بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى .. أُقسم بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلَّى، وبخلق الذكر والأنثى.
وأشهد ألاَّ إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، العلي الأعلى، خلق الأرض والسماوات العلا، الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى.
وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، النبيَّ المصطفى والإمام المجتبَى، عظّم الله ذِكره في الملأ الأعلى، واختاره على أهل الثرى، أخرج الله به الناس من الضلال والعمى إلى الحقِّ والهدى، شرح الله صدره ووضع وزره، وأعلى قدره، ومجَّد ذِكره، ويسَّر أمره، صلَّى الله عليه وسلَّم، عدد ما ذكره الذَّاكرون، وعدد ما غفل عنه الغافلون، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يجعل في الأرض خليفةً ليعمر الأرض، ويقوم بالوظيفة التي من أجلها خُلق، ويُؤدِّي الأمانة التي تحمَّلها بعد تعذُّر السماوات والأرض والجبال عن حملها وإشفاقها منها، وهي أكبر المخلوقات وأعظم الموجودات، ولكنها تعلم عظمة الخالق ووحدانية الموجد، وحملها الإنسان .. إنه كان ظلومًا جهولاً.
وكرَّم الله تعالى هذا الخليفة على غيره من المخلوقات، وجعل هذا التكريم في الالتزام بالشرع القويم والتخلُّق بالتقوى إن سعيكم لشني ل سعيد الحجري ]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[([1]).
وكان لا بدَّ من طريق يسلكه هذا الخليفة حتى يصل إلى مقصوده، ليظفر بمطلوبه، وينجو من مرهوبه .. وفي هذا الطريق عقبات ومُنغِّصات وعراقيل لا بدَّ من تجاوزها، ولن يكون ذلك إلا بالسعي الجاد والعمل المثمر والتجارة الرابحة التي تحتاج إلى الصبر والمجاهدة .. فمن الناس من ركب سفينة النجاة بزاد التقى فاستقرَّ في دار الأمان، شعار أهلها ]طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[([2]).
ومنهم من شقي مع الهالكين في سفينة الخسران؛ فاستقرَّ في دار البوار وبئس المصير، شعار أهلها ]اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ[([3]).
ولذلك جاء سعي الناس شتى، وأعمالهم متفرِّقة، وتجارتهم متباينة، وعاقبتهم مختلفة، لذا أحببت أن أساهم بجهد المقلِّ مع قلَّة البضاعة وضعف الراحلة وقصور الهمَّة، فاستعنت بالله وحده وسطرت هذه السطور في موضوع مهم يعيشه جميع المكلَّفين، وقد اختصرته ليكون في متناول الجميع، وليتمكَّن من قراءته الكثير مع الاجتهاد والوفاء بالمطلوب، عسى الله أن يوقظ به قلوبًا غلفًا، وأن يفتح به أعينًا عميًا، وأن يُسمع به آذانًا صُمًّا .. مع يقيني أنَّ التوفيق من الله وحده، ولكن دلالةً وإرشادًا ورغبةً في تعميم الخير وبذله للغير، والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يُحسِن الظاهر والباطن، وأن ينفع به، وأن يجعله من العمل الذي لا ينقطع بعد الموت، إنه على كلِّ شيءٍ قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
نحن نعلم أنَّ المتكلِّم إذا أراد الكلام كان لكلامه سبب يقتضي الكلام ويدعو إليه، وكذلك الكاتب، والمزارع يزرع لسبب الثمر، والتاجر يُتاجر للربح ... وهكذا، ولقد دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع أسباب أُجمِلها فيما يلي:
أولاً- حبّ القرآن الكريم كلام الله تعالى:
إذ موضوع البحث آية من سورة الليل، والقرآن نورٌ للقلوب المظلمة، وشفاء للأرواح المريضة، وهداية للنفوس الحائرة، من ابتغى الهدى من غيره ضلّ، ومن احتكم لغيره زلّ .. ويكفي أنه كلام الله تعالى، ورسالته إلى عباده، وحبله المتين الذي من تمسَّك به هُدِي إلى صراطٍ مستقيم.
ثانيًا- ما ألاحظه من تضييع الأوقات:
وكذلك عدم اغتنام الأعمال وإهدار الطاقات .. وهل حياة الإنسان إلا عمره من أوله إلى آخره؟
وهل لذَّة الحياة إلا الاشتغال بالله وحده؟
لذا يقول ابن تيمية رحمه الله:
ليس للقلوب سرور ولا لذَّة تامة إلا في محبة الله والتقرُّب إليه بما يحبه، ولا يمكن محبَّة إلا بالإعراض عن كلِّ محبوبٍ سواه([4]).
وقال بعض العارفين:
مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.
قيل: وما أطيب ما فيها؟
قال: محبَّة الله تعالى ومعرفته وذكره([5]).
وأصبحت أوقات الناس أرخص من التراب الذي تحت الأقدام، بل التراب أغلى عندهم، ورحم الله أبا سعيد الحسن البصري عندما يقول:
أدركت أقوامًا يحافظون على أوقاتهم أشدّ من محافظتكم على الدرهم والدينار.
ولقد أقسم الله تعالى الوقت في كثير من الآيات؛ وذلك ليُبين أهميته، ومن الأسئلة التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة: «...عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه»([6]).
والوقت يتميز بثلاثة أمور:
(1) سرعة انقضائه:
فالساعة كالدقيقة، واليوم كالساعة، والأسبوع كاليوم، والشهر كالأسبوع، والعام كالشهر .. وفي الحديث عن أبي هريرة t قال:
قال رسول الله r: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان»([7])
رواه البخاري
وفي مسند الإمام أحمد وسُنن الترمذي عن أبي هريرة t قال:
قال رسول الله r: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة»([8]).
قال الشاعر:
مَرَّت
سِنينٌ بِالوِصَالِ وَبِالهنَا |
|
فَكَأنَّهَا مِن قِصَرِهَا
أَيَّامُ |
ثُمَّ
انْثَنَتْ أَيَّامُ هَجْرٍ بَعْدَهَا |
|
فَكَأَنَّهَا مِن طُولِهَا
أَعْوَامُ |
ثُمَّ
انْقَضَتْ تِلْكَ السُنُونُ وَأَهْلُهَا |
|
فكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُمْ
أَحْلاَمُ |
(2) ما مضى منه لا يعود:
بل تُختم ساعاته وتُحصَى أنفاسه وتُسجَّل أعماله، وتُنشر بين يدي العبد يوم القيامة، وهذا ما صوَّره الحسن البصري في قوله الجميل: ما من يوم ينشقُّ فجره إلا وينادَى: يا ابن آدم، أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني فإني لن أعود إلى يوم القيامة.
ولقد أحسن القائل:
وَمَا
المَرْءُ إلاَّ رَاكِبُ ظَهْرَ عُمْرِهِ |
|
|
|
عَلَى سَفَرٍٍ يَفنِيهِ
بِاليَوْمِ وَالشَّهْرِِ |
|
يَبِيتُ
وَيَضْحَى كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ |
|
|
|
بَعِيدًا عَنِ الدُّنْيَا
قَرِيبًا إلَى القَبْرِ |
|
(3) إنَّ الوقت أغلى من كلِّ مالٍ في الدنيا:
فهو أنفس من الذهب والفضة، وأغلى من كلِّ شهوةٍ ولذَّةٍ تُحِبُّها النفس وتميل إليها، والناس جُبِلوا على حبِّ المال ]وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[([9])..
ولا يضيع منه شيء، ومع ذلك فإنَّ الوقت أجدر بالاهتمام من العناية بالدرهم والدينار، فما فُقِد من المال عُوِّض بغيره، وما مضى من العمر فلن يعود إلى يوم القيامة.
ثالثًا- تنوُّع أعمال الناس:
إنَّ أول ما دعاني للحديث عن هذا الموضوع ما رأيته من أحوال الناس في أجازة نصف العام سنة 1412هـ؛ إذ تنوَّعت أعمالهم عند حلول الإجازة، فمنهم من ذهب لمكة المكرمة لأداء العمرة وحفظ وقته واستثمر عمره بالصلاة والذكر والقراءة في المسجد الحرام، وهذا أربح القوم .. ومنهم من ذهب لزيارة المسجد النبويِّ الشريف في المدينة المنورة، وهو رابح يلي سابقه .. ومنهم من سافر لصلة رحمه، وقد أدَّى واجبًا عظيمًا .. ومنهم من مكث في منـزله، وكفَّ أذاه عن غيره، واستفاد قراءةً أو تعليمًا أو تفرَّغ للجلوس مع أهله .. ومنهم من خرج لنـزهة على شواطئ البحار، فإمَّا معتبرٌ ومتَّعِظٌ ومستدِلٌّ بما يراه على عظمة الله تعالى، كما قال أبو سليمان الداراني: إذا خرجت من منـزلي فلا يقع بصري على شيء إلا وآخذ منه عبرة..
وإمَّا لاهٍ لاعب مُعرَّضٌ أطلق لنفسه شهواتها ورغباتها من سماع ما يريد والنظر لِما يريد والسفر لما يريد، فخسر وخاب وعاد بالأوزار، ولربما مات في الطريق قبل الوصول للمقصود.
وقد ازدادت الرغبة في الحديث عن هذا الموضوع لَمَّا وُجِّهت لي دعوةٌ من جمعية «المبرَّة الخيرية» بمكة المكرمة بإلقاء محاضرة في الجمعية في موسمها الثقافي التي تنظم له كلّ عام بمناسبة شهر رمضان المبارك، فلبيت الرغبة واخترت هذا الموضوع، وذلك لاختلاف أحوال وأقوال وأفعال الناس في شهر رمضان المبارك.
رابعًا- تسلية القلوب المؤمنة:
القلوب الحيَّة التي تعيش لله وتحيا لله وتتعامل لله، وأنفاسها وحركاتها ونظراتها لله ربِّ العالمين، تدعو لدينه وتغار لأجله، وتسعى لمرضاته بلا كللٍ أو ملل، فاجتهادها مطلوب وعملها مرغوب، ولكنها قد لا تدرك ما تريد، ولا تجني كل المقصود؛ لأنَّ السعي شتى والعمل متنوِّع، فلا تذهب أنفسهم حسرات، ولا تهدي من أضلَّ الله، ولا تُسعِد من كتب الله عليه الشقاء .. سُنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
خامسًا- تحفيز العزائم وتنشيط الهمم:
وذلك لزيادة الرصيد من العمل الصالح، والمسابقة والمنافسة إلى ما يُنجِّي من عذاب الله، والوقاية مِمَّا يُوقع في الهلاك، والتخلُّق بأخلاق المستقيمين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفتح أبواب الخير والصلاح والاستقامة، وقفل أبواب الشر والفساد والغواية، وذلك بنقل الآيات والأحاديث التي تدلُّ على ذلك.
قامت السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما على الحقِّ والعدل، وما خُلقت عبثًا أو باطلاً، بل لحكمةٍ عظيمةٍ سنَّها الله تعالى وأرادها فحفظها من الفساد، وبإطلاق النظر وإمعان التفكير نلاحظ سُننًا جليلة في الكون تزيدها يقينًا بمدلول الآية: ]إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى[([10]) .. ومن تلك السُنن:
ا- الأرض:
التي نمشي عليها ونعيش على ظهرها، ونتعامل مع سهولها وجبالها، ونرى نباتها وأشجارها، ونشمُّ هواءها ونشرب ماءها .. فنجد أنَّ الأرض أنواع، منها السهلة ومنها الحزن([11])، ومنها الطيبة ومنها الخبيثة، ومنها السوداء والبيضاء والحمراء وبين ذلك، وفي الحديث قال r: «إنَّ الله تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك»([12]).
وعلى ضوء هذا جاءت أعمال الناس وسعيهم على قدر صلاحهم من فسادهم، وطيبهم من خبيثهم.
ب- المعادن:
التي تُستخرج من باطن الأرض، الذهب الذي لا يتغيَّر مع مرور الزمن، وإنما يزداد بالنار جودة، والفضة التي تلي الذهب في النفاسة والمكانة، والحديد وغيره من المعادن الأخرى التي تتأثَّر بمرور الأيام وتتغيَّر معالمها في أقصر الأوقات .. وفي الحديث المتَّفق عليه عن أبي هريرة t .. قيل: يا رسول الله، من أكرم الناس؟
قال: «أتقاهم»..
فقالوا: ليس عن هذا نسألك..
قال: «فيوسف نبيّ الله ابن نبيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليل الله»..
قالوا: ليس عن هذا نسألك..
قال: «فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».
وفي هذا دلالة أنَّ البشر أصناف كأصناف المعادن، فمنهم كالذهب لا يتغيَّر بالمغريات والشهوات والشبهات، وإنما كالجبل الأشم، ومنهم من يتأثَّر بالأهواء والقرناء؛ فسرعان ما يظهر على حقيقته عند زوال بريقه الظاهر المزيف.
جـ- الرياح والأمطار:
والتي يرسلها الله تعالى ما بين وقت وآخر، فمنها ريحٌ تُرسَل على العصاة فتدمِّرهم تدميرًا، ما تذر من شيء أتت عليها إلا جعلته كالرميم .. ومنها ما ينصر الله بها عباده المؤمنين، كما حصل في الأحزاب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله r: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور»([13]) متفق عليه.
والمطر في يوم بدر للمؤمنين رحمة وسكينة وطمأنينة، ويثبت الأقدام، وللكفار دحض ومزلَّة، ويزلزل الأقدام.
د- الأسرة الواحدة:
والتي تتكوَّن من عدَّة أشخاص ذكورًا وإناثًا .. كم نرى من التباين بين أفرادها في الاعتقاد وفي الاتجاهات، في التفكير وفي السلوك، وغير ذلك.
ولننظر لحال أسرة آدم u، فقد قصَّ القرآن قصة ابنيه: أحدهما صالح تقبَّل الله منه، والآخر عاص لم يتقبّل منه، ودفْع النفس الخبيثة لصاحبها إلى القتل بغير حقّ، مِمَّا جعله يتحمَّل أوزار القاتلين بعده، مع عدم براءتهم..
وأسرة نوح u، أحد أبنائه وزوجته عصاة، والبقية صالحون..
وكذلك إبراهيم u، أبوه آزر كان رأسًا في الشرك والإلحاد([14])، ولذلك يقول تعالى: ]وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ[([15])..
وهكذا قد يتباين أفراد الأسرة الواحدة في أعمالهم وسعيهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
هـ- المجتمعات والأمم:
ونقتصر على المجتمع الذي عاش فيه الرسول r، ففي مكة كان المجتمع كافرًا مُعرِضًا عن الله، حتى أقرب الناس إليه، عمّه أبو طالب الذي عاش معه أكثر من أربعين سنة، ولم يكتب الله له الهداية ]إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[([16])..
وفي المدينة مجتمعات متفرِّقة مُتشتَّتة، فاليهود والمنافقون والأعراب والمشركون، كلُّ هؤلاء يحاربونه ويريدون إطفاء نور الله، وأراد الله تعالى أن يُظهر دينه على جميع الأديان، وأن يجعل الدين كلَّه لله والسعي له وحده .. وحتى الجنّ، أُمَمٌ متفرقةٌ وطرائق قِددًا، أي مذاهب شتى، منهم المسلم والمشرك واليهودي والنصراني والسُني والبدعي ]وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا[([17]).
أرسل الله تعالى الرُسل وأيَّدهم بالبراهين والآيات العظيمة التي تدلُّ على صدقهم، وكان يؤيِّد كلَّ رسولٍ بِمَا يُبطِل افتراءات قومه، ويُظهِر صدقه ورسالته، فأيَّد موسى u بِمَا يُبطِل السِّحر المنتشر في قومه، بالعصا واليد وغيرهما، وأيَّد عيسى u بالحكمة وإحياء الموتى ونفخ الرُّوح لانتشار الحكمة والطب في قومه، وبعث محمدًا r في قوم يتميَّزون بالبلاغة والفصاحة، فأعجزهم بالقرآن الذي أبطل كيدهم وبهر عقولهم وأسكت ألسنتهم وأعيا بيانهم وكشف ظنونهم ودحض شبههم ودمغ باطلهم.
واللغة العربية لغة تتميَّز بدقَّة التعبير وتنوُّع الأساليب لاختلاف المخاطَبين، فمنهم من يُلقَى إليه الكلام غفلاً عن التأكيد، إذا كان المخاطب خالي الذهن، وما هو يسمى في الخبر «الضرب الابتدائي»، ومنهم من يُلقَى إليه الكلام مؤكَّدًا بمؤكَّد واحد؛ لأنه شاك، وهو ما يُسمى بـ«الضرب الطلبي»، ومنهم من يكون منكرًا فيؤكّد بعدَّة مؤكدات لإزالة اللبس وإيضاح الحق وتوكيد الخبر، وهو ما يسمى بـ«الضرب الإنكاري».
ولذا جاء في القرآن الكريم أسلوب القسم لتأكيد الأخبار وإحباط الشبهات وإزالة الشكوك وإقامة الحجة وتقرير الحكم في أكمل صوره، فهو تعالى يقسِم بما شاء من مخلوقاته، ولا يقسم إلا بعظيم، وعظمة المخلوق تدلُّ على عظمة الخالق .. ومن أقسامه تعالى:
القسم بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلَّى، وبالذي خلق الذكر والأنثى، وكل هذا القسم لأجل حال الإنسان المختلف وسعيه المتشتت..!
ونجد أنَّ العلماء قد وضعوا لجواب القسم أحوالاً ليس هذا مجال ذِكرها والتفصيل فيها، وإنما يكفي ما سبق ذكره.
ونحن نؤمن بصدق الله تعالى بلا قسم، ولكن من الناس من وقف من القرآن موقف الألدِّ الخصم، فكان لا بدَّ من كشف شُبهته وردِّها عليه، ولذا عرف العرب فصاحته وأدركوا بلاغته، وعجزوا عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، فما قوله تعالى: ]إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى...[ إلا جوابًا لقسم قبله أُريد به بيان حال الإنسان وكشف خفايا نفسه، مما جعل له أعظم التأثير وأبلغ الوقع في النفوس.
وقد عرف العرب ذلك ولمسوه في واقعهم؛ فاتهموا النبيَّ r بالسحر والشعر والكهانةـ واتهمت القرآن بأنه أقوال سحرية!.. كما أنَّ الجنَّ قد انبهرت منه عند سماعه لأول مرة ]وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ[([18]).
ومِمَّا يُذكر في بلاغة القرآن العظيم أنَّ الأصمعي سمع جارية تتكلَّم فأعجب بفصاحتها وُحسن بيانها فقال: قاتلك الله، ما أفصحك!
فقالت: ما بعد القرآن من فصاحة، ألم تسمع لقول الله تعالى: ]وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ[([19])؟
فلقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أمرين هما: «أرضعيه»، و«ألقيه»، ونهيين هما: «لا تخافي»، و«لا تحزني»، وخبرين وهما: «رادوه إليك»، و«جاعلوه من المرسلين»، وبشارتين وهما: «ردُّه إليها»، و«جعله من المرسلين».
وقد شهد الأعداء بعظمة القرآن الكريم ومكانته، والحقُّ ما شهدت به الأعادي، مع أنَّ شهادة الأعداء لا تكون كلّها حق، فعن الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الوليد بن المغيرة لَمَّا سمع القرآن الكريم قال لقومه: «ماذا أقول فيه؟! فوالله ما منكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه»([20]).
فإذا كان هذا موقف الأعداء، فما هو موقفنا من هذا الكتاب العظيم؟!
وما هو السعي الذي نسعاه إليه؟!
وما هو نصيبه من يومنا الطويل؟
وكم نختمه في الشهر؟
وما الأخلاق التي تخلَّقنا بها من القرآن؟
وهل يقودنا إلى الجنة ويدافع عنا ويشفع لنا أم يسوقنا إلى النار ويخاصمنا عند ربنا بِهَجرنا له وإعراضنا عنه؟.. ]وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[([21]).
وفي الآيات التي نتعرَّض للكلام عنها بلاغية عظيمة في أسلوبها وبيانها ونظمها، ضمنت أنَّ هذا الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، لذا كانت مظاهر حقيقة العمل والجزاء ذات لونين وذات اتجاهين، كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء، فهو تعالى يُقسم بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة؛ ومن ثمَّ فجزاؤهم مختلف، كذلك فليس الخير كالشر، وليس الهدى كالضلال، وليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى، وليس من صدق وآمن كمن كذَّب وتولَّى، بل لكلٍّ طريق، ولكل جزاء وفاق، فانظر لهذه العظمة في التعبير والجمال في العرض قطعت به ألسنة الخراصين ودفعت أباطيلهم ([22]).
إنَّ من أسماء الله تعالى: «الحكيم»، ومن صفاته: «الحكمة»، ومعناه الإتقان ووضع الشيء في موضعه..
ولقد شرَّع الله الشرع بكلماتٍ عظيمة جعلت النفوس تقبله وتهوى إليه، وتبذل في سبيله كلَّ غالٍ ونفيس، بل وتتسابق إلى القيام به على الوجه المطلوب، وتقدِّم النفوس رخيصة لإعلائه، ومن ذلك ما حصل من خيثمة بن الحارث بن مالك الأنصاري t في يوم بدر مع ابنه سعد بن خيثمة عندما خرجا للجهاد في سبيل الله، فقال خيثمة لابنه سعد: «آثرني بالخروج، وأقم مع نسائك، واخلفني في أهلك»، قال سعد: «لا يا أبي، لو كان غير الجنة آثرتك به، وأما الجنة فلا»، فاقترعا بينهما فوقعت على سعد، فخرج مع المسلمين فقاتل حتى استشهد، ثم لَحِقه أبوه شهيدًا في أحُد([23])..!
فانظر إلى هذا التنافس على الموت في سبيل الله، وفي هذا دلالة واضحة على حبِّهم لهذا الدين والعمل من أجل رفع رايته.
والمتتبع لأطوار الدعوة المحمدية الشريفة يجد أنَّ التشريع مرَّ بأطوار حتى وصل إلى الكمال عندما نزل قول الله تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[([24])..
من هذه الأطوار:
(1) طور تطهير القلوب وتنقيتها:
وإخراج الظلام منها وإدخال النور لها، وإذابة قسوتها بما ينَزَّل عليها من قرآن، وإعداد القلوب أولاً أمر مهم؛ لأنَّ القلوب مركز الصلاح والفساد، وفي الحديث الذي رواه النعمان بن بشير: «... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» متفق عليه.
وكيف تصلح جوارح لم تصلح قلوبها؟!
وقد أعدَّ عليه الصلاة والسلام القلوب لقبول الحقّ، وحرص على إخصابها لإنبات شجرة الإيمان، وكلُّ ذلك بتوفيق الله وإلهامه، وما أحوج الدعاة والمصلحين والناصحين إلى تربية القلوب أولاً وإعداها حتى تستسلم وتنقاد ويتجاوب البدن كلّه تبعًا لذلك.
فلما طهرت القلوب دخل التوحيد بـ«لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وتوجَّهت القلوب إلى بارئها وأخذت تناجيه، وتوحَّدت طُرقها بعد أن تشتَّت بها السبل وأضلها الشيطان، وسيطرت عليها العادات والأعراف، وصدق الله العظيم حيث يقول: ]ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[([25]).
(2) طور تنقية الجوارح الظاهرية:
وذلك بعد تنقية القلوب الخفية، وهذا بفرض الصلاة في أوقات معلومة من اليوم والليلة وهي خمسة أوقات، اختارها الله تعالى على غيرها، ورحم الله مجاهد بن جبر المكي الذي يقول: «فرض الله الصلوات في أوقات الإجابة، فسبحان الخالق العظيم».
ولن تقبل الصلاة إلا بعد الوضوء الذي يُطهِّر ويُنقِّي الجوارح الظاهرية من الكفين والوجه واليدين والرأس والأذنين والقدمين.
وبفعل الوضوء تزول الذنوب التي اقترفتها هذه الجوارح مع آخر قطر الماء، فعن أبي هريرة t أنَّ رسول الله r قال: «إذا توضأ العبد المسلم – أو المؤمن – فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء)، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيًا من الذنوب» رواه مسلم.
ونجد أنَّ الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ثاني ركن للإسلام أُمِرت بها الأمَّة في آخر العهد المكي في الرحلة الميمونة برسول الله r من مكة إلى بيت المقدس، والعروج به إلى السماء؛ ليفرض عليه الصلوات الخمس، فهي المنحة والعطية التي أعطي إياها في معراجه عليه الصلاة والسلام.
ونجد أنه شُقَّ صدره واستُخرِج قلبه ونُظِّف حتى تأهَّل ليتلقى كلام الله([26]) وتلقِّي الأوامر عنه..
وكذلك المصلي، لا بدَّ له من طهارة القلب أولاً، ثم طهارة الجوارح ثانيًا..
ولذا شرع أن يقول المتوضئ بعد وضوئه: «أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، فتُفتح أبواب الجنة الثمانية([27]).
وفي رواية الترمذي: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»..
قال العلماء: «واجعلني من التوابين» طهارة القلب، ومن المتطهِّرين طهارة الجوارح، فلا بدَّ من نظافة الظاهر والباطن.
(3) طور تنقية الأموال:
التي يكتسبها الإنسان ويتعامل بها ويُحبها وقد يبخل بها ]وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ[([28]) أي جُبِلت على حبِّ المال والشح به .. ولا شكَّ أنَّ طهارة الأموال لن تكون إلا بعد طهارة الأبدان، فمن بَخِل ببدنه بَخِل بماله، ولذلك قرن الله تعالى بين الصلاة والزكاة في كثيرٍ من الآيات، وقد قال ابن عباس t: ثلاث لا تُقبل إلا بثلاث: طاعة الله تعالى لا تُقبل إلا بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإقام الصلاة لا تقبل إلا بإيتاء الزكاة، وشكر الله تعالى لا يُقبل إلا بشكر الوالدين.
وانظر لحكمة التشريع في النصاب الواجب، فما وجد من زمن الجاهلية بلا تعب، وهو «الركاز» ففيه الخُمس، وما سُقي بماء المطر من الزرع ففيه نصف الخمس، وهو العشر، وما سُقي بمؤنة وتعب ففيه نصف العشر، وما احتاج إلى المتابعة والإشراف الدائم والمشاركة للتجارات والأموال النقدية ففيه نصف نصف العشر، أي ربع العشر.
والنفوس البشرية تحبُّ المال، فاختُبرت بالزكاة لمعرفة مدى الإذعان والانقياد، وما فرضت الزكاة إلا في أول العهد المدني بعد أن تهيَّأت النفوس لقبول ذلك.
(4) طور كبح جماح النفس:
ومنعها من ملذَّاتها، وحبسها عن شهواتها مدَّة من الزمن حتى تصل إلى درجة الروحانيين من الملائكة عليهم السلام عند ترك الملذات والمألوفات من أجل طاعة الله بأداء الصوم، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يقول:
القُوَى عند الإنسان ثلاث: قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه([29]).
ومن رحمته تعالى أنه جعل الصوم شهرًا واحدًا في العام، وخصَّه بالنهار من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ]يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[([30]) وكان فرض الصوم بعد فرض الزكاة، فهو الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو عبادة بدنية كالصلاة، إلا أن الصلاة مدتها قصيرة لا تزيد على عدة دقائق، بخلاف الصوم؛ فإنه يستمر عدَّة ساعات.
(5) طور الاختبار في الأموال والأبدان جميعًا في آن واحد:
وهو ركن «الحج»، وما جاء فرضه إلا متأخرًا، ويكفي المسلم أن يحجَّ ويعتمر مرةً واحدة في العمر؛ لأنه جهاد لا قتال فيه، وهو بذل للمال حتى يُنفق على نفسه في سفره وعودته، وينفق على أهله كذلك؛ ولذا علَّقه الله تعالى بالاستطاعة، قال تعالى: ]وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[([31]).
وكان بعض السلف رحمهم الله تعالى يسمون الصلوات الخمس «ميزان اليوم»، ويسمون الجمعة «ميزان الأسبوع»، ويسمون رمضان «ميزان العام»، ويسمون الحج «ميزان العمر»، حرصًا منهم على سلامة اليوم أولاً ثم الأسبوع ثم العام ثم العمر.
فلقد تدرَّج التشريع بدءًا بالأهم فالأهم، وراعى ضعف النفوس وضغوط المجتمع، فربَّى النفوس وقوَّى عزائمها وسما بالأرواح إلى الدرجات العالية والمكانة السامية، فبعد تشبعها بالإيمان قبلت جميع الأوامر التي أُمرت بها، وانتهت عن جميع النواهي التي حذَّر منها.
وعلاقة هذا بموضوعنا هو تنوُّع العبادات واختلافها وشمولها لجميع أحوال الناس، فسعى الناس بأعمالهم سعيًا متنوعًا بتنوع العبادات، وقد ثبت أنَّ للجنة أبوابًا منها باب للصيام - وهو «الريان» - وباب للبر وباب للصلة، وهكذا بقية الأعمال.
يحرص الإنسان على حفظ ماله في خزينة من الخزائن خشية التلف أو الضياع أو الاعتداء عليه، ويا ليت الأمر بقي هكذا ولكنه تعدى إلى إيداعه في البنوك الربوية. وإذا حرصنا على لأموال وحفظها فإن الأعمال أولى بالحرص وأجدر بالاهتمام؛ لأنها الأرصدة عند الإفلاس والصديق عند الضيق.
وقد وظف الله تعالى لهذه الأعمال موظفين يسجلون على العبد ويحصون عليه، وهذا من كمال العدل وإقامة الحجة ]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[، ]وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ[([32]).
ولكن أين مكان العمل والظرف الذي يعمل فيه؟
المعبر عنه بـ«الخزينة» للعمل إنهما الليل والنهار، وعمر الإنسان نصفان: نصف ليل ونصف نهار، ولكلٍّ منهما عمل لا يُقبل إلا في وقته .. وسورة الليل قد بدأت بالقسم بالليل، فالواو في قوله تعالى: ]وَاللَّيْلِ[ هي واو القسم، والأصل «أُقسم بالليل»، لكن لَما كثر القسم في الكلام حذف فعل القسم (أقسم)، وقلبت الباء المتعدَّى بها إلى المقسم به وهو «الليل» إلى «واو»، واستغنى بالواو في الأسماء الظاهرة، وبالتاء في لفظ الجلالة..
○ والسرُّ في تقديم الليل على النهار أنه يسبقه في الزمن، فمثلاً يوم لخميس يبدأ بغروب الشمس من يوم الأربعاء، وغالب آيات القرآن - إن لم تك كلّها - تقدم الليل على النهار عند اجتماعهما.
وأما قوله تعالى في سورة يس: ]وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ[ أي لا يجتمع الليل والنهار في وقت النهار، بل كلٌّ منهما في وقته الذي وقَّته الله تعالى له.
○ وسرٌّ آخر في تقديم الليل، وهو تذكير للإنسان بحالته الأولى عندما كان في بطن أمه في ظُلمات ثلاث .. قال تعالى: ]خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ[([33]).
○ وسرٌّ ثالث هو أنَّ أول ما أمر به الرسول r من العمل كان في الليل، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا[([34]).
وكان r يدارس جبريل القرآن في ليالي رمضان، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله r أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن».
والكثير من السلف كان يقول: «لولا الليل ما أحببت العيش أبدًا»..
وذلك لأنه يخلو بربِّه تعالى وينقطع عن الشواغل .. ولذا كانت أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة t أنَّ رسول الله r قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل».
وما فُضِّلت صلاة الليل إلا لِما فيها من مجاهدة النفس وبعدها عن الرياء والسمعة، وقُربها إلى الإخلاص والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، والتخفيف من طول القيام يوم القيامة.
○ وسرٌّ رابع وهو وجوب شكر الله تعالى على نعمه العظيمة؛ إذ أخرج الإنسان من ظلمة الصلب والترائب والبطن، ويسَّر له خروجه إلى المكان الرحب الواسع المضيء..
وهكذا يجب على الإنسان أن يعمل لاكتساب النور في الدنيا من العمل بالطاعة وترك المعصية حتى يجد هذا النور في دنياه ويمشي على الصراط المستقيم، وفي قبره عند مفارقة أنوار الدنيا المحسوسة وتخلِّي الأهل والأصحاب عنه، وفي حشره ونشره حتى يدخله الجنة ]وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[([35]).
ولقد عرف الصحابة ومن بعدهم فضل الليل فأشغلوه بالطاعة والعبادة، وما ضيَّعوه في اللهو واللعب .. وأذكر على سبيل التذكير فقط - مع الإيجاز الشديد - نموذجين من أهل الليل: أحدهما تلميذ من تلاميذ رسول الله r الذين تربَّوا على يديه، والآخر من تلاميذ تلاميذه عليه الصلاة والسلام.
أما الأول فهو الصحابي سعيد بن عامر الجمحي t، وقصته معروفة، ولا يهمنا في هذه الأسطر إلاَّ ذِكر شأنه في الليل؟ فلقد ولاَّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t إمارة حمص في بلاد الشام، وقليل من يصبر على أهل حمص لكثرة تذمُّرهم من أمرائهم وعدم صبرهم عليهم، ولكن عمر t يعطي القوس باريها.
ذهب سعيد t إلى إمارته وسار فيهم سيرة حميدة .. وخرج عمر يتفقَّد أحوال رعيته على عادته في إظهار العدل ومنع الظلم وتلمُّس أحوال الناس، فهذا ديدنه وهذه سجيته.
وصل عمر t إلى حمص، وجمع أهلها ومعهم أميرهم وقال:
ما ترون أميركم؟
قالوا: نِعم الأمير، إلا أنَّا نشكو منه خصالاً أربع.
قال: وما هي؟
قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، ولا يجيب أحدًا بليل، ولا يخرج إلينا يومًا في الشهر، وتصيبه غشية ما بين فترة وأخرى.
فقال عمر t: اللهم أحسن ظني بسعيد..
ثم سأل سعيدًا عما قال القوم؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: عزمت عليك أن تجيب.
قال: يا أمير المؤمنين، أمَّا عدم خروجي حتى يتعالى النهار فليس لي خادم فأعجن عجيني وأخبزه ثم آكله وأخرج للناس، وأمَّا عدم إجابتهم في الليل فقد جعلت النهار كلَّه لهم، وجعلت الليل لربِّي عزَّ وجل، وأمَّا عدم خروجي إليهم يومًا في الشهر فليس عندي ثياب غير التي علي، فأغسلها في الشهر مرة، وأنتظرها حتى تجفَّ، وأخرج عليهم في آخر النهار، وأما الغشية فحضرت مصرع خبيب بن عدي، ورأيته يُقطع بسيوف المشركين ولم أنصره؛ فأخشى عقاب الله تعالى.
فحمد الله عمر وجدَّد العهد له.
فانظر كيف جعل سعيد t الليل قيامًا لله ربِّ العالمين، وما جعله سهرًا على غضب الله وسخطه، لا تجارة مع الشيطان، وإنما عمَّره برضوان الله وأسعد نفسه بخير زاد([36]).
وأما النموذج الثاني من التابعين فهو صلة بن أشيم العدوي، يُكنى بـ«أبي الصهباء»، يقوم الليل حتى في ساحات الوغى، يترك القوم حتى يناموا ثم يقوم يصف في محرابه ويناجي ربه إلى طلوع الفجر، فارس في النهار وعابد بالليل..
فقد روى أهل السير أنه عندما زُفت إليه زوجته معاذة العدوية وأُدخِلت عليه في ليلة عرسه صلَّى بها ركعتين بعد العشاء، وما انتهى منهما إلا عند آذان الفجر، فلامه أهله وقالوا: زُفَّت إليك زوجتك، فلو آنستها في ليلة زفافها وقُمت ليالٍ أخرى..
قال: والله ما إن دخلت في الصلاة حتى نسيتها ونسيت الدنيا كلَّها، وأخذت أفكر في الجنة والنار فأنسياني كلَّ شيء..!
ويا ليت أنَّ المسلمين في ليالي أعراسهم يطَّلعون على عمل السلف في ليالي زفافهم، ويبتعدون عن المعاصي والمنكرات في أول لقاء بين الزوجين من الغناء والسهر وإيذاء الآخرين والغفلة عن صلاة الفجر وقبلها العشاء .. وماذا يُرجَى أن يُنجب الزوجان من عرس هذا أوله؟!.. نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد.
فالليل موطن من مواطن العمل، ووقت رابح لمن أراد الربح؛ ولذا قدَّمه الله في القسم وجعل جوابه السعي المتشتت، وما أحسن ما قال الشاعر:
يَا
نَفْسُ قُومِي فَقَدْ نَامَ الوَرَى |
|
|
|
إنْ تَصْنَعِي الخَيْرَ
فَذُو العَرْشِ يَرَى |
|
وَأَنْتِ
يَا عيْنُ دَعِي عَنكِ الكَرَى |
|
|
|
عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ
القَوْمُ السَّرَى |
|
وأما النصف الثاني من العمر فهو النهار قد أقسم الله تعالى به بعد الليل؛ لأنه يعقب الليل ويأتي بعده، فقال تعالى: ]وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى[..
والنهار هو ظرف الحركة والسعي والعمل والمعاش، وفيه تذكير للإنسان بحياته التي يعيش فيها إذا أقبل النهار بجيشه المُبصِر فبدَّد الظلام وأزاله، وحلَّ النور مكان الظلمة، والحركة محلَّ السكون، والسعي مكان الركود، وخرجت الطيور من أوكارها تغدو خماصًا وتعود بطانًا، وانتشرت الدواب من جحورها، وانطلقت الأنعام من محابسها، وتفرَّق الناس إلى أعمالهم لتستمرّ عجلة الحياة على وفق ما قضاه الله وقدَّره.
وسبحان الخالق العظيم كيف نظَّم حياة الناس ومعاشهم، فإذا تعبوا وكلُّوا أذن بغروب الشمس للاستراحة من عناء النهار واستعادة النشاط فترة الليل، وليبرد الجو من حرارة الشمس، ولو استمرَّ النهار بحرارة شمسه لاحترقت الأرض بمن فيها، ولكنَّ الله تعالى سيَّرها في فَلكها للنفع وقت النفع وللدفع وقت الضر.
فإذا ملَّ الناس والدواب الراحة والنوم والظلمة وأرادوا الحركة أذن الله بظهور الشمس مرة أخرى؛ لتعود الدواب إلى أعمالها، ولو استمرَّ الليل لتجمَّدت المياه وهلكت الأجساد، وفسدت الأرض وتعطَّلت حياة الناس ]اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[([37]).
فما الإقسام بالليل والنهار إلا لأنهما الحياة للإنسان، فهو ما بين ليل ونهار، وهما "خزانتا" عمله؛ فليضع فيهما العمل الصالح الذي يُرضي الله تعالى عنه..
وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول:
الليل والنهار خزانتان فضع فيهما العمل الصالح، وهما يعملان في الإنسان وهو لا يشعر، إذ يمضيان به إلى الآخرة، وهو لا يزال غافلاً، فليعمل فيهما كما يعملان فيه.
ولقد كتب أبو بكر t لعمر t وصية عندما استخلفه وكان مِمَّا جاء فيها:
«...واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار».
ومن المطلوب في حقِّ المسلم ألاَّ يُضيع ليله ونهاره، بل يُنظِّم وقته فيهما، ويُجدوِل حياته فيهما، ولا يفنيهما في اللهو واللعب والباطل.
ويُروَى عن داود u أنه كان يُنظم وقته إلى أربعة أقسام: قسم للعبادة، وقسم للدعوة والواعظ والإرشاد ونصح الناس وبيان الحقِّ لهم، وقسم للقضاء والفصل بين الناس، وقسم لخاصة نفسه وأهله.
وعن ابن حبان والحاكم عن أبي ذر t في حديث طويل عن صُحف إبراهيم u ومنه قال عليه السلام: «...ينبغي للعاقل أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب».
وحتى نُوقن أنَّ الإسلام هو دين الجدية والعمل والاستثمار ننظر بأيِّ شيء يفتح النهار وبأيّ شيء يفتح الليل، فالنهار يبدأ بصلاة الفجر، ولها أذكار ليست لغيرها إلا للمغرب، والليل يبدأ بصلاة المغرب ولها أذكار كالفجر .. فكن يا عبد الله من أهل الأرصدة المباركة التي تُؤخذ من خزائن الأعمال يوم القيامة، يوم أن تفتح خزينة الليل فتجد ما قدَّمت، وخزينة النهار فتجد ما عملت، وتفتح خزينة ثالثة وهي خزينة الضياع والإفلاس، فتتمنى لو أنَّ لك الأرض ومثلها معها لتفتدي من عذاب يوم القيامة.
فالعاقل هو الذي يزيد رصيده كلّ يوم، ويستثمر أنفاسه، ويحفظ أوقاته، ويجعل الدنيا مزرعة للآخرة، ويعدّ قصوره في الجنة بالأعمال الصالحة، فبالمحافظة على الصلوات يُبنى للعبد قصر في الجنة، ويزرع نخيل الجنة بكثرة الذِّكر، فسبحان الله نخلة، والحمد لله نخلة، ولا إله إلا الله نخلة، والله أكبر نخلة، فمن أَكثَرَ أُكثِرَ له، ومن أَقلَّ قُلِّلَ له .. ]مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[([38]).
لكلِّ وظيفة موظف، ولكلِّ عمل عامل، والعاملون لأعمال الليل والنهار هم الذين قال الله عنهم: ]وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى[، وقد اقتضت حِكمة الله تعالى أن تقوم حياة المخلوقات على قاعدة الزوجية: ]وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[([39]).
ونحن لا نستغرب هذا في الإنسان والحيوان، فنرى الذكر والأنثى منهما، ولكن نجد أنَّ هذه القاعدة تشمل حتى النبات، ومن الأشجار ذَكر ومنها أنثى، ويحصل التلقيح بواسطة الهواء الذي ينقل الملقّحات من الذكر للأنثى، فمن الملاحظ اشتداد الهواء عند الأزهار، وهناك من الشجر ما يوجد جزء منها ذكر والآخر أنثى في شجرة واحدة، يُلقِّح أحد جزأيها الجزء الآخر.
ومن الحشرات ما يلقح نفسه بنفسه باحتكاك بعض فخذيه ببعض، وأما الجمادات فقد ثبت إعجاز القرآن في ذلك أن الآية تقول: ]وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ[ فهي عامة في كلِّ شيء، وقد ظهرت هذه المعجزة في عصرنا؛ إذ نلاحظ أنَّ الكهرباء تتكوَّن من موجب وسالب، وأنَّ أحدهما لا يُؤثِّر إلا بالآخر .. فسبحان الخالق العظيم.
وأمَّا الإنسان فقد ثبت علميًّا أنَّ سبب التذكير والتأنيث من جانب الرجل، أي أنَّ ماء المرأة صالح لهذا وذاك، وماء الرجل هو الذي به يكون التمييز لانقسام يقع فيه، فالمرأة حرثًا والزرع من قِبَل الرجل، ويتم ذلك عن طريق مبدأ معلوم علميًّا، وهو أنَّ خلية التلقيح في الأنثى دائمًا مكوَّنة من ثمانية وأربعين جزءًا، وتنقسم إلى قسمين، كل قسم أربعة وعشرون جزءًا .. وخلية الرجل سبعة وأربعون جزءًا، تنقسم إلى قسمين، أحدهما أربعة وعشرين جزءًا والآخر ثلاثة وعشرين جزءًا.
فإذا كتب الله تعالى للجنين أن يكون ذكرًا سبق القسم الذي يتكوَّن من ثلاثة وعشرين من الرجل فيتصل بالقسم الذي يتكون من أربعة وعشرين من المرأة، فيكون المجموع سبعة وأربعين جزءًا، وهي مجموع خلية التلقيح عند الذكر، وإن أراد الله للجنين أن يكون أنثى سبق القسم الذي يتكوَّن من أربعة وعشرين من الرجل، فيتصل بالقسم الذي يتكون من أربعة وعشرين من المرأة ليكون المجموع ثمانية وأربعين، وهي مجموع خلية التلقيح عند الأنثى([40])، وما هذا إلا لبيان عظمة الخالق وقدرته وتصرفه ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[.
والتكليف من الشارع الحكيم على الذكر والأنثى سواء، وتُعذَر الأنثى عند وجود عُذر عندها، فتقضي ما فاتها بالعذر في عبادة ولا تقضي في عبادة أخرى.
والإسلام تكريمٌ لأهله، وهو أعظم نعمة مَنَّ الله تعالى بها علينا، وقد كرَّم الإسلام المرأة وأعطاها حقَّها باعتبارها من "الموظَّفين" في أداء عمل العبادة، وخصَّ الله النساء في القرآن بسورة من أعظم السور – وكلّ القرآن عظيم – تُسمَّى بـ«سورة النساء»، كما يذكر الرجال والنساء كذلك فيقول: ]إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...[ وهكذا إلى آخر الآية.
فالله تعالى جعل المكلَّفين بالعمل هم الذكور والإناث من الجن والإنس، قال تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[([41])..
كما ربط سبحانه التكليف بالعقل الذي يعقل صاحبه ويحبسه عن الزيغ والزلل ويمنعه من المخالفات، وهذا معلومٌ للجميع، لا يجهله إلا جاهل، ولا يُنكره إلا ضال معاند.
وإن كانت العبادة من المكلَّفين مطلوبة فإنَّ القرآن الكريم ذكر أنَّ المخلوقات كلَّها تُسبح لله وتحمده، ولكننا لا نفقه تسبيحها .. قال تعالى:
]تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[([42]).
والمراد: تسبيح حقيقي يعلمه الله تعالى.
وقد حصل من ذلك عند الرسول r بحضرة الصحابة، كالحصا الذي أخذه صلَّى الله عليه وسلَّم فسبَّح في يده وفي يد أبي بكر وفي يد عمر وفي يد عثمان y، وقد روى هذا الحديث أبو ذر t، وأخرجه البزار والطبراني، وذكره ابن كثير في دلائل النبوَّة وفي التفسير..
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود t قال: «كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل»..!
وعند البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r مرَّ بقبرين قال: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما ألآخر فكان يمشى بالنميمة»، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين ووضع كلَّ كسرة على قبر وقال: «لعلَّ الله أن يُخفِّف عنهما ما لم يَيْبسا».
قال العلماء:
والعلَّة في التخفيف ما دامت خضراء؛ لأنها تُسبِّح في خضرتها، والخُضرة علامة على الحياة، فإذا ماتت ويبست انقطع التسبيح.
وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبَّحت الصحفة أو سبَّح ما فيها([43]).
ويروي سليمان بن المغيرة أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبَّحت معه آنية بيته([44])، وسبحان الله الذي يصلح كل شيء للصالحين، ويطوع كل شيء للطائعين!
وفي كتاب «الزهد» للإمام أحمد رحمه الله أنَّ داود u قال: «يا رب، هل بات أحد من خلقك الليلة أطول ذكرًا لك مني؟ فأوحى الله عزَّ وجل إليه، نعم يا داود، الضفدع، فنقنقته تسبيح لله تعالى».
قال سفيان: يُقال إنه ليس شيء أكثر ذكرًا لله تعالى من الضفدع.
وذكر السفاريني في «غذاء الألباب» عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ ضفدعاً ألقت بنفسها في النار من مخافة الله تعالى، فأثابهن الله تعالى برد الماء، وجعل نقيقهن التسبيح([45]).
وعند مسلم من حديث أبي هريرة t أنَّ نبيًّا نزل تحت شجرة فلدغته نملة، فأمر بإحراق بيت النمل، فأوحى الله تعالى إليه: أمن أجل نملة واحدة أحرقت أمَّة من الأمم تسبح؟!
وذكر القرطبي في تفسيره أنَّ سليمان u كان يُترجم لبعض الطير، وكان مما قال: أنه سمع صرد فقال: إنه يقول «استغفروا الله يا مذنبين»..
وهدلت عنده حمامة فقال: إنها تقول «سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وعدد ما في أرضه»، وذكر كثيرًا نحو هذا([46]).
ولو أخذنا نستعرض أعمال المخلوقات لطال بنا المقام، ولكن نكتفي بما سبق كإشارة إلى ما أردناه، ودلالة لمن أراد المزيد.
كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه
قدَّر الله وقضى في الأزل أنَّ الطيبين للدار الطيبة لأعمالهم الطيبة، وأنَّ الخبيثين للدار المؤلمة؛ لأنَّ أعمالهم خبيثة .. وفي الحديث المتَّفق عليه عن علي t قال:
كنا جلوسًا عند النبي r فقال: «ما منكم من أحدٍ إلا وقد كُتِب مقعده من الجنة ومقعده من النار»، فقلنا: يا رسول الله، أفلا نتَّكل؟
قال: «لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق الله...» الحديث.
وهذا هو الذي عَنته الآية ]إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى[، أي أعمالكم متفاوتة ومتخالفة ومتضادة، فمنكم من يفعل الخير ومنكم من يفعل الشر، وكلُّ مُيَسَّرٌ له طريقه الذي كتبه الله له، أهل السعادة يُيسَّرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاء مُيسَّرون لعمل أهل الشقاء، وقد كُتِب في الأزل ما قضاه الله وقدَّره على كلِّ إنسان، والإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير:
1- التقدير الأزلي:
قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص t قال:
سمعت رسول الله r يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» رواه مسلم.
2- التقدير عند كتابة الميثاق:
الميثاق الذي كتبه الله على بني آدم عندما قال تعالى: ]أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا[([47]) الآية.
3- التقدير العمري:
عند تخليق النطفة في الرحم، كما في حديث ابن مسعود المتَّفق عليه، ومنه: «... ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد».
4- التقدير الحولي:
والمقصود به ما هو في ليلة القدر، حيث قال تعالى: ]فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ[([48]).
5- التقدير اليومي:
وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي صدرت لها فيما سبق، قال تعالى: ]كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[([49])([50]).
وإذا أراد الله بعبده خيرًا ذلَّل له طُرق الخير، ويسَّر له الهداية، وحفظه من الشياطين، وحبَّب إليه الإيمان، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، وأرشده إلى طريق الصواب، وسخَّر الملائكة تؤزُّه أزًّا إلى الخير والفلاح.
وإذا أراد الله بعبده ضلالاً سلَّط عليه الشياطين تؤزُّه إلى العذاب أزًّا، وسدَّ في وجهه طريق الهداية والرشاد لعدم صلاحيته لذلك وعدم أهليته لهذا العمل الشريف، وهو سبحانه أعلم بعباده.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
سمعت رسول الله r يقول: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ خلق خلقه في ظُلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصابه من نوره يومئذٍ اهتدى، ومن أخطأه ضلّ...»
رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم
ونحن نشاهد الصالحين يسلكون طرقهم إلى المساجد للصلوات وإلى حلقات العلم وإلى زيارة الصالحين وإلى أداء الحقوق لأهلها، ويعطون كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويتصدَّقون، ويجعلون بينهم وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر وترك النواهي، ويُصدِّقون بكلِّ ما أَخبَر به القرآن أو دلَّت عليه السنة أو أجمعت عليه الأمَّة الراشدة، فيسَّر الله أمورهم، وحفظ أعمالهم، وأرشد عقولهم، وضاعف أجورهم، وكفَّر أوزارهم، ويسَّرهم لليُسرى وجنَّبهم العسرى.
وبالمقابل نلاحظ العصاة يتَّجهون في الطريق المعاكس، لا يعرفون الطريق للمساجد، ولا يتربُّون على حلقات العلم، وإنما يَحرصون على حَلقات الغيبة والنميمة والقيل والقال والباطل والهراء وما شابه ذلك، ويُضيِّعون الحقوق، ويسخرون مِمَّن يؤديها، ويبخلون بأموالهم، ويستغنون بآرائهم، ولا يستضئيون بنور الهدى والإيمان، ويُكذِّبون بالحقّ، ويصدقون بالباطل، فيسَّرهم الله للعسرى وعاقبتهم الهلاك والرَّدى.
ومِمَّا يذكر أيضًا أنَّ لصًّا قد كفَّ عن السرقة حياءً من الناس، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلاً دراهم ليسرق له من زرع جاره، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو – أي زرع اللص نفسه – فلما أكلها تفلها وقال:
ليس في هذا طعمة المسروق، فمن أين أتيت به؟
قال: أتيت به من زرعك.
ثم عاتبه وقال له: ألا تستحي من نفسك، تسرق وعندك ما يغنيك .. فخجل وكفَّ عن السرقة.
وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تمامًا، وهو أنه لَمَّا طلب من غلامه أن يسقيه مِمَّا في قربته من لبنٍ سقاه، فلمَّا طعمه استنكر طعمه، فقال للغلام: من أين هذا؟
فقال: مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها، وها هو ذا.
فوضع عمر t إصبعه في فيه واستقاء ما شرب..!
إنها حساسية الحرام استنكرها عمر، وأحسَّ بالحرام فاستقاءه، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى .. وصدق نبينا r إذ قال: «اعملوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه»([51]).
يعيش الخلق في جود الله وفضله وكرمه، ويتمتَّعون بنعمه وخيراته، وإن كان تعالى قد أوجب العمل الصالح فإنه ضاعف الأجر والثواب عليه ]مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[([52]).
ولمضاعفة الحسنات أسباب منها:
ا- شرف الزمان:
كالأوقات المفضَّلة؛ إذ شرَّف الله بعض الساعات وبعض الأيام وبعض الليالي وبعض الشهور، فمن الساعات ساعة الإجابة يوم الجمعة، ومن الأيام يوم الجمعة من الأسبوع، وأيام العشر من عشر ذي الحجة أفضل الأعمال الصالحة فيها، ومن الليالي ليلة القدر خير من ألف شهر، ومن الشهور شهر رمضان.
ب- شرف المكان:
فاختار الله من الأرض المساجد، فهي أفضل البقاع وأطهرها وأحبَّها إلى الله تعالى، ومن المساجد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام بمكة المكرمة فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والركعة بمائة ألف ركعة، والتسبيحة بمائة ألف تسبيحة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ويليه المسجد النبوي بالمدينة المنورة، والصلاة فيه بألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام..
وينبغي أن يفهم الناس أنَّ زيارة المدينة لأجل المسجد لا لأجل القبر؛ لأنَّ الرِّحال لا تُشَدُّ إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
والثالث المسجد الأقصى في فلسطين، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة في غيره إلاَّ المسجد الحرام والمسجد النبوي .. نسأل الله أن يُطهِّره من أيدي اليهود والملحدين، وأن يُحقِّق موعوده بهزيمتهم ونصر المؤمنين، وأن يُوحِّد صفوف المسلمين وأن يُطهِّر قلوبهم.
جـ- شرف العامل:
ولقد خلق الله تعالى الخلق واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين العلماء العاملين المخلصين، ومن العلماء الأنبياء عليهم السلام، ومن الأنبياء الرُسل، ومن الرسل أولي العزم، ومن أولي العزم الخليلين، ومن الخليلين محمد صلى الله عليهم جميعًا وسلم.
واختار من جميع الأمم - وعددهم سبعون أُمَّة - أُمَّة محمد r ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[([53]).
فقد أكرمها الله على غيرها في الدنيا بحوالي ثمان عشرة كرامة، وأكرمها في الآخرة بحوالي ست عشرة كرامة.
والتفصيل في ذلك انظر كتاب: «عظيم قدره ورفعة مكانته r عند ربه عز وجل» للدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر
فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة كان الأجر أعظم والثواب أجزل، وسبحان من يُضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ويتجاوز عن السيئات، ويعلم ما تفعلون.
وقد يكون للمضاعفة أسباب أخرى، ولكن خشية الإطالة اقتصرت على ما سبق .. ونسأل الله التوفيق.
إنَّ الحياة سعيٌ وعمل، نرى المزارع يخرج من بيته مُبكرًا قاصدًا مزرعته يحرثها ويُلقي الحبَّ فيها، ويغرس الشجر ويحفظها ويحميها، ويصرف لها معظم وقته، ماذا يريد من وراء ذلك؟َ إنه يرغب في الثمرة ويحرص عليها ولا يستعجلها لعلمه أنها تبقى فترة من الزمن ]وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ[([54]).
والمسلم الصادق دائم النفع مستمرُّ العطاء، يثمر الخير والفضيلة على كلِّ حال، كالشجرة الطيبة التي تؤتي أُكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها.
ولقد شبه الرسول r المسلم بالنخلة، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله r قال: «إنَّ من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟»..
فوقع الناس في شجر البوادي، قال ابن عمر: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟
قال: «هي النخلة».
ولم يختر النخلة على غيرها إلا لأنها أكثر الأشجار ذِكرًا في القرآن، ولدوام نفعها؛ فهي دائمة الخضرة، لا تتأثر بالفصول الأربعة، ولا تسقط أوراقها، وفي كلِّ شيءٍ منها نفع؛ فتؤكل بلحًا وبسرًا ورطبًا وتمرًا، وينفع بجميع أجزائها حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال.
وهكذا المسلم؛ بركته عامة في جميع الأحوال، ونفعه له ولغيره حتى بعد موته([55]).
فنحمد الله الذي أدام علينا ثمار الخير، وجعل في كلِّ شيء أجرًا، حتى الكلمة الطيبة وحُسن الخلق وطلاقة الوجه وما يضع الإنسان في فم امرأته، وحتى إتيان الرجل زوجته له أجر؛ لأنه لو وضع نُطفته في حرام كان عليه وزر، وكذلك لو وضعها في حلال كان له أجر، ونوم المسلم إذا أراد به التقوِّي على الطاعة كان له أجر، فانظر إلى آثار رحمة الله وسعة عفوه وعظيم جوده.
وباختصار شديد أُشير إلى بعض ثمرات الأعمال، وإن كان الأولى استيفاء الموضوع، ولكن خشية الإطالة والخوف من السآمة والحذر من الملالة أكتفي بما يلي:
1- ثمرات الذكر لله تعالى:
سواء كان هذا الذِّكر بالقول من قرآن وأوراد وأدعية وغيرها، أو بالفعل من القيام بالأمر وترك النهي أو بالمعاملة من الإحسان في كلِّ شيء؛ لأن الله تعالى يُحِبُّ المحسنين.
والذكر لا يتقيَّد بزمنٍ معيَّن، بل على كلِّ حال، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[([56]).
وقد كان r يذكر الله على جميع أحواله.
ولو لم يكن من ثمار الذكر إلا ذِكر الله تعالى للذاكر له لكفى، فما بالك إذا كان فيه أيضًا إخراجه من الظلمات إلى النور، ومصاحبته للملائكة، وأخذه ميراث الأنبياء، والتحرُّز، والحفظ من الشيطان الرجيم، وغرس أشجار الجنة، وغذاء القلوب، ومغفرة الذنوب، وتكفير مجالسي اللغو واللغط، والاشتغال بالخير عن الشر، وحفظ الجوارح والأوقات.
ومن أراد الزيادة من هذه الثمار فليراجع كتاب «الوابل الصيب» لابن القيم الذي ذكر ثمرات وفوائد الذكر وقال بأنها تزيد على مائة.
2- ثمرة الصلاة:
الصلاة هي الصِّلة التي تربط العبد بربِّه، وتوصله إلى رضوانه، وتنقله إلى برِّ الأمان ورياض الجنان إن أذن الرحمن .. وأعظم ثمرة للصلاة أنها تُنهي عن الفحشاء والمنكر، ولو أقامها الناس كما أراد الله تعالى وأمر في القرآن لحفظت أهلها من الزيغ والزلل، وحالت بينهما وبين المنكرات، ولكنهم يؤدُّونها بلا إقامة لها، فجاءت هزيلة لا تقاوم المعاصي ولا تمنع السيئات.
والصلاة تسليم القلب لخالقه والانشغال به عن سواه، ولذا كان السلف ينقطعون عن كلِّ شيء إذا دخلوا في الصلاة، فلا يتحرَّكون ولا يعبثون، بل يُحرِّمون كلَّ عملٍ يُنافي الصلاة بمجرَّد تكبيرة الإحرام، فمن عظَّم الوقوف بين يدي ربَّه في الصلاة عظَّم الله وقوفه يوم القيامة .. قال ابن القيم:
للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحقِّ الموقف الأول؛ هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بالأول؛ شُدِّد عليه الثاني ([57]).
والصلاة تُكفِّر السيئات وتزيد الحسنات وترفع الدرجات وتجاب بِها الدعوات، وهي سببٌ للتبشير بالجنة والنجاة من النار، وفتح باب الرزق ونفي الفقر، وإبقاء الثناء الحسن للمصلِّي بين السماء والأرض، وسبب لحياة القلب وهدايته، وسبب عرض اسمه على النبي r، وسبب تثبيت القدم على الصراط([58]).
ويتذكَّر المصلِّي أنه كان يُناجي ربَّه؛ فلا يتكلَّم بلسانه الذي ناجى به ربه أيَّ محرم، ولا يُدنِّسه بأيّ معصية، ويتذكّر وقوفه بين يدي ربَِّه تعالى، فلا يقف موقف يغضبه ويوجب عذابه.
والصلاة المثمرة هي التي أكسبت صاحبها نورًا وقوَّةً وخوفًا من الله، وحفظته من المعاصي صغيرها وكبيرها، وجعلته يعيش في المجتمع أمينًا على الأموال والأنفس والجوارح، سالمًا من الأذى والمهلكات .. فهل نرى ثمار الصلاة يانعة في واقعنا حتى يأمن بعضنا بعضًا ويسلم بعضنا من أذى بعض؟.. نسأل الله ذلك.
3- ثمرة الزكاة:
خصوصًا والصدقة عمومًا: ومن ثمارها التغلُّب على البُخل والشُّح والتقتير، والتخلُّق بخُلق الجود والإنفاق والإحسان، وتحقيق الأخوَّة الإسلامية بكفالة الغني للفقير وإعطائه من حقِّ الله الذي أحقَّه في المال؛ فيسعد المجتمع وتطيب النفوس وتنقطع السرقة، وتتطهَّر الأموال من الحرام الذي عمَّ وطم، سواء كان ذلك الحرام ربًا أو خيانةً واغتصابًا أو ظلمًا أو ما شابه ذلك.
ويعرف الغني فضل الله عليه فيستزيد من شكره ويلهج بحمده، ويوقن أنَّ المال لله، يُعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء .. ويرتفع إيمان الفقير عندما يشاهد اهتمام الإسلام به وفرضه حقًّا له في مال الغني.
والأموال لا تزيد إلاَّ بأداء الزكاة، فمن أخرجها كاملة زاد ماله وبارك الله فيه، ومن بخل بها سلَّط الله عليها الآفات والمهلكات ]يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ[([59]).
ومن ثمار الصدقة أنها تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وأنها باب من أبواب الخير لِمن أراد دخول الخير والتعامل به، ففي حديث معاذ بن جبل t: «... ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الليل...» الحديث ([60]).
ومن السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم القيامة المتصدِّق.. ولن ينال العبد البرَّ حتى ينفق مما يحب... قال تعالى: ]لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ[([61]).
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب «الزهد» عن الأعمش عن سلمة بن أبي الجعد قال:
خرجت امرأة وكان معها رغيف وصبيٌّ لها، فجاء الذئب فأخذه منها على غفلة، فخرجت في أثره، وكان معها رغيف، فعرض لها سائل فطلبها الرغيف لحاجته فأعطته، فجاء الذئب بصبيِّها وردَّه عليها..
فانظر لأثر الصدقة، وهذا أثر قد يصحُّ أو لا يصحُّ، وما إيراده إلا للعبرة.
والصدقة بإذن الله تُؤثِّر في أخطر الأمراض وتُزيلها بقدرة الله تعالى، ومن هذا ما ورد في كتاب «نوادر من التاريخ» لصالح الزمام - الجزء الرابع صفحة (103) بعنوان: «الأعمار بيد الله»، وأسند الخبر إلى جريدة المسلمون في عددها (181) وتاريخ (8) ذي الحجة (1408هـ)، قالت ما مضمونه:
إنَّ طبيبًا سوريًّا اسمه عيسى مرزوق أُصِيب بمرض السرطان تحت إبطه الأيسر والتمس العلاج، ولكن الأطباء توقَّعوا وفاته بعد عدَّة أيام ويئسوا من حياته، وهداه الله تعالى إلى العلاج بالصدقة أخذًا بقوله u: «وإن الصدقة تطفئ الخطيئة»، وكان يملك مبلغًا من المال، ونذره صدقةً لوجه الله يلتمس الأجر ويطلب الشفاء من الله وحده، وتعرَّف على أسرة فقيرة مات أبوهم منذ عدَّة سنوات وبهم فقر وفاقة، ولربما مرَّت الأيام وهم لا يملكون طعامًا، واصطحب جميع ماله وتوجَّه لهذه الأسرة وأعطاهم المال وأدخل السرور عليهم، وظهرت الابتسامة على وجوههم، ونفَّس الله به عنهم كُربة من كرب الدنيا، فنفَّس الله عنه كُربةً من كرب الدنيا، ونرجو أن يُنفِّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة..
وأخذت الأسرة هذا المال، وسعدوا به، وعلموا أن المتصدِّق مريض بالسرطان ويحتاج إلى الدعاء .. ورجع المريض إلى منـزله، وإذا بأثر السرطان يختفي يومًا بعد يوم حتى برئ كلَّه وعادت إليه صحَّته وعاد إلى عمله، وشكر ربَّه، وازداد به صلةً، ورقَّ قلبه على الضعفاء والمساكين، واعتبر بهذه القصة الكثير من معارفه وأصحابه..!
فهل من عقول تعي هذه الأخبار؟!
وهل من قلوب تعتبر؟!
وهل من جوارح تنقاد؟!
ولو لم يكن من فوائدها إلا أنها تُرقِّق القلوب القاسية، وتربط المجتمع بعضه ببعض كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر لكفى.
ومن أراد المزيد فليقرأ كتاب «موارد الظمآن» للشيخ السلمان - الجزء الأول، إذ ذكر ستين ثمرة للزكاة والصدقة.
4- ثمرة الصوم:
الذي يكبح جماح النفس ويطفئ شهواتها ويُقيِّد عنفوانها، ويُطوِّع جوارحها ويزيد من انقيادها وإقبالها على ربها .. ومن ثماره ما أوصى به الأولين والآخرين في قوله تعالى: ]وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[([62])
وهذه أعظم ثمرة؛ فالصوم وقاية من النار ووقاية من الشهوات.
ومن ثمراته ضبط النفس وحملها على الصبر والانتصار على جميع الأعداء الأربعة: النفس والشيطان والنفاق والكفر .. من هذه الثمرات كذلك الاتحاد والنظافة والعدل والمساواة، وحماية المجتمع من الشر والفساد، والتخلُّق بأخلاق الملائكة عليهم السلام، ويكفي الرغبة في الجنة عند فتح أبوابها الثمانية والرَّهبة من النار عند غلق أبوابها السبعة، والفرح بالعمل الصالح، وشغل الوقت بالصالحات صومًا في النهار وقيامًا في الليل، وحبس اللسان على القرآن والأذكار .. وبهذا يُعرَف الصائمون يوم القيامة برائحة المسك التي تخرج من أفواههم.
وللازدياد من الاطلاع على الثمرات انظر كتاب «من حكم الشريعة وأسرارها» للشيخ حامد العبادي.
5- ثمرة الحج:
وهو الجهاد الذي لا قِتال فيه، ومن ثمراته أنَّ برَّه يُخرج العبد من الذنوب كيوم ولدته أمه، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله r قال: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه».
ومن ثمراته الزهد في الدنيا والتقلُّل من متاعها، وتعويد النفس على تحمل المشاق، وتذكر الموت بلبس ثياب الإحرام، والوفاء بالعهد عند قوله: «لبيك اللهم لبيك»، والاستجابة الدائمة والمستمرة لله وحده، والتخلُّق بأخلاق الأنبياء والاقتداء بهم كإبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وتقديم أمر الله تعالى على حظوظ النفس، وطرد الشيطان برجمه بالأذكار من القلب وبالأفعال من الجوارح، وتذكُّر يوم الجمع لا ريب فيه، والحبُّ في الله والبُغض في الله، ودوام ذِكره وشكره، والذبح لله، والبراءة من عمل الجاهلين الذين كانوا يذبحون للأصنام.
وتتلخَّص ثمراته في وحدة المسلمين وتعظيمهم لشعائر الله وعدم اغترارهم بالدنيا وزهدهم فيها ورغبتهم في الآخرة.
هذه الشرائع المتقدِّم ذكرها قد تبيَّن أنها من أعظم الضرورات، وأنه لا غنى للخلق منها، وأنها أعظم منن الله تعالى على عباده وأعظم محاسن الدين الإسلامي، فما من خيرٍ إلا ومصدره التمسُّك بالشرع الحنيف، وما من شرٍّ إلا ومنبعه مخالفة الدين القويم ([63]).
ولعلَّني اقتصرت على ثمرات أركان الإسلام ومعها الذِّكر لأهميتها ودوامها، ولأنها التطبيق العملي في حياة العبد .. ولا بدَّ لها من شرطين:
الشرط الأول- الإخلاص لله تعالى فيها:
والتوجُّه له والإرادة بالعمل وجهه، والتخلِّي عن كلِّ معبودٍ باطل لا يستحق العبادة، والإخلاص أن يكون الظاهر والباطن سواء في الامتثال .. وقد عرفه البعض بأنه تجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، وقيل: هو إفراد الله عزَّ وجلَّ بالقصد في الطاعات، وقيل: نسيان رؤيا الخلق بدوام النظر إلى الخالق([64]).
الشرط الثاني- موافقة الرسول r:
وذلك في فعل الطاعات والاقتداء به في أدائها، وألاَّ نعبد الله إلا بِما شرّع، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله r قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
وأختم هذه الثمرات بمقوله قيِّمة لابن القيم رحمه الله إذ يقول:
إنَّ الحسنات تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضًا، حتى يعزَّ على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعض السلف: «إنَّ من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها».
فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها قالت الثانية كذلك، وهلم جرا، حتى يتضاعف الربح وتتزايد الحسنات ..]مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[([65]).
فلو عطَّل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحسَّ من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها؛ فتسكن نفسه وتقرَّ عينه.
ولا يزال العبد يُعاني الطاعة ويألفها ويحبُّها ويؤثرها حتى يُرسِلَ الله سبحانه برحمته عليه الملائكة تأزَّه إليها أزًّا، وتحرِّضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليه.
انتهى بتصرف([66]).
نسأل الله العظيم العليم العليّ الحليم أن يجعل أعمالنا مثمرة بالخير والإيمان، مزيَّنة بالبرِّ والإحسان، مخلصة للواحد الديَّان .. إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
لقد تفضَّل الله علينا بشتَّى أنواع كرمه وأصناف نعمه، واللسان يعجز عن الشكر لجلاله، والبيان يقصر في أداء حقِّه، والبنان يضعف في توقيره وتعظيمه، ولكنه تعالى من برحمته التي سبقت غضبه فتح باب التوبة على مصراعيه حتى تطلع الشمس من مغربها وحتى تبلغ الروح الحلقوم ]قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[([67]).
ولذلك عدَّد سبحانه مداخل الخير وأكثر مواطن الفضيلة ونوَّع منابع الحسنات، فاللسان له سعي، إمَّا إلى الجنة وإمَّا إلى النار، والعين لها عمل، إمَّا إلى الخير وإمَّا إلى الشر، والسمع له كسب، إمّا طاعة وإمَّا معصية، والقدم لها طريق، إمَّا مستقيم على طريق الرُسل عليهم السلام وإمَّا معوج مع الشياطين إلى دار البوار، واليد لها تعامُل، إمَّا بالحسنة وإمَّا بالسيئة .. فالبدن الواحد له سعيٌ مُتشتِّت ومُتفرِّق، يُدخِله إلى حصن الإسلام ليستسلم وينقاد لله تعالى ويسلم من المعاصي في الدنيا ومن العذاب في الآخرة، فإنَّ جوارح بدنه المختلفة ستؤدِّي الشهادة أمام ربِّها، وتظهر العمل الذي عملته أيام حياته ]حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[([68]).
أما الأسوأ والأمرّ هو أن يُحرَج الإنسان أمام جوارحه وهي تستعرض ما قدَّم بها في دنياه؛ فيتمنَى أنه قَدَّم ما يُزِيل الإحراج ويدفع الكربة ويرفع الهمَّ والغم .. فهل وقفنا عند هذه الآية وقفات التأمل والاعتبار لنطَّلع على صحائفنا التي ستُنشر بين أيدينا ]يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[؟
وهل حاسبنا أنفسنا قبل أن نحاسب؟!
فحسابها من قِبلنا سهل، يمكننا أن نُصحِّح الخطأ ونتدارك الزَّلل ونُنمِّي الطيب ونحافظ على الصواب، ولكن حسابها من غيرنا لا يلتمس لها عُذرًا ولا يمكنها من عودة..!
وإنني إذ أسطر هذه الأسطر أتمنَّى من أعماق قلبي أن يكون سعي الناس المتشتِّت صوابًا، وأن يُراد به وجه الله، وألاَّ يكون للشيطان والهوى فيه حظٌّ أو نصيب، وأن يُعمِّر الليل ويستثمر النهار، وأن نُنمِّي شجرة الإيمان التي غُرست بذرتها في القلوب كفطرة فُطر الإنسان عليها، وأن نتعاهدها بالرعاية والعناية، وألاَّ نتركها للجفاف والهلاك فتحلّ محلَّها شجرة المعصية.
بل لا بدَّ أن نترك فروع هذه الشجرة الطيبة تتَّجه إلى الجوارح كلِّها: ففرعٌ إلى العين ليمنعها من النظر إلى الحرام ويفتحها أمام الاعتبار والاتعاظ، وفرعٌ إلى اللسان ليكون رطبًا بذكر الله ومصونًا من سخط الله، وفرعٌ إلى الأُذن لتسمع الحقَّ وتذعن له وتداوم سماعه والتأثر به وتعرض عن الباطل وتسد عنه، وفرعٌ إلى اليد لفعل الخيرات وتجنب المنكرات، وفرعٌ إلى القدم لقيادتها إلى مواطن النجاة وحبسها عن مجالس الغيِّ والردى.
وأسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه، وأن ينفعني به أولاً لأكون عاملاً بعد القول، ومُطبقًا بعد الكتابة، حتى لا أكون مِمَّن يقولون ما لا يفعلون .. وأن ينفع به إخواني المسلمين الذين يعيشون في قلبي، أحبهم لمحبتهم لله، وأنصح لهم كما أنصح لنفسي.
وأرجو مِمَّن قرأها أن يدعو لي بظهر الغيب بالتوفيق والثبات والأجر، وأن يلتمس لي العذر لو كبا مني جواد أو نبا مني سهم أو زلَّ مني قلم أو أخطأ بي بيان .. فهل أنا إلا بشرٌ كُتِب عليه الخطأ؟.. والمسلم مرآة أخيه يُصحِّح خطأه ويُقوِّم اعوجاجه ويحمله على المحمل الحسن حتى يكبت الشيطان وتنال طاعة الرحمن.
اللهم لك الحمد يا من وسع كلَّ شيء علمًا، ولك الحمد يا من وسعت رحمته كلَّ شيء، ولك الحمد يا من علَّم الإنسان ما لم يعلم .. أحمدك على نِعَمك التي لا تُحصي، وإحسانك الذي لا يُنسى .. لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
سبحان ربّك ربّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين .. وصلَّى الله وسلم على نبينا ومعلمنا وقائدنا وشفيعنا محمد r.
أبها – الخميس 7/10/1412هـ
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري.
3- صحيح مسلم، لمسلم بن الحجاج القشيري.
4- سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي.
5- المسند، لأحمد بن حنبل.
6- المستدرك، لمحمد بن عبد الله الحاكم.
7- تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن كثير.
8- الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد القرطبي.
9- في ظلال القرآن، لسيد قطب.
10- دقائق في التفسير، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية.
11- أضوار البيان، لمحمد الأمين الشنقيطي.
12- مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان.
13- لمحات في علوم القرآن، لمحمد الصباغ.
14- إعراب القرآن، لمحيي الدين الدرويش.
15- معارج القبول، لحافظ الحكمي.
16- الفرقان، لابن تيمية.
17- مجموع الفتاوى، لابن تيمية.
18- زاد المعاد، لابن القيم.
19- فتح الباري، لأحمد بن حجر العسقلاني.
20- الرياض الناضرة، لعبد الرحمن السعدي.
21- الزهد، لأحمد بن حنبل.
22- البداية والنهاية، لابن كثير.
23- سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد الذهبي.
24- صور من حياة الصحابة، لعبد الرحمن رأفت باشا.
25- مع الأنبياء في القرآن، لعفيف طبارة.
26- غذاء الألباب، لمحمد السفاريني.
27- لطائف المعارف، لعبد الرحمن بن رجب.
28- عظيم قدره u، لخليل ملا خاطر.
29- الفوائد، لابن القيم.
30- الوابل الصيب، لابن القيم.
31- الجواب الكافي، لابن القيم.
32- موارد الظمآن، لعبد العزيز السلمان.
33- حكم الشريعة وأسرارها، لحامد العبادي.
34- تزكية النفوس، لأحمد فريد.
35- نوادر من التاريخ، صالح الزمام.
فهرس الموضوعات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق