أحدهما : يغير أمركم الذي أنتم عليه ، قاله قتادة .
الثاني : معناه هو أن يعمل بطاعة الله ، رواه سعيد بن أبي عروبة .
الثالث : محاربته لفرعون بمن آمن به ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : هو أن يقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم إذا ظهروا عليكم كما كنتم تفعلون بهم ، قاله ابن جريج .
ويحتمل خامساً : أن يزول به ملككم لأنه ما تجدد دين إلا زال به ملك .
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)

قوله عز وجل : { وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } فيه قولان :
أحدهما : أنه كان ابن عم فرعون ، قاله السدي ، قال وهو الذي نجا مع موسى .
الثاني : أنه كان قبطياً من جنسه ولم يكن من أهله ، قاله مقاتل .
قال ابن إسحاق : وكان أسمه حبيب .
وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل ، وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون ، بمنزلة ولي العهد .
وقال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وامرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر فقال { إن الملأ يأتمرون بك } [ القصص : 20 ] .
وفي إيمانه قولان :
أحدهما : أنه آمن بمجيء موسى وتصديقه له وهو الظاهر . الثاني : أنه كان مؤمناً قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قاله الحسن ، فكتم إيمانه ، قال الضحاك كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه .
{
أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللهُ } أي لقوله ربي الله .
{
وقد جاءَكم بالبينات من ربِّكم } فيها قولان :
أحدهما : أنه الحلال والحرام ، قاله السدي .
الثاني : أنها الآيات التي جاءتهم : يده وعصاه والطوفان وغيرها ، كما قال تعالى { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات } [ الأعراف : 130 ] قاله يحيى .
{
وإن يك كَاذباً فعليه كَذِبُه } ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى .
{
وإن يَكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدُكم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه كان وعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا ، فقال { يصبكم بعض الذي يعدكم } لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالتين نالهم أحد الأمرين فصار ذلك بعض الوعد لا كله .
الثاني : لأنه قد كان أوعدهم على كفرهم بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فصار هلاكهم في الدنيا بعض وما وعدهم .
الثالث : أن الذي يبدؤهم من العذاب هو أوله ثم يتوالى عليهم حالاً بعد حال حتى يستكمل فصار الذي يصيبهم هو بعض الذي وعدهم لأنه حذرهم ما شكوا فيه وهي الحالة الأولى وما بعدها يكونون على يقين منه .
الرابع : أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام كما قال الشاعر :
قد يُدْرِك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
{
إن الله لا يهدي من هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مسرف على نفسه كذاب على ربه إشارة إلى موسى ، ويكون هذا من قول المؤمن .
الثاني : مسرف في عناده كذاب في ادعائه إشارة إلى فرعون [ ويكون ] هذا من قوله تعالى .
قوله عز وجل : { ويا قوم لكم الملك اليوم ظاهِرين في الأرض } قال السدي :
غالبين على أرض مصر قاهرين لأهلها ، وهذا قول المؤمن تذكيراً لهم بنعم اللَّه عليهم .
{
فمن ينصرنا من بأس الله إِن جاءَنا } أي من عذاب الله ، تحذيراً لهم من نقمة ، فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور محبته .
{
قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى } قال عبد الرحمن بن زيد : معناه ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي .
{
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } في تكذيب موسى والإيمان بي
.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

قوله عز وجل : { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التنادِ } يعني يوم القيامة ، قال أمية بن أبي الصلت :
وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التّنَادِ
سمي بذلك لمناداة بعضهم بعضاً ، قاله الحسن .
وفيما ينادي به بعضهم بعضاً قولان :
أحدهما : يا حسرتا ، يا ويلتا ، يا ثبوراه ، قاله ابن جريج .
الثاني : ينادي أهلُ الجنة أهل النار أن { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً } [ الأعراف : 44 ] الآية .
وينادي أهل النار الجنة { أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللَّه } [ الأعراف : 50 ] قاله قتادة .
وكان الكلبي يقرؤها : يوم التنادّ ، مشدودة ، أي يوم الفرار ، قال يندّون كما يندّ البعير . وقد جاء في الحديث أن للناس جولة يوم القيامة يندون يطلبون أنهم يجدون مفراً ثم تلا هذه الآية .
{
يوم تولون مدبرين } فيه وجهان :
أحدهما : مدبرين في انطلاقهم إلى النار ، قاله قتادة .
الثاني : مدبرين في فِرارهم من النار حتى يقذفوا فيها ، قاله السدي .
{
ما لكم من الله من عاصم } فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر ، قاله قتادة .
الثاني : من مانع ، وأصل العصمة المنع ، قاله ابن عيسى .
{
ومن يضلل الله فما له من هاد } وفي قائل هذا قولان :
أحدهما : أن موسى هو القائل له .
الثاني : أنه من قول مؤمن آلِ فرعون .
قوله عز وجل : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } فيه قولان :
أحدهما : أن يوسف بن يعقوب ، بعثه الله رسولاً إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات . قال ابن جريج : هي الرؤيا .
الثاني : ما حكاه النقاش عن الضحاك أن الله بعث اليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)

قوله عز وجل : { وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني مجلساً ، قاله الحسن .
الثاني : قصراً ، قاله السدي .
الثالث : أنه الآجر ومعناه أوقد لي على الطين حتى يصير آجراً ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : أنه البناء المبني بالآجر ، وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلوه في القبر ، قاله إبراهيم .
{
لعلّي أبلغ الأسباب } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يسبب إلى فعل مرادي .
الثاني : ما أتوصل به إلى علم ما غاب عني ، ثم بين مراده فقال :
{
أسباب السموات } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : طرق السموات ، قاله أبو صالح .
الثاني : أبواب السموات ، قاله السدي والأخفش ، وأنشد قول الشاعر :
ومن هاب أسباب المنايا يَنَلنه ... ولو نال أسباب السماء بِسلَّمِ
الثالث : ما بين السموات ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
{
فأطَّلعَ إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً } فيه قولان :
أحدهما : أنه غلبه الجهل على قول هذا أو تصوره .
الثاني : أنه قاله تمويهاً على قومه مع علمه باستحالته ، قاله الحسن .
{
وما كَيْدُ فرعون إلا في تبابٍ } فيه وجهان :
أحدهما : في خسران قاله ابن عباس .
الثاني : في ضلال ، قاله قتادة .
وفيه وجهان :
أحدهما : في الدنيا لما أطلعه الله عليه من هلاكه .
الثاني : في الآخرة لمصيره إلى النار ، قاله الكلبي .
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)

قوله عز وجل : { لا جَرَمَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه : لا بد ، قاله المفضل .
الثاني : معناه : لقد حق واستحق ، قاله المبرد .
الثالث : أنه لا يكون إلا جواباً كقول القائل : فعلوا كذا ، فيقول المجيب : لا جرم انهم سيندمون ، قاله الخليل .
{
أن ما تدعونني إليه } أي من عبادة ما تعبدون من دون الله .
{
ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله السدي .
الثاني : لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله قتادة .
الثالث : ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله الكلبي .
{
وأن مردنا إلى الله } أي مرجعنا بعد الموت إلى الله ليجازينا على أفعالنا .
{
وأن المسرفين هم أصحاب النار } فيهم قولان :
أحدهما : يعني المشركين ، قاله قتادة .
الثاني : يعني السفاكين للدماء بغير حق ، قاله الشعبي ، وقال مجاهد : سمى الله القتل سرفاً .
قوله عز وجل : { فستذكرون ما أقول لكم } فيه قولان :
أحدهما : يعني في الآخرة ، قاله ابن زيد .
الثاني : عند نزول العذاب بهم ، قاله النقاش .
{
وأفوّض أمري إلى الله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه : وأسلم أمري إلى الله ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أشهد عليكم الله ، قاله ابن بحر .
الثالث : أتوكل على الله ، قاله يحيى بن سلام .
{
إن الله بصير بالعباد } فيه وجهان :
أحدهما : بأعمال العباد .
الثاني : بمصير العباد .
وفي قائل هذا قولان :
أحدهما : أنه من قول موسى .
الثاني : من قول مؤمن آل فرعون ، فعلى هذا يصير بهذا القول مظهراً لإيمانه . قوله عز وجل : { فوقاه الله سيئات ما مكروا } فيه قولان :
أحدهما : أن موسى وقاه الله سيئات ما مكروا ، فعلى هذا فيه قولان :
أحدهما : أن مؤمن آل فرعون نجاه الله مع موسى حتى عبر البحر واغرق الله فرعون ، قاله قتادة ، وقيل إن آل فرعون هو فرعون وحده ومنه قول أراكة الثقفي :
لا تبك ميتاً بعد موت أحبةٍ ... عليّ وعباس وآل أبي بكر
يريد أبا بكر .
الثاني : أن مؤمن آل فرعون خرج من عنده هارباً إلى جبل يصلي فيه ، فأرسل في طلبه ، فجاء الرسل وهو في صلاته وقد ذبت عنه السباع والوحوش أن يصلوا إليه ، فعادوا إلى فرعون فأخبروه فقتلهم فهو معنى قوله { فوقاه الله سيئات ما مكروا } .
{
وحاق بآل فرعون سوء العذاب } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم قومه ، وسوء العذاب هو الغرق ، قاله الضحاك .
الثاني : رسله الذين قتلهم ، وسوء العذاب هو القتل .
قوله عز وجل : { النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يعرض عليهم مقاعدهم من النار غدوة وعشية ، فيقال : لآلِ فرعون هذه منازلكم ، توبيخاً ، قاله قتادة .
الثاني : أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح فذلك عرضها ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنهم يعذبون بالنار في قبرهم غدواً وعشياً ، وهذا لآل فرعون خصوصاً . قال مجاهد : ما كانت الدنيا .
{
ويوم تقولم الساعةُ } وقيامها وجود صفتها على استقامة ، ومنه قيام السوق وهو حضور أهلها على استقامة في وقت العادة .
{
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } لأن عذاب جهنم مُخْتَلِف . وجعل الفراء في الكلام تقديماً وتأخيراً وتقديره : ادخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ، وهو خلاف ما ذهب إليه غيره من انتظام الكلام على سياقه .
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

قوله عز وجل : { إنا لننصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } فيه قولان :
أحدهما : بإفلاج حجتهم ، قاله أبو العالية .
الثاني : بالانتقام من أعدائهم قال السدي : ما قتل قوم قط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قُتلوا .
{
ويومَ يقَوم الأشْهاد } بمعنى يوم القيامة . وفي نصرهم قولان :
أحدهما : بإعلاء كلمتهم وإجزال ثوابهم .
الثاني : إنه بالانتقام من أعدائهم .
وفي { الأشهاد } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ ، وعلى الأمم بالتكذيب ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : انهم الملائكة والأنبياء ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم أربعة : الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد ، قاله زيد بن أسلم ثم في { الأشهاد } أيضاً وجهان :
أحدهما : جمع شهيد مثل شريف ، وأشراف .
الثاني : أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب .
قوله عز وجل : { فاصبر إنَّ وعد الله حق } فيه قولان :
أحدهما : هو ما وعد الله رسوله في آيتين من القرآن أن يعذب كفار مكة ، قاله مقاتل .
الثاني : هو ما وعد الله رسوله أن يعطيه المؤمنين في الآخرة ، قاله يحيى بن سلام .
{
واستغفر لذنبك } اي من ذنب إن كان منك . قال الفضيل : تفسير الاستغفار أقلني .
{
وسبح بحمد ربِّك } قال مجاهد : وصَلِّ بأمر ربك .
{
بالعشي والإبكار } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلاة العصر والغداة ، قاله قتادة .
الثاني : أن العشي ميل الشمس إلى أن تغيب ، والإبكار أول الفجر ، قاله مجاهد .
الثالث : هي صلاة مكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } أي بغير حجة جاءتهم .
{
إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه } فيه قولان :
أحدهما : أن اكبر العظمة التي في كفار قريش ، ما هم ببالغيها ، قاله مجاهد .
الثاني : ما يستكبر من الاعتقاد وفيه قولان :
أحدهما : هو ما أمله كفار قريش في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه أن يهلك ويهلكوا ، قاله الحسن .
الثاني : هو أن اليهود قالوا إن الدجال منا وعظموا أمره ، واعتقدوا أنهم يملكون ، وينتقمون ، قاله أبو العالية .
{
فاستعذ بالله } من كبرهم .
{
إنه هو السميع } لما يقولونه { البصير } بما يضمرونه .
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

قوله عز وجل : { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمت اليهود شأنه ، قاله أبو العالية .
الثاني : أكبر من إعادة خلق الناس حين أنكرت قريش البعث ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : أكبر من أفعال الناس حين أذل الكفار بالقوة وتباعدوا بالقهر .
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)

قوله عز وجل : { وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه وحدوني بالربوبية أغفر لكم ذنوبكم ، قاله ابن عباس .
الثاني : اعبدوني استجب لكم ، قاله جرير بن عبد الله ، أي اتبعكم على عبادتكم .
الثالث : سلوني أعطكم ، قاله السدي . وإجابة الداعي عند صدق الرغبة مقيد بشرط الحكمة . وحكى قتادة أن كعب قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمّة قبلكم إلا نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له : أنت شاهد على أمتك ، وجعلكم شهداء على الناس ، وكان يقال للنبي ، ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وكان يقال للنبي : ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : ادعوني أستجب لكم .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

قوله عز وجل : { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لتستريحوا فيه من عمل النهار .
الثاني : لتكفوا فيه عن طلب الأرزاق .
الثالث : لتحاسبوا فيه أنفسكم على ما عملتم بالنهار .
{
والنهار مبصراً } فيه وجهان :
أحدهما : مبصراً لقدرة الله في خلقه .
الثاني : مبصراً لمطالب الأرزاق .
قوله عز وجل : { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : كذلك يصرف ، قاله يحيى .
الثاني : كذلك يكذب بالتوحيد ، قاله مقاتل .
الثالث : كذلك يعدل عن الحق ، قاله ابن زيد .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

قوله عز وجل : { ذلكم بما كنتم تفرحون . . } الآية . في الفرح والمرح وجهان :
أحدهما : أن الفرح : السرور والمرح : البطر ، فسرّوا بالإمهال وبطروا بالنعم
الثاني : الفرح والسرور ، قاله الضحاك ، والمرح العدوان .
روى خالد عن ثور عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى يبغض البذخين الفرحين المرحين ، ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين ، ويبغض كل حبر سمين » فأما أهل بيت لحمين فهم الذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة ، وأما الحبر السمين فالمتحبر بعلمه ولا يخبر به الناس ، يعني المستكثر من علمه ولا ينفع به الناس .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

قوله عز وجل : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العِلمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بقولهم نحن أعلم منهم لن نبعث لن نعذب ، قاله مجاهد .
الثاني : بما كان عندهم أنه علم وهو جهل ، قاله السدي .
الثالث : فرحت الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : رضوا بعلمهم واستهزأوا برسلهم ، قاله ابن زيد .
{
وحاق بهم } فيه وجهان :
أحدهما : أحاط بهم ، قاله الكلبي .
الثاني : عاد عليهم .
{
ما كانوا به يستهزئون } فيه وجهان :
أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم أنه ساحر .
الثاني : بالقرآن أنه شِعْر .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)

قوله عز وجل : { حم } قد مضى تأويله .
{
تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه على التقديم والتأخير فيكون تقديره حم تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم .
الثاني : أن يكون فيه مضمر محذوف تقديره تنزيل القرآن من الرحمن الرحيم .
ثم وصفه فقال { كتابٌ فصلت آياتُه } وفي تفصيل آياته خمسة تأويلات :
أحدها : فسّرت ، قاله مجاهد .
الثاني : فصلت بالوعد والوعيد ، قاله الحسن .
الثالث : فصلت بالثواب والعقاب ، قاله سفيان .
الرابع : فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته ، قاله قتادة .
الخامس : فصلت من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكم فيما بينه وبين من خالفه ، قال عبد الرحمن بن زيد .
{
قرآناً عربياً لقوم يعلمون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعلمون انه إله واحد في التوراة والإنجيل ، قاله مجاهد .
الثاني : أن القرآن من عند الله نزل ، قاله الضحاك .
الثالث : يعلمون العربية فيعجزون عن مثله .
قوله عز وجل : { وقالوا قلوبنا في أكنّة ما تدعونا إليه } فيه وجهان :
أحدهما : أغطية ، قاله السدي .
الثاني : كالجعبة للنبل ، قاله مجاهد .
{
وفي آذاننا وقر } أي صمم وهما في اللغة يفترقان فالوقر ثقل السمع والصمم ذهاب جميعه .
{
ومن بيننا وبينك حجاب } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ستراً مانعاً عن الإجابة ، قاله ابن زياد .
الثاني : فرقة في الأديان ، قاله الفراء .
الثالث : أنه تمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة ، قاله ابن عيسى .
الرابع : أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال : يا محمد بيننا وبينك حجاب ، استهزاء منه ، حكاه النقاش .
{
فاعمل إننا عامِلون } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : فاعمل بما تَعْلَم من دينك فإنا نعمل بما نعلم من ديننا ، قاله الفراء .
الثاني : فاعمل في هلاكنا فإنَّا نعمل في هلاكك ، قاله الكلبي .
الثالث : فاعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها ، قاله مقاتل .
ويحتمل رابعاً : فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

قوله عز وجل : { وويل للمشركين . الذين لا يؤتون الزكاة } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء ، وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره ، مع وجوب الزكاة عليه ، أكثر مما يعذب من لم تكن الزكاة واجبة عليه ، قاله ابن عيسى .
الثاني : معناه انهم لا يزكون أعمالهم ، قاله ابن عمر .
الثالث : معناه لا يأتون به أزكياء ، قاله الحسن .
الرابع : معناه لا يؤمنون بالزكاة ، قاله قتادة .
الخامس : معناه ليس هم من أهل الزكاة ، قاله معاوية بن قرة .
قوله تعالى : { لهم أجْرٌ غير ممنون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثاني : غير منقوص ، قاله ابن عباس وقطرب ، وأنشد قول زهير :
فَضْل الجياد على الخيل البطاء فما ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا
الثالث : غير مقطوع ، قاله ابن عيسى ، مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته ، قال ذو الأصبع العدواني :
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون
الرابع : غير ممنون عليهم به ، قاله السدي .
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

قوله عز وجل : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } قال ابن عباس خلقها في يومي الأحد والاثنين ، وخلقها في يومين أدل على القدرة والحكمة من خلقها دفعة واحدة في طرفة عين ، لأنه أبعد من أن يظن به الاتفاق والطبع ، وليرشد خلقه إلى الأناة في أمورهم .
{
وتجعلون له أنداداً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أشباهاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : شركاء ، قاله أبو العالية .
الثالث : كفواً من الرجال تطيعونهم في معاصي الله تعالى قاله السدي .
الرابع : هو قول الرجل لولا كلبة فلان لأتي اللصوص ، ولولا فلان لكان كذا ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
قوله عز وجل : { وجعل فيها رواسي من فوقها } اي جبالاً ، وفي تسميتها رواسي وجهان :
أحدهما : لعلوّ رءوسها .
الثاني : لأن الأرض بها راسية أو لأنها على الأرض ثابتة راسية .
{
وبارك فيها } فيه وجهان :
أحدهما : أي أنبت شجرها من غير غرس وأخرج زرعها من غيره بذر ، قال السدي .
الثاني : أودعها منافع أهلها وهو معنى قول ابن جريج .
{
وقَدَّر فيه أقواتها } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : قدر أرزاق أهلها ، قاله الحسن .
الثاني : قدر فيها مصالحها من جبهالها وبحارها وأنهارها وشجرها ودوابها قاله قتادة .
الثالث : قدر فيها أقواتها من المطر ، قاله مجاهد .
الرابع : قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد ، قاله عكرمة .
{
في أربعة أيام } يعني تتمة أربعة أيام ، ومنه قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً ، أي في تتمة خمسة عشريوماً .
وقد جاء في الحديث المرفوع أن الله عز وجل خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والخراب والعمران ، فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وآدم .
وفي خلقها شيئاً بعد شيء قولان :
أحدهما : لتعتبر به الملائكة الذين أحضروا .
والثاني : ليعتبر به العباد الذين أخبروا .
{
سواء للسائلين } فيه تأويلان :
أحدهما : سواء للسائلين عن مبلغ الأجل في خلق الله الأرض ، قاله قتادة .
الثاني : سواء للسائلين في أقواتهم وأرزقاهم .
قوله عز وجل : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } فيه وجهان :
أحدهما : عمد إلى السماء ، قاله ابن عيسى .
الثاني : استوى أمره إلى السماء ، قاله الحسن .
{
فقال لها واللأرض ائتيا طوْعاً أو كرهاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك قبل خلقها ، ويكون معنى ائتيا اي كونا فكانتا كما قال تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون } قاله ابن بحر .
الثاني : قول الجمهور أنه قال ذلك لهما بعد خلقهما .
فعلى هذا يكون في معناها أربع تأويلات :
أحدها : معناه أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما طوعاً أو كرهاً أي اختياراً أو إجباراً قاله سعيد بن جبير .

الثاني : ائتيا عبادتي ومعرفتي طوعاً أو كرهاً باختيار أو غير اختيار .
الثالث : ائتيا بما فيكما طوعاً أو كرهاً ، حكاه النقاش .
الرابع : كونا كما أمرت من شدة ولين ، وحزن وسهل ومنيع وممكن ، قاله ابن بحر .
وفي قوله { لَهَا } وجهان :
أحدهما : أنه قول تكلم به .
الثاني : أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد { قالتا أتينا طائعين } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه أعطينا الطاعة ، رواه طاووس .
الثاني : أتينا بما فينا . قال ابن عباس : أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وأتت الأرض بما فيها من الأشجار والأنهار والثمار .
الثالث : معناه كما أراد الله أن نكون ، قاله ابن بحر . وفي قولهما وجهان :
أحدهما : أنه ظهور الطاعة منهما قائم مقام قولهما .
الثاني : أنهما تكلمتا بذلك . قال أبو النصر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه .
قوله عز وجل : { فقضاهن سبع سماوات في يومين } أي خلقهن سبع سماوات في يومين ، قيل يوم الخميس والجمعة ، قال السدي : سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات وخلق الأرضين . وقالت طائفة خلق السماوات قبل الأرضين في يوم الأحد والاثنين ، وخلق الأرضين والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق ما سواهما من العالم يوم الخميس والجمعة ، وقالت طائفة ثالثة أنه خلق السماء دخاناً قبل الأرض ثم فتقها سبع سماوات بعد الأرضين والله أعلم بما فعل فقد اختلفت فيه الأقاويل وليس للاجتهاد فيه مدخل .
{
وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه أسكن في كل سماء ملائكتها ، قاله الكلبي .
الثاني : خلق في كل سماء خلقها خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها ، قاله قتادة .
الثالث : أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة ، حكاه ابن عيسى .
{
وزينا السماءَ الدنيا بمصابيح وحِفْظاً } أي جعلناها زينة وحفظاً .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

قوله عز وجل : { إذ جاءتهم الرسلُ مِن بين أيديهم ومِن خلفهم } فيه وجهان :
أحدهما : أرسل من قبلهم ومن بعدهم ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : ما بين أيديهم عذاب الدنيا ، وما خلفهم عذاب الآخرة ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشديدة البرد ، قاله عكرمة وسعيد بن جبير ، وأنشد قطرب قول الحطيئة :
المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا على الناس
استودوا أي سئلوا الدية .
الثاني : الشديدة السموم ، قاله مجاهد .
الثالث : الشديدة الصوت ، قاله السدي مأخوذ من الصرير ، وقيل إنها الدبور .
{
في أيام نحسات } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : مشئومات ، قاله مجاهد وقتادة ، كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك { سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } قال ابن عباس : ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء .
الثاني : باردات ، حكاه النقاش .
الثالث : متتابعات ، قاله ابن عباس وعطية .
الرابع : ذات غبار ، حكاه ابن عيسى ومنه قول الراجز :
قد أغتدي قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس
قوله عز وجل : { وأمّا ثمود فهديناهم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : دعوناهم ، قاله سفيان .
الثاني : بيّنا لهم سبيل الخير والشر ، قاله قتادة .
الثالث : أعلمناهم الهدى من الضلالة ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
{
فاستحبوا العَمى على الهدى } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : اختاروا العمى على البيان ، قاله أبو العالية .
الثاني : اختاروا الكفر على الإيمان .
الثالث : اختاروا المعصية على الطاعة ، قاله السدي .
{
فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } وفي الصاعقة هنا أربعة أقاويل :
أحدها : النار ، قاله السدي .
الثاني : الصيحة من السماء ، قاله مروان بن الحكم .
الثالث : الموت وكل شيء أمات ، قاله ابن جريج .
الرابع : أن كل عذاب صاعقة ، وإنما سميت صاعقة لأن كل من سمعها يصعق لهولها .
وفي { الهون } وجهان :
أحدهما : الهوان ، قاله السدي .
الثاني : العطش ، حكاه النقاش .
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

قوله عز وجل : { فهم يوزعُون } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يدفعون ، قاله ابن عباس .
الثاني : يساقون ، قاله ابن زيد .
الثالث : يمنعون من التصرف ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : يحبس أولهم على آخرهم ، قاله مجاهد ، وهو مأخوذ من وزعته أي كففته .
قوله عز وجل : { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لفروجهم ، قاله ابن زيد .
الثاني : لجلودهم أنفسها وهو الظاهر .
الثالث : أنه يراد بالجلود الأيدي والأرجل ، قاله ابن عباس وقيل إن أول ما يتكلم منه فخذه الأيسر وكفه الأيمن .
قوله عز وجل : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني وما كنتم تتقون ، قاله مجاهد .
الثاني : وما كنتم تظنون ، قاله قتادة .
الثالث : وما كنتم تستخفون منها ، قاله السدي . قال الكلبي : لأنه لا يقدر على الاستتار من نفسه .
{
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } حكى ابن مسعود أنها نزلت في ثلاثة نفر تسارّوا فقالوا أترى الله يسمع إسرارنا؟
قوله عز وجل : { وإن يستعتبوا فيما هم مِن المعتبين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه وإن يطلبوا الرضا فما هم بمرضى عنهم ، والمعتب : الذي قُبل عتابه وأُجيب إلى سؤاله ، قاله ابن عيسى .
الثاني : إن يستغيثوا فما هم من المغاثين .
الثالث : وإن يستقيلوا فما هم من المقالين .
الرابع : وإن يعتذروا فما هم من المعذورين .
الخامس : وإن يجزعوا فما هم من الآمنين .
قال ثعلب : يقال عتب إذا غضب ، وأعتب إذا رضي .
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

قوله عز وجل : { وقيضنا لهم قرناءَ } فيه قولان :
أحدهما : هيأنا لهم شياطين ، قاله النقاش .
الثاني : خلينا بينهم وبين الشياطين ، قاله ابن عيسى .
{
فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } فيه أربعة تأويلات :
أحدها ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، قاله السدي ومجاهد .
الثاني : ما بين أيديهم من أمر الآخرة فقالوا لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم اللذات ، قاله الكلبي .
الثالث : ما بين أيديهم هو فعل الفساد في زمانهم ، وما خلفهم هو ما كان قبلهم ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : ما بين أيديهم ما فعلوه ، وما خلفهم ما عزموا أن يفعلوه .
ويحتمل خامساً : ما بين أيديهم من مستقبل الطاعات أن لا يفعلوها ، وما خلفهم من سالف المعاصي أن لا يتوبوا منها .
قوله عز وجل : { وقال الذين كفروا لا تسمعُوا لهذا القرآن } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تتعرضوا لسماعه .
الثاني : لا تقبلوه .
الثالث : لا تطيعوه من قولهم السمع والطاعة .
{
والغوا فيه } وفيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني قعوا فيه وعيبوه ، قاله ابن عباس .
الثاني : جحدوه وأنكروه ، قاله قتادة .
الثالث : عادوه ، رواه سعيد بن أبي عروبة .
الرابع : الغوا فيه بالمكاء والتصدية ، والتخليط في النطق حتى يصير لغواً ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضَلاّنا من الجن والإنس } فيهما قولان :
أحدهما : دعاة الضلالة من الجن والإنس ، حكاه بن عيسى .
الثاني : أن الذي من الجن إبليس ، يدعوه كل من دخل النار من المشركين ، والذي من الإنس ابن آدم القاتل أخاه يدعوه كل عاص من الفاسقين ، قاله السدي .
وفي قوله : { أرنا اللذَين } وجهان :
أحدهما : أعطنا اللذين أضلانا .
الثاني : أبصرنا اللذين أضلانا .
{
نجعلهما تحت أقدامنا } يحتمل وجهين :
أحدهما : انتقاماً منهم .
الثاني : استذلالاً لهم .
{
ليكونا من الأسفلين } يعني في النار ، قالوا ذلك حنقاً عليهما وعداوة لها .
ويحتمل قوله { من الأسفلين } وجهين :
أحدهما : من الأذلين .
الثاني : من الأشدين عذاباً لأن من كان في أسفل النار كان أشد عذاباً .
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

قوله عز وجل : { إن الذين قالوا ربنا اللّهُ } قال ابن عباس : وحّدوا الله تعالى .
{
ثم استقاموا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده ، وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومجاهد .
الثاني : استقاموا على طاعته وأداء فرائضه ، قاله ابن عباس والحسن وقتادة .
الثالث : على إخلاص الدين والعلم إلى الموت ، قاله أبو العالية والسدي .
الرابع : ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم .
الخامس : ثم استقاموا سراً كما استقاموا جهراً .
ويحتمل سادساً : أن الاستقامة أن يجمع بين فعل الطاعات واجتناب المعاصي لأن التكليف يشتمل على أمر بطاعة تبعث على الرغبة ونهي عن معصية يدعو إلى الرهبة .
{
تتنزل عليهم الملائكة } فيه قولان :
أحدهما : تتنزل عليهم عند الموت ، قاله مجاهد وزيد بن أسلم .
الثاني : عند خروجهم من قبورهم للبعث ، قاله ثابت ومقاتل .
{
ألا تخافوا ولا تحزنوا } فيه تأويلان :
أحدهما : لا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم ، قاله عكرمة .
الثاني : لا تخافوا ولا تحزنوا على أولادكم . وهذا قول مجاهد .
{
وأبشروا بالجنة } الآية . قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن : أحدها عند الموت ، ثم في القبر ، ثم بعد البعث .
قوله عز وجل : { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فيه وجهان :
أحدهما : نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة ، قاله السدي .
الثاني : نحفظكم في الحياة الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة .
ويحتمل ثالثاً : نحن أولياؤكم في الدنيا بالهداية وفي الآخرة بالكرامة .
{
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الخلود لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا ، قاله ابن زيد .
الثاني : ما يشتهونه من النعيم ، قاله أبو أمامة .
{
ولكم فيها ما تدَّعون } فيه وجهان :
أحدهما : ما تمنون ، قاله مقاتل .
الثاني : ما تدعي أنه لك فهو لك بحكم ربك ، قاله ابن عيسى .
{
نزلاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ثواباً .
الثاني : يعني منزلة .
الثالث : يعني منّاً ، قاله الحسن .
الرابع : عطاء ، مأخوذ من نزل الضيف ووظائف الجند { من غفور رحيم }
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

قوله عز وجل : { ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } الآية . فيه قولان :
أحدهما : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن والسدي .
الثاني : أنهم المؤمنون دعوا إلى الله ، قاله قيس بن أبي حازم ومجاهد .
{
وعمل صالحاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه أداء الفرائض ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم المصلون ركعتين بين الأذان والإقامة ، قالته عائشة رضي الله عنها .
وروى هشام بن عروة عن عائشة قالت : كان بلال إذا قام يؤذن قالت اليهود قام غراب - لا قام- فنادى بالصلاة ، وإذا ركعوا في الصلاة قالوا قد جثوا - لا جثوا- فنزلت هذه الآية في بلال والمصلين .
قوله عز وجل : { ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : الحسنة الصبر والسيئة النفور .
الثالث : الحسنة الإيمان ، والسيئة الشرك ، قاله ابن عباس .
الرابع : الحسنة العفو والسيئة الانتصار ، حكاه ابن عمير .
الخامس : الحسنة الحلم والسيئة الفحش ، قاله الضحاك .
السادس : الحسنة حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيئة بغضهم ، قاله علي كرم الله وجهه .
{
ادفع بالتي هي أحسنُ } فيه وجهان :
أحدهما : ادفع بحلمك جهل من يجهل ، قاله ابن عباس .
الثاني : ادفع بالسلامة إساءة المسيء ، قاله عطاء .
ويحتمل ثالثاً : ادفع بالتغافل إساءة المذنب ، والذنب من الأدنى ، والإساءة من الأعلى .
{
فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميمٌ } قاله عكرمة : الولي الصديق ، والحميم القريب .
وقيل هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره بالصبر عليه والصفح عنه .
قوله عز وجل : { وما يلقاها إلا الذين صبروا } فيه وجهان :
أحدهما : ما يلقى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على الحلم .
الثاني : ما يلقى الجنة إلا الذين صبروا على الطاعة .
{
وما يلقاها إلا ذو حَظٍ عظيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ذو جد عظيم ، قاله السدي .
الثاني : ذو نصيب [ وافر ] من الخير ، قاله ابن عباس .
الثالث : أن الحظ العظيم الجنة . قال الحسن : والله ما عظم حظ قط دون الجنة .
ويحتمل رابعاً : أنه ذو الخلق الحسن .
قوله عز وجل : { وإما ينزغنك مِن الشيطان نزغ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه النزغ الغضب ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه الوسوسة وحديث النفس ، قاله السدي .
الثالث : أنه النجس ، قاله ابن عيسى .
الرابع : أنه الفتنة ، قاله ابن زياد .
الخامس : أنه الهمزات ، قاله ابن عباس .
{
فاستعذ بالله } أي اعتصم بالله .
{
إنه هو السميع } لاستعاذتك { العليم } بأذيتك .
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

قوله عز وجل : { ومن آياته الليل والنهار } ووجه الآيات فيهما تقديرهما على حد مستقر ، وتسييرهما على نظم مستمر ، يتغايران لحكمة ويختلفان لمصلحة .
{
والشمس والقمر } ووجه الآية فيهما ما خصهما به من نور ، وأظهره فيهما من تدبير وتقدير .
{
لا تسجُدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن } قال الزجاج : أي خلق هذه الآيات .
وفي موضع السجود من هذه الآية قولان :
أحدهما : عند قوله { إن كنتم إياه تعبدون } قاله ابن مسعود والحسن .
الثاني : عند قوله { وهم لا يسأمون } قاله ابن عباس وقتادة .
قوله عز وجل : { ومِن آياته أنك ترىلأرض خاشعةً } فيه وجهان :
أحدهما : غبراء دراسة ، قاله قتادة .
الثاني : ميتة يابسة ، قاله السدي .
ويحتمل ثالثاً : ذليلة بالجدب لأنها مهجورة ، وهي إذا أخصبت عزيزة لأنها معمورة .
{
فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فيه وجهان :
أحدهما : اهتزت بالحركة للنبات ، وربت بالارتفاع قبل أن تنبت ، قاله مجاهد .
الثاني : اهتزت بالنبات وربت بكثرة ريعها ، قاله الكلبي . فيكون على قول مجاهد تقديم وتأخير تقديره : ربت واهتزت .
{
إن الذي أحياها لمحيي الموتى } الآية ، جعل ذلك دليلاً لمنكري البعث على إحياء الخلق بعد الموت استدلالاً بالشاهد على الغائب .
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

قوله عز وجل : { إن الذين يلحدون في آياتنا } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يكذبون بآياتنا ، قاله قتادة .
الثاني : يميلون عن آياتنا ، قاله أبو مالك .
الثالث : يكفرون بنا ، قاله ابن زيد .
الرابع : يعاندون رسلنا ، قاله السدي .
الخامس : هو المكاء والتصفيق عند تلاوة القرآن ، قاله مجاهد .
{
لا يخفون علينا } وهذا وعيد .
{
أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الذي يلقى في النار أبو جهل ، والذي يأتي آمناً عمار بن ياسر ، قاله عكرمة .
الثاني : أن الذي يلقى في النار أبو جهل ، والذي يأتي آمنا يوم القيامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قاله ابن زياد .
الثالث : أن الذي يلقى في النار أبو جهل وأصحابه قال الكلبي ، والذي يأتي آمناً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
الرابع : أنهاعلى العموم فالذي يلقى في النار الكافر ، والذي يأتي آمناً يوم القيامة المؤمن ، قاله ابن بحر .
{
اعملوا ما شئتم } هذا تهديد .
{
إنه بما تعملون بصير } وعيد ، فهدد وتوعد .
قوله عز وجل : { إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } الذكر هنا القرآن في قول الجميع ، وله جواب محذوف تقديره : هالكون أو معذبون .
{
وإنه لكتابٌ عزيز } فيه وجهان :
أحدهما : عزيز من الشيطان أن يبدله ، قاله السدي .
الثاني : يمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، قاله ابن عباس .
{
لا يأتيه الباطل } في { الباطل } هنا أربعة أقاويل :
أحدها : أنه إبليس ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الشيطان ، قاله ابن جريج .
الثالث : التبديل ، قاله مجاهد .
الرابع : التعذيب ، قاله سعيد .
ويحتمل خامساً : أن الباطل التناقض والاختلاف .
{
من بين يديه ولا من خلفِه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يأتيه الباطل من كتاب قبله ، ولا يأتيه من كتاب بعده ، قاله قتادة .
الثاني : لا يأتيه الباطل من أول التنزيل ولا من آخره .
الثالث : لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ولا في إخباره عما تأخر ، قاله ابن جريج .
ويحتمل رابعاً : ما بين يديه : لفظه وما خلفه : تأويله ، فلا يأتيه الباطل في لفظ ولا تأويل :
{
تنزيل من حكيم حميد } قال قتادة : حكيم في أمره حميد إلى خلقه .
قوله عز وجل : { ما يُقالُ لك إلا ما قد قِيل للرسل من قبلك } فيه وجهان :
أحدهما : ما يقول المشركون لك إلا ما قاله من قبلهم لأنبيائهم إنه ساحر أو مجنون ، قاله قتادة .
الثاني : ما تخبر إلا بما يخبر الأنبياء قبلك ب { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي .
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

قوله عز وجل : { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالأعجمي غير المبين وإن كان عربيّاً ، قاله المفضل .
الثاني : بلسان أعجمي .
{
لقالوا لولا فصلت آياته } أي بينت آياته لنا بالعربية على الوجه الثاني ، والفصح على الوجه الأول .
{
ءاعجميٌ } فيه وجهان :
أحدهما : كيف يكون القرآن أعجمياً ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي؟ قاله سعيد بن جبير .
الثاني : كيف يكون القرآن أعجميّاً ونحن قوم عرب؟ قاله السدي . قال مجاهد أعجمي الكلام وعربي الرجل .
{
قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : هدى للأبصار وشفاء للقلوب .
الثاني : هدى من الضلال وشفاء من البيان .
{
والذين لا يؤمنون في آذنهم وقرٌ } أي صمم .
{
وهو عليهم عَمىً } أي حيرة ، وقال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه .
{
أولئك ينادون من مكان بعيد } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من مكان بعيد من قلوبهم ، قاله علي كرم الله وجهه ومجاهد .
الثاني : من السماء ، حكاه النقاش .
الثالث : ينادون بأبشع أسمائهم ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : من مكان بعيد من الإجابة .
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

قوله عز وجل : { وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } فيه وجهان :
أحدهما : علمواْ ما لهم من معدل .
الثاني : استيقنوا أن ليس لهم ملجأ من العذاب ، قاله السدي ، وقد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان لأن الخبر محتمل والعيان غير محتمل .
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

قوله عز وجل : { لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ } أي لا يمل من دعائه بالخير ، والخير هنا المال والصحة ، قاله السُدي ، والإنسان هنا يراد به الكافر .
{
وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } يعني الفقر والمرض ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : يؤوس من الخير قنوط من الرحمة .
الثاني : يؤوس من إجابة الدعاء ، قنوط بسوء الظن بربه .
قوله عز وجل : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : رخاء بعد شدة .
الثاني : غنى بعد فقر .
{
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي } فيه وجهان :
أحدهما : هذا باجتهادي .
الثاني : هذا باستحقاقي .
{
وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً } إنكاراً منه للبعث والجزاء مع ما حظ به من النعمة والرخاء ودفع عنه من الضر والبلاء .
{
وَلَئِنِ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى } الآية . إن كان كما زعمتم رجعة وجزاء فإن لي عنده آجلاً مثل ما أولانيه عاجلاً . وقيل إنها نزلت في النضر بن الحارث .
قوله عز وجل : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عن الإيمان وتباعد من الواجب .
الثاني : أعرض عن الشكر وبعد من الرشد .
الثالث : أعرض عن الطاعة وبعد من القبول .
{
وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } فيه وجهان :
أحدهما : تام لخلوص الرغبة فيه .
الثاني : كثير لدوام المواصلة له ، وهو معنى قول السدي ، وإنما وصف التام والكثير بالعريض دون الطويل لأن العرض يجمع طولاً وعرضاً فكان أعم ، قال ابن عباس : الكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

قوله عز وجل : { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن في الآفاق فتح أقطار الأرض ، وفي أنفسهم فتح مكة ، قاله السدي .
الثاني : في الآفاق ما أخبر به من حوادث الأمم ، وفي أنفسهم ما أنذرتهم به من الوعيد .
الثالث : أنها في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض .
الرابع : أنها في الآفاق إمساك القطر عن الأرض كلها وفي أنفسهم البلاء الذي يكون في أجسادهم ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنها في الآفاق انشقاق القمر ، وفي أنفسهم كيف خلقناهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، وكيف إدخال الطعام والشراب من موضع واحدٍ وإخراجه من موضعين آخرين ، قاله الضحاك .
{
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فيه وجهان :
أحدهما : يتبين لهم أن القرآن حق .
الثاني : أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إليه حق .
{
أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } يعني أولم يكفك من ربك .
{
أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : عليم .
الثاني : حفيظ .
قوله عز وجل : { أَلآ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ } قال السُّدي في شكٍ من البعث .
{
أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أحاط علمه بكل شيء ، قاله السدي .
الثاني : أحاطت قدرته بكل شيء ، قاله الكلبي .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)

قوله عز وجل : { حم عسق } فيه سبعة تأويلات .
أحدها : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : أنه اسم من أسماء الله أقسم به ، قاله ابن عباس .
الثالث : فواتح السور ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا ، قاله عبد الله بن بريدة .
الخامس : أنها حروف مقطعة من أسماء الله فالحاء والميم من الرحمن والعين من العليم ، والسين من القدوس ، والقاف من القاهر ، قاله محمد بن كعب . السادس : أنها حروف مقطعة من حوادث آتية ، فالحاء من حرب والميم من تحويل ملك ، والعين من عدو مقهور ، والسين من استئصال سنين كسني يوسف ، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض ، قاله عطاء .
السابع : ما حُكي عن حذيفة بن اليمان أنها نزلت في رجلٍ يقال له عبد الإله كان في مدينة على نهر بالمشرق خسف الله بها ، فذلك قوله حم يعني عزيمة من الله تعالى ، عين يعني عدلاً منه : سين يعني سكون ، قاف يعني واقعاً بهم .
وكان ابن عباس يقرؤها : { حم سق } بغير عين ، وهي في مصحف ابن مسعود كذلك حكاه الطبري .
قوله عز وجل : { تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يتشققن فَرَقاً من عظمة الله ، قاله الضحاك والسُّدي ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
ليت السماء تفطرت أكنافها ... وتناثرت منها نجوم
الثاني : من علم الله ، قاله قتادة .
الثالث : ممن فوقهن ، قاله ابن عباس .
الرابع : لنزول العذاب منهن .
{
وَالْمَلآئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بأمر ربهم ، قاله السدي .
الثاني : بشكر ربهم .
وفي تسبيحهم قولان :
أحدهما : تعجباً مما يرون من تعرضهم لسخط الله ، قاله علي رضي الله عنه .
الثاني : خضوعاً لما يرون من عظمة الله ، قاله ابن عباس .
{
وَيَسْتَغْفِرُونَ لَمَن فِي الأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : لمن في الأرض من المؤمنين ، قاله الضحاك والسدي .
الثاني : للحسين بن علي رضي الله عنهما ، رواه الأصبغ بن نباتة عن علي كرم الله وجهه .
وسبب استغفارهم لمن في الأرض ما حكاه الكلبي أن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم ، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس وهو جد أبي نوح عليه السلام ، وسألاه أن يدعو لهما سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم .
وفي استغفارهم قولان :
أحدهما : من الذنوب والخطايا . وهو ظاهر قول مقاتل .
الثاني : أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم ، قاله الكلبي .
وفي هؤلاء الملائكة قولان :
أحدهما : أنهم جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي .
الثاني : أنهم حملة العرش . قال مقاتل وقد بين الله ذلك من حم المؤمن فقال { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ } وقال مطرف : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين .
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)

قوله عز وجل : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال الضحاك أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى .
{
وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فَِي رَحْمَتِهِ } قال أنس بن مالك : في الإسلام .
{
وَالْظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ } يمنع { وَلاَ نَصِيرٍ } يدفع .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

قوله عز وجل : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } يعني ذكوراً وإناثاً .
{
وَمِنَ الأَنْعَامِ أزْوَاجاً } يعني ذكوراً وإناثاً .
{
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } وفيه ستة تأويلات :
أحدها : يخلقكم فيه ، قاله السدي .
الثاني : يكثر نسلكم فيه ، قاله الفراء .
الثالث : يعيشكم فيه ، قاله قتادة .
الرابع : يرزقكم فيه ، قاله ابن زيد .
الخامس : يبسطكم فيه ، قاله قطرب .
السادس : نسلاً من بعد نسل من الناس والأنعام ، قاله مجاهد .
{
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فيه وجهان :
أحدهما : ليس كمثل الرجل والمرأة شيء ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
الثاني : ليس كمثل الله شيء وفيه وجهان :
أحدهما : ليس مثله شيء والكاف زائدة للتوكيد ، قال الشاعر :
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد
الثاني : ليس شيء ، والمثل زائد للتوكيد ، قاله ثعلب .
قوله عز وجل : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : خزائن السموات والأرض ، قاله السدي .
الثاني : مفاتيح السموات والأرض ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك .
ثم فيهما قولان :
أحدهما : أنه المفاتيح بالفارسية ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه عربي جمع واحده إقليد ، قاله ابن عيسى .
وفيما هو مفاتيح السموات والأرض خمسة أقاويل :
أحدها : أن مفاتيح السماء المطر ومفاتيح الأرض النبات .
الثاني : أنها مفاتيح الخير والشر .
الثالث : أن مقاليد السماء الغيوب ، ومقاليد الأرض الآفات .
الرابع : أن مقاليد السماء حدوث المشيئة ، ومقاليد الأرض ظهور القدرة .
الخامس : أنها قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير ، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله وعلمه لعثمان بن عفان وقد سأله عن مقاليد السماء والأرض .
{
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } فيه وجهان :
أحدهما : يوسع ويضيق .
الثاني : يسهل ويعسر .
{
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } من البسط والقدرة .

==================

ج12. كتاب : النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي



شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

قوله عز وجل : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } وفي { شَرَعَ لَكُم } أربعة أوجه :
أحدها : سن لكم .
الثاني : بيَّن لكم .
الثالث : اختار لكم ، قاله الكلبي .
الرابع : أوجب عليكم .
{
مِنَ الدِّينِ } يعني الدين ومن زائدة في الكلام .
وفي { مَا وَصَّى بِهِ نوحاً } وجهان :
أحدهما : تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، لأنه أول نبي أتى أمته بتحريم . ذلك ، قاله الحكم .
الثاني : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، قاله قتادة .
{
وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ } فيه وجهان :
أحدهما : اعملوا به ، قاله السدي .
الثاني : ادعوا إليه . قال مجاهد : دين الله في طاعته وتوحيده واحد .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : جاهدوا عليه من عانده .
{
وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وفيه وجهان :
أحدهما : لا تتعادوا عليه ، وكونوا عليه إخواناً ، قاله أبو العالية .
الثانية : لا تختلفوا فيه فإن كل نبي مصدق لمن قبله ، قاله مقاتل .
{
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } قاله قتادة : من شهادة أن لا إله إلا الله .
ويحتمل أن يكون من الاعتراف بنبوته ، لأنه عليهم أشد وهم منه أنفر .
{
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يجتبي إليه من يشاء هو من يولد على الإسلام .
{
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } هو من يسلم من الشرك ، قاله الكلبي .
الثاني : يستخلص إليه من يشاء . قاله مجاهد ويهدي إليه من يقبل على طاعته ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { وَمَا تَفَرَّقُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : عن محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : في القرآن .
{
إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلا من بعد ما تبحروا في العلم ، قاله الأعمش .
الثاني : إلا من بعد ما علمواْ أن الفرقة ضلال ، قاله ابن زياد .
الثالث : إلا من بعد ما جاءهم القرآن ، وسماه علماً لأنه يتعلم منه .
{
بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لابتغاء الدنيا وطلب ملكها ، قاله أُبي بن كعب .
الثاني : لبغي بعضهم على بعض ، قاله سعيد بن جبير .
{
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِكَّ } فيه وجهان :
أحدهما : في رحمته للناس على ظلمهم .
الثاني : في تأخير عذابهم ، قال قتادة .
{
إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى قيام الساعة لأن الله تعالى يقول : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم } الآية .
ويحتمل إلى الأجل الذي قُضِيَ فيه بعذابهم .
{
لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعجل هلاكهم .
{
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود والنصارى ، قاله السدي .
الثاني : أنهم نبئوا من بعد الأنبياء ، قاله الربيع .
{
لفِي شَكٍ مِّنْهُ مُريبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لفي شك من القرآن ، قاله الربيع .
الثاني : لفي شك من الإخلاص ، قاله أبو العالية .
الثالث : لفي شك من صدق الرسول ، قاله السدي .


فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

قوله عز وجل : { فَلِذَالِكَ فَادْعُ } معناه فإلى ذلك فادع ، وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : القرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : التوحيد ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { فَادْعُ } وجهان :
أحدهما : فاعتمد .
الثاني : فاستدع .
{
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : واستقم على أمر الله ، قاله قتادة .
الثاني : على القرآن ، قاله سفيان .
الثالث : فاستقم على تبليغ الرسالة ، قاله الضحاك .
وفي قوله : { . . . وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم } وجهان :
أحدهما : في الأحكام .
الثاني : في التبليغ .
وفي قوله : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ثلاثة أوجه :
أحدها : لا خصومة بيننا وبينكم ، قاله مجاهد ، قال السدي : وهذه قبل السيف ، وقبل أن يؤمر بالجزية .
الثاني : معناه فإنكم بإظهار العداوة قد عدلتم عن طلب الحجة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه إنا قد أعذرنا بإقامة الحجة عليكم فلا حجة بيننا وبينكم نحتاج إلى إقامتها عليكم .
وقيل إن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وشيبة بن ربيعة وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .


وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : في توحيد الله عز وجل .
الثاني : أنهم اليهود قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم ، قاله قتادة .
{
مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من بعد ما أجابه الله إلى إظهاره من المعجزات .
الثاني : من بعد ما أجاب الله الرسول من المحاجة .
الثالث : من بعد ما استجاب المسلمون لربهم وآمنوا بكتابه ورسوله ، قاله ابن زيد .
{
حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : باطلة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : خاسرة ، قاله ابن زيد .
قوله عز وجل : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } فيه وجهان : أحدهما : بالمعجز الدال على صحته .
الثاني : بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل .
{
وَالْمِيزَانَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب .
الثاني : أنه العدل فيما أمر به ونهى عنه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الميزان الذي يوزن به ، أنزله الله من السماء وعلم عباده الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس ، قال قتادة : الميزان العدل . { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } فلم يخبره بها ، ولم يؤنث قريب لأن الساعة تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت .


اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى يعطي على نية الآخرة من شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : معناه من عمل للآخرة أعطاه الله بالحسنة عشر أمثالها ، ومن عمل للدنيا لم يزد على من عمل لها . { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةَ مِن نَّصِيبٍ } في الجنة وهذا معنى قول ابن زيد وشبه العامل الطالب بالزارع لاجتماعهما في طلب النفع .


ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

قوله عز وجل : { قُل لاَّ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه ألا تؤذوني في نفسي لقرابتي منكم ، وهذا لقريش خاصة لأنه لم يكن بطن من قريش إلا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك .
الثاني : معناه إلا أن تؤدوا قرابتي ، وهذا قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي . وروى مقسم عن ابن عباس قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيئاً فخطب فقال للأنصار « أَلَمْ تَكُونُواْ أَذِلاَّءَ فَأعِزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداَكُمْ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خأَئِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلاَ تَردُواْ عَلَيَّ » فقالواْ : بم نجيبك؟ فقال تَقُولُونَ : « أَلَمْ يَطْرُدْكَ قَوْمُكَ فَآوَيَنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبْكَ قَومَكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ » فعد عليهم ، قال : فجثوا على ركبهم وقالواْ : أنفسنا وأموالنا لك « . فنزلت { قُل لاَّ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } .
الثالث : معناه إلا أن توادوني وتؤازروني كما توادون وتؤازرون قرابتكم ، قاله ابن زيد .
الرابع : معناه إلا أن تتوددوا وتتقربوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح ، قاله الحسن ، وقتادة .
الخامس : معناه إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم ، قاله عبد الله بن القاسم .
{
وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنةً } أي يكتسب ، وأصل القرف الكسب .
{
نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي نضاعف له بالحسنة عشراً .
{
إِنَّ اللَّه غَفُورٌ شَكُورٌ } فيه وجهان :
أحدهما : غفور للذنوب ، شكور للحسنات ، قاله قتادة .
الثاني : غفور لذنوب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شكور لحسناتهم ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي ينسيك ما قد آتاك من القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : معناه يربط على قلبك فلا يصل إليه الأذى بقولهم افترى على الله كذباً ، قاله مقاتل .
الثالث : معناه لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع الله على قلبك ، قاله ابن عيسى .
{
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ينصر دينه بوعده .
الثاني : يصدق رسوله بوحيه .


وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُواْ } والقنوط الإياس ، قاله قتادة .
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : جدبت الأرض وقنط الناس فقال : مطروا إذن . والغيث ما كان نافعاً في وقته ، والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته .
{
ويَنشُرُ رَحْمَتَهُ } بالغيث فيما يعم ويخص .
{
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } فيه وجهان :
أحدهما : الولي المالك ، والحميد مستحق الحمد .
الثاني : الولي المنعم والحميد المستحمد .


وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه الحدود على المعاصي ، قاله الحسن .
الثاني : أنها البلوى في النفوس والأموال عقوبة على المعاصي والذنوب .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُوْدٍ وَلاَ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إِلاَّ بِذَنبٍ وَمَا يَعْفُو عَنهُ أَكْثَرَ » وقال ثابت البناني . كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا .
ثم فيها قولان :
أحدهما : أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم؛ وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم .
الثاني : عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم وللأطفال في غيرهم من والدٍ أو والدة ، قاله العلاء بن زيد .
{
وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : عن كثير من المعاصي أن لا يكون عليها حدود ، وهو مقتضى قول الحسن .
الثاني : عن كثير من العصاة وأن لا يعجل عليهم بالعقوبة .
قال علي رضي الله عنه : ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة .


وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

قوله عز وجل : { وَمِن ءَايَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } قال مجاهد هي السفن في البحر { كَالأَعْلاَمِ } أي كالجبال ، ومنه قول الخنساء :
وإنَّ صَخْراً لتأتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأنَّه علمٌ في رأسِه نار
{
إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } أي وقوفاً على ظهر الماء ، قال قتادة : لأن سفن هذا البحر تجري بالريح . فإذا أمسكت عنها ركدت .
{
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبار على البلوى ، شكور على النعماء .
قال قطرب : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعْطِي شكر ، وإذا ابتُلِيَ صبر .
قال عون بن عبد الله : فكم من منعم عليه غير شاكر ، وكم من مبتلٍ غير صابر .
{
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ } معناه يغرقهن بذنوب أهلها .
{
ويَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من أهلها فلا يغرقهم معها .
{
مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من فرار ومهرب ، قاله قطرب .
الثاني : ملجأ ، قاله السُدي مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا مال به ، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه .


فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } قال عبد الرحمن بن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم قبل الهجرة اثني عشر نقيباً منهم .
{
وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه المحافظة على مواقيتها ، قاله قتادة .
الثاني : إتمامها بشروطها ، قاله سعيد بن جبير .
{
وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } فيه أربع أوجه :
أحدها : أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به ، قاله النقاش .
الثاني : يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم . قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .
الثالث : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض .
{
وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يريد به أداء الزكاة من أموالهم ، قاله السدي .
الثاني : إنفاق الحلال من أكسابهم ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُم يَنتَصِرُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أصابهم يعني المشركين على دينهم انتصروا بالسيف منهم . قاله ابن جريج .
الثاني : أصابهم يعني باغ عليهم كره لهم أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا ، قاله إبراهيم .
الثالث : إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزايلوه عنهم ويدفعوه عنهم ، قاله ابن بحر .


وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

قوله عز وجل : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فيه قولان :
أحدهما : أنه محمول على الجراح التي تتمثل في القصاص دون غيرها من سب أو شتم ، قاله الشافعي ، وأبو حنيفة ، وسفيان .
الثاني : أنه محمول على مقابلة الجراح ، وإذا قال أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله ، ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب ، قاله ابن أبي نجيح والسدي . وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها وأنها عند المعاقب بها سواء .
{
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فأذن في الجزاء وندب إلى العفو .
وفي قوله : { وأَصْلَحَ } وجهان :
أحدهما : أصلح العمل ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أصلح بينه وبين أخيه ، قاله ابن زياد ، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصرّ . روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ . مَن كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ مَن ذَا الَّذي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُونَ العَافُونَ عَنِ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ » .
{
إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : الظالمين في الابتداء ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : المعتدي في الجزاء ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي استوفى حقه بنفسه .
{
فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } وهذا ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي فلا حرج عليه فيه إذا استوفاه من غير عدوان ، وثبت حقه عند الحكام ، لكن يزجره الإمام في تفرده بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدماء ، وإن كان حقه غير ثابت عند الحكام فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ .
والقسم الثاني : أن يكون حداً لله لا حق فيه لآدمي كحد الزني وقطع السرقة . فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه ، وإن ثبت عند حاكم نظر فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه ، ولم يجب عليه في ذلك حق إلا التعزير أدباً ، وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه به مع بقاء محله وكان مأخوذاً بحكمه .
القسم الثالث : أن يكون حقاً في مال فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان من هو عليه عالماً به ، وإن كان غير عالم نظر ، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه ، وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه مع عدم بينة تشهد به ففي جواز الاستسرار بأخذه مذهبان :
أحدهما : جوازه ، وهو قول مالك ، والشافعي .
الثاني : المنع ، قاله أبو حنيفة .
قوله عز وجل : { إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } فيه قولان :
أحدهما : يظلمون الناس بعدوانهم عليهم وهو قول كثير منهم .

الثاني : يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم ، قاله ابن جريج .
{
وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بغيهم في النفوس والأموال ، وهو قول الأكثرين .
الثاني : عملهم بالمعاصي ، قاله مقاتل .
الثالث : هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً ، قاله أبو مالك .
قوله عز وجل : { وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : صبر على الأذى وغفر للمؤذي .
الثاني : صبر عن المعاصي وستر المساوىء .
ويحتمل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } وجهين :
أحدهما : لمن عزائم الله التي أمر بها .
الثاني : لمن عزائم الصواب التي وفق لها .
وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك ، وهي المدنيات من هذه السورة .


وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

قوله عز وجل : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضَونَ عَلَيهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم المشركون جميعاً يعرضون على جهنم عند إطلاقهم إليها ، قاله الأكثرون .
الثاني : آل فرعون خصوصاً تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح ، فهم عرضهم ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنهم عامة المشركين ويعرضون على العذاب في قبورهم ، وهذا معنى قول أبي الحجاج .
{
خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ } قال السدي : خاضعين من الذل .
{
يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ينظرون بأبصار قلوبهم دون عيونهم لأنهم يحشرون عمياً ، قاله أبو سليمان .
الثاني : يسارقون النظر إلى النار حذراً ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : بطرفٍ ذليل ، قاله ابن عباس .


اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)

قوله عز وجل : { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإِ يَوْمَئِذٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من منج .
الثاني : من حرز ، قاله مجاهد .
{
وَمَا لَكُم مِّن نِّكيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر ينصركم ، قاله مجاهد .
الثاني : من منكر يغير ما حل بكم ، حكاه ابن أبي حاتم وقاله الكلبي .
قوله عز وجل : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحخَ بِهَا } فيها وجهان :
أحدهما : أن الرحمة المطر ، قاله مقاتل .
الثاني : العافية ، قاله الكلبي .
{
وَإِن تُصِبْهُمْ سِّيئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه السنة القحط ، قاله مقاتل .
الثاني : المرض ، قاله الكلبي .
{
فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالنعمة .
الثاني : بالله .


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

قوله عز وجل : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ } قال عبيدة : يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور فيهن ، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث فيهم . وأدخل الألف على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف .
{
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } فيه وجهان :
أحدهما : هو أن تلد غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية ، قاله مجاهد .
الثاني : هو أن تلد توأمين غلاماً وجارية ، قاله محمد بن الحنفية ، والتزويج هنا الجمع بين البنين والبنات . قال ابن قتيبة : تقول العرب زوجني إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار .
{
وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } أي لا يولد له . يقال عقم فرجه عن الولادة أي منع .
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصاً وإن عم حكمها ، فوهب للوط البنات ليس فيهن ذكر ، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث ، وجعل عيسى ويحيى عقيمين .


وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } الآية . سبب نزولها ما حكاه النقاش أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فنزلت هذه الآية .
وفي قوله : { وَحْياً } وجهان :
أحدهما : أنه نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً ، قاله مجاهد .
الثاني : رؤيا يراها في منامه ، قاله زهير بن محمد .
{
أَوْ مِن وَرَآءِي حِجَابٍ } قال زهير : كما كلم موسى .
{
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } قال زهير : هو جبريل .
{
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً . وهكذا كانت حال جبريل إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عباس : نزل جبريل على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا صلوات الله عليهم أجمعين ، فأما غيرهم فكان وحياً إلهاماً في المنام .
قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : رحمة من عندنا ، قاله قتادة .
الثاني : وحياً من أمرنا ، قاله السدي .
الثالث : قرآناً من أمرنا ، قاله الضحاك .
{
مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } فيه وجهان :
أحدهما : ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة ، ولا الإيمان لولا البلوغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك وهو محتمل .
وفي هذا الإيمان وجهان :
أحدهما : أنه الإيمان بالله ، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته .
الثاني : أنه دين الإٍسلام ، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة .
{
وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً . . . } فيه قولان :
أحدهما : جعلنا القرآن نوراً ، قاله السدي .
الثاني : جعلنا الإيمان نوراً . حكاه النقاش وقاله الضحاك .
{
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فيه قولان :
أحدهما : معناه : وإنك لتدعو إلى دين مستقيم ، قاله قتادة .
الثاني : إلى كتاب مستقيم ، قاله علي رضي الله عنه .
وقرأ عاصم الجحدري : وإنك لتُهدى ، بضم التاء أي لتُدْعَى .
قوله عز وجل : { صِرَاطِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن صراط الله هو القرآن ، قاله علي كرم الله وجهه .
الثاني : الإٍسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم .
{
أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه وعيد بالبعث .
الثاني : أنه وعيد بالجزاء ، والله أعلم .


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله عز وجل : { حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } الكتاب هو القرآن : وفي تسميته مبيناً ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنه بيِّن الحروف ، قاله أبو معاذ .
الثاني : لأنه بين الهدى والرشد والبركة ، قاله قتادة .
الثالث : لأن الله تعالى قد بين فيه أحكامه وحلاله وحرامه ، قاله مقاتل .
وفي هذا موضع القسم ، وفيه وجهان :
أحدهما : معناه ورب الكتاب .
الثاني : أنه القسم بالكتاب ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء ، وإن لم يكن ذلك لغيره من خلقه .
وجواب القسم { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَرَبِيّاً } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إنا أنزلناه عربياً ، قاله السدي .
الثاني : إنا قلناه قرآناً عربياً ، قاله مجاهد .
الثالث : إنا بيناه قرآناً عربياً ، قاله سفيان الثوري . ومعنى العربي أنه بلسان عربي ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه جعل عربياً لأن لسان أهل السماء عربي ، قاله مقاتل .
الثاني : لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه ، قاله سفيان الثوري .
{
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تفهمون ، فعلى هذا يكون هذا القول خاصاً بالعرب دون العجم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يتفكرون قاله ابن زيد ، فعلى هذا يكون خطاباً عاماً للعرب والعجم .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ فِي أَمِّ الْكِتَابِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : جملة الكتاب .
الثاني : أصل الكتاب ، قاله ابن سيرين .
الثالث : أنها الحكمةالتي نبه الله عليها جميع خلقه ، قاله ابن بحر .
وفي { الْكِتَابِ } قولان :
أحدهما أنه اللوح المحفوظ؛ قاله مجاهد .
الثاني : أنه ذكر عند الله فيه ما سيكون من أفعال العباد مقابل يوم القيامة بما ترفعه الحفظة من أعمالهم ، قاله ابن جريج .
وفي المكنى عنه أنه في أمِّ الكتاب قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه ما يكون من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان أو كفر ، قاله ابن جريج .
{
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : رفيع عن أن ينال فيبدل . حكيم أي محفوظ من نقص أو تغيير ، وهذا تأويل من قال أنه ما يكون من الطاعات والمعاصي .
الثاني : أنه علي في نسخه ما تقدم من الكتب ، وحكيم أي محكم الحكم فلا ينسخ ، وهذا تأويل من قال أنه القرآن .
قوله عز وجل : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أفحسبتم أن نصفح ولما تفعلون ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس .
الثاني : معناه أنكم تكذبون بالقرآن ولا نعاقبكم فيه ، قاله مجاهد .
الثالث : أي نهملكم فلا نعرفكم بما يجب عليكم ، حكاه النقاش .
الرابع : أن نقطع تذكيركم بالقرآن : وإن كذبتم به : قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أن نوعد ولا نؤاخذ ، ونقول فلا نفعل .
{
قَوْماً مُّسْرِفِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : مشركين ، قاله قتادة .
الثاني : مسرفين في الرد .
ومعن صفحاً أي إعراضاً ، يقال صفحت عن فلان أي أعرضت عنه . قال ابن قتيبة : والأصل فيه إنك توليه صفحة عنقك . قال كثير في صفة امرأة :
صفحٌ فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن قَلّ منها ذلك الوصل قلّت
أي تعرض عنه بوجهها .
قوله عز وجل : { وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سنة الأولين ، قاله مجاهد .
الثاني : عقوبة الأولين ، قاله قتادة .
الثالث : عِبرة الأولين ، قاله السدي .
الرابع : خبر الأولين أنهم أهلكوا بالتكذيب ، حكاه النقاش .


وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

قوله عز وجل : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } أي فراشاً .
{
وجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً .
ويحتمل ثانياً : أي معايش .
{
لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تهتدون في أسفاركم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : تعرفون نعمة الله عليكم ، قاله سعيد بن جبير .
ويحتمل ثالثاً : تهتدون إلى معايشكم .
قوله عز وجل : { وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الأصناف كلها ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن الأزواج الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والسموات والأرض ، والشمس والقمر ، والجنة والنار ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أن الأزواج ما يتقلب فيه الناس من خيرٍ وشر ، وإيمان وكفر ، وغنى وفقر ، وصحة وسقم .
{
وَجَعَلَ لَكُم مِّن الْفُلْكِ } يعني السفن .
{
والأنعام ما تركبون } في الأنعام هنا قولان :
أحدهما : الإبل والبقر ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : الإبل وحدها : قاله معاذ . فذكرهم نعمه عليهم في تسييرهم في البر والبحر .
ثم قال { لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهَا } وأضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس فصار الواحد في معنى الجمع .
{
ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } أي ركبتم .
{
وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } أي ذلل لنا هذا المركب .
{
وَمَا كَنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضابطين ، قاله الأخفش .
الثاني : مماثلين في الأيد والقوة ، قاله قتادة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة .
الثالث : مطيقين ، قاله ابن عباس والكلبي ، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب .
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وفي أصله قولان :
أحدهما : أن أصله مأخوذ من الإقران ، يقال أقرن فلان إذا أطاق . الثاني : أن أصله مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير .
وحكى سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر ، فكانوا إذا ركبوا قالوا : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي لا تتحرك هزالاً فقال أما أنا فإني لهذه مقرن ، قال فقصمت به فدقت عنقه .


وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عدلاً أي مثلاً ، قاله قتادة .
الثاني : من الملائكة ولداً ، قاله مجاهد .
الثالث : نصيباً ، قاله قطرب .
الرابع : أنه البنات ، والجزء عند أهل العربية البنات . يقال قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات . قال الشاعر :
إن أجزأت مرة قوماً فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكارُ أحيانا
{
إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } قال الحسن : يعد المصائب وينسى النعم .
قوله عز وجل : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً } أي بما جعل للرحمن البنات ولنفسه البنين .
{
ظَلَّ وَجْههُه مُسْوَداً } يحتمل وجهين :
أحدهما : ببطلان مثله الذي ضربه .
الثاني : بما بشر به من الأنثى .
{
وَهُوَ كَظِيمٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : حزين ، قاله قتادة .
الثاني : مكروب ، قاله عكرمة .
الثالث : ساكت ، حكاه ابن أبي حاتم . وذلك لفساد مثله وبطلان حجته .
قوله عز وجل : { أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ } النشوء التربية ، والحلية الزينة . وفي المراد بها ثلاثة أوجه :
أحدها : الجواري ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : البنات . قاله ابن قتيبة .
الثالث : الأَصنام ، قاله ابن زيد .
وفي { الْخِصَامِ } وجهان :
أحدهما : في الحجة .
الثاني : في الجدل .
{
غَيْرُ مُبِينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عني قلة البلاغة ، قاله السدي .
الثاني : ضعف الحجة ، قال قتادة : ما حاجت امرأة إلا أوشكت أن تتكلم بغير حجتها .
الثالث : السكوت عن الجواب ، قاله الضحاك وابن زيد ومن زعم أنها الأصنام .
قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ الْمَلآئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً } في قوله { عِبَادُ الرَّحْمَنِ } وجهان :
أحدهما : أنه سماهم عباده على وجه التكريم كما قال { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الِّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } .
الثاني : أنه جمع عابد .
وفي قوله : { إِنَاثاً } وجهان :
أحدهما : أي بنات الرحمن .
الثاني : ناقصون نقص البنات .
{
أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مشاهدتم وقت خلقهم .
الثاني : مشاهدتهم بعد خلقهم حتى علموا أنهم إناث .
{
سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } أي ستكتب شهادتهم إن شهدوا ويسألون عنها إذا بعثوا .


أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

قوله عز وجل : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : على دين ، قاله قتادة وعطية ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
كنا على أمة آبائنا ... قد يقتدي الآخر بالأول
الثاني : على ملة وهو قريب من معنى الأول ، قاله مجاهد وقطرب وفي بعض المصاحف . { قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ } .
الثالث : على قبلة ، حُكي ذلك عن الفراء .
الرابع : على استقامة ، قاله الأخفش ، وأنشد النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثَمَن ذو أمة وهو طائع
الخامس : على طريقة ، قاله عمر بن عبد العزيز ، وكان يقرأ { عَلَى أُمَّةٍ } بكسر الألف والأمة الطريقة من قولهم أممت القوم . حكاه الفراء .
{
وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } قال قتادة متبعون . وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ابني ربيعة من قريش .


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ } البراء مصدر موضع الوصف ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، فكأنه قال إنني بريء .
{
مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } وهذا استثناء منقطع وتقديره ، لكن الذي فطرني أي خلقني :
{
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } وقيل فيه محذوف تقديره إلا الذي فطرني لا أبرأ منه { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } قال ذلك ثقة بالله وتنبيهاً لقومه أن الهداية من ربه .
قوله عز وجل : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيةً فِي عَقِبِهِ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا إله إلا الله ، لم يزل في ذريته من يقولها ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : ألا تعبدوا إلا الله ، قاله الضحاك .
الثالث : الإسلام ، لقوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } قاله عكرمة . وفي { عَقِبِهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : ولده ، قاله عكرمة .
الثاني : في آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثالث : من خلفه ، قاله ابن عباس .
{
لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يرجعون إلى الحق ، قاله إبراهيم .
الثاني : يتوبون ، قاله ابن عباس .
الثالث : يذكرون ، قاله قتادة .
الرابع : يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ } أما القريتان فإحداهما مكة والأخرى الطائف .
وأما عظيم مكة ففيه قولان : أحدهما : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : عتبة بن ربيعة ، قاله مجاهد .
وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه حبيب بن عمر الثقفي ، قاله ابن عباس .
الثاني : [ عمير ] بن عبد ياليل ، [ الثقفي ] قاله مجاهد .
الثالث : عروة بن مسعود ، قاله قتادة .
الرابع : أنه كنانة [ عبد ] بن عمرو ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } يعني النبوة فيضعوها حيث شاءوا .
{
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنَْيَا } يعني أرزاقهم ، قال قتادة : فتلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له ، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه .
{
وَرَفَعَنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : بالفضائل ، فمنهم فاضل ومنهم مفضول ، قاله مقاتل .
الثاني : بالحرية والرق ، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك .
الثالث : بالغنى والفقر ، فبعضهم غني ، وبعضهم فقير .
الرابع : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : قاله السدي ، التفضيل في الرزق إن الله تعالى قسم رحمته بالنبوة كما قسم الرزق بالمعيشة .
{
لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني خدماً ، قاله السدي .
الثاني : ملكاً ، قاله قتادة .
{
وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن النبوة خير من الغنى .
الثاني : أن الجنة خير من الدنيا .
الثالث : أن إتمام الفرائض خير من كثرة النوافل .
الرابع : أن ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم ، قاله بعض أصحاب الخواطر .

قوله عز وجل : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً } فيه وجهان :
أحدهما : على دين واحد كفاراً ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : على اختيار الدنيا على الدين ، قاله ابن زيد .
{
لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِ سُقُفاً مَّن فِضَّةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها أعالي البيوت ، قاله قتادة ، ومجاهد .
الثاني : الأبواب ، قاله النقاش .
{
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } قال ابن عباس : المعارج الدرج ، وهو قول الجمهور وأحدها معراج .
{
عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي درج من فضة عليها يصعدون ، والظهور الصعود . وأنشد : نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
علونا السماء عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إِلَى أَينَ » قال : إلى الجنة .
قال : « أَجَل إِن شَاءَ اللَّهُ » قال الحسن : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟
{
وَزُخْرُفاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الذهب : قاله ابن عباس . وأنشد قطرب قول ذي الأصبع :
زخآرف أشباهاً تخال بلوغها ... سواطع جمر من لظى يتلهب
الثاني : الفرش ومتاع البيت ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه النقوش ، قاله الحسن .


وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

قوله عز وجل : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعرض ، قاله قتادة .
الثاني : يعمى ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه السير في الظلمة ، مأخوذ من العشو وهو البصر الضعيف ، ومنه قول الشاعر :
لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ ناره ... إذا الريحُ هبّت والمكان جديب
وفي قوله : { عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : عن ذكر الله ، قاله قتادة .
الثاني : عما بيّنه الله من حلال وحرام وأمر ونهي ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : عن القرآن لأنه كلام الرحمن ، قاله الكلبي .
{
نُقِيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } فيه وجهان :
أحدهما : نلقيه شيطاناً .
الثاني : نعوضه شيطاناً ، مأخوذ من المقايضة وهي المعاوضة .
{
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنه شيطان يقيض له في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام ، وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : هو أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصير بهما الله إلى النار ، قاله سعيد بن جبير .
قوله عز وجل : { حَتَّى إِذَا جَآءَنا } قرأ على التوحيد أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، يعني ابن آدم ، وقرأ الباقون { جَاءَانَا } على التثنية يعني ابن آدم وقرينه .
{
قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَعُدَْ الْمَشْرِقَيْنِ } هذا قول ابن آدم لقرينه وفي المشرقين قولان :
أحدهما : أنه المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قيل : سنة العمرين ، كقول الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
الثاني : أنه مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، كقوله تعالى { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } .
قوله عز وجل : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قولان :
أحدهما : إما نخرجنك من مكة من أذى قريش فإنا منهم منتقمون بالسيف يوم بدر .
الثاني : فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي ما لقيت أمته بعده فما زال منقبضاً ما انبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } يعني القرآن ذكر لك [ ولقومك ] .
وفي { لَذِكْرٌ } قولان :
أحدهما : الشرف ، أي شرف لك ولقومك ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه لذكر لك ولقومك تذكرون به أمر الدين وتعملون به ، حكاه ابن عيسى .
{
وَلِقَوْمِكَ } فيه قولان :
أحدهما : من اتبعك من أمتك ، قاله قتادة .
الثاني : لقومك من قريش فيقال : ممن هذا الرجل؟ فيقال : من العرب ، فيقال : من أي العرب؟ فيقال : من قريش ، قاله مجاهد .
{
وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الشكر ، قاله مقاتل .
الثاني : أنت ومن معك عما أتاك ، قاله ابن جريج .
وحكى ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس في قوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أنه قول الرجل حدثني أبي عن جدي .

قوله عز وجل : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، قاله قتادة ، والضحاك ، ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا .
الثالث : جبريل ، ويكون تقديره . واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا ، حكاه النقاش .
{
أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ، فأمره الله بسؤالهم لا لأنه كان في شك منه . واختلف في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين :
أحدهما : أنه سألهم ، فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد ، قاله الواقدي .
الثاني : أنه لم يسأل ليقينه بالله تعالى ، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل : هل سألك محمد ذلك؟ فقال جبريل : هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسألني عن ذلك .


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ يَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهم قالوا على وجه الاستهزاء ، قاله الحسن .
الثاني : أنه يجري على ألسنتهم ما ألفوه من اسمه ، قاله الزجاج .
الثالث : أنهم أرادوا بالساحر غالب السحرة ، وهو معنى قول ابن بحر .
الرابع : أن الساحر عندهم هو العالم ، فعظموه بذلك ولم تكن صفة ذم ، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي .
{
بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } قال مجاهد : لئن أمنا لتكشف العذاب عنا ، قال الضحاك ، وذلك أن الطوفان أخذهم ثمانية أيام لا يسكن ليلاً ولا نهاراً .
{
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي يغدرون وكان موسى دعا لقومه فأجيب فيهم فلم يفواْ .


وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

قوله عز وجل : { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى نادى أي قال ، قاله أبو مالك .
الثاني : أمر من نادى في قومه ، قاله ابن جريج .
{
قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } فيه قولان :
أحدهما : أنها الإسكندرية ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه ملك منها أربعين فرسخاً في مثلها ، حكاه النقاش .
{
وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كانت جنات وأنهاراً تجري من تحت قصره ، قاله قتادة . وقيل من تحت سريره .
الثاني : أنه أراد النيل يجري من تحتي أي أسفل مني .
الثالث : أن معنى قوله : { وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } أي القواد والجبابرة يسيرون تحت لوائي ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : أنه أراد بالأنهار الأموال ، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِي } أي أفرقها على من يتبعني لأن الترغيب والقدرة في الأموال في الأنهار .
{
أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟ .
الثاني : قدرتي على نفعكم وعجز موسى .
ثم صرح بحاله فقال { أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ } قال السدي : بل أنا خير .
{
مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي ضعيف ، قاله قتادة .
الثاني : حقير ، قاله سفيان .
الثالث : لأنه كان يمتهن نفسه في حوائجه ، حكاه ابن عيسى .
{
وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } أي يفهم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أنه عيي اللسان ، قاله قتادة .
الثاني : أَلثغ قاله ، الزجاج .
الثالث : ثقيل اللسان لجمرة كان وضعها في فيه وهو صغير ، قاله سفيان .
قوله عز وجل : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف .
الثاني : ليكون ذلك دليلاً على صدقه ، والأساورة جمع أسورة ، والأسورة جمع سوار .
{
أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : متتابعين ، قاله قتادة .
الثاني : يقارن بعضهم بعضاً في المعونة ، قاله السدي .
الثالث : مقترنين أي يمشون معاً ، قاله مجاهد .
وفي مجيئهم معه قولان :
أحدهما : ليكونوا معه أعواناً ، قاله مقاتل .
الثاني : ليكونوا دليلاً على صدقه ، قاله الكلبي . وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كاف ، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما يكذب مع ظهور الآيات .
وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم .
قوله عز وجل : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب ، قاله ابن زياد .
الثاني : حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة ، وهو معنى قول الفراء .
الثالث : استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم ، وهو معنى قول الكلبي . الرابع : دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أغضبونا ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

الثاني : أسخطونا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . ومعناهما مختلف ، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة ، والغضب إرادة الانتقام .
والأسف هو الأسى على فائت . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه لما جعل هنا في موضع الغضب صح أن يضاف إلى الله لأنه قد يغضب على من عصاه .
الثاني : أن الأسف راجع إلى الأنبياء لأن الله تعالى لا يفوته شيء ، ويكون تقديره : فلما آسفوا رسلنا انتقمنا منهم .
قوله عز وجل : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أهواء مختلفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : جمع سلف أي جميع من قد مضى من الناس ، قاله ابن عيسى .
وقرأ الباقون بفتح السين واللام ، أي متقدمين ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها ، سلفاً في النار ، قاله قتادة .
الثاني : سلفاً لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .
الثالث : سلفاً لمثل من عمل مثل عملهم ، قاله أبو مجلز .
{
وَمَثَلاً لِّلآخِرينَ } فيه وجهان :
أحدهما : عظة لغيرهم ، قاله قتادة .
الثاني : عبرة لمن بعدهم ، قاله مجاهد .


وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

قوله عز وجل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } الآية . فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ما رواه ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ » فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً؟ فقد كان يعبد من دون الله ، فنزلت .
الثاني : ما حكاه مجاهد أن قريشاَ قالت : إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى ، فنزلت .
الثالث : ما حكاه قتادة أن الله لما ذكر نزول عيسى في القرآن قالت قريش : يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ فنزلت هذه الآية .
الرابع : ما ذكره ابن عيسى أنه لما ذكر الله خلق عيسى من غير ذكر كآدم أكبرته قريش فنزلت هذه الآية . وضربه مثلاً أن خلقه من أنثى بغير ذكر كما خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر ولذلك غلت فيه النصارى حين اتخذته إلهاً .
{ . . .
يَصِدُّونَ } فيه قراءتان :
إحداهما : بكسر الصاد .
والثانية : بضمها فاختلف أهل التفسير في اختلافهما على قولين :
أحدهما : معناه واحد وإن اختلف لفظهما في الصيغة مثل يشد ويشُد وينِم وينُم ، فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أوجه :
أحدها : يضجون ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك .
الثاني : يضحكون ، قاله قتادة .
الثالث : يجزعون ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
الرابع : يعرضون ، قاله إبراهيم .
والقول الثاني : معناهما مختلف ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بالضم يعدلون ، وبالكسر يتفرقون ، قاله الحسن .
الثاني : أنه بالضم يعتزلون ، وبالكسر يضجون ، قاله الأخفش .
الثالث : أنه بالضم من الصدود ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب .
{
وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } وهذا قول قريش ، قالواْ : أآلهتنا وهي أصنامهم التي يبعدونها خير { أَمْ هُوَ } فيه قولان :
أحدهما : أم محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .
الثاني : أم عيسى ، قاله السدي .
{
مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } قال السدي : هو قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم كل شيء عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة هؤلاء قد عبدوا من دون الله .
{
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الخصم الحاذق بالخصومة .
الثاني : أنه المجادل بغير حجة .
قوله عز وجل : { إِنْ هُوَ إِلاَّعَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } قال قتادة : يعني عيسى .
{
أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالنبوة .
الثاني : بخلقه من غير أب كآدم . وفيه وجه .
الثالث : بسياسة نفسه وقمع شهوته .
{
وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه لبني إسرائيل ، قاله قتادة .
الثاني : لتمثيله بآدم ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكم مَّلاَئِكَةً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب كما خلقنا عيسى من غير أب ليكونوا خلفاء من ذهب منكم .

الثاني : جعلنا بدلاً منكم ملائكة .
{
فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ملائكة يخلف بعضها بعضاً ، قاله قتادة .
الثاني : ملائكة يكونون خلفاً منكم ، قاله السدي .
الثالث : ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم ، قاله مجاهد .
الرابع : ملائكة يكونون رسلاً إليكم بدلاً من الرسل منكم .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن القرآن علم الساعة لما فيه من البعث والجزاء ، قاله الحسن وسعيد بن جبير .
الثاني : أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى ، قاله ابن إسحاق .
الثالث : أن خروج عيسى علم الساعة لأنه من علامة القيامة وشروط الساعة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . وروى خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأَنبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعِلاَّتُ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ ، أَنَا أَولَى النَّاسِ بِعيسَى ابنِ مَرْيَمَ ، إِنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ ، فَيَكْسَرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخنزيرَ ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ » .
وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا : إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم ، وهذا قول مردود لثلاثة أمور : للحديث الذي قدمناه ، ولأن بقاء الدنيا يقتضي بقاء التكليف فيها ، ولأنه ينزل آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى مقصوراً على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه .
وحكى مقاتل أن عيسى ينزل من السماء على ثنية جبل بأرض الشام يقال له أفيف .
{
فَلاَ تَمْتَرُونَّ بِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : لا تشكون فيها يعني الساعة . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : فلا تكذبون بها ، قاله السُدي .
{
وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : القرآن صراط مستقيم إلى الجنة ، قاله الحسن .
الثاني : عيسى ، قاله ابن عباس .
الثالث : الإسلام ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبِيِّنَاتِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه الإنجيل ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الآيات التي جاء بها من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، والإخبار بكثير من الغيوب ، قاله ابن عباس .
{
قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ } فيه قولان :
أحدهما : بالنبوة ، قاله السدي .
الثاني : بعلم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أن الحكمة الإنجيل الذي أنزل عليه .
{
وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } وفيه قولان :
أحدهما : تبديل التوراة ، قاله مجاهد .
الثاني : ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم ، حكاه ابن عيسى .
وفي قوله : { بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي كل الذي تختلفون فيه ، فكان البعض هنا بمعنى الكل ما اقتصرعلى بيان بعض دون الكل ، قاله الأخفش ، وأنشد لبيد :
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
والموت لا يعتلق النفوس دون بعض .
الثاني : أنه بين لهم بعضه دون جميعه ، ويكون معناه أبين لكم بعض ذلك أيضاً وأكلكم في بعضه إلى الاجتهاد ، وأضمر ذلك لدلالة الحال عليه .
قوله عز وجل : { فَاخْتَلَفَ الأَحَْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } قال قتادة يعني { مِن بَيْنِهِم } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خالف بعضهم بعضاً ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : فرق النصارى من النسطورية واليعاقبة والملكية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية : هو ابن الله . وقالت اليعاقبة هو الله . وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله ، قاله الكلبي ومقاتل .


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

قوله عز وجل : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم أعداء في الدنيا ، لأن كل واحد منهم زين للآخر ما يوبقه ، وهو معنى قول مجاهد .
الثاني : أنهم أعداء في الآخرة مع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا لما رأوا سوء العاقبة فيها بالمقارنة ، وهو معنى قول قتادة .
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين . وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط وقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ، فقتله يوم بدر صبراً ، وقتل أمية في المعركة ، وفيهما نزلت هذه الآية .
قوله عز وجل : { أَنتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : هم وأزواجهم المؤمنات في الدنيا .
الثاني : ومن يزوجون من الحور في الآخرة .
الثالث : هم وقرناؤهم في الدنيا .
وفي { تُحْبَرُونَ } ستة تأويلات :
أحدها : تكرمون ، قاله ابن عباس ، والكرامة في المنزلة .
الثاني : تفرحون ، قاله الحسن ، والفرح في القلب .
الثالث : تتنعمون ، قاله قتادة ، والنعيم في البدن .
الرابع : تسرّون ، قاله مجاهد ، والسرور في العين .
الخامس : تعجبون ، قاله ابن أبي نجيح ، والعجب ها هنا درك ما يستطرف .
السادس : أنه التلذذ بالسماع ، قاله يحيى بن أبي كثير .
قوله عز وجل : { . . وَأَكْوَابٍ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الآنية المدورة الأفواه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها ليست لها آذن ، قاله السدي .
الثالث : أن الكوب : المدور القصير العنق القصير العروة ، والإبريق : الطويل العنق الطويل العروة ، قاله قتادة .
الرابع : أنها الأباريق التي لا خراطيم لها ، قاله الأخفش .
الخامس : أنها الأباريق التي ليس لها عروة ، قاله قطرب .
قوله عز وجل : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُ الأَعْيُنُ } قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { تَشْتَهِيهِ } .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : ما تشتهي الأنفس ما تتمناه ، وما تلذ الأعين هو ما رآه فاشتهاه .
الثاني : ما تشتهيه الأنفس هو ما كان طيب المخبر ، وما تلذ الأعين ما كان حسن المنظر .


إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

قوله عز وجل : { وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ } هذا نداء أهل النار لخزانها حين ذاقوا عذابها .
{
لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي يميتنا ، طلبوا الموت ليستريحوا به من عذاب النار .
{
قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } أي لابثون في عذابها أحياء ، وفي مدة ما بين ندائهم وجوابه أربعة أقاويل .
أحدها : أربعون سنة ، قاله عبد الله بن عمرو .
الثاني : ثمانون سنة ، قاله السدي .
الثالث : مائة سنة ، قاله نوف .
الرابع : ألف سنة ، قاله ابن عباس ، لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل .
قوله تعالى : { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث ، قاله قتادة .
الثاني : أن أحكموا كيداً فإنا محكمون لها كيداً ، قاله ابن زيد .
الثالث : قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم بالعذاب ، قاله الكلبي .
وقيل إن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين اجتمع وجوههم في دار الندوة يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقر رأيهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه ، فنزلت هذه الآية ، وقتل الله جميعهم عليهم اللعنة يوم بدر .


قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

قوله عز وجل : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله ليس له ولد ، قاله ابن زيد . ومجاهد .
الثاني : معناه فأنا أول العابدين ، ولكن لم يكن ولا ينبغي أن يكون ، قاله قتادة .
الثالث : قل لم يكن للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين بأن ليس له ولد . قاله ابن عباس .
الرابع : قل ما كان للرحمن ولد ، وهذا كلام تام ثم استأنف فقال : فأنا أول العابدين أي الموحدين من أهل مكة ، قاله السدي .
الخامس : قل إن قلتم إن للرحمن ولداً فأنا أول الجاحدين أن يكون له ولد ، قاله سفيان .
السادس : إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين أن يكون له ولد ، قاله الكسائي وابن قتيبة ، ومنه قول الفرزدق :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... وأعْبُدُ أن أهجو تميماً بدارم
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } وهذا إبطال أن يكون غير الله إلَهاً وأن الإلَه هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً وليست هذه صفة لغير الله ، فوجب أن يكون هو الإله .
وفي معنى الكلام وجهان :
أحدهما : أنه الموحد في السماء والأرض ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه المعبود في السماء والأرض ، قاله الكلبي .
{
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يذكر ذلك صفة لتعظيمه .
الثاني : أنه يذكره تعليلاً لإلاهيته لأنه حكيم عليم وليس في الأصنام حكيم عليم .
قوله عز وجل : { وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِهِ الشَّفَاعَةَ } فيها قولان :
أحدهما : الشركة ومنه أخذت الشفعة في البيع لاستحقاق الشريك لها . ويكون معنى الكلام أن الذين يدعون من دون الله لا يملكون مع الله شركة يستحقون أن يكونوا بها آلهة إلا أن يشهدوا عند الله بالحق على من عليه حق أو له حق ، وهذا معنى قول ابن بحر .
الثاني : أن الشفاعة استعطاف المشفوع إليه فيما يرجى ، واستصفاحه فيما يخشى وهو قول الجمهور .
وقيل إن سبب نزولها ما حكي أن النضر بن الحارث ونفراً من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة ، وهم أحق بالشفاعة لنا منه فأنزل الله تعالى { وَلاَ يَمْلِكُ الِّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } معناه الذين يعبدونهم من دون الله وهم الملائكة الشفاعة لهم . وقال قتادة : هم الملائكة وعيسى وعزير لأنهم عبدوا من دون الله .
{
إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أن الشهادة بالحق إنما هي لمن شهد في الدنيا بالحق وهم يعلمون أنه الحق فتشفع لهم الملائكة ، قاله الحسن .
الثاني : أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون أن الله ربهم .

قوله عز وجل : { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يَؤْمِنُونَ } وهي تقرأ على ثلاثة أوجه بالنصب والجر والرفع .
فأما الجر فهي على قراءة عاصم وحمزة ، وهي في المعنى راجعة إلى قوله تعالى { وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } وعلم قيلِه .
وأما الرفع فهو قراءة الأعرج ، ومعناها ابتداء ، وقيله ، قيل محمد ، يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . والقيل هو القول .
وأما النصب فهي قراءة الباقين من أئمة القراء ، وفي تأويلها أربعة أوجه :
أحدها : بمعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، على وجه الإنكار عليهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنها بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه يا رب ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : بمعنى وشكا محمد إلى ربه قيله ، ثم ابتداء فأخبر { يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ، قاله الزجاج .
قوله عز وجل : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } قال قتادة : أمره بالصفح عنهم ، ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف . ويحتمل الصفح عن سفههم أن يقابلهم عليه ندباً له إلى الحلم .
{
وَقُلْ سَلاَمٌ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أي قل ما تسلم به من شرهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : قل خيراً بدلاً من شرهم؛ قاله السدي .
الثالث : أي احلم عنهم؛ قاله الحسن .
الرابع : أنه أمره بتوديعهم بالسلام ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش .
الخامس : أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ رواه شعيب بن الحباب .
{
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } يحتمل أمرين :
أحدهما : فسوف يعلمون حلول العذاب بهم .
الثاني : فسوف يعلمون صدقك في إنذارهم ، والله أعلم .


حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله عز وجل : { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } يعني والقرآن المبين ، فأقسم به ، وفي قسمه ب { حم } وجهان من اختلافهم في تأويله .
{
إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } يعني القرآن أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا .
{
فِي لَيلَةِ مُّبَارَكَةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها ليلة النصف من شعبان؛ قاله عكرمة .
الثاني : أنها ليلة القدر .
روى قتادة عن وائلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ في أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ ، وَأُنزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الزَّبُورُ لاثْنَتَي عَشْرَةَ مَضَتْ مِن رَمَضَانَ ، وَأُنزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ . وَأُنزِلَ القْرآنُ لأَرْبعٍ وَعشرِينَ مِن رَمَضَانَ »
وفي تسميتها مباركة وجهان :
أحدهما : لما ينزل فيها من الرحمة .
الثاني : لما يجاب فيها من الدعاء .
{
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } بالقرآن من النار .
ويحتمل : ثالثاً : منذرين بالرسل من الضلال .
{
فِيهَا } في هذه الليلة المباركة .
{
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وفي يفرق أربعة أوجه :
أحدها : يقضى ، قاله الضحاك .
الثاني : يكتب ، قاله ابن عباس .
الثالث : ينزل ، قاله ابن زيد .
الرابع : يخرج ، قاله ابن سنان .
وفي تأويل { كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أربعة أوجه :
أحدها : الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء من السنة إلى السنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل ما يقضى من السنة إلى السنة ، إلا الشقاوة والسعادة فإنه في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل ، قاله ابن عمر .
الثالث : كل ما يقضى من السنة إلى السنة إلا الحياة والموت ، قاله مجاهد .
الرابع : بركات عمله من انطلاق الألسن بمدحه ، وامتلاء القلوب من هيبته ، قاله بعض أصحاب الخواطر .
الحكيم هنا هو المحكم . وليلة القدر باقية ما بقي الدهر ، وهي في شهر رمضان في العشر الأواخر منه . ولا وجه لقول من قال إنها رفعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا لقول من جوزها في جميع السنة لأن الخبر والأثر والعيان يدفعه . واختلف في محلها من العشر الأواخر من رمضان على أقاويل ذكرها في سورة القدر أولى .
قوله عز وجل : { أَمْراً مِنْ عِندِنَا } فيه قولان :
أحدهما : أن الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده ، حكاه النقاش .
الثاني : أنه ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده قاله ابن عيسى .
ويحتمل :
ثالثاً : أنه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً .
{
إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مرسلين الرسل للإنذار .
الثاني : منزلين ما قضيناه على العباد .
الثالث : مرسلين رحمة من ربك .
وفي { رَحْمَةً مِّن رِّبِّكَ } هنا وجهان :
أحدهما : أنها نعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنها رأفته بهداية من آمن به .
{
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لقولهم { الْعَلِيمُ } بفعلهم .


بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

قوله عز وجل : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } في ارتقب وجهان :
أحدهما : معناه فانتظر يا محمد بهؤلاء يوم تأتي السماء بدخان مبين ، قاله قتادة .
الثاني : معناه فاحفظ يا محمد قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين ، ولذلك سمي الحافظ رقيباً ، قال الأعشى :
عليّ رقيب له حافظٌ ... فقل في امرىءٍ غِلقٍ مرتهن
وفي قوله تعالى { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما أصاب أهل مكة من شدة الجوع حتى صار بينهم وبين السماء كهيئة الدخان لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبطائهم عن الإيمان وقصدهم له بالأذى ، فقال : « اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِسَبْعٍ كَسَبْع يُوسُفَ » قاله ابن مسعود . قال أبو عبيدة والدخان الجدب . وقال ابن قتيبة : سمي دخاناً ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها الدخان .
الثاني : أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغيوم ، قاله عبد الرحمن بن الأعرج .
الثالث : أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة ، وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
قوله عز وجل : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الدخان ، قاله قتادة .
الثاني : الجوع : قاله النقاش .
الثالث : أنه الثلج وهذا لا وجه له لأن هذا إما أن يكون في الآخرة أو في أهل مكة ، ولم تكن مكة من بلاد الثلج غير أنه مقول فحكيناه .
قوله عز وجل : { إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أي عائدون إلى نار جهنم .
الثاني : إلى الشرك ، قاله ابن مسعود . فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم عادوا إلى تكذيبه .
قوله عز وجل : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى ، وفيها قولان :
أحدهما : القتل بالسيف يوم بدر ، قاله ابن مسعود وأُبي بن كعب ومجاهد والضحاك .
الثاني : عذاب جهنم يوم القيامة ، قاله ابن عباس والحسن .
ويحتمل :
ثالثاً : أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا .
{
إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي من أعدائنا . وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة ، والنقمة قد تكون قبلها ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن العقوبة قد تكون في المعاصي ، والنقمة قد تكون في خلقه لأجله .
الثالث : أن العقوبة ما تقدرت ، والانتقام غير مقدر .


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي ابتليناهم .
{
وَجَآءَهُمْ رَسُولُ كَرِيمٌ } وهو موسى بن عمران عليه السلام . وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كريم على ربه ، قاله الفراء .
الثاني : كريم في قومه .
الثالث : كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح .
قوله عز وجل : { أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تستعبدوهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أجيبوا عباد الله خيراً ، قاله أبو صالح .
الثالث : أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله ، وهذا محتمل .
{
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أمين على أن أؤديه لكم فلا أتزيد فيه .
الثاني : أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه .
قوله عز وجل : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تبغوا على الله ، قاله قتادة .
الثاني : لا تفتروا على الله ، قاله ابن عباس ، والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل ، والافتراء بالقول .
الثالث : لا تعظموا على الله ، قاله ابن جريج .
الرابع : لا تستكبروا على عباد الله ، قاله يحيى . والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر ، والاستكبار ترفع المحتقر .
{
إِنِّي ءَاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : بعذر مبين ، قاله قتادة .
الثالث : بحجة بينة ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لجأت إلى ربي وربكم .
الثاني : استغثت . والفرق بينهما أن الملتجىء مستدفع والمستغيث مستنصر .
قوله : { بَرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي ربي الذي هو ربكم .
{
أَن تَرْجُمُونِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : أن تقتلوني ، قاله السدي .
الثالث : أن تشتموني بأن تقولوا ساحر أو كاهن أو شاعر ، قاله أبو صالح .
{
وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي إن لم تؤمنوا بي وتصدقوا قولي فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي .
قوله عز وجل : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : سمتاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : يابساً ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : سهلاً ، قاله الربيع .
الرابع : طريقاً ، قاله كعب والحسن .
الخامس : منفرجاً ، قاله مجاهد .
السادس : غرقاً ، قاله عكرمة .
السابع : ساكناً ، قاله الكلبي والأخفش وقطرب . قال القطامي :
يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
قال قتادة : لما نجا بنو إسرائيل من البحر وأراد آل فرعون أن يدخلوه خشي نبي الله موسى عليه السلام أن يدركوه فأراد أن يضرب البحر حتى يعود كما كان فقال الله تعالى : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } أي طريقاً يابساً حتى يدخلوه .
{
إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } قال مقاتل : هو النيل ، وكان عرضه يومئذٍ فرسخين ، قال الضحاك : كان غرقهم بالقلزم وهو بلد بين مصر والحجاز .
فإن قيل فليست هذه الأحوال في البحر من فعل موسى ولا إليه .

قيل يشبه أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إنْ ضرب البحر بعصاه ثانية تغيرت أحواله ، فأمره أن يكف عن ضربه حتى ينفذ الله قضاءه في فرعون وقومه .
وتأويل سهل بن عبد الله { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ } أي اجعل القلب ساكناً في تدبيري { إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُّغْرَقُونَ } أي إن المخالفين قد غرقوا في التدبير .
قوله عز وجل : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الجنات البساتين . وفي العيون قولان :
أحدهما : عيون الماء ، وهو قول الجمهور .
الثاني : عيون الذهب ، قاله ابن جبير .
{
وَزُرُوعٍ } قيل إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها ، وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروه وقدروه من قناطر وجسور .
{
وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها المنابر ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد .
الثاني : المساكن ، قاله أبو عمرو والسدي ، لمقام أهلها فيها .
الثالث : مجالس الملوك لقيام الناس فيها .
ويحتمل رابعاً : أنه مرابط الخيل لأنها أكرم مذخور لعدة وزينة .
وفي الكريم ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الحسن ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : هو المعطي لديه كما يعطي الرجل الكريم صلته ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه كريم لكرم من فيه ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } في النعمة هنا أربعة أوجه :
أحدها : نيل مصر ، قاله ابن عمر .
الثاني : الفيّوم ، قاله ابن لهيعة .
الثالث : أرض مصر لكثرة خيرها ، قاله ابن زياد .
الرابع : ما كانوا فيه من السعة والدعة .
وقد يقال نعمة ونِعمة بفتح النون وكسرها ، وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أنها بكسر النون في الملك ، وبفتحها في البدن والدين؛ قاله النضر بن شميل .
الثاني : أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية ، وبالفتح من التنعم وهو سعة العيش والراحة ، قاله ابن زياد .
وفي { فاكهين } ثلاثة أوجه :
أحدها : فرحين ، قاله السدي .
الثاني : ناعمين ، قاله قتادة .
الثالث : أن الفاكه هو المتمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة ، قاله ابن عيسى .
وقرأ يزيد بن القعقاع { فَكِهِينَ } ومعناه معجبين .
قوله عز وجل { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ } يعني بني إسرائيل ملكهم الله أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين ، فصروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث .
قوله عز وجل : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الحسن .
الثاني : أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً؛ قاله مجاهد .
قال أبو يحيى : فعجبت من قوله ، فقال أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟
الثالث : أنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، قاله علي كرم الله وجهه . وتقديره فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض .

وهو معنى قول سعيد بن جبير .
الرابع : ما رواه يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وله في السماء بابان ، باب ينزل منه رزقه ، وباب يدخل منه كلامه وعمله ، فإذا مات فقداه فبكيا عليه » ثم تلا هذه الآية .
وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد .
الثاني : أنه حمرة أطرافها ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعطاء .
وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر ، واحمرارها بكاؤها .
الثالث : أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف . كقول الشاعر :
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
{
وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : مؤخرين بالغرق ، قاله الكلبي .
الثاني : لم ينظروا بعد الآيات التسع حتى أغرقوا ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ } معناه على علم منا بهم . وفي اختياره لهم ثلاثة أوجه :
أحدها : باصطفائهم لرسالته ، والدعاء إلى طاعته .
الثاني : باختيارهم لدينه وتصديق رسله .
الثالث : بإنجائهم من فرعون وقومه .
وفي قوله : { عَلَى الْعَالَمِينَ } قولان :
أحدهما : على عالمي زمانهم ، لأن لكل زمان عالماً ، قاله قتادة .
الثاني : على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء . وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم ، حكاه ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وءَاتَيْنَاهُمْ مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أنجاهم من عدوهم وفلق البحر لهم وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى ، قاله قتادة . ويكون هذا الخطاب متوجهاً إلى بني إسرائيل .
الثاني : أنها العصا ويده البيضاء ، ويشبه أن يكون قول الفراء . ويكون الخطاب متوجهاً إلى قوم فرعون .
الثالث : أنه الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به ، قاله عبد الرحمن بن زيد . ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفريقين معاً من قوم فرعون وبني إسرائيل .
وفي قوله { مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : نعمة ظاهرة ، قاله الحسن وقتادة كما قال تعالى { وَليُبْلَي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً } وقال زهير :
فأبلاه خير البلاء الذي يبلو ... الثاني : عذاب شديد ، قاله الفراء .
الثالث : اختيار بيِّن يتميز به المؤمن من الكافر ، قاله عبد الرحمن بن زيد .


إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

قوله عز وجل : { إِنَّ هَؤُلآءِ لَيَقُولُونَ } يعني كفار قريش .
{
إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي بمبعوثين قيل : إن قائل هذا أبو جهل قال : يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصيّ بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً ، لنسأله عما يكون بعد الموت وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات ، لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف . فكأنه قال : إن كنت صادقاً في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف . وهو كقول قائل لو قال : إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء ، فلم لا يرجع من مضى من الآباء .
قوله عز وجل : { أَهُمْ خَيرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً .
الثاني : أهم أعز وأشد أم قوم تبع .
وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير سار بالجيوش حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها . وحكي لنا أنه كان إذا كتب؛ كتب باسم الله الذي سما وملك براً وبحراً وضحاً وريحاً .
وروي عن عمرو بن رجاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم . وحكى ابن قتيبة في المعارف شعراً ذكر أنه لتبع وهو :
منح البقاءَ تقلبُ الشمسِ ... وطلوعها من حيث لا تُمْسِي
وشروقها بيضاء صافية ... وغروبُها حمراءَ كالورْسِ
وتشتت الأهواءِ أزعجني ... سيراً لأبلغ مطلع الشمسِ
ولرب مطعمةٍ يعود لها ... رأي الحليم إلى شفا لبسِ
وفي تسميته تبعاً قولان :
أحدهما : لأنه تَبعَ من قبله من ملوك اليمن كما قيل خليفة لأنه خلف من قبله .
الثاني : لأنه اسم لملوك اليمن .
وذم الله قومه ولم يذمه ، وضرب بهم مثلاً لقريش لقربهم من دارهم ، وعظمهم في نفوسهم ، فلما أهلكهم الله ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك .


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

قوله عز وجل : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : غافلين ، قاله مقاتل .
الثاني : لاهين ، قاله الكلبي .
{
وَمَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحِقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : للحق ، قاله الكلبي .
الثاني : بقول الحق ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصَلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } يعني يوم القيامة ، وفي تسميته بيوم الفصل وجهان :
أحدهما : [ إن الله ] يفصل فيه أمور عباده .
الثاني : لأنه يفصل فيه بين المرء وعمله .


إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

قوله عز وجل : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ } قد ذكرنا ما في الزقوم من الأَقاويل ، وهو في اللغة ما أُكِلَ بكرْه شديد . ولهذا يقال قد تزقم هذا الطعام تزقماً أي هو في حكم من أكله بكره شديد لحشو فمه وشدة شره .
وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل .
وفي الأثيم وجهان :
أحدهما : أنه الآثم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : المشرك المكتسب للإثم ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : فجروه ، قاله الحسن .
الثاني : فادفعوه ، قاله مجاهد .
الثالث : فسوقوه ، حكاه الكلبي .
الرابع : فاقصفوه كما يقصف الحطب ، حكاه الأعمش :
الخامس : فردوه بالعنف ، قاله ابن قتيبة . قال الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل
{
إلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ } فيه وجهان :
أحدهما : وسط الجحيم ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة .
الثاني : معظم الجحيم يصيبه الحر من جوانبها ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه أنك لست بعزيز ولا كريم ، لأنه قال توعدني محمد ، والله إني لأعز من مشى حبليها ، فرد الله عليه قوله ، قاله قتادة .
الثاني : أنك أنت العزيز الكريم عند نفسك ، قاله قتادة أيضاً .
الثالث : أنه قيل له ذلك استهزاء على جهة الإهانة ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : أنك أنت العزيز في قومك ، الكريم على أهلك حكاه ابن عيسى .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

قوله عز وجل : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أمين من الشيطان والأحزان ، قاله قتادة .
الثاني : أمين من العذاب ، قاله الكلبي .
الثالث : من الموت ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أن السندس الحرير الرقيق ، والاستبرق الديباج الغليظ ، قاله عكرمة .
الثاني : السندس يعمل بسوق العراق وهو أفخر الرقم ، قاله يحيى ، والاستبرق الديباج سمي استبرقاً لشدة بريقه ، قاله الزجاج .
الثالث : أن السندس ما يلبسونه ، والاستبرق ما يفترشونه .
وفي { مُّتَقَابِلينَ } وجهان :
أحدهما : متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : متقابلين في المجالس لا ينظر بعضهم قفا بعض ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } يعني القرآن ، وفيه وجهان :
أحدهما : معناه جعلناه بلسانك عربياً .
الثاني : أطلقنا به لسانك تيسيراً .
{
لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يرجعون .
الثاني : يعتبرون .
{
فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فانتظر ما وعدتك من النصر عليهم . إنهم منتظرون بك الموت ، حكاه النقاش .
الثاني : وانتظر ما وعدتك من الثواب فإنهم من المنتظرين لما وعدتهم من العقاب ، والله أعلم .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

قوله عز وجل : { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ } يعني القرآن .
{
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان :
أحدهما : افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به .
الثاني : تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه .
قوله عز وجل : { وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني اختلافهما بالطول والقصر .
الثاني : اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر .
{
وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض .
الثاني : ما قضاه في السماء من أرزاق العباد .
{
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تصريفها بإرسالها حيث يشاء .
الثاني : ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً ، قاله الحسن .
الثالث : أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة .


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

قوله عز وجل : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأفاك : الكذاب ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه المكذب بربه .
الثالث : أنه الكاهن ، قاله قتادة .
{
يَسْمَعُ ءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ } يعني القرآن .
{
ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } فيه تأويلان :
أحدها : يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه ، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها ، قاله ابن عيسى .
{
كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } في عدم الاتعاظ بها والقبول لها .
{
فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث .


اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

قوله عز وجل : { قُلْ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا ينالون نعم الله ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يخشون عذاب الله ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثالث : لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله ابن بحر .
وفي المراد بأيام الله وجهان :
أحدهما : أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا ، لأنه ليس في الآخرة ، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة .
وفي الكلام أمر محذوف فتقديره : قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله . الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى .
وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به ، فلما نزل ذلك فيه كف عنه .
وفي نسخ هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين .
الثاني : أنها منسوخة وفيما نسخها قولان :
أحدهما : بقوله سبحانه { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } قاله قتادة .
الثاني : بقوله { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ } قاله أبو صالح .


وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ } فيه وجهان :
أحدهما : ذكر الرسول وشواهد نبوته .
الثاني : بيان الحلال والحرام ، قاله السدي .
{
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } فيه قولان :
أحدهما : من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم ، حكاه النقاش .
الثاني : بعدما أعلمهم الله ما في التوراة .
{
بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا ، قاله يحيى بن آدم .
قوله عز وجل : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ } أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء ، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد .
وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل :
احدها : أنها الدين ، قاله ابن زيد ، لأنه طريق للنجاة .
الثاني : أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي ، قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين .
الثالث : أنها البينة ، قاله مقاتل : لأنها طريق الحق .
الرابع : السنة ، حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء .


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

قوله عز وجل : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ } أي اكتسبوا الشرك . قال الكلبي : الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة .
{
أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم .
قوله عز وجل : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه ، فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً ، قاله عكرمة ، قاله سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر . فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر .
الثالث : أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل .
{
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : وجده ضالاً ، حكاه ابن بحر .
الثاني : معناه ضل عن الله . ومنه قول الشاعر :
هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره ... له ذمة إن الذمام كثير
أي ضل عنه بعيره .
وفي قوله : { عَلَى عِلْمٍ } وجهان :
أحدهما : على علم منه أنه ضال ، قاله مقاتل .
الثاني : قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل . { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى .
{
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً } حتى لا يبصرالرشد .
ثم في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم .
الثاني : أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم .
وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة ، وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف .


وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء .
{
نَمُوتُ وَنَحْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مقدم ومؤخر ، وتقديره : نحيا نموت . وهي كذلك في قراءة ابن مسعود .
الثاني : أنه على تربيته ، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : نموت نحن ويحيا أولادنا ، قاله الكلبي .
الثاني : يموت بعضنا .
{
وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وما يهلكنا إلا العمر ، قاله قتادة . وأنشد قول الشاعر :
لكل أمر أتى يوماً له سبب ... والدهر فيه وفي تصريفه عجب
الثاني : وما يهلكنا إلا الزمان ، قاله مجاهد .
وروى أبو هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ، والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا ، فنزلت هذه الآية .
الثالث : وما يهلكنا إلا الموت ، قاله قطرب ، وأنشد لأبي ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
الرابع : وما يهلكنا إلا الله ، قاله عكرمة .
وروى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رجال يقولون : يا خيبة الدهر ، يا بؤس الدهر ، لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر ، وإنه يقبض الأيام ويبسطها » .


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

قوله عز وجل : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } الأمة أهل كل ملة . وفي الجاثية خمسة تأويلات :
أحدها : مستوفزة ، قاله مجاهد . وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله .
الثاني : مجتمعة ، قاله ابن عباس .
الثالث : متميزة ، قاله عكرمة .
الرابع : خاضعة بلغة قريش ، قاله مؤرج .
الخامس : باركة على الركب ، قاله الحسن .
وفي الجثاة قولان :
أحدهما : أنه للكفار خاصة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب .
وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم .
{
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى حسابها ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر ، قاله الكلبي .
الثالث : إلى كتابها الذي أنزل على رسولها ، حكاه الجاحظ .
قوله عز وجل : { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق ، فكأنه شاهد عليكم ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء ، خير وشر ، قاله مقاتل ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم ، قاله الكلبي .
{
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا ، قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال .
الثاني : أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد ، قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ .
الثالث : نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة ، قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال .


فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

قوله عز وجل : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري ، قاله الضحاك .
الثاني : اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة ، وهو محتمل
الثالث : اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل ، قاله سعيد بن جبير .
قوله عز وجل : { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الكبرياء العظمة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه السلطان ، قاله مجاهد .
الثالث : الشرف ، قاله ابن زياد .
الرابع : البقاء والخلود .
{
وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتقامه { الْحَكِيمُ } في تدبيره .


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

قوله عز وجل : { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه قُضِي نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم ، قاله النقاش .
الثاني : هذا الكتاب يعني القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إلا بالصدق ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : إلا بالعدل ، وهو مأثور .
الثالث : إلا للحق ، قاله الكلبي .
الرابع : إلا للبعث ، قاله يحيى .
{
وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أجل القيامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الأجل المقدور لكل مخلوق ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } قرأ الحسن وطائفة معه { أَوْ أَثَرَةٍ } وفي تأويل { أَوْ أَثَارَةٍ } وهي قراءة الجمهور ثلاثة أوجه :
أحدها : رواية من علم ، قاله يحيى .
الثاني : بقية ، قاله أبو بكر بن عياش ، ومنه قول الشاعر :
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمته قفارا
أي بقية من شحم .
الثالث : أو علم تأثرونه عن غيركم ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : أو اجتهاد بعلم ، لأن أثارة العلم الاجتهاد .
ويحتمل خامساً : أو مناظرة بعلم لأن المناظر في العلم مثير لمعانيه .
ومن قرأ { أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } ففي تأويله خمسة أوجه :
أحدها : أنه الخط ، وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : ميراث من علم ، قاله عكرمة .
الثالث : خاصة من علم ، قاله قتادة .
الرابع : أو بقية من علم ، قاله عطية .
الخامس : أثرة يستخرجه فيثيره ، قاله الحسن .


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

قوله عز وجل : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ } قال ابن عباس : معناه لست بأول الرسل . والبدع الأول . والبديع من كل شيء المبتدع ، وأنشد قطرب لعدي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد
{
وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا لا في الآخرة ، فلا أدري ما يفعل بي أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ، أو أُقتل كما قتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم ، إنكم مصدقون أو مكذبون ، أو معذبون أو مؤخرون ، قاله الحسن :
الثاني : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة . وهذا قبل نزول { لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } الآية . فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة وقال لأصحابه : « لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ آيَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا » فلما تلاها قال رجل من القوم : هنيئاً يا رسول الله ، قد بين الله ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } الآية . قاله قتادة .
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الهجرة « لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَرْضاً أَخْرُجُ إِلَيْهَا مِن مَكَّةَ » فلما اشتد البلاء على أصحابه بمكة قالوا : يا رسول الله حتى متى نلقى هذا البلاء؟ ومتى تخرج إلى الأرض التي رأيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم ، أَنَمُوتُ بِمَكَّةَ أَمْ نَخْرُجُ مِنهَا » قال الكلبي .
الرابع : معناه قل لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به ، قاله الضحاك .


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

قوله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ } فيه قولان :
أحدهما : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ، قاله يحيى .
الثاني : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً من عند الله وكفرتم به ، قاله الشعبي .
{
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَني إِسْرَآئِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه عبد الله بن سلام شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ومجاهد .
الثاني : أنه آمين بن يامين ، قال لما أسلم عبد الله بن سلام : أنا شاهد مثل شهادته ومؤمن كإيمانه ، قاله السدي .
الثالث : أن موسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم يشهد بنبوته ، والتوراة مثل القرآن يشهد بصحته ، قاله مسروق . ولم يكن في عبد الله بن سلام لأنه أسلم بالمدينة والآية مكية .
الرابع : هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة ، قاله الشعبي .
الخامس : أنه موسى الذي هو مثل محمد صلى الله عليهما شهد على التوراة . التي هي مثل القرآن ، حكاه ابن عيسى .
{
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مسروق .
وفي قولان :
أحدهما : فآمن عبد الله بن سلام برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن واستكبر الباقون عن الإيمان ، قاله ابن عباس .
الثاني : فآمَن مَن آمن بموسى وبالتوراة واستكبرتم أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، قاله مسروق . وحكى النقاش أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن هو وكفرتم .
وقال ابن عيسى : الكلام على سياقه ولكن حذف منه جواب إن كان من عند الله وفي المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : تقديره : وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن ، أتؤمنون؟ قاله الزجاج .
الثاني : تقدير المحذوف : فآمن واستكبرتم أفما تهلكون ، قاله مذكور .
الثالث : تقدير المحذوف من جوابه : فمن أضل منكم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
قوله عز وجل : { وَقَالَ الِّذِينَ كَفَرُواْ لِلِّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وفي سبب نزول هذه الآية أربعة أقاويل :
أحدها : أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب واستجاب به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم ، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا فبلغ ذلك قريشاً فقالوا : غفار الخلفاء لو كان خيراً ما سبقونا إليه . فنزلت ، قاله أبو المتوكل .
الثاني : أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها ، فقالوا لها : أصابك اللات والعزى ، فرد الله عليها بصرها ، فقال عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خير ما سبقتنا إليه زنيرة فنزلت ، قاله عروة بن الزبير .

الثالث : أن الذين كفروا هم عامر وغطفان وأسد وحنظلة قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وغطفان وجهينة ومزينة وأشجع : لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه رعاة البهم . فنزلت ، قاله الكلبي .
الرابع : أن الكفار قالوا : لو كان خيراً ما سبقتنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية ، قاله مسروق .
وهذه المعارضة من الكفار في قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه من أقبح المعارضات لانقلابها عليهم لكل من من خالفهم حتى يقال لهم : لو كان ما أنتم عليه خيراً ما عدنا عنه ، ولو كان تكذيبكم للرسول خيراً ما سبقتمونا إليه .
{
وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } يعني إلى الإيمان . وفيه وجهان :
أحدهما : وإذا لم يهتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالقرآن .
{
فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ، تشبيهاً بدين موسى القديم ، تكذيباً بهما جيمعاً .
قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ثم استقاموا على أن الله ربهم ، قاله أَبو بكر الصديق رضي الله عنه .
الثاني : ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثالث : على أداء فرائض الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الرابع : على أن أخلصوا له الدين والعمل ، قاله أبو العالية .
الخامس : ثم استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم ، رواه أنس مرفوعاً .
{
فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِم } يعني في الآخرة .
{
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني عند الموت ، قاله سعيد بن جبير .


وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

قوله عز وجل : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً } في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً . قال السدي : يعني براً .
{
حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة . وقرىء كرهاً بالضم والفتح . قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره .
{
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً } الفصال مدة الرضاع ، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ، وكان في هذا التقدير قولان :
أحدهما : أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع ، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى : { حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر ، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع ، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء .
الثاني : أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع ، فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً ، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً ، قاله ابن عباس .
{
حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } وفي الأشد تسعة أقاويل :
أحدها : أنه البلوغ ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم .
الثاني : خمسة عشر سنة ، قاله محمد بن أويس .
الثالث : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن جبير .
الرابع : عشرون سنة ، قاله سنان .
الخامس : خمسة وعشرون سنة ، قاله عكرمة .
السادس : ثلاثون سنة ، قاله السدي .
السابع : ثلاثة وثلاثون سنة ، قاله ابن عباس .
الثامن : أربعة وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثوري .
التاسع : أربعون سنة ، وهو قول عائشة ، والحسن .
{
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها زمان الأشد ، وهو قول من ذكرنا .
الثاني : لأنها زمان الاستواء ، قال زيد بن أسلم : لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين .
وقال ابن زيد : وقوله تعالى لموسى { وَاسْتَوَى } قال بلغ أربعين سنة . وقال الشعبي : يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة ، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة ، وينتهي عقله لثمان وعشرين ، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين .
الثالث : لأنها أول عمر بعد تمام عمر ، قال ابن قيس .
{
رَبِّ أَوْزِعْنِي } قال سفيان معناه ألهمني .
قال ابن قتيبة : والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء ، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به .
{
أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنعمت علي بالبر والطاعة ، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة .
الثاني : أنعمت عليَّ بالعافية والصحة ، وعلى والديَّ بالغنى والثروة ، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة .
وحكى أبو زهير عن الأعمش قال : سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال : يأتيه رزقه وهو في بطن أمه ، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه ، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه ، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي ، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه ، واشترك أبوه في الثالثة ، وتفرد هو بالرابعة ، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره ، واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه ، وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته .

{
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : في بر الوالدين .
الثاني : في ديني .
{
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه .
الثاني : أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه ، لأن طاعتهم لله من بره ، ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده .
وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه :
أحدها : قاله سهل : اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق .
الثاني : قاله أبو عثمان : اجعلهم أبراراً ، أي مطيعين لك .
الثالث : قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم .
الرابع : قاله محمد الباقر رضي الله عنه : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً .
{
إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ } قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه .
وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قاله مقاتل والكلبي .
الثاني : مرسلة نزلت على العموم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم ، قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً .
الثاني : هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال .
الثالث : هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب ، حكاه ابن عيسى .
{
وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة .
الثاني : نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة .
الثالث : نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة .
{
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } وعد الصدق الجنة ، الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل .


وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ } : أي أبعث .
{
وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي } فلم يبعثوا . وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان . يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه ، وكان هذا منه قبل إسلامه ، قاله السدي .
قال السدي : فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة ، وما بالمدينة أَعْبَدُ منه ، ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه ، ولما أسلم وحسن إسلامه ، نزلت توبته في هذه الآية { وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ } .
الثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر ، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ } والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن . فأما ال { أُفٍّ } فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد . قال الشاعر :
ما يذكر الدهر إلا قلت أف له ... إذا لقيتك لولا قال لي لاقي
وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأنف .
الثاني : الأف وسخ الأظفار ، والتف الذي يكون في أصول الأظافر .
الثالث : أن الأف العليل الأنف ، والتف الإبعاد .
{
وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه } أي يدعوان الله : اللهم اهده ، اللهم اقبل بقلبه ، اللهم اغفر له .
{
وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } في الثواب على الإيمان ، والعقاب على الكفر .
قوله عز وجل : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا .
الثاني : ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة .
الثالث : أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة .
الرابع : معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة .
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق ، ولكن أستبقي حسناتي ، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } والصلاء ، والشواء ، والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض .
وقال ابن بحر فيه تأويل خامس : أن الطيبات : الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه أي شبابه وقوته . ووجدت الضحاك قاله أيضاً .
{
وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالدنيا .
الثاني : بالطيبات .
{
فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ } قال مجاهد : الهون الهوان . قال قتادة بلغة قريش .
{
بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : تستعلون على أهلها بغير استحقاق .
الثاني : تتغلبون على أهلها بغير دين .
الثالث : تعصون الله فيها بغير طاعة .
{
وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً .
الثاني : في اعتقادكم كفراً وشركاً .


وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

قوله عز وجل : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ } وهو هود بعث إلى عاد ، وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم .
{
إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ } وهي جمع حقف ، وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم ، ولا يبلغ أن يكون جبلاً . ومنه قول العجاج :
بات إلى أرطاة حقف أحقفا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي رمل مستطيل مشرق .
وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال ، قاله ابن زيد ، وشاهده ما تقدم ، وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن .
الثاني : أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف ، قاله الضحاك .
الرابع : هو ما بين عمان وحضرموت ، قاله ابن إسحاق .
الخامس : هو واد بين عُمان ومهرة ، قاله ابن عباس .
وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال : خير واد بين في الناس واد بمكة ، وواد نزل به آدم بأرض الهند ، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف ، ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار ، وخير بئر في الناس بئر زمزم ، وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت .
{
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده ، قال الفراء ، من بين يديه من قبله ، ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود : { مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ } .
قوله عز وجل : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : لتزيلنا عن عبادتها بالإفك .
الثاني : لتصدنا عن آلهتنا بالمنع ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ } يعني السحاب . وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي :
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المنهال
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنه أخذ في عرض السماء ، قال ابن عيسى .
الثاني : لأنه يملأ آفاق السماء ، قال النقاش .
الثالث : لأنه مار من السماء . والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه .
{
قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } حسبوه سحاباً يمطرهم ، وكان المطر قد أبطأ عليهم .
{
بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ } كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده ، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا : هذا عارض ممطرنا .
ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد ، بكر بن معاوية . فلما نظر هود إلى السحاب قال : بل هو ما استعجلتم به ، أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور .
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ »

فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال : إني لأرى سحاباً مُرْمِداً ، لا يدع من عَادٍ أحداً . فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم .
قال ابن اسحاق : واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض .
وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك :
فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم ... تركت عاداً خمودا
سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا
وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة
.


وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ مََّكنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ } فيه وجهان :
أحدهما : فيما لم نمكنكم فيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فيما مكناكم فيه وإن هنا صلة زائدة .
ويحتمل ثالثاً : وهو أن تكون ثابتة غير زائدة ويكون جوابها مضمراً محذوفاً ويكون تقديره : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد .
ثم ابتدأ فقال : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } الآية . يحتمل وجهين :
أحدهما : أننا جعلنا لهم من حواس الهداية ما لم يهتدوا به .
الثاني : معناه جعلنا لهم أسباب الدفع ما لم يدفعوا به عن أنفسهم .


وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

قوله عز وجل : { وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءَانَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما هذا الذي حدث في الأرض؟ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر ، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً ، قاله ابن عباس .
وحكى عكرم أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة { اقرأْ بِاسِمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] وحكى ابن عباس كان يقرأ في العشاء { كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
الثاني : أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة .
وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم جن من أهل نصيبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم من أهل نينوى ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .
الرابع : من أهل نجران ، قاله مجاهد .
واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .
الثاني : أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، قاله زر بن حبيش .
الثالث : أنهم كانوا سبعة : ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر والأردن وأنيان الأحقم ، قاله مجاهد .
واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم على قولين :
أحدهما : أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم ، قاله ابن عباس ، والحسن .
الثاني : أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم . روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي » ؟فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك ، قال عكرمة : وقال لابن مسعود : « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ » فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »
ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم . وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال : « كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ ، وَكُلٌّ رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ » فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا ، فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما .
روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«
إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع ، - وَالمَتَاعُ : الزَّادُ - فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ » فقلت : يا رسول الله وما يغني عن ذلك عنهم؟ فقال : « إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة » .
{
فَلَمَّا حَضَرُوه قَالُواْ أنصِتُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن .
الثاني : لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله .
{
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الكلبي : مخوفين : قاله الضحاك .
الثاني : فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
قوله عز وجل : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ } أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{
وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ } أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . { فَليسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ } أي سابق لله فيفوته هرباً .


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

قوله عز وجل : { فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ } فيهم ستة أوجه :
أحدها : أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : أنهم العرب من الأنبياء ، قاله مجاهد والشعبي .
الثالث : من لم تصبه فتنة من الأنبياء ، قاله الحسن .
الرابع : من أصابه منهم بلاء بغير ذنب ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنهم أولوا العزم ، حكاه يحيى .
السادس : أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا .
وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها » .
وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل :
أحدها : أن جميع الأنبياء أولوا العزم ، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى ، قاله عبد العزيز .
الخامس : أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، قاله السدي .
السادس : أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم ، قاله ابن جريج .
{
وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالدعاء عليهم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالعذاب وهذا وعيد .
{
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من العذاب ، قاله يحيى .
الثاني : من الآخرة ، قاله النقاش .
{
لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ } فيه وجهان :
أحدهما : في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى .
الثاني : في قبورهم حتى بعثوا للحساب ، وهو مقتضى قول النقاش .
{
بَلاَغٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ذلك اللبث بلاغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن .
الثالث : أن هذا الذي وصفه الله بلاغ ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين :
{
فَهَلْ يُهْلَكُ } يعني بعد هذا البلاغ .
{
إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } قال يحيى : المشركون .
وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له ، والله أعلم .


الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

قوله عز وجل : { الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني كفروا بتوحيد الله .
{
وَصَدُّواْ عَن سَبيلِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه ، قاله السدي .
الثاني : عن بيت الله يمنع قاصديه إذا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - عليهم الإسلام أن يدخلوا فيه ، قاله الضحاك .
{
أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أحبط ما فعلوه من الخير بما أقاموا عليه من الكفر .
الثاني : أبطل ما أنفقوا ببدر لما نالهم من القتل .
الثالث : أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق .
وحكى مقاتل بن حيان أن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من كفار مكة ، ذكر النقاش أنهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ ءَامَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الأنصار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها نزلت خاصة في ناس من قريش ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : المواساة بمساكنهم وأموالهم ، وهذا قول من زعم أنهم الأنصار .
الثاني : الهجرة وهذا قول من زعم أنهم قريش .
{
وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن .
{
وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن إيمانهم هو الحق من ربهم .
الثاني : أن القرآن هو الحق من ربهم .
{
كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : سترها عليهم .
الثاني : غفرها بإيمانهم .
{
وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أصلح شأنهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أصلح حالهم ، قاله قتادة .
الثالث : أصلح أمرهم ، قاله ابن عباس ، والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم .
الرابع : أصلح نياتهم . حكاه النقاش ، ومنه قول الشاعر :
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وهو على هذا التأويل محمول على إصلاح دينهم ، والبال لا يجمع لأنه أبهم إخوانه من الشأن والحال والأمر .
قوله عز وجل : { ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ } فيه قولان :
أحدهما : أن الباطل الشيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : إبليس ، قاله قتادة ، وسُمِّي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل .
ويحتمل ثالثاً : أنه الهوى .
{
وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : اتبعوا الرسول ، لأنه دعاهم إلى الحق وهو الإسلام .
الثاني : يعني القرآن سمي حقاً لمجيئه بالحق .
{
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } قال يحيى : صفات أعمالهم ، وفي الناس هنا قولان :
أحدهما : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي .
الثاني : جميع الناس ، قاله مقاتل .


فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

قوله عز وجل : { فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فيهم هنا قولان :
أحدهما : أنهم عبدة الأوثان ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة .
وفي قوله : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } وجهان :
أحدهما : ضرب أعناقهم صبراً عند القدرة عليهم .
الثاني : أنه قتلهم بالسلاح واليدين ، قاله السدي .
{
حَتَّى إِذَآ أَثخَنُتُموهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ } يعني بالإثخان الظفر ، وبشد الوثاق الأسر .
{
فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } في المَنِّ هنا قولان : أحدهما : أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره .
الثاني : أنه العتق ، قاله مقاتل .
فأما الفداء ففيه وجهان :
أحدهما : أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق ، كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم ، وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين .
الثاني : أنه البيع ، قاله مقاتل .
{
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن أوزار الحرب أثقالها ، والوزر الثقل ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال ، وأثقالها السلاح .
الثاني : هو [ وضع ] سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، قال الشاعر :
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالاً وخيلاً ذكوراً
الثالث : حتى تضع الحرب أوزار كفرهم بالإسلام ، قاله الفراء .
الرابع : حتى يظهر الإسلام على الدين كله ، وهو قول الكلبي .
الخامس : حتى ينزل عيسى ابن مريم ، قاله مجاهد .
ثم في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم لَعَلَّهُمْ يَذَّكُرُونَ } [ الأنفال : 57 ] قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة الحكم ، وأن الإمام مخير في من أسره منهم بين أربعة أمور : أن يقتل لقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } ، أو يسترق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق العقيلي ، أو يَمُنُّ كما مَنَّ على ثمامة ، أو يفادي بمال أو أَسرى ، فإذا أسلموا أسقط القتل عنهم وكان في الثلاثة الباقية ، على خياره ، وهذا قول الشافعي .
{
ذلِك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لا نَتصَرَ مِنهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالملائكة ، قاله الكلبي .
الثاني : بغير قتال ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قراءة أبي عمرو وحفص ، قال قتادة : هم قتلى أحد . وقرأ الباقون { قَاتَلُواْ } .
{
سَيَهْدِيهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يحق لهم الهداية ، قاله الحسن .
الثاني : يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر ، قاله زياد .
الثالث : يهديهم إلى طريق الجنة ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : عرفها بوصفها على ما يشوق إليها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : عرفهم ما لهم فيها من الكرامة ، قاله مقاتل .
الثالث : معنى عرفها أي طيبها بأنواع الملاذ ، مأخوذ من العرف وهي الرائحة الطيبة ، قاله بعض أهل اللغة .

الرابع : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يسألون عنها ، قاله مجاهد . قال الحسن : وصف الجنة لهم في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها .
ويحتمل خامساً : أنه عرف أهل السماء انها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها .
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرواْ اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : إن تنصروا دين الله ينصركم الله . الثاني : إن تنصروا نبي الله ينصركم الله ، قاله قطرب .
{
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ويثبت أقدامكم في نصره .
الثاني : عند لقاء عدوه .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : يعني تثبيت الأقدام بالنصر .
الثاني : يريد تثبيت القلوب بالأمن .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : خزياً لهم ، قاله السدي .
الثاني : شقاء لهم ، قاله ابن زيد .
الثالث : شتماً لهم من الله ، قاله الحسن .
الرابع : هلاكاً لهم ، قال ثعلب .
الخامس : خيبة لهم ، قاله ابن زياد .
السادس : قبحاً لهم ، حكاه النقاش .
السابع : بعدائهم ، قاله ابن جريج .
الثامن : رغماً لهم ، قاله الضحاك .
التاسع : أن التعس الانحطاط والعثار ، حكاه ابن عيسى .


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

قوله عز وجل : { وَكَأيّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكم من قرية ، وأنشد الأخفش للبيد :
وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل
فيكون معناه : وكم من أهل قرية .
{
هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً } أي أهلها أشد قوة .
{
مِّن قَرْيَتِكَ } يعني مكة .
{
الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي أخرجك أهلها عند هجرتك منها .
{
أَهْلكْنَاهُمْ } يعني بالعذاب .
{
فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } يعني فلا مانع لهم منا ، وهذا وعيد .


أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

قوله عز وجل : { أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية ، والبينة الوحي .
الثالث : أنهم المؤمنون ، قاله الحسن ، والبينة معجزة الرسول .
الرابع : أنه الدين ، قاله الكلبي .
{
كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فيه قولان :
أحدهما : عبادتهم الأوثان ، قاله الضحاك .
الثاني : شركهم ، قاله قتادة ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم كافة المشركين .
الثاني : أنهم الإثنا عشر رجلاً من قريش .
وفيمن زينه لهم قولان :
أحدهما : الشيطان .
الثاني : أنفسهم .
{
وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم } فيه قولان :
أحدهما : أنه نعت لمن زين له سوء عمله .
الثاني : أنهم المنافقون ، قاله ابن زيد .


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

قوله عز وجل : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } هم المنافقون : عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، ورفاعة بن التابوت ، وزيد بن الصليت ، والحارث بن عمرو ، ومالك بن الدخشم . وفيما يستمعونه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : أنهم كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، فيسمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه المنافق .
{
حَتَّى إِذا خَرَجُواْ مِن عِندِكَ } أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{
قَالُواْ لِلَّذِينَ أوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عبد الله بن عباس ، قاله عكرمة .
الثاني : عبد الله بن مسعود ، قاله عبد الله بن بريدة .
الثالث : أبو الدرداء ، قاله القاسم بن عبد الرحمن .
الرابع : أنهم الصحابة ، قاله ابن زيد .
{
مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } هذا سؤال المنافقين للذين أُوتوا العلم إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه وجهان :
أحدهما : يعني قريباً .
الثاني : مبتدئاً .
وفي مقصودهم بهذا السؤال وجهان :
أحدهما : الإستهزاء بما سمعوه .
الثاني : البحث عما جهلوه .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإستهزاء زاد المؤمنين هدى ، قاله الفراء .
الثاني : أن القرآن زادهم هدى ، قاله ابن جريج .
الثالث : أن الناسخ والمنسوخ زادهم هدى ، قاله عطية .
وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل :
أحدها : زادهم علماً ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : علموا ما سمعوا ، وعلموا بما عملوا ، قاله الضحاك .
الثالث : زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم ، قاله الكلبي .
الرابع : شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان .
ويحتمل خامساً : والذين اهتدوا بالحق زادهم هدى للحق .
{
وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : آتاهم الخشية ، قاله الربيع .
الثاني : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السدي .
الثالث : وفقهم للعمل الذي فرض عليهم ، قاله مقاتل .
الرابع : بين لهم ما يتقون ، قاله ابن زياد .
الخامس : أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ ، قاله عطية .
قوله عز وجل : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغْتَةً } أي فجأة .
{
فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أشراطها آياتها ، قاله ابن زيد .
الثاني : أوائلها ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
الرابع : ظهور النبي ، قاله الضحاك . قال الضحاك لأنه آخر الرسل وأمته آخر الأمم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتِينِ » وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
{
فَأَنَّى لَهُمْ } قال السدي : معناه فكيف لهم النجاة .
{
إذَا جَآءَتْهُمْ ذِكرَاهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : إذا جاءتهم الساعة ، قاله قتادة .
الثاني : إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة ، قاله ابن زيد .

وفي الذكرى وجهان :
أحدهما : تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر .
الثاني : هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيراً أو تخويفاً . روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَحْسِنُواْ أَسْمَآءَكُم فَإِنَّكُم تُدْعَوْنَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ ، يَا فُلاَنُ قُمْ إِلَى نُورِكَ ، يَا فُلاَنُ قُمْ فَلاَ نُورَ لَكَ » .
قوله عز وجل : { فَاعلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ } وفي - وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالماً به - ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله .
الثاني : ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً .
الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه .
{
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب .
الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب .
{
وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي استغفر لهم ذنوبهم .
{
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : متقلبكم في أسفاركم ، ومثواكم في أوطانكم .
الثاني : متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً .


وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

قوله عز وجل : { وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزَّلِتْ سُورَةٌ } كان المؤمنون إذا تأخر نزول القرآن اشتاقوا إليه وتمنوه ليعلموا أوامر الله وتعبده لهم .
{
فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } وفي قراءة ابن مسعود : فإذا أنزلت سورة محدثة { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } .
في السورة المحكمة قولان :
أحدهما : أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام ، قاله ابن زياد النقاش .
الثاني : أنها التي يذكر فيها القتال : وهي أشد القرآن على المنافقين ، قاله قتادة .
ويحتمل :
ثالثاً : أنها التي تضمنت نصوصاً لم يتعقبها ناسخ ولم يختلف فيها تأويل :
{
رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } هم المنافقون ، لأن قلوبهم كالمريضة بالشك . فإذا أنزلت السورة المحكمة سر بها المؤمنون وسارعوا إلى العمل بما فيها ، واغتم المنافقون ونظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{
نَظَرَ الْمَغْشِّيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوتِ } غماً بها وفزعاً منها .
{
فَأَوْلَى لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه وعيد ، كأنه قال : العقاب أولى لهم ، قاله قتادة .
الثاني : أولى لهم ، { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } من أن يجزعوا من فرض الجهاد عليهم ، قاله الحسن .
وفيه وجه ثالث : أن قوله { طَاعَةٌ وَقُوْلٌ مَعْرُوفٌ } حكاية من الله عنهم قبل فرض الجهاد عليهم ، ذكره ابن عيسى .
والطاعة هي الطاعة لله ورسوله في الأوامر والنواهي . وفي القول المعروف وجهان :
أحدهما : هو الصدق والقبول .
الثاني : الإجابة بالسمع والطاعة .
{
فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي جد الأمر في القتال .
{
فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّه } بأعمالهم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من نفاقهم .
قوله عز وجل : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم ، قاله الكلبي .
الثاني : فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا ، قاله أبو العالية .
الثالث : فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام . { وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } ، قاله قتادة .
الرابع : فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام ، قاله ابن جريج .
وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى بها المنافقين وهو الظاهر .
الثاني : قريشاً ، قاله أبو حيان .
الثالث : أنها نزلت في الخوارج ، قاله بكر بن عبد الله المزني .


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما علموا في التوراة أنه نبي ، قاله قتادة وابن جريج .
الثاني : المنافقون قعدوا عن القتال من بعدما علموه في القرآن ، قاله السدي .
{
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أعطاهم سؤالهم ، قاله ابن بحر .
الثاني : زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن .
{
وَأَمْلَى لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أمهلهم ، قاله الكلبي ومقاتل فعلى هذا يكون الله تعالى هو الذي أملى لهم بالإمهال في عذابهم .
والوجه الثاني : أن معنى أملى لهم أي مد لهم في الأمل فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى هو الذي أملى لهم في الأمل ، قاله الفراء والمفضل .
الثاني : أن الشيطان هو الذي أملى لهم في مد الأمل بالتسويف ، قاله الحسن .
{
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ } وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : أنهم اليهود قالوا للمنافقين سنطيعكم في بعض الأمر . وفيما أرادوا بذلك وجهان :
أحدهما : سنطيعكم في ألا نصدق بشيء ، من مقالته ، قاله الضحاك .
الثاني : سنطيعكم في كتم ما علمنا من نبوته ، قاله ابن جريج .
القول الثاني : أنهم المنافقون قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر وفيما أرادوه بذلك ثلاثة أوجه :
أحدهما : سنطيعكم في غير القتال من بغض محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن نصرته ، قال السدي .
الثاني : سنطيعكم في الميل إليكم والمظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : سنطيعكم في الارتداد بعد الإيمان .
{
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما اسر بعضهم إلى بعض من هذا القول .
الثاني : ما أسروه في أنفسهم من هذا الاعتقاد .
قوله عز وجل : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالقتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : بقبض الأرواح عند الموت .
{
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ } يكون على احتمال وجهين :
أحدهما : يضربون وجوههم في القتال عند الطلب وأدبارهم عند الهرب .
الثاني : يضربون وجوههم عند الموت بصحائف كفرهم ، وأدبارهم في القيامة عند سوقهم إلى النار .


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

قوله عز وجل : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه وجهان :
أحدهما : شك ، قاله مقاتل .
الثاني : نفاق ، قاله الكلبي .
{
أَن لن يُخْرِجَ أَضْغَانَهُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : غشهم ، قاله السدي .
الثاني : حسدهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : حقدهم ، قاله ابن عيسى .
الرابع : عدوانهم ، قاله قطرب وأنشد :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وسر ذا الأضغان
قوله عز وجل : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } فيه وجهان :
أحدهما : في كذب القول ، قاله الكلبي .
الثاني : في فحوى كلامهم ، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته ، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّكُم لَتَحْتَكِمُونَ إِليَّ ، أَحَدَكُمْ أَن يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ » أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام . قال مرار الأسدي :
ولحنت لحناً فيه غش ورابني ... صدودك ترصين الوشاة الأعاديا
قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه .
{
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم } فيه وجهان :
أحدهما : المجاهدين في سبيل الله .
الثاني : الزاهدين في الدنيا .
{
وَالصَّابِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : على الجهاد .
الثاني : عن الدنيا .
{
وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نختبر أسراركم .
الثاني : ما تستقبلونه من أفعالكم .


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

{
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } فيه وجهان :
أحدهما : أطيعوا الله بتوحيده ، وأطيعوا الرسول بتصديقه .
الثاني : أطيعوا الله في حرمة الرسول ، وأطيعوا الرسول في تعظيم الله .
{
وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي ، قاله الحسن .
الثاني : لا تبطلوها بالكبائر ، قاله الزهري .
الثالث : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وأخلصوها لله ، قاله ابن جريج والكلبي .
قوله عز وجل : { وَلَن يَتِرَكُم أَعمَالَكْم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لن ينقصكم أعمالكم ، قاله مجاهد وقطرب . وأنشد قول الشاعر :
إن تترني من الإجارة شيئاً ... لا يفتني على الصراط بحقي
الثاني : لن يظلمكم ، قاله قتادة ، يعني أجور أعمالكم .
الثالث : ولا يستلبكم أعمالكم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » .


إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله عز وجل : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يسألكم أموالكم لنفسه .
الثاني : لا يسألكم جميع أموالكم في الزكاة ولكن بعضها .
الثالث : لا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله ، لأنه أملك بها وهو المنعم بإعطائها .
{
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإخفاء أخذ الجميع ، قاله ابن زيد وقطرب .
الثاني : أنه الإلحاح وإكثار السؤال ، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا ، قاله ابن عيينة .
{
وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم .
الثاني : تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم .
قوله عز وجل : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وإن تتولوا عن كتابي ، قاله قتادة .
الثاني : عن طاعتي ، حكاه ابن أبي حاتم .
الثالث : عن الصدقة التي أُمرتم بها ، قاله الكلبي .
الرابع : عن هذا الأمر فلا تقبلونه ، قاله ابن زيد .
{
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل اليمن وهم الأنصار ، قاله شريح بن عبيد .
الثاني : أنهم الفرس . روى أبو هريرة قال : لما نزل { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوآ أمْثَالَكُم } كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان وقال : « هذا وَقَومُهُ ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ الدِّينَ مُعَلَّقٌ بِالثُّرَيَّا لَنالَهُ رَِجَالٌ مِن أَبْنَاءِ فَارِس » .
الثالث : أنهم من شاء من سائر الناس ، قاله مجاهد .
{
ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم } فيه وجهان :
أحدهما : يعني في البخل بالإنفاق في سبيل الله ، قاله الطبري .
الثاني : في المعصية وترك الطاعة .
وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنْيَا » .


إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

قوله عز وجل : { إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } فيه قولان :
أحدهما : إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين . وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] أي علم الغيب ، قاله ابن بحر . وكقوله { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم .
الثاني : إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد .
وفي المراد بهذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة ، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها .
الثاني : هو ما كان من أمره بالحديبية . قال الشعبي : نزلت { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها . بويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره ، وبلغ الهدي محله ، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية ، قال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية .
الثاني : أنه بيعة الرضوان . قال البراء بن عازب : انتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية .
الثالث : أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر .
والحديبية بئر ، وفيها تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد غارت فجاشت بالرواء .
{
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك .
الثاني : يصبرك على أذى قومك .
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح .
الثاني : ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة .
الثالث : ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان .
ويحتمل رابعاً : ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها .
{
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } فيه قولان :
أحدهما : بفتح مكة والطائف وخيبر .
الثاني : بخضوع من استكبر . وطاعة من تجبر .
{
وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر .
الثاني : أنه الظفر والإسلام وفتح مكة .
وسبب نزول هذه الآية ، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } قال أهل مكة : يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما أخبر عيسى ابن مريم؟ فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حتى قدم المدينة ، فقال عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - للأنصار : كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه؟ هذا والله الضلال المبين . فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك؟ فقال : إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما . إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه ، قال قائل منهم : هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } الآية .


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

قوله عز وجل : { هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الصبر على أمر الله .
الثاني : أنها الثقة بوعد الله .
الثالث : أنها الرحمة لعباد الله .
{
لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ليزدادوا عملاً مع تصديقهم .
الثاني : ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم .
الثالث : ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء .
{
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه : ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة .
الثاني : معناه : ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم .
قوله عز وجل : { الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : هو ظنهم أن لله شريكاً .
الثاني : هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً .
الثالث : هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله .
الرابع : أن سينصرهم على رسوله .
قال الضحاك : ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً ، فعاد ظافراً .
{
عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : عليهم يدور سوء اعتقادهم .
الثاني : عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم .


إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

قوله عز وجل : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شاهداًعلى أمتك بالبلاغ ، قاله قتادة .
الثاني : شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية .
الثالث : مبيناً ما أرسلناك به إليهم .
{
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } فيه وجهان :
أحدهما : مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين .
الثاني : مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى ، قاله قتادة ، والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر . قال النابغة الذبياني :
تناذرها الراقون من سوء سعيها ... تطلقها طوراً وطوراً تراجع
قوله عز وجل : { وَتُعَزِّرُوهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تطيعوه ، قاله بعض أهل اللغة .
الثاني : تعظموه ، قاله الحسن والكلبي .
الثالث : تنصروه وتمنعوا منه ، ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع ، قاله القطامي :
ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر
وفي { وَتُوَقِّرُوهُ } وجهان :
أحدهما : تسودوه ، قاله السدي .
الثاني : أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر : فمنهم من قال أن المراد بقوله : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ } أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله : { وَتُسَبِّحُوهُ } راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه ، فعلى هذا يكون تأويل قوله : { وَتُوَقِّرُوهُ } أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك .
ومنهم من قال : المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها ، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله ، قاله الضحاك . فعلى هذا يكون تأويل { تُوَقِّرُوهُ } أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية .
{
وتُسَبِّحُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح .
الثاني : هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح .
{
بُكْرَةً وَأصِيلاً } أي غدوة وعشياً . قال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل


سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

قوله عز وجل : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فاسدين قاله قتادة .
الثاني : هالكين ، قاله مجاهد . قال عبد الله بن الزبعرى :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
الثالث : أشرار ، قاله ابن بحر . وقال حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور


سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

قوله عز وجل : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : قوله : { لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً } حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء ، قاله ابن زيد .


قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

قوله عز وجل : { قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ } وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين ، لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف ، منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ } [ التوبة : 101 ] الآية . ومنهم من اعترف بذنبه وتاب ، وهم من قال الله فيهم : { وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً } [ التوبة : 102 ] الآية . ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى : { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] فهؤلاء المخاطبون بقوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين .
قوله عز وجل : { سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ . . . } الآية . فيهم خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل فارس ، قاله ابن عباس .
الثاني : الروم ، قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
الثالث : هوازن وغطفان بحنين ، قاله سعيد بن جبير وقتادة .
الرابع : بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب ، قاله الزهري .
الخامس : أنهم قوم لم يأتوا بعد ، قاله أبو هريرة .


لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

قوله عز وجل : { لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ } كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله ، فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد ، وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة ، وقال جابر : كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى : ألفاً وثلاثمائةً .
وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة . وسميت بيعة الرضوان ، لقوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من صدق النية ، قاله الفراء .
الثاني : من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، قاله مقاتل .
{
فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : فتح خيبر لقربها من الحديبية ، قاله قتادة .
الثاني : فتح مكة .


وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

قوله عز وجل : { وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } فيه قولان :
أحدهما : هي مغانم خيبر ، قاله ابن زيد .
الثاني : هو كل مغنم غنمه المسلمون ، قاله مجاهد .
{
فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } فيه قولان :
أحدهما : مغانم خيبر ، قاله مجاهد .
الثاني : صلح الحديبية ، قاله ابن عباس .
{
وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية .
الثاني : قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية .
الثالث : أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر ، فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا .
{
وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين .
الثاني : ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره . قيل لتكون البيعة آية لهم .
قوله عز وجل : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي مكة ، قاله قتادة .
الثالث : هي أرض خيبر ، قاله الضحاك .
في قوله : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } وجهان :
أحدهما : قدر الله عليها ، قاله ابن بحر .
الثاني : حفظها عليكم ليكون فتحها لكم .
قوله عز وجل : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه .
وفي قوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } وجهان :
أحدهما : ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه .
الثاني : لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي .
الثاني : كف أيديهم عنكم بالخذلان ، وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم .
الثالث : كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية .
{
بِبَطْنِ مَكَّةَ } فيه قولان :
أحدهما : يريد به مكة .
الثاني : يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام .
وفي قوله : { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة ، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله { كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم } .
الثاني : أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها .
الثالث : أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان هذا هو الظفر .


هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قوله عز وجل : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني قريشاً .
{
وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة .
{
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محبوساً .
الثاني : واقفاً .
الثالث : مجموعاً ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
{
أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : منحره ، قاله الفراء .
الثاني : الحرم ، قال الشافعي ، والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء ، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس ، وكان الهدي سبعين بدنة .
{
وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ } أي لم تعلموا إيمانهم .
{
أَن تَطَئُوهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم ، قاله الضحاك .
{
فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } فيها ستة أقاويل :
أحدها : الإثم ، قاله ابن زيد .
الثاني : غرم الدية ، قاله ابن إسحاق .
الثالث : كفارة قتل الخطأ ، قاله الكلبي .
الرابع : الشدة ، قاله قطرب .
الخامس : العيب .
السادس : الغم .
قوله عز وجل : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لو تميزوا ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : لو تفرقوا ، قاله الكلبي .
الثالث : لو أزيلوا ، قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم .
{
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً } وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
قوله عز وجل : { إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } يعني قريشاً . وفي حمية الجاهلية قولان :
أحدهما : العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، والأنفة من أن يعبدوا غيرها ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة ، ومنعهم له من دخول مكة ، قال الزهري .
ويحتمل ثالثاً : هو الاقتداء بآبائهم ، وألا يخالفوا لهم عادة ، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم { إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
{
فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ } يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا ، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته .
{
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } فيها أربعة أوجه :
أحدها : قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وهو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الإخلاص ، قاله مجاهد .
الثالث : قول بسم الله الرحمن الرحيم ، قاله الزهري .
الرابع : قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم . وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله .
{
وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها .
الثاني : وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها .
وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان :
أحدهما : أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق .
الثاني : أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها ، لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق .


لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

قوله عز وجل : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام ، أنه يدخل مكة على هذه الصفة ، فلما صالح قريشاً بالحديبية ، ارتاب المنافقون ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : « فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ »
ثم قال : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } فيه قولان :
أحدهما : علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم ، قاله الكلبي .
الثاني : علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية .
ثُمَّ قَالَ : { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } فيه قولان :
أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش بالحديبية ، قاله مجاهد .
الثاني : فتح مكة ، قاله ابن زيد والضحاك .
وفي قوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء .
الثاني : أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين ، ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله .
الثالث : إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم ، ولأنه علم أن بعضهم يموت .


مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله عز وجل : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أنه ثرى الأرض وندى الطهور ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنها صلاتهم تبدوا في وجوههم ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه السمت ، قاله الحسن .
الرابع : الخشوع ، قاله مجاهد .
الخامس : هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً ، قاله الضحاك .
السادس : هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة ، قاله عطية العوفي .
{
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَأَهُ } فيه قولان :
أحدهما : أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه .
الثاني : أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل .
وقوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الشطأ شوك السنبل ، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي ، قاله قطرب .
الثاني : أنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الكلبي والفراء .
الثالث : أنه فراخه التي تخرج من جوانبه ، ومنه شاطىء النهر جانبه ، قاله الأخفش .
{
فَآزَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : فساواه فصار مثل الأم ، قاله السدي .
الثاني : فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها .
{
فَاسْتَغْلَظَ } يعني اجتماع الفراخ مع الأصول .
{
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } أي على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له .
{
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب الزراع بقوة رزعهم هو الذي غاظ الكفار منهم .
ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً ، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان ، والله أعلم .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيَّ كذا ، لو أنزل فيَّ كذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه ، قاله ابن عباس .
الثالث : معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله ، حتى يقضي الله على لسان رسوله ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح ، قاله الحسن .
الخامس : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله ، قال الزجاج .
وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر فقتلوهما ، فجاء بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين .
{
وَاتَّقُواْ اللَّهَ } يعني في التقدم المنهي عنه .
{
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لقولكم { عَلِيمٌ } بفعلكم .
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ } قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما ، فنزلت هذه الآية ، فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .
{
وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الجهر بالصوت . روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال : يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ » ؟ فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة .
الثاني : أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو بعضهم بعضاً بالاسم والكنية ، وهو معنى قوله { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى { لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } [ النور : 63 ] .
{
أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه فتحبط أعمالكم .
الثاني : لئلا تحبط أعمالكم .
{
وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بحبط أعمالكم .
قوله عز وجل : { . . . أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه أخلصها للتقوى ، قاله الفراء .
الثاني : معناه اختصها للتقوى ، قاله الأخفش .


إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ } الآية . اختلف في سبب نزولها ، فروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرة : يا محمد ، إن مدحي زين وشتمي شين ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « وَيْلُكَ ذَاكَ اللَّهُ ، ذَاكَ اللَّهُ » فأنزل الله هذه الآية ، فهذا قول . وروى زيد بن أرقم قال : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكاً نعش في جنابه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه ، وهو في حجرته يا محمد ، فأنزل الله هذه الآية . قيل : إنهم كانوا من بني تميم . قال مقاتل : كانوا تسعة نفر : قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هشام ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن .
وفي قوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وجهان :
أحدهما : لا يعلمون ، فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه ، قاله ابن بحر .
الثاني : لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم ، وهو محتمل .
والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة .
{
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لأطلقت أسراهم بغير فداء ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر ، فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِق بِنَبَإِ فَتَبَيَّنُواْ } الآية . نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وسبب نزولها ما رواه سعيد عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد ابن عقبة مصدقاً لبني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا ، أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعادوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فنزلت هذه الآية . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « التأني من الله والعجلة من الشيطان » وفي هذه الآية دليل على أن خبر الواحد مقبول إذا كان عدلاً .
قوله عز وجل : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لأثمتم ، قاله مقاتل .
الثاني : لاتهمتم ، قاله الكلبي .
الثالث : لغويتم .
الرابع : لهلكتم .
الخامس : لنالتكم شدة ومشقة .
قال قتادة : هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا ، فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا .
{
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ } فيه وجهان :
أحدهما : حسنه عندكم ، قاله ابن زيد .
الثاني : قاله الحسن . بما وصف من الثواب عليه .
{
وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب ، قاله ابن بحر .
الثاني : بالدلالات على صحته .
{
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الكذب خاصة ، قاله ابن زيد .
الثاني : كل ما خرج عن الطاعة .


وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

قوله عز وجل : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } اختلف في سبب نزولها على أربعة أقاويل :
أحدها : ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم . الثاني : ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته ، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، فنزلت فيهم .
الثالث : ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستعان أهله ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت هذه الآية فيهم .
الرابع : ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس ، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمار له على عبد الله بن أبي ، وهو في مجلس قومه ، فراث حمار النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمسك عبد الله أنفه وقال : إليك حمارك ، فغضب عبد الله بن رواحة ، وقال : أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك ، فغضب قومه ، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم ، فأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم .
{
فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى } البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق .
{
فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي } فيه وجهان :
أحدهما : تبغي في التعدي في القتال .
الثاني : في العدول عن الصلح ، قاله الفراء .
{
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم ، قاله قتادة .
{
فَإِن فَآءَتْ } أي رجعت .
{
فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالحق .
الثاني : بكتاب الله ، قاله سعيد بن جبير .
{
وَأَقْسِطُواْ } معناه واعدلوا .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : اعدلوا في ترك الهوى والممايلة .
الثاني : في ترك العقوبة والمؤاخذة .
{
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي العادلين قال أبو مالك : في القول والفعل .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مَِّن قَوْمٍ } الآية . أما القوم فهم الرجال خاصة ، لذلك ذكر بعدهم النساء . ويسمى الرجال قوماً لقيام بعضهم مع بعض في الأمور ، ولأنهم يقومون بالأمور دون النساء ، ومنه قول الشاعر :
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وفي هذه السخرية المنهي عنها قولان :
أحدهما : أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه ، قاله ابن زيد .
ويحتمل ثالثاً : أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة .
{
عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } عند الله تعالى . ويحتمل : خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً . { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ } .
{
وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : ولا تلمزوا أهل دينكم .
الثاني : لا تلمزوا بعضكم بعضاً : واللمز : العيب .
وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يطعن بعضكم على بعض ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير .
الثاني : لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً ، قاله الحسن .
الثالث : لا يلعن بعضكم بعضاً ، قاله الضحاك .
{
وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ } في النبز وجهان :
أحدهما : أنه اللقب الثابت ، قاله المبرد .
الثاني : أن النبز القول القبيح ، وفيه هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به . قال الشعبي : روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا ، فنزلت هذه الآية .
الثاني : أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام . . . يا فاسق . . . يا سارق ، يا زاني ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه ، قاله عكرمة .
الرابع : أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام ، لمن أسلم من اليهود . . . يا يهودي ، ومن النصارى . . . يا نصراني ، قاله ابن عباس ، والحسن . فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب .
واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسمع حديثه ، فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال : « تَفَسَّحُواْ » ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسح وقال : « قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً » فنبذه ثابت ، بلقب كان لأمه مكروهاً ، فنزلت ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري ، وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد : يا أعرابي ، فقال له عبد الله : يا يهودي ، فتشاكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فيهما ، حكاه مقاتل .
الثالث : أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم .
الرابع : أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة .
واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل : عابتها بالقصر ، وقال غيره : عابتها بلباس تشهرت به .


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ } يعني ظن السوء . بالمسلم توهماً من غير تعلمه يقيناً .
{
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ظن السوء .
الثاني : أن يتكلم بما ظنه فيكون إثماً ، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً ، قاله مقاتل بن حيان .
{
وَلاَ تَجَسَّسُوا } فيه وجهان :
أحدهما : هو أن يتبع عثرات المؤمن ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : هو البحث عم خفي حتى يظهر ، قاله الأوزاعي .
وفي التجسس والتحسس وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد ، قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء . وقال الشاعر :
تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها ... إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس
وقال أبو عمرو الشيباني : الجاسوس : صاحب سر الشر ، والناموس صاحب سر الخير .
والوجه الثاني : أنهما مختلفان . وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه .
الثاني : أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره . والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره .
{
وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة : ذكر العيب بظهر الغيب ، قال الحسن : الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان ، فأما الغيبة ، فأن تقول في أخيك ما هو فيه . وإما الإفك ، فأن تقول فيه ما بلغك عنه . وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه .
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال : « هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ » .
{
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً .
الثاني : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً ، قاله قتادة . واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
{
فَكَرِهْتُمُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فكرهتم أكل الميتة ، كذلك فاكرهوا الغيبة .
الثاني : فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس .


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } قصد بهذه الآية . النهي عن التفاخر بالأنساب ، وبين التساوي فيها بأن خلقهم من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء .
ثم قال : { وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ } فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب ، قاله مجاهد ، وقتادة . وقال الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب
وسموا شعوباً لأن القبائل تشعبت منها .
الثاني : أن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان .
الثالث : أن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب .
ويحتمل رابعاً : أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشتركون في الأنساب ، قال الشاعر :
وتفرقوا شعباً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
والشعوب جمع شَعب بفتح الشين ، والشِّعب بكسر الشين هو الطريق وجمعه شعاب ، فكان اختلاف الجمعين مع اتفاق اللفظين تنبيهاً على اختلاف المعنيين .
{
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم } إن أفضلكم ، والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب .


قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله عز وجل : { قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم أقروا ولم يعملوا ، فالإسلام قول والإيمان عمل ، قاله الزهري .
الثاني : أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا ، لم نقاتلك ، فقال الله تعالى لنبيه : قل لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف ، قاله قتادة . لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، فلم يكونوا مؤمنين ، وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين ، فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر :
طال النهار على من لا لقاح له ... إلا الهدية أو ترك بإسلام
ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء ، لأن كل واحد منهما تصديق وعمل .
وإنما يختلفان من وجهين :
أحدهما : من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن ، والإسلام مشتق من السلم .
الثاني : أن الإسلام علم لدين محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان لجميع الأديان ، ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين ، ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين . قال الفراء : ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد .
قوله عز وجل : { . . . لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً } فيه وجهان :
أحدهما : لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً ، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها .
الثاني : ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا نقصاً ولا كذباً .
وفيه قراءتان : { يَلِتْكم } و { يألتكم } وفيها وجهان :
أحدها : [ أنهما ] لغتان معناهما واحد .
الثاني : يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم .
قوله عز وجل : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم } الآية . هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً ، وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه ، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه ، وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً .
فقال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم ، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم ، فالمنة فيه عليهم .
ثم قال : { بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم . وتكون المنة هي التحمد بالنعمة .
الثاني : أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم ، وتكون المنة هي النعمة . وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى .
{
إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يعني فيما قلتم من الإيمان .


ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

قوله عز وجل : { ق } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم بها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أن معناه قضى والله ، كما قيل في حم : حم والله ، وهذا معنى قول مجاهد .
الرابع : أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا ، قاله الضحاك .
قال مقاتل : وعروق الجبال كلها منه .
ويحتمل خامساً : أن يكون معناه قف؛ كما قال الشاعر :
قلت لها قفي فقالت قاف ... . . . . . . . . . . . .
أي وقفت . ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين :
أحدهما : قف على إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب .
الثاني : قف على العمل بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به .
{
وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الكريم ، قاله الحسن .
الثاني : أنه مأخوذ من كثرة القدرة والمنزلة ، لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس ، ومنه قول العرب في المثل السائر : لها في كل الشجر نار ، واستجمد المرخ والعفار ، أي استكثر هذان النوعان من النار وزاد على سائر الشجر ، قاله ابن بحر .
الثالث : أنه العظيم ، مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ الربيع . { والْقُرْءَانِ المَجِيدِ } قسم أقسم الله به تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا يكون إلا بالمعظم . وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين :
أحدهما : هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ } .
الثاني : أنكم مبعوثون بدليل قوله : { إِئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } .
قوله عز وجل : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{
فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد ، قاله قتادة .
الثاني : عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، من قبل الله تعالى .
الثالث : أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث والنشور .
قوله عز وجل : { قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُم } فيه وجهان :
أحدهما : من يموت منهم ، قاله قتادة .
الثاني : يعني ما تأكله الأرض من لحومهم وتبليه من عظامهم ، قاله الضحاك .
{
وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } يعني اللوح المحفوظ . وفي حفيظ وجهان :
أحدهما : حفيظ لأعمالهم .
الثاني : لما يأكله التراب من لحومهم وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم .
قوله عز وجل : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ . . . } الآية . الحق يعني القرآن في قول الجميع .
{
مَرِيجٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن المريج المختلط . قاله الضحاك .
الثاني : المختلف ، قاله قتادة .
الثالث : الملتبس ، قاله الحسن .
الرابع : الفاسد ، قاله أبو هريرة . ومنه قول أبي دؤاد :
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد


أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

قوله عز وجل : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من شقوق .
الثاني : من فتوق ، قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند العروج .
قوله عز وجل : { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي بسطناها .
{
وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } يعني الجبال الرواسي الثوابت ، واحدها راسية قال الشاعر :
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
{
مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي من كل نوع .
{
بَهِيجٍ } فيه وجهان :
أحدهما : حسن ، مأخوذ من البهجة وهي الحسن .
الثاني : سارّ مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني ، لأن السرور يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً . قال الشعبي : الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
قوله عز وجل : { تَبْصِرَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بصيرة للإنسان ، قاله مجاهد .
الثاني : نعماً بصر الله بها عباده ، قاله قتادة .
الثالث : يعني دلالة وبرهاناً .
{
وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المنيب المخلص ، قاله السدي .
الثاني : أنه التائب إلى ربه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الراجع المتذكر ، قاله ابن بحر .
وقد عم الله بهذه التبصرة والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه إليها .
قوله عز وجل : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً مُّبَارَكاً } يعني المطر ، لأنه به يحيا النبات والحيوان .
{
فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } فيها هنا وجهان :
أحدهما : أنها البساتين ، قاله الجمهور .
الثاني : الشجر ، قاله ابن بحر .
{
وَحَبَّ الْحَصِيدِ } يعني البر والشعير ، وكل ما يحصد من الحبوب ، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً ، قال الأعشى :
لسنا كما إياد دارها ... تكريث ينظر حبه أن يحصدا
قوله عز وجل : { وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ } فيها وجهان :
أحدهما : أنها الطوال ، قاله ابن عباس ومجاهد . قاله الشاعر :
يا ابن الذين بفضلهم ... بسقت على قيس فزاره
أي طالت عليهم .
(
الثاني ) أنها التي قد ثقلت من الحمل ، قاله عكرمة . وقال الشاعر :
فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر
{
نَضِيدٌ } أي منضود ، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن النضيد المتراكم المتراكب ، قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه .
الثاني : أنه المنظوم ، وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : أنه القائم المعتدل ، قاله ابن الهاد .
قوله عز وجل : { رِزْقاً لِلْعِبَادِ } يعني ما أنزله من السماء من ماء مبارك ، وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد وطلع نضيد .
{
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ الْخُرُوجُ } جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من وجهين :
أحدهما : أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون .
الثاني : أنه لما شوهد من قدرته ، إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء .


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

قوله عز وجل : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ } في الرس وجهان :
أحدهما : أنه كل حفرة في الأرض من بئر وقبر .
الثاني : أنها البئر التي لم تطو بحجر ولا غيره .
وأما أصحاب الرس ففيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنها بئر قتل فيها صاحب ياسين ورسوه ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم أهل بئر بأذربيجان ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم قوم باليمامة كان لهم آبار ، قاله قتادة . قال الزهير :
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم
الرابع : أنهم أصحاب الأخدود .
{
وَثَمُودُ } وهم قوم صالح ، وكانوا عرباً بوادي القرى وما حولها . وثمود مأخوذ من الثمد وهو الماء القليل الكدر ، قال النابغة :
واحكم بحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
{
وَعَادٌ } وهو اسم رجل كان من العماليق كثر ولده ، فصاروا قبائل وكانوا باليمن بالأحقاف ، والأحقاف الرمال ، وهم قوم هود .
{
فِرْعَوْنَ } وقد اختلف في أصله فحكي عن مجاهد أنه كان فارسياً من أهل إصطخر . وقال ابن لهيعة : كان من أهل مصر وحكي عن ابن عباس أنه عاش ثلاثمائة سنة منها مائتان وعشرون سنة لا يرى ما يقذي عينه ، فدعاه موسى ثمانين سنة . وحكى غيره أنه عاش أربعمائة سنة .
واختلف في نسبه فقال بعضهم هو من لخم ، وقال آخرون هو من تبَّع .
{
وَإِخْوَانُ لُوطٍ } يعني قومه وأتباعه ، قال مجاهد : كانوا أربعمائة ألف بيت ، في كل بيت عشرة مردة ، فكانوا أربعة آلاف ألف .
وقال عطاء : ما من أحد من الأنبياء إلا وقد يقوم معه قوم إلا لوط فإنه يقوم وحده .
{
وَأَصَحَابُ الأَيْكَةِ } والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف كما قال أبو داود الإيادي :
كأن عرين أيكته تلاقى ... بها جمعان من نبط وروم
قال قتادة : وكان عامة شجرها الدوم ، وكان رسولهم شعيباً ، وأرسل إليهم ، وإلى أهل مدين ، أرسل إلى أمتين من الناس ، وعذبتا بعذابين ، أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة ، وأما أصحاب الأيكة فكانوا أهل شجر متكاوس .
{
وَقَوْمُ تُبَّعٍ } وتبع كان رجلاً من ملوك العرب من حِمير ، سُمّي تبعاً لكثرة من تبعه . قال وهب : إن تبعاً أسلم وكفر قومه ، فلذلك ذكر قومه ، ولم يذكر تبع . قال قتادة وهو الذي حير الحيرة وفتح سمرقند حتى أخربها ، وكان يكتب إذا كتب : بسم الله الذي تَسمَّى وملك براً وبحراً وضحى وريحاً .
{
كُلٌّ كَذَّبَ الرَّسَلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } يعني أن كل هؤلاء كذبوا من أرسل إليهم ، فحق عليهم وعيد الله وعذابه . فذكر الله قصص هؤلاء لهذه الأمة ، ليعلم المكذبون منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كغيرهم من مكذبي الرسل إن أقاموا على التكذيب فلم يأمنوا ، حتى أرشد الله منهم من أرشد وتبعهم رغباً ورهباً من تبع .

قوله عز وجل : { أَفَعِيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هَمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أما اللبس فهو اكتساب الشك ، ومنه قول الخنساء :
صدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا
والخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأول . وفي معنى الكلام تأويلان :
أحدهما : أفعجزنا عن إهلاك الخلق الأول ، يعني من تقدم ذكره حين كذبوا رسلي مع قوتهم ، حتى تشكوا في إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم ، فيكون هذا خارجاً منه مخرج الوعيد .
الثاني : معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأول ، فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد ، يعني بالبعث بعد الموت ، فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل .


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } الوسوسة كثرة حديث النفس بما لا يتحصل في حفاء وإسرار ، ومنه قول رؤبة :
وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{
وَنَحْنُ أَقْرَبٌ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حبل معلق به القلب ، قاله الحسن . والأصم وهو الوتين .
الثاني : أنه عرق في الحلق ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : ما قاله ابن عباس ، عرق العنق ويسمى حبل العاتق ، وهما وريدان عن يمين وشمال ، وسمي وريداً ، لأنه العرق الذي ينصب إليه ما يرد من الرأس .
وفي قوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ } تأويلان :
أحدهما : ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه .
الثاني : ونحن أملك به من حبل وريده ، مع استيلائه عليه .
ويحتمل ثالثاً : ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده ، الذي هو من نفسه ، لأنه عرق يخالط القلب ، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب .
قوله عز وجل : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ . . } الآية . قال الحسن ومجاهد وقتادة : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك ، أحدهما عن يمينك ، يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك .
قال الحسن : حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك .
وفي { قَعِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه القاعدة ، قاله المفضل .
الثاني : المرصد الحافظ ، قاله مجاهد . وهو مأخوذ من القعود .
قال الحسن : الحفظة أربعة : ملكان بالنهار وملكان بالليل .
قوله عز وجل : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } أي ما يتكلم بشيء ، مأخوذ من لفظ الطعام ، وهو إخراجه من الفم .
{
إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المتتبع للأمور .
الثاني : أنه الحافظ ، قاله السدي .
الثالث : أنه الشاهد ، قاله الضحاك .
وفي { عَتِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه الحاضر الذي لا يغيب .
الثاني : أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة .
قوله عز وجل : { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله قد أوعده .
الثاني : أن يكون الحق هو الموت ، سمي حقاً ، إما لاسحقاقه ، وإما لانتقاله إلى دار الحق . فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير . وتقديره : وجاءت سكرة الحق بالموت ، ووجدتها في قراءة ابن مسعود كذلك .
{
ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه كان يحيد من الموت ، فجاءه الموت .
الثاني : أنه يحيد من الحق ، فجاءه الحق عند المعاينة .
وفي معنى التحيد وجهان :
أحدهما : أنه الفرار ، قاله الضحاك .
(
الثاني ) : العدول ، قاله السدي . ومنه قول الشاعر :
ولقد قلت حين لم يك عنه ... لي ولا للرجال عنه محيد
فروى عاصم بن أبي بهدلة ، عن أبي وائل ، أن عائشة قالت عند أبيها وهو يقضي :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً ، وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر : « هلا قلت كما قال الله ] : وَجَآءَتْ سَكْرَتُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
قوله عز وجل : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أما السائق ففيه قولان :
أحدهما : أنه ملك يسوقه إلى المحشر ، قاله أبو هريرة وابن زيد .
الثاني : أنه أمر من الله يسوقه إلى موضع الحساب ، قاله الضحاك .
وأما الشهيد ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك يشهد عليه بعمله ، وهذا قول عثمان بن عفان والحسن .
الثاني : أنه الإنسان ، يشهد على نفسه بعمله ، رواه أبو صالح .
الثالث : أنها الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله بنفسه ، قاله أبو هريرة .
ثم في الآية قولان :
أحدهما : أنها عامة في المسلم والكافر ، وهو قول الجمهور .
الثاني : أنها خاصة في الكافر ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا } فيه وجهان :
أحدهما أنه الكافر ، كان في غفلة من عواقب كفره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، كان في غفلة عن الرسالة مع قريش في جاهليتهم ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
ويحتمل ثالثاً : لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية .
{
فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه إذا كان في بطن أمه فولد ، قاله السدي .
الثاني : إذا كان في القبر فنشر ، وهذا معنى قول ابن عباس .
الثالث : أنه وقت العرض في القيامة ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة ، وهذا معنى قول ابن زيد .
{
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } وفي المراد بالبصر هنا وجهان :
أحدهما : بصيرة القلب لأنه يبصر بها من شواهد الأفكار ، ونتائج الاعتبار ما تبصر العين ما قابلها من قبلها من الأشخاص والأجسام ، فعلى هذا في قوله : { حَدِيدٌ } تأويلان :
أحدهما : سريع كسرعة مور الحديد .
الثاني : صحيح كصحة قطع الحديد .
الوجه الثاني : أن المراد به بصر العين وهو الظاهر ، فعلى هذا في قوله : { حَدِيدٌ } تأويلان :
أحدهما : شديد ، قاله الضحاك .
الثاني : بصير ، قاله ابن عباس .
وماذا يدرك البصر؟ فيه خمسة أوجه :
أحدها : يعاين الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : لسان الميزان ، قاله الضحاك .
الثالث : ما يصير إليه من ثواب أو عقاب ، وهو معنى قول ابن عباس .
الرابع : ما أمر به من طاعة وحذره من معصية ، وهو معنى قول ابن زيد .
الخامس : العمل الذي كان يعمله في الدنيا ، قاله الحسن .


وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

قوله عز وجل : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أما قرينه ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الملك الشهيد عليه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه قرينه الذي قيض له من الشياطين ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه قرينه من الإنس ، قاله ابن زيد في رواية ابن وهب عنه .
وفي قوله : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } وجهان :
أحدهما : هذا الذي وكلت به أحضرته ، قاله مجاهد .
الثاني : هذا الذي كنت أحبه ويحبني قد حضر ، قاله ابن زيد .
قوله عز وجل : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارِ عَنِيدٍ } في ألقيا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المأمور بألقيا كل كافر في النار ملكان .
الثاني : يجوز أن يكون واحد ويؤمر بلفظ الاثنين كقول الشاعر :
فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعاً
الثالث : أنه خارج مخرج تثنية القول على معنى قولك ألق ألق ، قف قف ، تأكيداً للأمر . والكفار [ بفتح الكاف ] أشد مبالغة من الكافر .
ويحتمل وجهين : أحدهما : أنه الكافر الذي كفر بالله ولم يطعه ، وكفر بنعمه ولم يشكره .
الثاني : أنه الذي كفر بنفسه وكفر غيره بإغوائه .
وأما العنيد ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه المعاند للحق ، قاله بعض المتأخرين .
الثاني : أنه المنحرف عن الطاعة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الجاحد المتمرد ، قاله الحسن .
الرابع : أنه المشاق ، قاله السدي .
الخامس : أنه المعجب بما عنده المقيم على العمل به ، قاله ابن بحر .
فأما العاند ففيه وجهان :
أحدهما : أنه الذي يعرف بالحق ثم يجحده .
الثاني : أنه الذي يدعى إلى الحق فيأباه .
قوله عز وجل : { مَنَّاعٍ لِّلْخير } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منع الزكاة المفروضة ، قاله قتادة .
الثاني : أن الخير المال كله ، ومنعه حبسه عن النفقه في طاعة الله ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : محمول على عموم الخير من قول وعمل .
{
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ } في المريب ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشاك في الله ، قاله السدي .
الثاني : أنه الشاك في البعث ، قاله قتادة .
الثالث : أنه المتهم . قال الشاعر :
بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب
وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
قال الضحاك : هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي حين استشاره بنو أخيه في الدخول في الإسلام فمنعهم .
قوله عز وجل : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن اختصامهم هو اعتذار كل واحد منهم فيما قدم من معاصيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه تخاصم كل واحد مع قرينه الذي أغواه في الكفر ، قاله أبو العالية .
فأما اختصامهم في مظالم الدنيا ، فلا يجوز أن يضاع لأنه يوم التناصف .
أحدها : أن الوعيد الرسول ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القرآن ، قاله جعفر بن سليمان .
الثالث : أنه الأمر والنهي ، قاله ابن زيد .
ويحتمل رابعاً : أنه الوعد بالثواب والعقاب .
قوله عز وجل : { مَا يُبَدَّلُ الْقَولُ لَدَيَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فيما أوجه من أمر ونهي ، وهذا معنى قول ابن زيد .
الثاني : فيما وعد به من طاعة ومعصية ، وهو محتمل .
الرابع : في أن بالحسنة عشر أمثالها وبخمس الصلوات خمسين صلاة ، قاله قتادة .
{
وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما أنا بمعذب من لم يجرم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما أزيد في عقاب مسيء ولا أنقص من ثواب محسن ، وهو محتمل .


يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

قوله عز وجل : { يَوْمَ نُقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنَ مَّزِيدٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يزاد إلى من ألقي غيرهم؟ فالاستخبار عمن بقي ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : معناه إني قد امتلأت ، ممن ألقي في ، فهل أسع غيرهم؟ قاله مقاتل .
الثالث : معناه هل يزاد في سعتي؟ لإلقاء غير من ألقي في ، قاله معاذ .
وفي قوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وجهان :
أحدهما : أن زبانية جهنم قالوا هذا .
الثاني : أن حالها كالمناطقة بهذا القول ، كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
قوله عز وجل : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } في الأواب الحفيظ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الذاكر ذنبه في الخلاء ، قاله الحكم .
الثاني : أنه الذي إذا ذكر ذنباً تاب واستغفر الله منه ، قاله ابن مسعود ومجاهد والشعبي .
الثالث : أنه الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله فيه ، قاله عبيد بن عمير .
وأما الحفيظ هنا ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المطيع فيما أمر ، وهو معنى قول السدي .
الثاني : الحافظ لوصية الله بالقبول ، وهو معنى قول الضحاك .
الثالث : أنه الحافظ لحق الله بالاعتراف ولنعمه بالشكر ، وهو معنى قول مجاهد . وروى مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ أَوَّاباً حَفِيظاً » .
قوله عز وجل : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الذي يحفظ نفسه من الذنوب في السر كما يحفظها في الجهر .
الثاني : أنه التائب في السر من ذنوبه إذا ذكرها ، كما فعلها سراً .
ويحتمل ثالثاً : أنه الذي يستتر بطاعته لئلا يداخلها في الظاهر رياء . ووجدت فيه لبعض المتكلمين .
رابعاً : أنه الذي أطاع الله بالأدلة ولم يره .
{
وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المنيب المخلص ، قاله السدي .
الثاني : أنه المقبل على الله ، قاله سفيان .
الثالث : أنه التائب ، قاله قتادة .
{
لَهُم مَّا يَشَاءُونَ } يعني ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم .
{
وَلَدَينَا مَزِيدٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المزيد من يزوج بهن من الحور العين ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
الثاني : أنها الزيادة التي ضاعفها الله من ثوابه بالحسنة عشر أمثالها .
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أخبره : أن يوم الجمعة يدعى في الآخرة يوم المزيد . وفيه وجهان :
أحدهما : لزيادة ثواب العمل فيه .
الثاني : لما روي أن الله تعالى يقضي فيه بين خلقه يوم القيامة .


وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

قوله عز وجل : { فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ } فيه أربعة أوجه :
احدها : أثروا في البلاد ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم ملكوا في البلاد ، قاله الحسن .
الثالث : ساروا في البلاد وطافوا ، قاله قتادة ، ومنه قول امرىء القيس :
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
الرابع : أنهم اتخذوا فيها طرقاً ومسالك ، قاله ابن جريج .
ويحتمل خامساً : أنه اتخاذ الحصون والقلاع .
{
هَلْ مِن مَّحِيصٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل من منجٍ من الموت ، قاله ابن زيد .
الثاني : هل من مهرب ، قال معمر عن قتادة : حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله تعالى لهم مدركاً .
الثالث : هل من مانع؟ قال سعيد عن قتادة : حاص الفجرة ، فوجدوا أمر الله منيعاً .
قوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } فيه وجهان :
أحدهما : لمن كان له عقل ، قاله مجاهد ، لأن القلب محل العقل .
الثاني : لمن كانت له حياة ونفس مميزة ، فعبر عن النفس الحية بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها . كما قال امرؤ القيس :
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
{
أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ألقى السمع فيما غاب عنه بالأخبار ، وهو شهيد فيما عاينه بالحضور .
الثاني : معناه سمع ما أنزل الله من الكتب وهو شهيد بصحته .
الثالث : سمع ما أنذر به من ثواب وعقاب ، وهو شهيد على نفسه بما عمل من طاعة أو معصية .
وفي الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها في جميع أهل الكتب ، قاله قتادة .
الثاني : أنها في اليهود والنصارى خاصة ، قاله الحسن .
الثالث : أنها في أهل القرآن خاصة ، قاله محمد بن كعب وأبو صالح .
قوله عز وجل : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } واللغوب التعب والنصب . قال الراجز :
إذا رقى الحادي المطي اللغبا ... وانتعل الظل فصار جوربا
قال قتادة والكلبي : نزلت هذه الآية في يهود المدينة ، زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، واستراح في يوم السبت ، ولذلك جعلوه يوم راحة ، فأكذبهم الله في ذلك .
قوله عز وجل : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر فيه بالصبر على ما يقوله المشركون ، إما من تكذيب أو وعيد .
{
وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } الآية . وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو عام له ولأمته .
وفي هذا التسبيح وجهان :
أحدهما : أنه تسبيحه بالقول تنزيهاً قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها الصلاة ومعناه فصلِّ بأمر ربك قبل طلوع الشمس ، يعني صلاة الصبح ، وقبل الغروب ، يعني صلاة العصر ، قاله أبو صالح ورواه جرير بن عبد الله مرفوعاً .

قوله عز وجل : { وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحْهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه تسبيح الله تعالى قولاً في الليل ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها صلاة الليل ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها ركعتا الفجر ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها صلاة العشاء الآخرة ، قاله ابن زيد .
ثم قال { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح في أدبار الصلوات ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها النوافل بعد المفروضات ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنها ركعتان بعد المغرب ، قاله علي رضي الله عنه وأبو هريرة .
وروى ابن عباس قال : بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى ركعتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال : « يا ابن عباس رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْبَارَ النُّجُومِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمِغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ » .


وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

قوله عز وجل : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنَادِ } هذه الصيحة التي ينادي بها المنادي من مكان قريب هي النفخة الثانية التي للبعث إلى أرض المحشر .
ويحتمل وجهاً آخر ، أنه نداؤه في المحشر للعرض والحساب .
وفي قوله : { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } وجهان :
أحدهما : أنه يسمعها كل قريب وبعيد ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن الصيحة من مكان قريب . قال قتادة : كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض : يا أيتها العظام البالية ، قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء . وحدثنا ، أن كعباً قال : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً .
قوله عز وجل : { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بقول الحق .
الثاني : بالبعث الذي هو حق .
{
ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } فيه وجهان :
أحدهما : الخروج من القبور .
الثاني : أن الخروج من أسماء القيامة . قال العجاج :
وليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجا
قوله عز وجل : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نحن أعلم بما يجيبونك من تصديق أو تكذيب .
الثاني : بما يسرونه من إيمان أو نفاق .
{
وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني برب ، قاله الضحاك ، لأن الجبار هو الله تعالى سلطانه .
الثاني : متجبر عليهم متسلط ، قاله مجاهد . ولذلك قيل لكل متسلط جبار . قال الشاعر :
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من صعره فتقوما
وهو من صفات المخلوقين ذم .
الثالث : أنك لا تجبرهم على الإسلام من قولهم قد جبرته على الأمر إذا قهرته على أمر ، قاله الكلبي .
{
فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } الوعيد العذاب ، والوعد الثواب . قال الشاعر :
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال قتادة : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك . وروي أنه قيل : يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت { فَذَكِّرْ بِالْقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .


وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } الذاريات : الرياح ، واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب والتبن أي تفرقه في الهواء ، كما قال تعالى : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } وفي قوله { ذَرْواً } وجهان :
أحدهما : مصدر .
الثاني : أنه بمعنى ما ذرت ، قاله الكلبي . فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الذاريات النساء الولودات لأن في ترائبهن ذرو الخلق ، لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين ، وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذارياً لأمرين .
أحدهما : لأنهن اوعية دون الرجال فلاجتماع الذروين خصصن بالذكر .
الثاني : أن الذرو فيهن أطول زماناً وهن بالمباشرة أقرب عهداً .
{
فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } فيها قولان :
أحدهما : أنها السحب [ يحملن ] وِقْراً بالمطر .
الثاني أنها الرياح [ يحملن ] وِقْراً بالسحاب ، فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن أمام كل سحابة ريحاً ، والريح الثانية حاملة السحاب . لأن السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح . وتكون الريح الثانية تابعة للريح الأولى من غير توسط ، قاله ابن بحر .
ويجري فيه احتمال قول :
ثالث : أنهن الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل ، والوقر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، وبالفتح ثقل الأذن .
{
فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً } فيها قولان :
أحدهما : السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت .
الثاني : أنه السحاب ، وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان :
أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد .
الثاني : هو سهولة تسييرها ، وذلك معروف عند العرب كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة ولا ريث لا عجل
{
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } فيه قولان :
أحدهما : أنه السحاب يقسم الله به الحظوظ بين الناس .
الثاني : الملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه ، قاله الكلبي . وهم : جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة ، وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة ، وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح ، وعزرائيل وهو ملك الموت وقابض الأرواح ، عليهم السلام .
والواو التي فيها واو القسم ، أقسم الله بها لما فيها من الآيات والمنافع .
{
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } فيه وجهان :
أحدهما : إن يوم القيامة لكائن ، قاله مجاهد .
الثاني : ما توعدون من الجزاء بالثواب والعقاب حق ، وهذا جواب القسم . { وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } فيه وجهان : أحدهما : إن الحساب لواجب ، قاله مجاهد . الثاني : [ أن ] الدين الجزاء ومعناه أن جزاء أعمالكم بالثواب والعقاب لكائن ، وهو معنى قول قتادة ، ومنه قول لبيد .
قوم يدينون بالنوعين مثلهما ... بالسوء سوء وبالإحسان إحسانا
{
وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } في السماء ها هنا وجهان :
أحدهما : أنها السحاب الذي يظل الأرض .
الثاني : وهو المشهور أنها السماء المرفوعة ، قال عبد الله بن عمر : هي السماء السابعة .
وفي { الْحُبُكِ } سبعة أقاويل :
أحدها : أن الحبك الاستواء ، وهو مروي عن ابن عباس على اختلاف .

الثاني : أنها الشدة ، وهو قول أبي صالح .
الثالث : الصفاقة ، قاله خصيف .
الرابع : أنها الطرق ، مأخوذ من حبك الحمام طرائق على جناحه ، قاله الأخفش ، وأبو عبيدة .
الخامس : أنه الحسن والزينة ، قاله علي وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير ومنه قول الراجز :
كأنما جللها الحواك ... كنقشة في وشيها حباك
السادس : أنه مثل حبك الماء إذا ضربته الريح ، قاله الضحاك . قال زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحي مائة حبك
السابع : لأنها حبكت بالنجوم ، قاله الحسن . وهذا قسم ثان .
{
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني في أمر مختلف ، فمطيع وعاص ، ومؤمن وكافر ، قاله السدي .
الثاني : أنه القرآن فمصدق له ومكذب به ، قاله قتادة .
الثالث : انهم أهل الشرك مختلف عليهم بالباطل ، قاله ابن جريج .
ويحتمل رابعاً : أنهم عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره . وهذا جواب القسم الثاني .
{
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : يضل عنه من ضل ، قاله ابن عباس .
الثاني : يصرف عنه من صرف ، قاله الحسن .
الثالث : يؤفن عنه من أفن ، قاله مجاهد ، والأفن فساد العقل .
الرابع : يخدع عنه من خدع ، قاله قطرب .
الخامس : يكذب فيه من كذب ، قاله مقاتل .
السادس : يدفع عنه من دفع ، قاله اليزيدي .
{
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لعن المرتابون ، قاله ابن عباس .
الثاني : لعن الكذابون ، قاله الحسن .
الثالث : أنهم أهل الظنون والفرية ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم المنهمكون ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
وقوله : { قُتِلَ } ها هنا ، بمعنى لعن ، والقتل اللعن . وأما الخراصون فهو جمع خارص . وفي الخرص ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه تعمد الكذب ، قاله الأصم .
الثاني : ظن الكذب ، لأن الخرص حزر وظن ، ومنه أخذ خرص الثمار .
وفيما يخرصونه وجهان :
أحدهما : تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني : التكذيب بالبعث . وفي معنى الأربع تأويلات وقد تقدم ذكرها في أولها { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في غفلة لاهون ، قاله ابن عباس .
الثاني : في ضلالاتهم متمادون ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : في عمى وشبهة يترددون ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : الذين هم في مأثم المعاصي ساهون عن أداء الفرائض .
{
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } أي متى يوم الجزاء . وقيل : إن أيان كلمة مركبة من أي وآن .
{
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } في { يُفْتَنُونَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أي يعذبون ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور مفتون
الثاني : يطبخون ويحرقون ، كما يفتن الذهب بالنار ، وهو معنى قول عكرمة والضحاك .
الثالث : يكذبون توبيخاً وتقريعاً زيادة في عذابهم .
{
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } الآية . فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معنى فتنتكم أي عذابكم ، قاله ابن زيد .
الثاني : حريقكم ، قاله مجاهد .
الثالث : تكذبيكم ، قاله ابن عباس .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

{
ءَآخِذِينَ مَآ َاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الفرائض ، قاله ابن عباس .
الثاني : من الثواب ، قاله الضحاك .
{
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذلِكَ مُحسِنِينَ } أي قبل الفرائض محسنين بالإجابة ، قاله ابن عباس .
الثاني : قبل يوم القيامة محسنين بالفرائض ، قاله الضحاك .
{
كَانُواْ قَلْيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : راجع على ما تقدم من قوله { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً } بمعنى أن المحسنين كانوا قليلاً ، ثم استأنف : من الليل ما يهجعون ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه خطاب مستأنف بعد تمام ما تقدمه ، ابتداؤه كانوا قليلاً ، الآية . والهجوع : النوم ، قال الشاعر :
أزالكم الوسمي أحدث روضه ... بليل وأحداق الأنام هجوع
وفي تأويل ذلك أربعة أوجه :
أحدها { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أي يستيقظون فيه فيصلون ولا ينامون إلا قليلاً ، قاله الحسن .
الثاني : أن منهم قليلاً ما يهجعون للصلاة في الليل وإن كان أكثرهم هجوعاً ، قاله الضحاك .
الثالث : أنهم كانوا في قليل من الليل ما يهجعون حتى يصلوا صلاة المغرب وعشاء الآخرة ، قاله أبو مالك .
الرابع : أنهم كانوا قليلاً يهجعون ، وما : صلة زائدة ، وهذا لما كان قيام الليل فرضاً . وكان أبو ذر يحتجن يأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة { قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
{
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : وبالأسحار هم يصلون ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم كانوا يؤخرون الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر ليستغفروا فيه ، قاله الحسن .
قال ابن زيد : وهو الوقت الذي أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتى استغفر لهم فيه حين قال لهم { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف : 98 ] . قال ابن زيد : والسحر السدس الأخير من الليل . وقيل إنما سمي سحراً لاشتباهه بين النور والظلمة .
{
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الزكاة ، قاله ابن سيرين وقتادة وابن أبي مريم .
الثاني : أنه حق سوى الزكاة تصل له رحماً أو تقري به ضيفاً أو تحمل به كلاًّ أو تغني به محروماً ، قاله ابن عباس .
{
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أما السائل فهو مَن يسأل الناس لفاقته ، وأما المحروم ، ففيه ثمانية أقوال :
أحدها : المتعفف الذي يسأل الناس شيئاً ولا يعلم بحاجته ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم ، قاله الحسن ومحمد بن الحنفية . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا ، فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت الآية .
الثالث : أنه من ليس له سهم في الإسلام ، قاله ابن عباس .
الرابع : المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه ، وهذا قول عائشة .
الخامس : أنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
السادس : أنه المصاب بثمره وزرعه يعينه من لم يصب ، قاله ابن زيد :
السابع : أنه المملوك ، قاله عبد الرحمن بن حميد .

الثامن : أنه الكلب ، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة فجاء كلب فاحتز عمر كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم .
ويحتمل تاسعاً : أنه من وجبت نفقته من ذوي الأنساب لأنه قد حرم كسب نفسه ، حتى وجبت نفقته في مال غيره .
{
وَفِي الأَرْضِ ءَآيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } يعني عظات للمعتبرين من أهل اليقين وفيها وجهان :
أحدهما : ما فيها من الجبال والبحار والأنهار ، قاله مقاتل .
الثاني : من أهلك من الأمم السالفة وأباد من القرون الخالية ، قاله الكلبي .
{
وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه سبيل الغائط والبول ، قاله ابن الزبير ومجاهد .
الثاني : تسوية مفاصل أيديكم وأرجلكم وجوارحكم دليل على أنكم خلقتم لعبادته ، قاله قتادة .
الثالث : في خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، قاله ابن زيد .
الرابع : في حياتكم وموتكم وفيما يدخل ويخرج من طعامكم ، قاله السدي .
الخامس : في الكبر بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، والشيب بعد السواد ، قاله الحسن .
ويحتمل سادساً : أنه نجح العاجز وحرمان الحازم .
{
وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق لهم من السماء ، قاله سعيد بن جبير والضحاك .
الثاني : يعني أن من عند الله الذي في السماء رزقكم .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : وفي السماء تقدير رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب .
وأما قوله { وَمَا تُوعَدُونَ } ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من خير وشر ، قاله مجاهد .
الثاني : من جنة ونار ، قاله الضحاك .
الثالث : من أمر الساعة ، قاله الربيع .
{
فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : ما جاء به الرسول من دين وبلغه من رسالة .
الثاني : ما عد الله عليهم في هذه السورة من آياته وذكره من عظاته . قال الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَاماً أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [ بِنَفْسِهِ ] ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ » .
وقد كان قس بن ساعدة في جاهليته ينبه بعقله على هذه العبر فاتعظ واعتبر ، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَأَيتُهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِعُكَاظَ وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُواْ وَعُوا ، مِنْ عَاشَ مَاتَ ، وَمَن مَّاتَ فَاتَ ، وَكُلُّ مَا هُوَا ءَآتٍ ءآتٍ ، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلاَ يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُواْ بِالإِقَامَةِ فَأَقَامُواْ؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَاموا؟ إِنَّ فِي السَّمَآءِ لَخَبَراً ، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَراً ، سَقْفٌ مَرْفُوعٌ ، وَلَيلٌ مَوضُوعٌ ، وَبِحَارٌ تَثُورٌ ، وَنُجُومٌ تَحُورُ ثُمَّ تَغُورُ ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً مَا ءَاثَمُ فِيهِ ، إِنَّ للهِ دِيناً هُوَ أَرْضَى مِن دِينٍ أَنتُم عَلَيهِ . ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَأ أَدْرِي مَا هِيَ »

فقال أبو بكر : كنت حاضراً إذ ذاك والأبيات عندي وأنشد :
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ » . ونحن نسأل الله تعالى مع زاجر العقل ورادع السمع أن يصرف نوازع الهوى ومواقع البلوى . فلا عذر مع الإنذار ، ولا دالة مع الاعتبار ، وأن تفقهن الرشد تدرك فوزاً منه وتكرمة .


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

{
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } قال عثمان بن محسن : كانوا أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل .
وفي قوله { الْمُكْرَمِينَ } وجهان :
أحدهما : أنهم عند الله المعظمون .
الثاني : مكرمون لإكرام إبراهيم لهم حين خدمهم بنفسه ، قاله مجاهد .
قال عطاء : وكان إبراهيم إذا أراد أن يتغذى ، أو يتعشى خرج الميل والميلين والثلاثة ، فيطلب من يأكل معه .
قال عكرمة : وكان إبراهيم يكنى أبا الضيفان ، وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد .
وسمي الضيف ضيفاً ، لإضافته إليك وإنزاله عليك .
{
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاَماً } فيه وجهان :
أحدهما : قاله الأخفش ، أي مسالمين غير محاربين لتسكن نفسه .
الثاني : أنه دعا لهم بالسلامة ، وهو قول الجمهور ، لأن التحية بالسلام تقتضي السكون والأمان ، قال الشاعر :
أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم
فأجابهم إبراهيم عن سلامتهم بمثله :
{
قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مَنكَرُونَ } لأنه رآهم على غير صورة البشر وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم ، فنكرهم وقال { قَوْمٌ مَنكَرُونَ } وفيه وجهان :
أحدهما : أي قوم لا يعرفون .
الثاني : أي قوم يخافون ، يقال أنكرته إذا خفته ، قال الشاعر :
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
{
فَرَاغَ إِلى أَهْلِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : فعدل إلى أهله ، قاله الزجاج .
الثاني : أنه أخفى ميله إلى أهله .
{
فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أما العجل ففي تسميته بذلك وجهان :
أحدهما : لأن بني إسرائيل عجلوا بعبادته .
الثاني : لأنه عجل في اتباع أمه .
قال قتادة : جاءهم بعجل لأن كان عامة مال إبراهيم البقر ، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم ، وجاء به مشوياً ، وهو محذوف من الكلام لما فيه من الدليل عليه .
فروى عون ابن أبي شداد أن جبريل مسح العجل بجناحه فقام يدرج ، حتى لحق بأمه ، وأم العجل في الدار .
{
فَقَرَّبَهُ إِلَيهِم قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ } لأنهم امتنعوا من الأكل لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، فروى مكحول أنهم قالوا لا نأكله إلا بثمن ، قال كلوا فإن له ثمناً ، قالوا وما ثمنه؟ قال : إذا وضعتم أيديكم أن تقولوا : بسم الله ، وإذا فرغتم أن تقولوا : الحمد لله ، قالوا : بهذا اختارك الله يا إبراهيم .
{
فَأوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً } لأنهم لم يأكلوا ، خاف أن يكون مجيئهم إليه لشر يريدونه به .
{
قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه إسحاق من سارة ، استشهاداً بقوله تعالى في آية أخرى { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] .
الثاني : أنه إسماعيل من هاجر ، قاله مجاهد .
{
عَلِيمٍ } أي يرزقه الله علماً إذا كبر .
{
فَأَقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي صَرَّةٍ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : الرنة والتأوه ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
وشربة من شراب غير ذي نفس ... في صرة من تخوم الصيف وهاج
الثاني : أنها الصيحة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه أخذ صرير الباب ، ومنه قول امرىء القيس :
فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل
الثالث : أنها الجماعة ، قاله ابن بحر ، ومنه المصراة من الغنم لجمع اللبن في ضرعها . وسميت صرة الدراهم فيها ، قال الشاعر :
رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته
وأما قوله { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } ففيه قولان :
أحدهما : معناه لطخت وجهها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها ضربت جبينها تعجباً .
{
وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي ، أتلد عجوز عقيم؟ قاله مجاهد والسدي .


قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

{
فَتَوَلَّى } يعني فرعون ، وفي توليه وجهان :
أحدهما : أدبر .
الثاني : أقبل ، وهو من الأضداد .
{
بِرُكْنِهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بجموعه وأجناده ، قاله ابن زيد .
الثاني : بقوته ، قاله ابن عباس ، ومنه قول عنترة :
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني .
الثالث : بجانبه ، قاله الأخفش .
الرابع : بميله عن الحق وعناده بالكفر ، قاله مقاتل .
ويحتمل خامساً بماله لأنه يركن إليه ويتقوى به .
{
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن العقيم هي الريح التي لا تلقح ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي التي لا تنبث ، قاله قتادة .
الثالث : هي التي ليس فيها رحمة ، قاله مجاهد .
الرابع : هي التي ليس فيها منفعة ، قاله ابن عباس .
وفي الريح التي هي عقيم ثلاثة أقاويل :
أحدها : الجنوب ، روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الريح العقيم الجنوب » .
الثاني الدبور ، قاله مقاتل . قال عليه السلام : « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور »
الثالث : هي ريح الصبا ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
{
إِلاَّ جَعَلْتْهُ كَالرَّمِيمِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الرميم التراب ، قاله السدي .
الثاني : أنه الذي ديس من يابس النبات ، وهذا معنى قول قتادة .
الثالث أن الرميم : الرماد ، قاله قطرب .
الرابع : أنه الشيء البالي الهالك ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي


وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

{
وَالسَّمَآءِ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ } أي بقوة .
{
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : لموسعون في الرزق بالمطر ، قاله الحسن .
الثاني : لموسعون السماء ، قاله ابن زيد .
الثالث : لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء .
الرابع : لموسعون بخلق سماء ملثها ، قاله مجاهد .
الخامس : لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده .
{
وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه خلق كل جنس نوعين .
الثاني : أنه قضى أمر خلقه ضدين صحة وسقم ، وغنى وفقر ، وموت وحياة ، وفرح وحزن ، وضحك وبكاء . وإنما جعل بينكم ما خلق وقضى زوجين ليكون بالوحدانية متفرداً .
{
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تعلمون بأنه واحد .
الثاني : تعلمون أنه خالق .
{
فَفِرُّوْا إِلّى اللَّهِ } أي فتوبوا إلى الله .


كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : فذكر بالقرآن ، قاله قتادة .
الثاني : فذكر بالعظة فإن الوعظ ينفع المؤمنين ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : وذكر بالثواب والعقاب فإن الرغبة والرهبة تنفع المؤمنين .
{
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلا لآمرهم وأنهاهم ، قاله مجاهد .
الثالث : إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : إلا ليعرفوني ، قاله الضحاك .
الخامس : إلا للعبادة ، وهو الظاهر ، وبه قال الربيع بن انس .
{
مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مَّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم .
الثاني : ما أنفسهم ، قاله أبو الجوزاء .
الثالث : ما أريد منهم معونة ولا فضلاً .
{
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عذاباً مثل عذاب أصحابهم ، قاله عطاء .
الثاني : يعني سبيلاً ، قاله مجاهد .
الثالث : يعني بالذنوب الدلو ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب
ولا يسمى الذنوب دلواً حتى يكون فيه ماء .
الرابع : يعني بالذنوب النصيب ، قال الشاعر :
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب
ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا بهلاكهم .
{
فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي فلا يستعجلوا نزول العذاب بهم لأنهم قالوا : { يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } الآية ، فنزل بهم يوم بدر ، ما حقق الله وعده ، وعجل به انتقامه .


وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى { وَالطُّورِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم للجبل بالسريانية ، قاله مجاهد . قال مقاتل : يسمى هذا الطور زبير .
الثاني : أن الطور ما أنبت ، وما لا ينبت فليس بطور ، قاله ابن عباس ، وقال الشاعر :
لو مر بالطور بعض ناعقة ... ما أنبت الطور فوقه ورقة
ثم في هذا الطور الذي أقسم الله به ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه طور سيناء ، قاله السدي .
الثاني : أنه الطور الذي كلم الله عليه موسى ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : أنه جبل مبهم ، قاله الكلبي . وأقسم الله به تذكيراً بما فيه من الدلائل .
وقال بعض المتعمقة : إن الطور ما يطوى على قلوب الخائفين .
{
وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أي مكتوب ، وفي أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الكتاب الذي كتب الله لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون .
الثاني : أنه القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ .
الثالث : هي صحائف الأعمال فمن أخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله ، قاله الفراء .
الرابع : التوراة قاله ابن بحر .
{
فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الصحيفة المبسوطة وهي التي تخرج للناس أعمالهم ، وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها ، قال المتلمس :
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور
الثاني : هو ورق مكتوب ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : هو ما بين المشرق والمغرب ، قاله ابن عباس .
{
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ما روى قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أُتِيَ بِيَ إِلَى السَّمَاءِ فَرُفِعَ لَنَا الْبَيتُ المَعْمُورُ ، فَإِذَا هُوَ حِيالُ الكَعْبَةِ ، لَوْ خَرَّ خَرَّ عَلَيهَا ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، إِذَا خَرَجُوا مِنهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيهِ » قاله علي وابن عباس .
الثاني : ما قاله السدي : أن البيت المعمور ، هو بيت فوق ست سموات ، ودون السابعة ، يدعى الضراح ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك من قبيلة إبليس لا يرجعون إليه أبداً ، وهو بحذاء البيت العتيق .
الثالث : ما قاله الربيع بن أنس ، أن البيت المعمور كان في الأرض في موضع الكعبة في زمان آدم ، حتى إذا كان زمان نوح أمرهم أن يحجوا ، فأبوا عليه وعصوه ، فما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا ، فيعمره ، فبوأ الله لإبراهيم الكعبة البيت الحرام حيث كان ، قاله الله تعالى : { وَإِِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } الآية .
الرابع : ما قاله الحسن أن البيت المعمور هو البيت الحرام .
وفي { الْمَعْمُورِ } وجهان :
أحدهما : أنه معمور بالقصد إليه .
الثاني : بالمقام عليه ، قال الشاعر :
عمر البيت عامر ... إذ أتته جآذر
من ظباء روائح ... وظباء تباكر
وتأول سهل أنه القلب ، عمارته إخلاصه ، وهو بعيد .

{
وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه السماء ، قاله علي .
الثاني : أنه العرش ، قاله الربيع .
{
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جهنم ، رواه صفوان بن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : هو بحر تحت العرش ، رواه أبو صالح عن علي رضي الله عنه .
الثالث : هو بحر الأرض ، وهو الظاهر .
وفي قوله : { الْمَسْجُورِ } سبعة تأويلات :
أحدها : المحبوس ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : أنه المرسل ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : الموقد ناراً ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه الممتلىء ، قاله قتادة .
الخامس : أنه المختلط ، قاله ابن بحر .
السادس : أنه الذي قد ذهب ماؤه ويبس ، رواه ابن أبي وحشية عن سعيد بن جبير .
السابع : هو الذي لا يشرب من مائه ولا يسقى به زرع ، قاله العلاء بن زيد .
هذا آخر القسم ، وجوابه : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لوَاقِعٌ } روى الكلبي : أن جبير بن مطعم قدم المدينة ليفدي حريفاً له يقال له مالك أسر يوم بدر ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة [ المغرب ] يقرأ { وَالطُّورِ } فجلس مستمعاً ، حتى بلغ قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فأسلم جبير خوفاً من العذاب ، وجعل يقول : ما كنت أظن أن أقوم من مقامي ، حتى يقع بي العذاب .
{
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : معناه تدور دوراً ، قاله مجاهد ، قال طرفة بن العبد :
صهابية العثنون موجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد .
الثاني : تموج موجاً ، قاله الضحاك .
الثالث : تشقق السماء ، قاله ابن عباس لقوله تعالى { فَإِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } الآية .
الرابع : تجري السماء جرياً ، ومنه قول جرير :
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
الخامس : تتكفأ بأهلها ، قاله أبو عبيدة وأنشد بيت الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
السادس : تنقلب انقلاباً .
السابع : أن السماء ها هنا الفلك ، وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره ، قاله ابن بحر .
{
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : يدفعون دفعاً عنيفاً ومنه قول الراجز :
يدعه بصفحتي حيزومه ... دع الوصي جانبي يتيمه
قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وابن زيد .
الثاني : يزعجون إزعاجاً ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : أن يدعهم زبانيتها بالدعاء عليهم .


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

{
فَاكِهِينَ بِمَآ ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معجبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : ناعمين ، قاله قتادة .
الثالث : فرحين ، قاله السدي .
الرابع : المتقابلين بالحديث الذي يسر ويؤنس ، مأخوذ من الفكاهة ، قاله ابن بحر .
الخامس : ذوي فاكهة كما قيل : لابن وتامر ، أي ذو لبن وتمر ، قاله عبيدة ، ومعنى ذلك ، أنهم ذوو بساتين فيها فواكه .
{
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } والسرر الوسائد ، وفي المصفوفة ثلاثة أوجه :
أحدها : المصفوفة بين العرش ، قاله عكرمة .
الثاني : هي الموصولة بالذهب .
الثالث : أنها الموصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفاً ، قاله ابن بحر .
{
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } والعين الواسعة الأعين في صفائها ، وهو جمع عيناء ، ومنه قول الشاعر :
فحُور قد لهون وهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط
وفي تسميتهن حوراً وجهان :
أحدهما : لأنه يحار فيهن الطرف ، قاله مجاهد .
الثاني : لبياضهن ، قاله الضحاك ، ومنه قيل للخبز حوار لبياضه .


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

{
وَالَّذِينَ ءَآمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الله يدخل الذرية بإيمان الأباء الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الله تعالى يعطي الذرية مثل أجور الآباء من غير أن ينقص الآباء من أجورهم شيئاً ، قاله إبراهيم .
الثالث : أنهم البالغون عملوا بطاعة الله مع آبائهم فألحقهم الله بآبائهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنه لما أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوها تبعوهم عليها فصاروا مثلهم فيها ، قاله ابن زيد .
{
وَمآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمِ مِّن شَيْءٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما نقصناهم ، قاله ابن عباس ، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم ينقصني ، ومعنى الكلام : ولم ينقص الآباء بما أعطينا الأبناء .
الثاني : معناه وما ظلمناهم ، قاله ابن جبير ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا ظلماً ، ولا كذباً . ومعنى الكلام : لم نظلم الآباء بما أعطينا الأبناء ، وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرمة للآباء .
{
كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } فيه وجهان :
أحدهما : مؤاخذة كما تؤخذ الحقوق من الرهون .
الثاني : أنه يحبس ، ومنه الرهن لاحتباسه بالحق قال الشاعر :
وما كنت أخشى أن يكون رهينة ... لأحمر قبطي من القوم معتق
{
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي ، يتعاطون ويتساقون بأن يناول بضعهم بعضاً ، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة . والكأس إناء مملوء من شراب وغيره فهو كأس ، فإذا فرغ لم يسم كاساً ، وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح السمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري .
{
لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } فيها أربعة أوجه :
أحدها : لا باطل في الخمر ولا مأثم ، قاله ابن عباس وقتادة ، وإنما ذلك في الدنيا من الشيطان .
الثاني : لا كذب فيها ولا خلف ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضاً ، قاله مجاهد .
الرابع : لا لغو في الجنة ولا كذب ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً . واللغو ها هنا فحش الكلام كما قال ذو الرمة :
فلا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا
بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام اللواغيا
{
وَيَطُوفُ عَلَيْهُمْ غِلُمَانٌ لَّهُمْ } ذكر ابن بحر فيه وجهين :
أحدهما : ان يكون الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم ، فأقَرَّ الله بهم أعينهم .
الثاني : أنهم من أخدمهم الله إياهم من أولاد غيرهم .
{
كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي مصون بالكن والغطاء ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت أعطيهم مالاً وأمنعهم ... عرضي ، وودهم في الصدر مكنون
قال قتادة : بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخدم مثل اللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال :

«
والذي نفسي بيده لفضل ما بينهم ، كفضل القمر ليلة البدر على النجوم » .
{
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالجنة والنعيم . الثاني : بالتوفيق والهداية . { وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عذاب النار ، قاله ابن زيد . وقال الأصم : السموم اسم من أسماء جهنم .
الثاني : أنه وهج جهنم ، وهو معنى قول ابن جريج .
الثالث : لفح الشمس والحر ، وقد يستعمل في لفح البرد ، كما قال الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا نلومه
{
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن البر الصادق ، قاله ابن جريج .
الثاني : اللطيف ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه فاعل البر المعروف به ، قاله ابن بحر .


فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)

{
فَذَكِّرْ } يعني بالقرآن .
{
فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ } يعني برسالة ربك .
{
بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } تكذيباً لعتبة بن ربيعة حيث قال إنه ساحر ، وتكذيباً لعقبة بن معيط ، حيث قال : إنه مجنون .
{
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } قال قتادة : قال ناس من الكفار : تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه ، كما كفاكم شاعر بني فلان ، وشاعر بني فلان ، قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار ، نسبوه إلا أنه شاعر .
وفي { ريب المنون } وجهان :
أحدهما : الموت ، قاله ابن عباس .
الثاني : حوادث الدهر ، قاله مجاهد . المنون : الدهر ، قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع


أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

{
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : مفاتيح الرحمة .
الثاني : خزائن الرزق .
{
أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : المسلطون ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : أنهم الأرباب ، قاله الحسن وأبو عبيد .
الثالث : معناه : أم هم المتولون ، وهذا قد روي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أنهم الحفظة ، مأخوذ من تسطير الكتاب ، الذي يحفظ ما كتب فيه فصار المسيطر هنا حافظاً ما كتبه الله في اللوح المحفوظ ، قاله ابن بحر .
{
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن السلم المرتقى إلى السماء ، ومنه قول ابن مقبل :
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم
الثاني : أنه السبب الذي يتوصل به إلى عوالي الأشياء ، قال الشاعر :
تجنيت لي ذنباً وما إن جنيته ... لتتخذي عذراً إلى الهجر سلماً
وقوله { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يستمعون من السماء ما يقضيه الله على خلقه .
الثاني : يستمعون منها ما ينزل الله على رسله من وحيه .
{
فلْيَأْتِ مْسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : فليأت صاحبهم بحجة ظاهرة تدل على صدقه .
الثاني : فليأت بقوة تتسلط على الأسماع وتدل على قدرته .


وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

{
وَإِن يَرَواْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قطعاً من السماء ، قاله قتادة .
الثاني : جانباً من السماء .
الثالث : عذاباً من السماء ، قاله المفضل . وسمي كسفاً لتغطيته ، والكسف :
التغطية ، ومنه أخذ كسوف الشمس والقمر .
{
يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } في مركوم وجهان :
أحدهما : أنه الغليظ ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه الكثير المتراكب ، قاله الضحاك . ومعنى الآية : أنهم لو رأو سقوط كسف من السماء عليهم عقاباً لهم لم يؤمنوا ولقالوا إنه سحاب مركوم بعضه على بعضه .
{
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يوم يموتون ، قاله قتادة .
الثاني : النفخة الأولى ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : يوم القيامة يغشى عليهم من هول ما يشاهدونه ، ومنه قوله تعالى :
{
وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً } أي مغشياً عليه .
{
وَإِنَّ لِلَّذِينَ صَعِقاً } أي مغشياً عليه .
{
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : عذاب القبر ، قاله علي .
الثاني : الجوع ، قاله مجاهد .
الثالث : مصابهم في الدنيا ، قاله الحسن .
وفي المراد بالذين ظلموا ها هنا قولان :
أحدهما : أنهم أهل الصغائر من المسلمين .
الثاني : أنهم مرتكبو الحدود منهم .
{
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : لقضائه فيما حملك من رسالته .
الثاني : لبلائه فيما ابتلاك به من قومك .
{
فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بعلمنا ، قاله السدي .
الثاني : بمرأى منا ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : بحفظنا وحراستنا ، ومنه قوله تعالى لموسى : { وَلتُصنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] بحفظي وحراستي ، قاله الضحاك .
{
وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن يسبح الله إذا قام من مجلسه ، قاله أبو الأحوص ، ليكون تكفيراً لما أجرى في يومه .
الثاني : حين تقوم من منامك ، ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله ، قاله حسان بن عطية .
الثالث : حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه التسبيح في الصلاة ، إذا قام إليها .
وفي هذا التسبيح قولان :
أحدهما : هو قول : سبحان ربي العظيم ، في الركوع ، وسبحان ربي الأعلى ، في السجود .
الثاني : التوجه في الصلاة بقوله : سبحانك اللهم وبحمدك [ وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ] ، قاله الضحاك .
{
وَمِنَ الِّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلاة الليل .
الثاني : التسبيح فيها .
الثالث : أنه التسبيح في صلاة وغير صلاة .
وأما { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ركعتان قبل الفجر ، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، إِدْبَارُ النُّجومِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ » .
الثاني : أنها ركعتا الفجر قبل الغداة .
الثالث : أنه التسبيح بعد الصلاة ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج9 كتاب الترغيب والترهيب للمنذري{من5655 الي 5766.}

  ج9 كتاب الترغيب والترهيب من الحديث الشريف عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية...