ج5.التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
وروي
عن البراء: أن آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُوْنَكَ قُلِ اللهُّ يُفْتِيْكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ} [النساء: 672].
وقال أبي بن كعب: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
[التوبة: 821].
وقيل: إن قوله تعالى: {وَاتَّقُوْا يَوْمًا تُرْجَعُوْنَ فِيْهِ إِلَى اللهِّ}
إنما نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع.
وقال الطبري في «تفسيره»: الإرباء الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على
فلان، إذا زادَ عليه، يُربي إرباءً، والزيادة هي الربا، وربا الشيء، إذا زاد عما
كان عليه فعظُم، فهو يربو رَبْوًا، وإنما قيل للرابية رابيةً لزيادتها في العِظَمِ
والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: ربا يربو، ومن ذلك قيل: فلان
في رباء قومه، يراد أنه في رِفعةٍ وشرف منهم.
وأصل الربا، الإنافة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان، أي أناف غيرَه وصيَّره زائدًا،
فإنما قيل للمربي: مُرْبيًا؛ لتضعيفه المالَ الذي كان له على غريمه حالًا، أو
لزيادته عليه فيه بسبب الأجل الذي يؤخره
إليه فيزيده إلى أجله الذي كان قبلَ حلِّ دينه عليه، ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:
131].
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والربيع
والضحاك والسُّدِّي وغيرهم.
وقال الزَّمَخْشري: كتب الربا بالواو على لغة من يفخم.
وعن الثعلبي: كتبوه في المصحف بالواو؛ وأجاز الكوفيون كتبه وتثنيته بالياء، بكسر
أوله، وغلطهم في ذلك البصريون.
وقال الفراء: إنما كتبوه بالواو؛ لأنَّ أهلَ الحجاز تعلَّموا الخط من أهل الحيرة،
ولغتهم الربو، مضموم، فصورةُ الخطِّ على لغتهم، وكذا قرأه أبو السماك العدوي.
وزعم أبو الحسن طاهر ابن غلبون أن أبا السماك قرأ: «الرَّبُو»، بفتح الراء وضم
الباء ويجعل معها واوًا.
(1/62)
وقال
ابن قتيبة: قراءة أبي السماك وأبي السوار بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة، وقرأه
الحسن بالمد والهمز، وقرأه حمزةُ والكِسائي بالإمالة، وقرأه الباقون بالتفخيم.
وفي «شرح المهذب»: أنت بالخيار في كتبه بالألف والواو والياء، والرماء: بالمد
والميم، والرُّبْيَة: بالضم والتخفيف لغة فيه.
وذكر أبو الحسن بن الحصار في كتابه «الناسخ والمنسوخ» قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} الذي يتعلق بهذه الآيات من النسخ حكمان:
أحدهما: تحريم الربا، وذلك بأن نعلم تاريخَ نزول الآية ونعلمَ ضرورة الخلق إلى
المعاوضات، فهذه الآية مدنية، ويدل على تاريخها حديثُ عائشة، قالت: «لما نزلت
الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المسجد
فحرَّمَ التجارة في الخمر».
وهذه وصف حال شاهدتها عائشة، وإنما بنى بها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد
مقدَمِه المدينة، ومما بيَّنَ ذلك أن الخمر إنما حُرِّمت في شهر ربيع الأول من
السنة الرابعة في غزوة بني النضير، فحرم التجارة فيها، وذلك بعد الهجرة بأربعة
أعوام وأربع عشرة سنة من أول الإسلام، ولم ينقل عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنكار
الربا ولا تحريمُه قبل نزول هذه الآيات في تحريم الربا، ناسخة لما كان عليه في
الجاهلية، ومن أول الإسلام إلى هذه الغاية، ويدل عليه أن الربا غير معقول المعنى،
وإنما يُعلَمُ ببيان الله سبحانه وبيانِ رسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد ردَّ
الله جلَّ وعزَّ قولَ من قال: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} بأن قال:
{وَأَحَلَّ اللهُّ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فلا فرق في الصورة إلا ما يرجع
إلى حلِّه سبحانه وتحريمه، وليس في ذلك شيءٌ يثبت إلا ما كان بالمدينة، وإقرار
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى وقتِ نزولِ الآيات حكم ثابت وشرع متَّبَعٌ.
(1/63)
2086
- حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي
جُحَيْفَةَ: «رَأَيْتُ أَبِي اشْتَرَى عَبْدًا حَجَّامًا ـ يعني فكَسَر محاجمَه ـ
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ ثَمَنِ
الكَلْبِ وَثَمَنِ الدَّمِ، وَنَهَى عَنِ الوَاشِمَةِ وَالمَوْشُومَةِ، وَآكِلِ
الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَلَعَنَ المُصَوِّرَ». [خ 2086]
عند أبي داود: «اشترى أبي عبدًا حجامًا، فكسر أبي محاجمَه، فقلت: أتكسرها؟».
وفي لفظ: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهاني عن ثمن الدم».
قال المهلب: هذه الأشياء المنهي عنها في هذا الحديث مختلفة الأحكام، فمنها على
سبيل التنزُّه، مثل كسب الحجام وثمن الكلب، وهو مكروه غير محرم، وإنما كُرِهَ
للضَّعة والسقوط في بيعه، ومنها حرام بيِّنٌ مثل الربا، وإنما اشترى أبو جُحَيفةَ
الغلام ليخلص من إعطاء الحجام أُجرةَ حجمه؛ خشيةَ أن يواقع نهيَ النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم تورعًا وتنزهًا.
قال ابن بطال: والنهي عن ثمن الكلب وكسب الحجام يحتمل أن يكون في بدء الإسلام ثم
نُسِخَ، ألا ترى أنه أباحَ الاصطيادَ بالكلب فكان كسائرِ الجوارح في جوازِ بيعه،
وكذا لما أعطَى الحجامَ أجره كان ناسخًا لما تقدَّم.
وقال ابن التين: قال كثير من العلماء: إن الحجَّام جائز له وسائغ أخذ
الأجر بالبناء وغيره من سائر الصناعات، وقالوا: معنى نهيه عن ثمن الدم، أي السائل
الذي حرمه الله.
وقال: وقال أبو حنيفة: أجرة الحجام من ذلك، أي: لا يجوز أخذه، وهو قول أبي هريرة
والنخعي، واعتلُّوا بأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن مهر البغي وكسب الحجَّام،
فجمع بينهما، ومهر البغي حرام إجماعًا، فكذلك كسب الحجام.
وقالوا: إن الإجارةَ عند جميع الأئمة لا تصح إلا على معلوم، ومدة معلومة،
والحجَّام يعمل على غير هذين فأجرته فاسدة.
(1/64)
وقال
آخرون: كسبُه على الحجامة غير طيِّب، وهو حلال على أخذ الشَّعر، وهو قول عطاء،
وعليه أنها إجارة جائزة إذا رأى الشَّعر قبل ذلك.
وقال آخرون: يجوز للمُحتَجِم إعطاءُ الحجام الأجرَ، ولا يجوز للحجام أخذها، رواه
ابن جرير عن أبي قِلابة، وعلَّتُه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعطى الحجامَ
أجره، فجائز لهذا الاقتداء بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أفعاله، وليس
للحجَّام أخذها للنهيِ عن كسبه، وبه قال ابن جرير، إلا أنه قال: إن أخذ الأجرة
رأيتُ له أن يعلفَ به ناضحَه ومواشيه ولا يأكله، فإن أكلَه لم أر أنه أكله حرامًا.
وفي «شرح المهذب»: قال الأكثرون: لا يحرم أكلُه لا على الحرِّ ولا على العبد، وهو
مذهب أحمد المشهور.
وفي رواية عنه، وقال بها فقهاء المحدثين: يحرم على الحرِّ دون العبد لحديث محيصة:
«اعلفه ناضحك ورقيقَك».
وذكر ابن الجوزي: أن أجرَ الحجام كره لأنه مما يُعين به المسلم أخاه إذا احتيج
إليه فلا ينبغي للمسلم أن يأخذ من أخيه على ذلك أجرًا.
بَابٌ: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَالله لاَ يُحِبُّ كُلَّ
كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]
في «تفسير الطبري» عن ابن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الربا وإن
كثر فإلى قُلِّ».
وقال المهلَّب: سئل بعض العلماء عن هذه الآية وقيل: نحن نرى صاحبَ الربا يربو
ماله، وصاحب الصدقة ربما كان مُقِلًا، فقال: يربي الصدقات، بمعنى أن صاحبها يجدها
مثل أُحُدٍ يوم القيامة، وصاحب الربا يجد عملَه ممحوقًا وإن تصدق به، أو وصل رحمه؛
لأنه لم يكتب له بذلك حسنة، وكان عليه إثم الربا.
قال ابن بطال: وقالت طائفة: إن الربا يمحق في الدنيا والآخرة على عموم اللفظ، وذكر
عبد الرزاق عن معمر أنه قال: «سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى
يمحق».
(1/65)
وقوله:
{كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} قال الطبري: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفرٍ مقيم عليه،
مستحل أكل الربا وإطعامه.
{أَثِيمٍ} متماد في الإثم بربه، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من
معاصيه، لا ينزجر عن ذلك، ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في
تنزيله وآي كتابه.
2087 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، قال: قَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «الحَلِفُ مَنَفقَةٌ
لِلسِّلْعَةِ، مَمحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ». [خ 2087]
قال ابن المنير: ذكر هذا الحديث كالتفسير للآية؛ لأن الربا الزيادة، فقال: كيف
يجتمع المحاق والزيادة؟ فبيَّن بالحديث أن اليمين مزيدة في الثمن وممحقة للبركة
منه، والبركة أمر زائد على العدد، فتأويل قوله: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا} أي يمحق
البركة منه وإن كان عدده باقيًا على ما كان.
و (مَمْحِقَةٌ): بفتح الميم وكسر الحاء ويصح بفتحها، قال ابن قُرقُول: كذا قيد
القاضي أبو الفضل، قال: والذي أعرف بفتحها.
و (مُنَفِّقَةٌ): قال ابن التين: هما بفتح الميم؛ لأنها مفعلة من نفق ومحق، وعن
ابن فارس: ويقال: المُمْحِقة، وهو رديء، وقال النووي: هما بفتح أولهما وثالثهما
وسكون ثانيهما.
بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الحَلِفِ فِي البَيْعِ
2088 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثنا هُشَيْمٌ، أخبرنا العَوَّامُ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي أَوْفَى:
«أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ، وحَلَفَ بِالله لَقَدْ
أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ.
فَنَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]. [خ 2088]
(1/66)
وعنده
في موضع آخر عن ابن مسعود عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حديث الأشعث
وسيأتي: «من حلف على يمين يَقْتَطِعُ بها مال امرئ مسلم فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ} الآية».
قال ابن أبي حاتم عن أبي العالية: الأليم الموجع في القرآن كله.
قال: وكذلك فسره سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل وأبو قتادة وأبو مالك وأبو عمران
الحُوفي.
وذكر ابن التين وغيره: أن هذا الوعيد الشديد في هذه اليمين الغَموس لما جمعت من
المعاني الفاسدة، وكذا كذبه في اليمين بالله تعالى، وهو أصل ما يحلف به، وغرَّر
المسلمين، واستحلال مال المشتري بالباطل وهو الثمن القليل الذي لا يدوم به في
الدنيا عوضًا عما كان يلزمه من تعظيم حق الله تعالى والوفاء بعهده والوقوف عند
أمره، فخاب متَّجره وخسرت صفقته.
وحديث ابن مسعود موافق لحديث ابن أبي أوفى؛ لأن كليهما في أخذ مال الناس بالباطل.
وفي «تفسير الطبري»: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وابن الأشرف وحيي بن
أخطب.
وفي «تفسير أبي القاسم الجوزي»: قال ابن عباس: «نزلت في ناس من علماء اليهود
أصابتهم فاقة، فجاؤوا إلى كعب بن الأشرف، فسألهم كعب عن النبي؟ فقالوا: نعم، هو
رسول الله، فقال كعب: لقد حرمتم خيرًا كثيرًا، كنت أريد أن أميركم وأكسوا عيالكم،
قالوا: فإنه شُبِّه علينا ورجعوا عمَّا قالوه، وزعموا أن بعثَه على غيرِ ما عندهم،
ففرح كعب ومارهم، فنزلت».
وعند الزمخشري: قيل: نزلت في الذين حرفوا التوراة، وقيل: فيمن حلف على سلعة، وقيل:
فيمن حلف يمينًا فاجرة، والوجه: أن نزولها في أهل الكتاب.
(1/67)
وقال
ابن مقاتل: نزلت في رؤوس اليهود؛ منهم كعب بن الأشرف وابن صوريا، كتموا أمر محمد
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التوراة، ويشترون به ثمنًا قليلًاـ يعني عرضًا من
الدنيا ـ ويختارون على الكفر بمحمد ثمنًا قليلًا ـ يعني عرضًا من الدنيا يسيرًا ـ
مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام ولو تابعوا محمدًا لحبست عنهم تلك
المآكل.
بَابُ مَا قِيلَ فِي الصَّوَّاغِ
وَقَالَ طَاوُسٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا».
وَقَالَ العَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ،
فَقَالَ: «إِلَّا الإِذْخِرَ».
عند الحاكم صحيحًا عن قيس بن أبي غرزة قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا
معشر التجار! إنه يشهد بيعكم اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة».
وعنده أيضًا مصحح الإسناد عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن
أبيه، عن جده، يرفعه: «يا معشر التجار! [إن التجار] يبعثون يوم القيامة فجارًا إلا
من اتقى وبر وصدق».
وعن عبد الرحمن بن شِبْل مرفوعًا: «إن التُّجَّارَ هم الفُجَّار، فقالوا: يا رسول
الله! أليس قد أحلَّ الله البيعَ؟ قال: بلى، ولكنهم يغامزون فيأثمون، ويحدثون
فيكذبون» وقال: صحيح الإسناد.
هذان التعليقان تقدَّما عنده مسندان.
(1/68)
2089
- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أخبرنا عَبْدُ الله، أخبرنا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ،
أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: «كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ، فَلَمَّا
أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ
مَعِي، فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ،
وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرُسِي». [خ 2089]
وفي لفظ: «بينما أنا أجمع لشارِفيَّ من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان
إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا أنا بشارفاي قد
جُبَّتْ أسنمتهما، وبقرت خواصرهما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك
عيني حين رأيتُ ذلك المنظر، وقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: فعل حمزة بن عبد المطلب،
وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، غنته قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشرف النواء
(1/69)
فوثب
حمزة إلى السيفِ فأجبَّ أسنمتهما، وبقرَ خواصرهما، وأخذ من أكبادِهما، قال علي:
فانطلقت حتى أدخل على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعنده زيد بن حارثة، فعرف
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وجهي الذي لقيت، فقال: مالك؟ فقلت: يا رسول
الله! ما رأيت كاليوم، عدا حمزةُ على ناقتيَّ، فأجبَّ أسنمتهما، وبقرَ خواصرَهما،
وها هو ذا في بيت معه شرب، قال: فدعا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بردائه،
فارتدى به، ثم انطلق يمشي، واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه
حمزة، فاستأذن عليه، فأذن له، فإذا هم شرب، فطفق النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل، محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم، ثم صعد النظر، فنظر إلى ركبته، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال
حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه ثمل، فنكص
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه».
وفي لفظ: «كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أعطاني شارفًا من الخمس».
وفي لفظ: «أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ».
وفي لفظ: «وذلك قبل تحريم الخمر».
قال ابن بطال: لم يختلف أهل السير أن الخمس لم يكن يوم بدر. وذكر إسماعيل بن إسحاق
القاضي أنه كان في غزوة بني النضير حين حكَّم سعدًا.
قال: وأحسب أن بعضهم قال: نزل أمر الخمس بعد ذلك، وقيل: إنما كان الخمس يقينًا في
غنائم حنين، وهي آخر غنيمة حضرها سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال: وإذا كان كذلك فيحتاج قول علي إلى تأويل. انتهى.
ذكر ابن إسحاق أن عبد الله بن جحش لما بعثه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
(1/70)
في
السنة الثانية إلى نخلة في رجب، وقتل عمرو بن الحضرمي وغيره واستاقوا الغنيمة، وهي
أول غنيمة، قسم ابن جحش الغنيمة، وعزل لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخمس،
وذلك قبل أن يفرض الخمس، فأخَّرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمر الخمس
والأسيرين، ثم ذكر خروج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بدر في رمضان فقسم
غنائمها مع الغنيمة الأولى وعزل الخمس، فيكون قول علي: «شارفي من نصيبي من
المغانم»، يريد يوم بدر، ويكون قوله: «وكان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أعطاني شارفًا قبل ذلك من الخمس»، يعني قبل يوم بدر من غنيمة ابن جحش.
وقال ابن التين عن الداودي: فيه دليل أن آية الخمس نزلت يوم بدر؛ لأنه لم يكن قبل
بنائه بفاطمة رضي الله عنهما مغنم إلا يوم بدر، وذلك كله سنة ثنتين من الهجرة في
رمضان، وكان بناؤه بفاطمة بعد ذلك.
وذكر أبو محمد في «مختصره» أنه تزوجها في السنة الأولى، قال: ويقال: في السنة
الثانية على رأس اثنين وعشرين شهرًا، وهذا كان بعد بدر.
وذكر أبو عمر عن عبد الله بن محمد بن سليمان الهاشمي: نكحها علي بعد وقعة أحد، وقيل:
تزوجها بعد بنائه بعائشة بسبعة أشهر ونصف.
وقال ابن الجوزي: بنى بها في ذي الحجة، وقيل: في رجب، وقيل: في صفر من السنة
الثانية.
وفي كتاب أبي زيد عمر بن شبة من رواية أبي بكر بن عياش: «أن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم غرَّمَ حمزة الناقتين».
وقد أجمع العلماء على أن ما أتلفه السكران من الأموالِ يلزمه ضمانُه كالمجنون.
وأما السَّنام المقطوع إن لم يتقدَّم نحرُ الناقتين فهو حرام بإجماع، وحديثه في
كتاب السنن، وإن كان ذكَّاهما فلحمهما حلال إلا ما حُكِيَ عن عكرمة وإسحاق وداود:
أنه لا يحل ذبيحة غاصب ولا متعدٍّ.
وفي الحديث الاستعانة باليهود، وأن معاملتهم
لا تكره وإن كان مالهم يخالطه الربا.
(1/71)
وقَينقاع:
بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف، وفي نونه ثلاث لغات: الضم والفتح والكسر،
ويصرف على إرادة الحي، ولا يصرف على إرادة القبيلة.
وهم أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحاربوا
فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى نزلوا على حكمه.
والعرُس والعرْس: مهملة، الإملاك والبناء، وقيل: هو طعامه خاصة، وقد يذكَّر،
وتصغيرها بغير هاء، وهو نادر؛ لأن حقَّه الهاء، إذ هو مؤنث على ثلاثة أحرف،
والجمع: أعراس وعروسات.
والعروس: نعت للرجل والمرأة، رجل عروس في رجال أعراس، وامرأة عروس في نسوة عرائس،
ذكره ابن سيده.
وفي «التهذيب» للأزهري: العرس طعام الوليمة، وهو من أعرسَ الرجل بأهلِه إذا بنى
عليها ودخل بها، وتُسمَّى الوليمة عرسًا، والعرب تؤنِّث العرس.
وكذا ذكره القزَّاز وابن فارس وصاحب «الكتاب المغيث» وأبو المعالي في «المنتهى».
وفي «الموعب»: العرس، مثل: طُيب، وتسكن العين، وعن الفراء والأصمعي وأبي زيد
ويعقوب: هي أنثى، وتصغيرها عُريسي وعُريسة، وهو طعام الزفاف، والعرس مثل قرط: اسم
الطعام الذي يتخذ للعروس.
وقال ابن دريد: سألت أبا عثمان عن اشتقاق العروس؟ فقال: قالوه تفاؤلًا من قولهم:
عرس الصبي بأمه إذا ألفها.
وفي كتاب الشرب عند البخاري: «ومعي صائغ»، قال ابن التين: عند أبي الحسن قال:
«ومعي طالع»، قال: ومعناه طالع يدله على الطريق.
وقوله: «أفظعني»، قال ابن فارس: أفظع الأمر وفظع أي اشتد، وهو مفظع وفظيع.
وقال المهلب: فيه من الفقه: تضمين الجنايات بين ذوي الأرحام، والعادة فيها أن تهدر
من أجل القرابة، كما هدر علي قيمة الناقتين.
وقوله: «وهل أنتم إلا عبيد لأبي»، قيل: أراد أن أباه جدهم
والأب كالسيد، وقيل: كان ثملًا فقال ما ليس جيدًا.
قال ابن الجوزي: وقوله: «قبل تحريم الخمر» احتج بهذا بعض من يرى أن طلاق السكران
لا يقع.
(1/72)
قال
النووي: أما ما يقوله من لا تحصيل له أن السكر لم يزل محرمًا فباطل لا أصل له ولا
يعرف.
والبناء: الدخول بالزوجة والأهل.
فيه: أنهم كانوا إذا أراد أحدهم الدخول على أهله رفع قبةً أو بناءً يدخلان فيه.
والشِّعر الذي أنشده حمزة، زعم أبو عبيد الله المرزباني أنه لعبد الله بن السائب
جدِّ أبي السائب المخزومي، وأن القينة تمثَّلت به.
وقول البخاري:
2090 - حَدَّثنا إِسْحَاقُ، حَدَّثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله. [خ 2090]
فذكر حديث ابن عباس المذكور في الحج.
قال أبو نصر بن ماكولا وابن البيع: هو إسحاق بن شاهين الواسطي، وأكد ذلك قول
الإسماعيلي: حَدَّثنا ابن عبد الكريم، حَدَّثنا إسحاق بن شاهين، حَدَّثنا خالد،
فذكراه.
قال البخاري:
وَقَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ: لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا.
هو حديث تقدم عنده مسندًا قبل.
و (الشارف): قال في «المخصص» عن الأصمعي: ناقة شارف وشروف، قال سيبويه: جمع
الشارف: شُرُف، والقول في الشارف كالقول في البازل ـ يعني خرج نابها.
أبو حاتم: شارفة.
صاحب «العين»: والجمع شوارف، ولا يقال للبعير شارف، وعن يعقوب: شرُفت وشرَفت.
وفي «المحكم»: الشارف من الإبل المسن والمسنة، والجمع شرف وشَرف.
وفي «الجامع»: هي الناقة المسنة، وتجمع شرفًا وشوارف.
و (النواء): ذكره أبو العباس أحمد بن محمد بن ولَّاد في «الممدود المكسور أوله»
فقال: النواء، السمان من الإبل، يقال: جزور ناوية، وبعير ناو، وقد نوت تنوي نيًا.
وفي «تهذيب» الأزهري: قال أبو الدُّقَيش: النِّي: الشحم، وقال غيره: النِّي اللحم،
بكسر النون والنَّي الشحم.
وفي «المخصص»: وقد نوت نِواية ونَواية.
بَابُ ذِكْرِ القَيْنِ وَالحَدَّادِ
(1/73)
2091
- حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: «كُنْتُ
قَيْنًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى العَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ،
فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لاَ أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلْتُ: لاَ أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ الله، ثُمَّ
تُبْعَثَ، قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالًا
وَوَلَدًا، فَنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ
لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} [مريم: 77]. [خ 2091]
وفي لفظ: «وإني لمبعوث بعد الموت، فسوف أقضيك إذا رجعتُ إلى مالي».
وقال البخاري في التفسير بأثر هذا الحديث:
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدًّا: أي هَدْمًا.
وهو تعليق رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن أبيه قال: حَدَّثنا أبو صالح، حدثني
معاوية بن صالح، عن علي بن طلحة، عنه.
وقال مقاتل: «صاغ خباب للعاص شيئًا من الحلل، فلما طلب منه الأجر قال: ألستم
تزعمونَ أن في الجنة الحرير والذهب والفضة والولدان؟ قال خباب: نعم، قال العاص:
فميعاد ما بيننا الجنة».
وعند الواحدي: قال الكلبي ومقاتل: كان خباب قينًا، وكان يعمل للعاصي بن وائل، وكان
العاصي يؤخر حقَّه، فأتاه يتقاضاه، فقال: ما عندي اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست
بمفارقك حتى تقضيني، فقال العاصي: يا خباب ما لك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لحسن
الطلب، قال: ذاك إذا كنتُ على دينك، وأما اليوم فإني على الإسلام، قال: أفلستم
تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا؟ قال: بلى، قال: فأخِّرني حتى أقضيك في
الجنة ـ استهزاء ـ فو الله إن كان ما تقول حقًّا إني لأفضل فيها ذهبًا منك، فأنزل
الله تعالى الآية. انتهى.
كذا ذكره عن مقاتل، وليس في «تفسيره» إلا ما قدمته. فينظر.
(1/74)
وزعم
ابن العربي: أن من عيَّن للكفر أجلًا كائنًا فهو الآن كافر إجماعًا، فكيف يصدر مثل
هذا عن خباب، ودينه أصح وعقيدته أثبت وإيمانه أقوى وآكد من هذا كله؟ ولم يُرد خباب
هذا؛ وإنما أراد: لا تعطيني حتى تموت ثم تبعث، أو أنك لا تعطيني ذلك في الدنيا،
فهنالك يؤخذ قسرًا منك.
وقال أبو الفرج: لما كان اعتقاد هذا المخاطب أنه لا يبعث خَاطَبَهُ على اعتقاده،
فكأنه قال: لا أكفر أبدًا، وقيل: أراد خبابٌ أنه إذا بعث لا يبقى كفر؛ لأن الدار
دار الآخرة.
وقال الكلبي: كان العاصي من زيادة العرب.
وفي كتاب «المعاني» للفراء: حديث هشيم عن المغيرة عن إبراهيم: أنه كان يقرأ:
«مالًا وَولدًا»، وكذلك يحيى بن وثاب، ونصب عاصم الواو، وثقَّل في كل القرآن، وقرأ
مجاهد: «ماله وولده إلا خسارًا»، ونصب سائر القرآن.
والوُلد والوَلد: لغتان، وقيس تجعل الوُلد جمعًا والوَلد واحدًا.
وفي «ديوان الأدب» للفارابي في باب (فُعْل) بضم الفاء وتسكين العين: الوُلْد، لغة
في الوَلَدِ، ويكون واحدًا وجمعًا، وذكره أيضًا في باب (فِعْل) بكسر الفاء وتسكين
العين: الوِلْد، وفي باب (فَعَل) بفتح الفاء والعين: الوَلَد.
وفي «المحكم»: الولد والولد ما ولد أيًا ما كان، وهو يقع على الواحد والجمع،
والذكر والأنثى، وقد يجوز أن يكون الوُلْد جمع وَلَد: كوَثَن وَوُثن، والولد
كالولد وليس بجمع، والولد أيضًا الرهط.
وفي الحديث: أن الحدَّادَ لا يضره مهنة صاغته إذا كان عدلًا، قال أبو العتاهية:
ألا إنما التقوى هو العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والعدم
وليس على حرٍّ تقيٍّ نقيصة إذا أسَّس التقوى وإن حاك أو حجم
والقَينُ: هو الذي يصلح الأسنة، والحداد أيضًا يقال له القين، ذكره الزجاج في
«المعاني».
وفي «المحكم»: القين: الحداد، وقيل: كل صانع قين، والجمع أقيان وقيون، وقال: يقين
قيانة صار قينًا، وقان الحديدة قينًا عملها، وقان الإناء قينًا أصلحه.
(1/75)
والتقين:
التزين بألوان الزينة.
وفي «الكامل» للمبرد ما يوضح أن القين الحداد، قال جرير يعير الفرزدق:
هو القين وابن القين لا قين مثله لفطح المساحي أو لجدل الأداهم
وهذا التبويب فيه إشكال، حيث فرق بين القين والحداد، وإن كنا ذكرنا أن جماعة فرقوا
بينهما، ولكن ليس في الحديث ذكرٌ إلا لأحدهما، وفي بعض الأصول: لم يذكر الحداد،
ولعله الصواب.
بَابُ ذِكْرِ الخَيَّاطِ
2092 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ الله، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ: فَذَهَبْتُ مَعَ
رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى
رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ،
فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ
حَوَالَيِ القَصْعَةِ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ
يَوْمِئِذٍ». [خ 2092]
وفي لفظ: «جعلتُ ألقيهِ إليه».
قال الخطابي: فيه جواز الإجارة على الخياطة ردًّا على من أبطلها، بعلَّةِ أنها
ليست بأعيان مرئية ولا صفات معلومة، وفي صنعة الخياطة معنى ليس في سائر ما ذكره
البخاري من ذكر القين والصائغ والنجار؛ لأن هؤلاء الصناع إنما تكون منهم الصنعة
المحضة فيما يستصنعه صاحب الحديد والخشب والذهب والفضة، وهي أمور من صنعة توقف على
حدها ولا يخلط بها غيرها.
(1/76)
والخياط
إنما يخيط الثوب في الأغلب بخيوط من عنده، فيجتمع إلى الصنعة الآلة، واحد منهما
معناه التجارة والآخر الإجارة، وحصة أحدهما لا تتميز من الأخرى، وكذلك هذا في
الخرَّاز والصبَّاغ إذا كان يخرز بخيوطه ويصبغ هذا بصبغه على العادة المعتادة فيما
بين الصناع، وجميع ذلك فاسد في القياس، إلا أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وجدهم على هذه العادة أول زمن الشريعة فلم يغيرها، إذ لو طولبوا بغيرها لشق عليهم،
فصار بمعزل من موضع القياس، والعمل به ماض صحيح لما فيه من الإرفاق.
وفيه دلالة على تواضعه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أجاب دعوةَ الخياط وشبهِه، وقد
اختلف في إجابة الدعوة: فمنهم من أوجبها، ومنهم من قال: هي سنة، ومنهم من قال: هي
مندوب إليهم.
والدُّبَّاءُ: ذكره ابن ولاد في «المضموم الممدود»، فقال: الدباء بالضم والتشديد،
وهو القرع، واحدته دباءة، وذكره ابن سيده في «الممدود الذي ليس له مقصور من لفظه».
وفي «النبات» لأبي حنيفة: الدباء: هي اليقطين ينفرش ولا ينهض، كجنس البطيخ
والقثاء، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «كل ورقة اتسعت ورقَّت فهي يقطين».
وفي «الجامع» للقزَّاز: الدُّبا، بالقصر لغة في القرع.
وفي «شرح المهذب»: هو القرع اليابس.
وأما قول القرطبي: حكى ابن سراج فيه القصر، وليس معروفًا؛ غير جيد؛ لما ذكره
القزاز.
وعند الإسماعيلي: الخبز الذي جاء به الخياط يومئذ كان من شعير.
وقال الداودي: فيه دليل أنه صنع بذلك المرق والخبز ثريدًا لقوله: «من حوالي
القصعة».
قال القرطبي: إنما تتبَّعه من حوالي القصعة؛ لأن الطعام كان مختلفًا، فكان يأكل ما
يعجبه منه، وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد.
(1/77)
وإلقاء
أنس له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدُّبَّاء دليل على جواز مناولة بعض المجتمعين
لبعض من الطعام شيئًا، ولا نكير على من فعل ذلك، والمكروه هو أن يتناول شيئًا من
أمام غيره أو يتناول من مائدة أخرى، فقد كرهه ابن المبارك، وسيأتي ذكر هذا أيضًا
في كتاب الأطعمة.
الأبواب التي بعده تقدم ذكرها.
بَابُ شِرَاءِ الإِبِلِ الهِيمِ، أَوِ الأَجْرَبِ الهَائِمُ المُخَالِفُ
لِلْقَصْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
2099 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: قَالَ عَمْرٌو: «كَانَ هَا
هُنَا رَجُلٌ اسْمُهُ نَوَّاسٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ إِبِلٌ هِيمٌ، فَذَهَبَ ابْنُ
عُمَرَ فَاشْتَرَى تِلْكَ الإِبِلَ مِنْ شَرِيكٍ لَهُ، فَجَاءَ إِلَيْهِ شَرِيكُهُ
فَقَالَ: بِعْنَا تِلْكَ الإِبِلَ فَقَالَ: مِمَّنْ بِعْتَهَا؟ قَالَ: مِنْ شَيْخٍ
صفته كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ وَالله ابْنُ عُمَرَ، فَجَاءَهُ
فَقَالَ: إِنَّ شَرِيكِي بَاعَكَ إِبِلًا هِيمًا وَلَمْ يَعْرِفْكَ، قَالَ:
فَاسْتَقْهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُهَا قَالَ: دَعْهَا، رَضِينَا بِقَضَاءِ
رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لاَ عَدْوَى»، سَمِعَ سُفْيَانُ عَمْرًا.
[خ 2099]
هذا السياق تفرد به البخاري، وقوله: (سَمِعَ سُفْيَانُ عَمْرًا) روينا عن عبد الله
بن الزبير الحُمَيدي أنه قال: حَدَّثنا سفيان، حَدَّثنا عمرو بن دينار، وزاد:
«وكان نواس يجالس ابن عمر وكان يضحكه، فقال يومًا: وددت أن لي أبا قبيس ذهبًا،
فقال له ابن عمر: ما تصنع به؟ قال: أموت عليه، فضحك ابن عمر».
قال ابن قُرقُول: عند الأصيلي والكافة: «نَوَّاس»، وعند القابسي: «نِوَاس»، بكسر
النون وتخفيف الواو، وعند بعضهم: «نِواسي».
والهيم: هي التي أصابها الهيام: داء لا تَروي من الماء، بضم الهاء وبالكسر، اسم
الفعل، ومنه قوله جلَّ وعزَّ: {شُرْبَ الهِيمِ} [الواقعة: 55]، وقيل: في الآية
الكريمة غير هذا.
(1/78)
وقيل:
هو داء يكون معه الجرب؛ ولهذا ترجم البخاري: شراء الإبل الهيم والأجرب، ويدل عليه
قول ابن عمر حين تبرَّأ إليه بائعها من عيبها: (رَضِيتُ بِقَضَاءِ رَسُولِ الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لاَ عَدْوَى).
وقيل: الهيم جمع الأهيم والهيماء، قال الخطابي: وهو: العطشان الذي لا يَروى، قال:
ولا أعرف للعدوى في الحديث معنى، إلا أن يكون ذلك إذا رعت مع سائر الإبل وتُرِكَتْ
معها ظُنَّ بها العدوى، وقد يكون من الهيام وهو جنون يصيبها فلا تلزم القصد في
سيرها. انتهى كلامه.
وليس كما قال، وللعدوى معنى ظاهر؛ ولذلك قال ابن عمر: (رَضِينَا بِقَضَاءِ رَسُولِ
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) في صحة هذا البيع، على ما فيه من التدليس والعيب، و
(لاَ عَدْوَى) عليك، ولا أرفعكما إلى حاكم، ولا ظلم ولا اعتداء.
وقال ابن سيده: الهائم والهيام: داء يصيب الإبل عن بعض المياه بتهامة يصيبها منه
مثل الحمى.
وقال الهجري: هو داء يصيبها عن شرب النَّجْل إذا كثر طحلبه واكتنفت به الذبان.
انتهى.
الذي رأيت في «نوادر الهجري»: الهِيام: من أدواء الإبل مجرور الهاء، وكل الأدواء
بضم أولها، وهو عن شرب النجل إذا كثر طحلبه واكتنفت به الذُّبان، جمع ذباب بضم
الذال، في أي حال احتاج إلى الشربة، وهو في آخر الربيع وأول الصيف إلى أن ينقضي
الصيف كله، فمن علامة الأهيم قيامه ونزوله وإقباله بوجهه على الشمس من حيث دارت،
وهو مع ذلك يأكل ويشرب إلا أن بدنه في نقيصة، فإذا أشكل على صاحبه أمرَه استبان
له، فإن وجده حارًا مصعدًا في منخريه فليس به هيام، وإن وجد ريحه مثل ريح الخميرة
فبعيره أهيم، فكل بعير يشم بول بعير أهيم أو دبره أو ريح فمه أو شيئًا منه أعداه
فهام. انتهى.
هذا يرد قولَ الخطابي المذكور.
(1/79)
قال
الهروي وأبو الشمام: الهيام مماطل، فإن أخذه في الربيع لم يزل به حتى يدخل الخريف
ويشرب ماءه، فإذا شربه مات، أو يجفر، ومتى تجفر فالحنوة في عنقه، وهي كسرة يلوي
عنقه أو ذنبه لا بد منهما، وهي في الذنب أهون ويبرأ ويصح، وإن كان في العنق ربما
هانت، ويرى أثرها في عنقه.
وقال أبو العباس المبرد: قرأت على سلمة، قال الفراء: الهُيام والِهيام بضم الهاء
وكسرها، وواحد الهيم أهيم وهيمان، وهيما في المؤنث.
وفي كتاب «الإبل» للنضر بن شميل: وأما الهيام بنحو الدوار؛ جنون يأخذ البعير حتى
يهلك.
وفي كتاب «خلق الإبل» للأصمعي: إذا ثخن جلد البعير وكثر شربُه للماء ونحل جسمه
فذلك الهيام.
وفي «المخصص» الإبل: اسم واحد يقع على الجميع، ليس بجمع، ولا اسم جمع، إنما هو دال
عليه، والإبل مخففة عنه، وجمعها آبال، وعن سيبويه: وقالوا إبلان؛ لأنه اسم لم يكسر
عليه، وإنما يريدون قطيعين.
وقال ابن التين: قول البخاري في التبويب: (الهَائِمُ: المُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِي
كُلِّ شَيْءٍ) أي يهيم يذهب على وجهه.
قال: وليس الهائم واحد الهيم، فانظر لِمَ أدخل هذا البخاري في تبويبه. انتهى.
لقائل أن يقول: لما رأى البخاري أن الهيم من الإبل كالذي قاله الهجري وغيره قبلُ،
كان ذلك يشبه الرجل الهائم من العشق وشبهه، فقال: الهائم المخالف للقصد، وكذلك
الإبل الهيم تخالف القصد في قيامها وقعودها ودورها مع الشمس كالحرباء.
وأما (وَيْحَ): فذكر ابن سيده: أنها كلمة تقال للرحمة، وكذلك ويحما.
قال حميد الأرقط:
وويح لمن لم يدر ما هو ويحما.
وقيل: ويحه كويله.
وقيل: ويح تقبيح.
وعن ابن جني الأزدي: أدخل الألف واللام على الويح سماعًا أم تبسطًا وإذلالًا.
وفي «الجامع»: هو مصدر لا فعل له.
وعن الخليل وأنشد قول حميد: ويحما كلمةٌ واحدة، وأضاف ويح إلى ما، ولو فصل لقال:
ويحًاما كما يقول: أيًا ما.
(1/80)
وفي
«الصحاح»: لك أن تقول ويحًا لزيد، وويح لزيد، ولك أن تقول: ويحك وويح زيد.
وفي «المجمل» عن الخليل: لم يسمع على بنائه إلا ويس وويه وويل وويك، وعن سيبويه:
ويح: زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل: لمن وقع فيها، وكذا فرق الأصمعي فيما رواه
المازني بين ويل وويح، فقال: ويح تقبيح، وويح ترحم، وليس تصغيرها.
وفي «التهذيب»: ويح: كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، بخلاف ويل: فإنها للذي
مُستحقُّها.
وقوله: (اسْتَقْهَا) يحتمل أن يكون قاله مجمعًا على رد البيع أو مختبرًا هل الرجل
مغتبط بها أم لا؟
وفيه: جواز شراء المعيب وبيعه إذا كان البائع قد عرَّف عيبه ورضيه، وليس ذلك من
الغش.
بَابُ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الفِتْنَةِ وَغَيْرِهَا
وَكَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الفِتْنَةِ.
هذا التعليق ذكره عبد الله بن أحمد في كتاب «العلل» فقال: سألت ابنَ معين عن محمد
بن مصعب القَرْقَسَاني فقال: ليس بشيء، وكان لي رفيقًا فحدثنا عن أبي الأشهب، عن
أبي رجاء، عن عمران بن حصين: أنه كره بيع السلاح في الفتنة، فقلنا لمحمد بن مصعب:
هذا يروونه عن أبي رجاء قوله، فقال: هكذا سمعته، ثم قال يحيى: لم يكن من أصحاب
الحديث.
قال عبد الله: وسمعت أبي ذكر محمد بن مصعب فقال: لا بأس به، فقلت: أنكر يحيى عليه
حديث أبي رجاء إذ رواه عن عمران قولَه، فسكت.
وفي «تاريخ الخطيب»: رواه محمد بن مصعب أيضًا مرفوعًا إلى النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم، وكذا هو في كتاب «البيوع» لابن أبي عاصم.
ورواه ابن عدي في «كامله» من حديث بحر بن كثير السَّقَّاء ـ وهو ضعيف ـ عن عبيد
الله بن القِبْطي عن أبي رجاء عن عمران.
(1/81)
2100
- حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ أَفْلَحَ ـ يعني عن ابن كثير ـ، عَنْ [أَبِي] مُحَمَّدٍ مَوْلَى
أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم عَامَ حُنَيْنٍ، فَأَعْطَاهُ ـ يَعْنِي دِرْعًا ـ قال: فبِعْتُ
الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ
مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ». [خ 2100]
وفي لفظ: «خرجنا مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين
جولة، فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فضربته من ورائه على
حبلِ عاتقه بسيف فقطعت الدرع وأقبل علي فضمَّني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه
الموت، فأرسلني، فلحقت عمرَ فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمْر الله تعالى، ثم تراجعَ
الناس إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: من قتل قتيلًا له عليه بيِّنة
فله سَلَبُه، فقمت لألتمسَ بيِّنة على قتيلي فلم أرَ أحدًا يشهد لي فخبت، ثم بدا
لي، فذكرتُ أمره لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: [مالك؟]، فقال رجل من جلسائه: سلاحُ هذا الذي يذكر عندي، فأرضه منه،
فقال أبو بكر: كلا، لا يعطيه أُصَيبغ من قريش ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن
الله ورسوله، فقام رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأدَّاه إلي» الحديث.
وقال في الأحكام: حَدَّثنا قتيبة، عن الليث، عن يحيى، عن ابن أفلح، فذكره، وقال في
آخره: وقال لي عبد الله بن صالح، عن الليث: «فقام رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فأدَّاه إليَّ».
كذا ذكر هذه اللفظة من جهة كاتب الليث معلقة، وقد أسلفناها من عنده مسندةً بسند
على شرطه، فكأنَّه غفل عن ذلك حتى ذكرها من جهة من ليس على شرطه في الأصول من غير
زيادة.
(1/82)
وزعم
الإسماعيلي أن هذا الحديث ليس في شيء من ترجمة الباب. انتهى.
لقائل أن يقول: لما بوب البخاري: «باب بيع السلاح في الفتنة»، ذكر قول عمران،
وقوله بعده: «وغيره»، دخل فيه حديث أبي قتادة: «إذا باع السلاح في غير أبان فتنة»،
أو يقول: إن الرجل لما قال: «سلب ذلك القتيل عندي فأرضه» فكأنه بمنزلة البيع، وذلك
وقت فتنة؛ لأن الرضا لا يكون إلا مع مقاربة التماثل.
وذكر المنذري أن اللذين شهدا لأبي قتادة: الأسود بن خزاعي، وعبد الله بن أنيس.
وقال ابن بطال: إنما كُرِهَ بيع سلاح المسلمين في الفتنة؛ لأنه من باب التعاون على
الإثم، وذلك منهي عنه، فأما بيعه في غير الفتنة فمباح.
وقال السفاقسي: كراهة عمران بيع السلاح في الفتنة لعله يريد الفتنة التي لا يعرف
الظالم فيها من المظلوم، وإلا فلو علمنا لِبيع من المظلوم ولم يُبَعْ من الظالم.
و (المَخْرَف): بفتح الميم والراء، وقال بعضهم: بكسر الميم وفتح الراء، وهو
البستان، وقيل: الحائط من النخل يخترف فيه الرطب، أي: يُجتنى.
وقيل: بكسر الميم، ما يجنى فيه الثمر، وبالفتح: الحائط من النخل.
وفي كتاب «الأنوار» لأبي حنيفة عن أبي نصر: يقال للنخلة مخرف، ويقال للطريق: مخرف،
فأما ما لفظ منه فيه فهو مخرف بالكسر.
وفي «المحكم»: المخرف
القطعة الصغيرة من النخل لست أو سبع يشتريها الرجل للخرفة.
و (تَأَثَّلْتُهُ): جعلته أصلَ مالي.
و (بَنو سَلِمَةَ): بكسر اللام، بطن من الأنصار، وسيأتي الكلام عليه في كتاب الخمس
إن شاء الله تعالى.
بَابٌ فِي العَطَّارِ وَبَيْعِ المِسْكِ
(1/83)
2101
- حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثنا أَبُو
بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ الله قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى،
يحدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سمعتُ رَسُولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَثَلُ
الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ
الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ
تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَيتكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ
مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً». [خ 2101]
ولما ذكره ابن حبان في «صحيحه» قال: فيه دليل على إباحة المقايسات في الدين.
وعند مسلم عن أبي سعيد قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المسكُ أطيب
الطيب».
وفي كتاب «الإشراف»: روينا عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسند جيد: «أنه
كان له مسك يتطيب به». انتهى.
الذي رويناه في «سنن أبي داود»: «سُكَّةٌ يَتطيَّبُ بها»، فينظر.
قال المهلب: أصلُ المسك التحريم؛ لأنه دم، فلمَّا تغيَّر عن الحالة المكروهة من
الدم، وهي الزَّهْم وفَيح الرائحة؛ صار حلالًا بطيبِ الرائحة، وانتقلت حاله كالخمر
تتخلل فتحل بعد أن كانت حرامًا بانتقال الحال، وهذا الحديث حجة في طهارته.
قال ابن بطال: لأنه لا يجوز حمل النجاسة، فدلَّ على طهارته، وعلى هذا جلُّ
العلماء: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأنس، وسلمان، وابن سيرين، وابن المسيب،
وجابر بن زيد، والشافعي، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق.
خالف في ذلك آخرون، فذكر
ابن أبي شيبة أن عمر قال: «لا تحنطوني به، وكرهه»، وكذا عمر بن عبد العزيز وعطاء
والحسن ومجاهد والضحاك، وقال أكثرهم: لا يصلح للحي ولا الميت؛ لأنه ميتة، وهو
عندهم بمنزلة ما أُبِينَ من الحيوان.
قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك إلا عن عطاء. انتهى.
(1/84)
عطاء؛
روى ابن أبي شيبة عنه من طريق جيدة أنه سئل: «أيُطَيَّبُ الميت بالمسك؟ قال: نعم،
أوليس يجعلون في الذي تخمرونه المسك؟» فهذا خلاف ما قال أنه صح عنه.
قال ابن المنذر: وهذا قياس غير صحيح؛ لأنَّ ما قطع من الحي يجري فيه الدم، وهذا
ليس سبيل نافجة المسك؛ لأنها تسقط عند الاحتكاك كسقوط الشعرة.
وقال أبو الفضل عياض: وقع الإجماع على طهارته وجواز استعماله.
وفي «شرح المهذب»: نقل أصحابنا عن الشيعة فيه مذهبًا باطلًا، وهو مستثنى من
القاعدة المعروفة: أنَّ ما أُبِينَ من حيٍّ فهو ميت، أو يقال: هو في معنى الجنين
والبيض واللبن.
وفي هذا الحديث: النهي على مجالسة من يُتَأذَّى بمجالسته، كالمغتاب والخائض في
الباطل، والندب إلى من يُنَالُ في مجالسته الخير، من ذكر الله تعالى، وتعلم العلم،
وأفعال البر كلها.
قال ابن بطال: وروي عن إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه كان عطَّارًا.
وذكر المفضل بن سلمة في كتاب «الطيب»: المسك مذكَّر، فمن أنَّثه ذهب إلى رائحته
وأرجه.
(1/85)
وذكر
المسعودي في «مروج الذهب»: أنه يدفع موادَّ الدم إلى سرَّة الغزال، فإذا استحكم
لونُ الدم فيها ونضح آذاه ذلك وحكَّه، فيفزع حينئذ إلى أحد الصخور والأحجار
الحارَّة من حرِّ الشمس، فيحتك بها مُلتذًّا بذلك، فينفجر حينئذ وتسيل على تلك
الأحجار كانفجار الجراح والدُّمَّل، ويجد بخروجه لذة، فإذا فرغ ما في نافجته اندمل
حينئذ ثم اندفعت إليه مواد من الدم تجتمع ثانية، فيخرج رجال النبت يتَّبعون تلك الحجارةَ
والجبالَ فيجدون الدمَ قد جفَّ بعد إحكام الموادِّ ونضج الطبيعةِ، وجفَّفته الشمس
وأثَّر فيه الهوى، فيودعونه نوافج معهم قد أخذوها من غزلان اصطادوها معدَّةً معهم،
ولغزاله نابان صغيران محدودان الأعلى منهم، مدلىً على أسنانه السفلى، ويداه
قصيرتان ورجلاه طويلتان، وربما رموها بالسهام فيصرعونها ويقطعون عنها نوافجها
والدم في سررها خام لم ينضج وطري لم يدرك، فيكون لرائحته سهولة، فيبقى زمانًا حتى
تزولَ عنه تلك الروائح السهلة الكريهة، ويكتسب موادًا من الهوى ويصير مسكًا، وسبيل
ذاك سبيل الثمار إذا كانت على الأشجار، وقطعت قبل استحكام نضجها في شجرها واستحكام
موادها. انتهى.
هذا يرد قول ابن المنذر الذي حكيناه قبلُ.
ويؤيده أيضًا قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله: (لاَ يَعْدَمُكَ) بفتح الياء، قال ابن التين: وضبط في البخاري بضم الياء
وكسر الدال، ومعناه: ليس يعدوك.
وأبو طَيبة: بطاء مهملة مفتوحة، قيل: اسمه هبار، وقيل: نافع، وقيل: ميسرة.
قال ابن الحذاء: عاش مئة وثلاثًا وأربعين سنة.
والحجام تقدم ذكره.
بَابُ التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
ذكرَ فيه حديثَ عمر المذكور في الصلاة:
(1/86)
2104
- 2105 - أَرْسَلَ إليه النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِحُلَّةِ حَرِيرٍ
أَوْ سِيَرَاءَ، فَرَآهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُرْسِلْهَا
لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُها
إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا». [خ 2104 - 2105]
وحديث:
نَافِعٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا اشْتَرَتْ
نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قَامَ عَلَى البَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ
الكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! أَتُوبُ إِلَى
الله، وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ
النُّمْرُقَةِ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا،
فَقَالَ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»،
وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ هذه الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ
المَلاَئِكَةُ صلى الله عليهم وسلم».
قال ابن عبد البر: ورواه الزهري عن القاسم عن عائشة كالذي قبله سواء، إلا أنه جعل
في موضع «النمرقة» قرامًا، وقد قال الخليل: القرام جمع قرامة، قال: وهي ثوب صوف
ملون.
(1/87)
قال
أبو عمر: والمعنى في ذلك واحد؛ لأنها كلها ثياب تُمتَهَنُ، ولا يُرخَّصُ في شيء
منها في هذا الحديث، وإن كانت الرُّخصَةُ قد وردت في غيره في هذا المعنى فإن ذلك
مُتعارِضٌ، وحديث عائشة هذا من أصح ما يروى في هذا الباب، إلا أن عبيد الله بن عمر
روى هذا الحديث عن القاسم عنها فخالف في معناه، وذكر فيه الرخصة فيما يُرتَفَقُ
ويتوسَّدُ، وهو: دخل على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفي البيت ستر منصوب
عليه تصاوير، فعرف الغضب في وجهه، قالت: «فهتكتُه وأخذتُه فجعلته مِرفَقَتينِ،
فكان يرتفق بهما في بيته».
قال: فهذه الرواية مخالفة للزهري ونافع عن القاسم، وعبيد الله حافظ ثقة، وسماعه
صحيح، والزهري ونافع أجلُّ منه، فالله أعلم بالصحيح في ذلك. انتهى.
سنذكر حديثَ عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه بنحو حديث عبيد الله.
قال ابن عبد البر: ومن جهة النظر لا يجب أن يقع المنع والحظر إلا بدليل لا
مُنازِعَ له، قال: وحديث سهل بن حُنَيفٍ مع أبي طلحة يعضد ما رواه عبيد الله بن
عمر، وهو ما رواه مالك عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله: «أنه دخل على أبي
طلحة يعوده، قال: فوجدنا عنده سهل بن حنيف، قال:
بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ
2107 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، سَمِعْتُ يَحْيَى
سَمِعْتُ نَافِعًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أنه قَالَ: «إنّ المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا، أَوْ يَكُونُ البَيْعُ خِيَارًا». [خ 2107]
قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ
صَاحِبَهُ.
وفي لفظ: «أو يقول أحدهما لصاحبه اختر».
(1/88)
وفي
لفظ: «لكلِّ واحد منهما الخيار ما لم يتفرَّقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر
فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما
البيع فقد وجب البيع» هذا لفظ نافع.
ولفظ سالم: قال عبد الله بن عمر: «وكانت السنة أنَّ المتبايعين بالخيار حتى
يتفرَّقا».
ورواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر بمعنى ما رواه نافع إلا أنَّ لفظ حديثه آكد في
إثبات خيار المجلس لأنه قال: «كلُّ بيِّعين لا بيع بينهما حتَّى يتفرَّقا إلا بيع
الخيار».
وفي لفظ: «كلُّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرَّقا أو يكون بيعهما عن
خيار، وإذا كان البيع عن خيار فقد وجب».
وفي لفظ: «كلُّ بيِّعين لا بيع بينهما حتَّى يتفرَّقا إلا بيع الخيار».
وقال عبد العزيز بن جعفر بن يزداد في كتاب «البيوع» عن أحمد: هذا الحكم الذي في
حديث ابن عمر لا يحفظ إلا من جهة عبد الله بن دينار وهو ثقة، ولكن أصحاب ابن عمر
الحفاظ نافع وغيره لم يذكروه، والعمل على روايتهم.
وقد اتَّفقت الأئمَّة
على إخراج حديث نافع، واتَّفق محمَّد وأبو عبد الرحمن على حديث عبد الله بن دينار،
وتفرَّد محمَّد بحديث سالم، وأمَّا حديث نافع فرواه عنه مالك وأيُّوب والليث ويحيى
بن سعيد وعبيد الله بن عمر وابن جريج والضحاك بن عثمان، وإسماعيل.
قال أبو العباس الطرقي: وأظنُّه ابن إبراهيم بن عقبة.
وقال ابن عساكر: هو إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص.
قول البخاري إثر حديث حكيم:
2108 - «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا». [خ 2108]
زَادَ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ قَالَ: قَالَ هَمَّامٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِأَبِي التَّيَّاحِ، فَقَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الخَلِيلِ، الحَدِيث.
وفي موضع آخر قال همام: وجدت في كتابي «يختار ثلاث مرار».
ذكر عن أبي المعالي أحمد بن يحيى بن هبة الله بن البيع أن أحمد هذا هو ابن حنبل،
وبهز هو ابن أسد.
(1/89)
وفي
«صحيح مسلم»: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا ابن مهدي، حدثنا همام، عن أبي التياح قال:
سمعت عبد الله بن الحارث، الحديث.
وعند أبي داود حديث أبي برزة.
وذكر أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن يزداد بن معروف في كتاب «البيوع» عن أبي عبد
الله أحمد بن حنبل، وقيل له: حديث أبي برزة تذهب إليه؟ قال: أما فعل أبي برزة فلا،
ولكن إلى ما روى عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيِّعان بالخيار مالم
يتفرَّقا»، وأبو برزة كان في عسكر فلم يكن عنده أن يبطل خياره.
وعند النسائي حديث سمرة مرفوعاً: «البيِّعان بالخيار مالم يتفرَّقا».
وعند ابن حزم من طريق أبي الحسن عنه مرفوعاً: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا
ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى، ويتخايران ثلاث مرار».
وعند أبي عيسى - محسَّناً - عن عمرو بن العاص: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرَّقا
إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحلُّ له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله».
وعن أبي هريرة: «لا يفترَّق اثنان إلا عن تراض» وقال: حديث غريب.
وعند ابن أبي شيبة: «ما لم يتفرَّقا من بيعهما أو يكون بينهما خيار».
وعند البيهقي - بسند جيد - عن ابن عباس وابن عمر: «من اشترى بيعاً فوجب له فهو
بالخيار ما لم يفارقه صاحبه، إن شاء أخذه وإن شاء فارقه ولا خيار له».
وعن أنس: «يا أهل البقيع لا يفترقن بيِّعان إلا عن رضا».
وعند ابن ماجه عن أبي سعيد: «إنما البيع عن تراض».
وعن جابر: «اشترى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من رجل حملَ خَبَطٍ، فلمَّا
وجب البيع قال: له اختر. فقال الأعرابي: عمّرك الله بيعاً».
وعند الدارقطني: «لم أرَ كاليوم مثله بيعاً، عمَّرك الله، من أنت؟ قال: من قريش».
وعند الترمذي: «خيَّر أعرابياً بعد البيع» وقال: حديث صحيح غريب.
وعند الطحاوي: «حمل قَرَظٍ».
وعن طاووس مرسلاً: كان ذلك الابتياع قبل البعثة.
وقول البخاري في:
بَابٌ: البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا
(1/90)
وَبِهِ
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَشُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ.
هذا التعليق عن ابن عمر تقدَّم ذكره.
والتعليق عن شريح والشعبي ذكره أبو بكر فقال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي في
رجل اشترى من رجل بِرْذَوناً، فأراد أن يردَّ قبل أن يتفرَّقا، فقضى الشعبي أنه
وقد وجب عليه، فشهد عنده أبو الضحى أنَّ شريحاً أُتيَ مثل ذلك فردَّه على البائع،
فرجع الشعبي إلى قول شريح.
وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي السَّفَر عن الشعبي عن شريح قال: البيعان
بالخيار ما لم يتفرَّقا.
وحدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن شريح مثله.
وفي «شرح المهذب» حكى عنه النووي: أنَّ التفرق إذا حصل بالقول وجب البيع، فالله
أعلم.
والتعليق عن ابن أبي مليكة رواه أبو بكر مرسلاً عن وكيع، حدثنا هشام بن زياد، عن
عبد العزيز بن رفيع عنه
قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا».
وحدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز عنه مثله مرسلاً.
والتعليق عن عطاء رواه أبو بكر عن جرير بن عبد الحميد، عن ابن رفيع عنه، وعن ابن
أبي مليكة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرسلاً.
وقال الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء: إذا وجبَ البيع خيَّرَه
بعد وجوبِه، بأن يقول: اختر إن شئت فخذ، وإن شئت فدع، قال: فقلت: فخيَّره بعد وجوب
البيع فأخذ ثمَّ ندم قبل أن يتفرَّقا من مجلسهما ذلك، أيقيله منه لا بدَّ؟ قال:
لا، حسبه إذا خيَّره بعد وجوب البيع.
وقوله في هذا الباب:
2110 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ. [خ 2110]
فذكر حديث حكيم، ذكر الجيَّاني أنَّه ابن منصور، وقال: حديث مسلم عن إسحاق بن
منصور عن حَبَّان.
وقوله في:
بَابُ إِذَا كَانَ البَائِعُ بِالخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ
2113 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. [خ 2113]
(1/91)
فذكر
حديث ابن دينار عن ابن عمر، قال أبو نعيم الحافظ: محمَّد هو الفريابي، وسفيان هو
ابن سعيد الثوري.
وقال ابن التين: تبويب البخاري لم يأت فيه هنا بما يدلُّ على خيار البيع وحده،
وأخذه القاضي من حديث حَبَّان المذكور.
قال: وقول هَمَّام: (وَجَدْتُ فِي كِتَابِي: يَخْتَارُ ثَلاَثَ مِرَارٍ) ليس
بمحفوظ، والرواة على خلافه، وإذا خالف الواحدُ الرواةَ جميعاً لم يُقبل قوله،
سيَّما أنه إنما وجده في كتابه، وربَّما أُدْخِلَ على الرجل في كتبه إذا لم يكن
سدَّها لضبط.
قال القرطبي: ظاهر ألفاظ هذا الحديث - وإن كثرت - متواردة على ثبوت خيار المجلس
لكل واحد من المتبايعين، وأنَّ التفرُّق المذكور إنَّما هو بالأبدان، وإليه ذهب
كثير من الصحابة والتابعين، وحمله طائفة من أصحابنا وغيرهم: على أنَّه محمول على
ظاهره لكن على جهة الندب لا على الوجوب.
وعن مالك وربيعة وأبي حنيفة ومحمَّد وأبي يوسف والثوري والنخعي - في أحد قوليهما -
أنَّ التفرُّق إذا حصل بالأقوال وجب البيع ولا خيار إلا إن اشترط.
وقال أبو بكر بن العربي: قال مالك: ليس لهذا عندنا حدٌّ معروف.
يريد: أنَّ فرقتهما ليس لها وقت معلوم.
قال: وهذه جهالة وُقِف البيع عليها، فيكون كبيع الملامسة والمنابذة، وكبيع خيار
إلى أجل مجهول، وما كان كذلك فهو فاسد قطعًا، ولا يُعارَضُ هذا الأصل بظاهرٍ لم
يتحصَّل المراد منه مفهومًا؛ وقد روي في بعض طرقه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جدِّه عبد الله بن عمرو مرفوعاً، ذكره ابن يزداد في كتاب «البيوع» عن أحمد بن
حنبل: «إلا أن يكون صفقة خيار، فلا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله».
فظاهر هذه الزيادة مخالفة لظاهر أوَّل الحديث، فإن تأوَّل من أخذ بظاهر لفظ الحديث
الاستقالة: باختيار الفسخ، تأوَّلنا الخيار باختيار الاستقالة، وإذا تقابل
التأويلان وقف الحديث، والقياس في جانبنا.
(1/92)
وقال
ابن حزم: قال الأوزاعي: كل بيع فالمتبايعان بالخيار فيه ما لم يتفرَّقا بأبدانهما
إلا بيوعاً ثلاثة: المغنم، والشركاء في الميراث يتقاومونه، والشركاء في التجارة
يتقاومونها.
قال الطحاوي: تنازع أهل العلم في التفرُّق المذكور؛ فقالت طائفة: هو قول البائع
للمبتاع قد بعتك، وقول المبتاع: قد قبلت، فهل يكون للبائع الرجوع عمَّا قال قبل
قول المبتاع له: قد قبلت ذلك، ويكون للمبتاع قبول ذلك منه ما لم يفارق البائع
ببدنه فإن فارقه ببدنه لم يكن له بعد ذلك أن يقبل منه القول الذي قاله له؟ قالوا:
ولو كان ذلك بعد مفارقته ببدنه لكان ذلك له بعد المدة الطويلة.
وممَّن كان يذهب بالحديث إلى هذا التأويل
أبو يوسف وعيسى بن أبان.
وقال محمَّد: إنَّ قول البائع للمبتاع: قد بعتك، وقول المبتاع له: قد قبلت، يكونان
به متفرِّقين، وأن يكون ذلك كقوله جل وعز: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ
كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].
وقال آخرون: الفرقة بالأبدان لأنهما قبل تعاقدهما بالبيع متساومان وليسا
بمتبايعين، وإنَّما جُعل لهما الخيار بعد كونهما متبايعين إلى أن يفترقا، وبه قال
الشافعي.
قال: ولا حجَّة في ذلك لأنَّ العرب تسمِّي الشيء باسم ما قرب منه، وقد حكى لنا
المزني عنه أنَّه قال في قوله جل وعز: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] أنَّ العرب قد تقول: قد دخل فلان مدينة
كذا لقربه منها، ولقصده إلى دخولها، وإن لم يكن في الحقيقة دخلها، فاحتمل الحديث
مثله.
وفي «المدونة» عن أشهب: هذا الحديث منسوخ بقوله: «المسلمون على شروطهم»، وبقوله
أيضا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا اختلف البيِّعان استُحلِف البائع»، فلو كان
بينهما خيار لم يكن هناك يمين.
(1/93)
وقيل:
هو مخالف لظاهر قوله جل وعز: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] إذ
لا يمكن الإشهاد بعد التفرُّق.
وبقوله جل وعز: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282].
قال أشهب: الذي اجتمع عليه أهل العلم من أهل الحجاز أنَّ البيِّعين إذا أوجبا
بينهما البيع لزم، وليس العمل على هذا الخبر عندهم، واستدلوا بقوله: «لا يبع أحدكم
على بيع أخيه»؛ أي: لا يَسُمْ، فكذا معنى قوله: «المتبايعان» يعني: المتساومين، أو
يحمل على الندب بدليل مفارقة ابن عمر؛ إذ ليس من شأنه التحيُّل في إبطال واجب.
وذكر أبو الفرج البغدادي عن أبي حنيفة ومالك أنَّ خيار المجلس ليس بثابت، واعترضا
عليه بأوجه خمسة:
الأول: أنَّ مالكاً رواه وذهب إلى خلافه، ورأي الراوي مقدَّم على روايته؛ لأنه
يُشعِرُ بالطعن فيما روى.
الثاني: أنَّه خبر واحدٍ فيما تعمُّ به البلوى فلا يُقبل.
الثالث: أنَّه يخالف قياس الأصول؛ لأن عقود المعاوضات لا يثبت فيها خيار المجلس.
الرابع: أنهم حملوه على المتساومين، وسُمِّيا متبايعين لأنَّ حالهما يؤول إلى ذلك.
الخامس: أنهم حملوه على حالة التواجب إذا قال البائع: بعت، ولم يقل المبتاع: قبلت،
فالبائع مخيَّر بين أن يفي بما قال أو يرجع، وكذا المشتري.
قالا: وهذا حمل الكلام على حقيقته؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبت
الخيار بسبب التبايع، والتبايع اسم لحالة تشاغلهما بالبيع، فأمَّا بعد ارتباط
الإيجاب بالقبول فلا يسمَّيان متبايعين، إنَّما يقال: كانا متبايعين، فعلى هذا
يكون المعنى: ما لم يتفرَّقا بالأقوال؛ لقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] انتهى.
(1/94)
واحتجَّ
لهما أيضاً بقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى
يستوفيه»، فدلَّ على أنَّه جائز له بيعه في المجلس قبل التفرُّق، وبحديث ابن عمرو
المذكور أوَّلاً، وهو دليل على أنَّ صاحبه لا يملك الفسخ إلا من جهة الاستقالة،
وأنَّ البيع قد تمَّ قبل التفرُّق، وقال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:
1] وهذا عقد.
أجاب الشافعيون عمَّا أوَّله أبو يوسف وابن أبان بأنَّهما ما داما في المقاولة
يسمَّيان متساومين لا متبايعين، ولهذا إنَّه لو حلف ما باع وكان متساوماً لا يحنث.
وقيل: إنَّ حمله على خيار المجلس يحصل به فائدة لم تكن قبل الحديث معروفة، وحمله
على المساومة يخرجه عن الفائدة.
وقيل: إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مدَّ الخيار إلى التفرُّق، وهو تصريح بثبوته
بعد انقضاء العقد، والراوي - وهو ابن عمر - أعلم بمراد الحديث، وقضى به أبو برزة
الأسلمي في كتاب أبي داود أيضاً، وكذا شريح وغيره على ما تقدَّم.
وأمَّا احتجاجهم بقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة:
4] فالجواب عنه بأنَّ الإيجاب والقبول ليس
تفرُّقاً منهما في القول؛ لأنَّ من أوجب البيع فغرضه أن يقبله صاحبه، فإذا قبله
فقد وافقه، ولا يُسمَّى ذاك مفارقة.
وأمَّا قوله جل وعز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] فهو معارض مخصوص، وكذا قوله: «حتَّى يستوفيه».
ويجاب عن قوله: «لا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله» فإنَّ الترمذي جعله في
كتابه دليلاً على ثبوت خيار المجلس؛ لأنَّ معناه: مخافة أن يختار الفسخ، فعبَّر عن
الإقالة بالفسخ لأنَّها فسخ، يدلُّ على هذا أمران:
الأول: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبت لكلِّ واحد منهما الخيار ما لم
يتفرَّقا، ثمَّ ذكر الإقالة في المجلس.
قال في «شرح المهذب»: ومعلوم أنَّ من له الخيار لا يحتاج إلى الإقالة، فدلَّ أنَّ
المراد بالإقالة: الفسخ.
(1/95)
الثاني:
لو كان المراد حقيقة الإقالة لم يمنعه من المفارقة مخافة أن يقيله؛ لأنَّ الإقالة
لا تختصُّ بالمجلس.
ويجاب عن قياسهم إيَّاه على النكاح والخلع أنَّه ليس المعقود فيهما المال، ولهذا
لا يفسدان بفساد العوض بخلاف البيع.
ويجاب عن قولهم: خيار مجهول، بأنَّ الخيار الثابت شرعاً لا يضرُّ جهالة زمنه كخيار
الردِّ بالعيب، والأخذ بالشفعة، بخلاف خيار الشرط فإنَّه يتعلَّق بشرطهما، فاشترط
بيانه.
ويجاب عن قول من قال: عمل مالك على خلاف روايته؛ بأنَّ الحديث إذا كان صحيحاً كان
حجَّة على راويه وغيره؛ إذ من الجائز نسيانه إيَّاه أو تأوُّله، على أنَّا لا
نتابعهم في هذا، وإلا الحكم إنَّما هو لازم للصحابي الراوي ذلك الحديث، وأمَّا
العالم إذا روى حديثاً لا يلزم بالعمل به، ولا يقدح في روايته إذا عمل بخلافه؛
لأنَّه يروي ما له وما عليه، على ذاك الناس ... صحيحاً من غير رواية مالك ورواه عن
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غير ابن عمر على ما تقدم ... عنه بأنَّ سيِّدنا
رسول الله كان يؤدِّي ما حُمِّل من الرسالة إلى الشخص الواحد وإلى الاثنين وإلى
الجماعة، فإذا بلغ هذا الشخص لزم الحكم الباقين، وكم من حكم تفرَّد بروايته واحد
وتبعه الباقون.
على أنَّا نقول: ليس هو خبر واحد؛ بل هو مشهور أو متواتر على رأي الحاكم وأبي عمر
وابن حزم؛ إذ رواه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمانية من الصحابة بأحاديث
مسندة، غير المراسيل.
وفي قول البخاري: (بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ) ولم يذكر حديثاً فيه بيان تلك
المدَّة نظر، ذكره ابن التين.
وأمَّا ابن المنير فقال: اللهم إلا أن يؤخذ بمعنى التبويب من عدم تحديده؛ إذ في
الحديث تفويض الأمر إلى الحاجة في اشتراطه، وهو مذهب مالك، انتهى.
(1/96)
الذي
يظهر أنَّ البخاري أراد ما ذكر معلَّقاً عن همام من أنَّه يختار ثلاث مرار؛ لأنَّه
قال: (بَابٌ: كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ) ولم يقل: باب مدَّة الخيار، والله تعالى
أعلم.
وقد اختلف الفقهاء في أمد الخيار:
فقالت طائفة: البيع جائز والشرط لازم إلى الأمد الذي اشترط إليه الخيار، وهذا قول
ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وأبي يوسف، ومحمَّد، وأحمد، وإسحاق، وداود، وأبي
ثور، وابن المنذر.
وقال الليث: يجوز الخيار إلى ثلاثة أيام فأقل.
وقال عبيد الله بن الحسن: لا يعجبني شرط الخيار الطويل إلا أنَّ الخيار للمشتري ما
رضي البائع.
وقال ابن شبرمة والثوري: لا يجوز البيع إذا شرط فيه الخيار للبائع أو لهما.
وقال سفيان: البيع فاسد بذلك، فإن شرط الخيار للمشتري عشرة أيام أو أكثر جاز.
قال ابن حزم: وروينا في ذلك آثاراً عن المتقدمين، روى الشعبي: أن عمر اشترى فرساً
واشترط حبسه على إن رضيه وإلا فلا بيع بعد بينهما، فحمل عليه عمر رجلاً فعطب
الفرس، فجعلا بينهما شريحاً، فقال شريح لعمر: سلم ما ابتعت أو رد ما أخذت، فقال
عمر: قضيت بالحق.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه
قال: اشترى نافع دار السجن بأربعة آلاف فإن رضي عمر فالبيع بيعه، وإن عمر لم يرض
فلصفوان أربعة، فأخذها عمر.
وعن ابن عمر: كنت ابتاع إن رضيت حتى ابتاع ابن مطيع إن رضيها، فقال: إن الرجل
ليرضى ثم يدع فكأنما أيقظني، فكان يبتاع ويقول: هاء إن أحدث.
وقال سليمان بن البرصاء: بايعت ابن عمر بيعاً فقال لي: إن جاء ما اتفقنا إلى ثلاث
ليال فالبيع بيعنا، وإلا فلا بيع بيننا وبينك.
قال أبو محمد: لا نعلم عن الصحابة في بيع الخيار شيئاً غير هذا، وهو خلاف قول أبي
حنيفة والشافعي ومالك، وهي عندهم بيوع فاسدة مفسوخة.
(1/97)
وقال
مالك: يجوز شرط الخيار في بيع الثوب اليوم واليومين، والجارية إلى خمسة أيام
والجمعة، والدابة تركب اليوم وشبهه، ويُسارُ عليها البريد ونحوه، وفي الدار الشهر
لتختبر ويشاور فيها، ولا فرق بين شرط الخيار للبائع والمشتري.
وفي «علل الخلال» قال الأثرم: قلت لأحمد: الذي يقول أهل المدينة في العهدة الثلاث
والسنة؟ قال: أما عهدة السنة فما أدري رووه عن أبان عن عثمان وهشام بن إسماعيل،
وأما حديث الثلاث فلو ثبت حديث عقبة، ولكن الحسن ما أراه سمع منه؛ لأنه بصري، ولكن
الحسن كان يأخذ هكذا.
وقال محمد بن الحكم عن أحمد: ليس في عهدة الرقيق حديث صحيح، ولا أذهب إليه، إنما
روي عن الحسن عن عقبة، وليس فيه شيء يصح. قلت: إن مالكاً يذهب إليه؟ قال: ما
يعجبني.
وقال الثوري: يجوز شرط الخيار للمشتري عشرة أيام وأكثر، ولا يحوز شرطه للبائع.
وقال الأوزاعي: يجوز أن يشترط شهراً أو أكثر.
وقال أبو حنيفة والشافعي وزفر: الخيار في البيع ثلاثة أيام ولا يجوز الزيادة
عليها، فإن زاد فسد البيع، وروي أيضاً عن ابن شبرمة.
قال في «شرح المهذب»:
ويجوز شرط الخيار ثلاثة أيام في البيوع التي لا ربا فيها، فأما البيوع التي فيها
ربا - وهي الصرف وبيع الطعام بالطعام - فلا يجوز فيها شرط الخيار، فإنه لا يجوز أن
يتفرقا قبل تمام البيع، ولهذا لا يجوز أن يتفرقا إلا عن قبض العوضين، فلو جوزنا
شرط الخيار تفرقا ولم يتم البيع بينهما.
وقد روى ابن ماجه - بسند حسن - من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق، حدثني نافع عن
ابن عمر قال: سمعت رجلاً من الأنصار يشكو إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه
يغبن في البيوع فقال: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة
ابتعتها ثلاث ليال».
ولما رواه البخاري في «تاريخه» بسند صحيح إلى ابن إسحاق جعله عن منقذ بن عمرو.
(1/98)
والأمة
مجمعة على جواز شرط الخيار، واحتجوا أيضاً بما رواه الحُدَّاني محمد بن يوسف
أخبرنا محمد بن عبد الرحيم بن شَرُوْسٍ، أخبرنا حفص بن سليمان، أخبرنا أبان عن
أنس: «أن رجلاً اشترى بعيراً واشترط الخيار أربعة أيام، فأبطل النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم البيع، وقال: إنما الخيار ثلاثة أيام».
قال الحُدَّانيُّ: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا رجل سمع أباناً يقول عن الحسن: اشترى
رجل بيعاً وجعل الخيار أربعة أيام، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «البيع
مردود، وإنما الخيار ثلاثة أيام»، وأبان وحفص بن سليمان ضعيفان جداً.
وقال ابن حزم: وأما حديث: «المسلمون عند شروطهم» فلا يصح.
وقول البخاري: [بَابُ] إِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الخِيَارِ، هَلْ يَجُوزُ البَيْعُ
ثم ذكر حديث ابن عمر:
2109 - «أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ». [خ 2109]
قال فيه ابن المنير: الظاهر أنه قصد جواز البيع وتفويض الأمر بعد اشتراط الخيار
المطلق إلى العادة في مثل السلعة، وهذا مذهب مالك، وهو أسعد بإطلاق الحديث، خلافاً
لمن منع البيع كذلك إلحاقاً بالغرر.
وقال ابن التين في قوله: (أَوْ يَقُوْلُ لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ أَوْ يَكُوْنُ بَيْعَ
خِيَارٍ)
قال الداودي: هما سواء، ومعناها أنه بيع خيار الشرط.
وعن ابن حبيب: معناه قطع خيار المجلس.
وقال ابن بطال: ظاهر هذا الحديث يدل أن الخيار يجوز اشتراطه بغير توقيت، فلا معنى
لقول من خالف.
وذهب أكثر العلماء الذين يرون الافتراق بالأبدان إلى أنه إذا خيَّر أحدُهما صاحبَه
بعد البيع فاختار إمضاء البيع فقد تمَّ البيع وإن لم يتفرقا بالأبدان إلا أحمد بن
حنبل فإنه قال: هما بالخيار حتى يتفرقا، خيَّرَ أحدهما صاحبه أو لم يخيِّره.
قال: وأما الذين يجيزون البيع بالكلام فهو عندهم جائز.
(1/99)
وقال
الخطابي: قوله: (وَكَانَا جَمِيْعَاً) يبطل كل تأويل تأوله أهل العراق وغيرهم،
وكذا قوله: (وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا [وَلَمْ] يَتْرُكْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ) قال: وفيه أبين دلالة على أن التفرق
بالأبدان هو القاطع للخيار.
بابٌ: إذَا اشْتَرَى شَيئا فَوَهَبَ مِنْ ساعَتِهِ قِبْلَ أنْ يَتَفَرَّقَا ولَمْ
يُنْكِر البَائِعُ عَلى المُشْتَرِي أوِ اشْتَرى عَبْدا فأعْتَقَهُ
وَقَالَ طاوُسٌ: فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضا ثُمَّ باعَهَا
وَجَبَ لَهُ والرِّبْحُ لَهُ.
هذا التعليق رواه وعبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه به.
وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين: إذا بعت شيئاً على الرضا؟ قال: الخيار لكليهما حتى
يفترقا عن رضا.
2115 - وَقَالَ الحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي سَفَرٍ،
فَكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ لِعُمَرَ، فَكَانَ يَغْلِبُنِي، فَيَتَقَدَّمُ
أَمَامَ القَوْمِ، فَيَزْجُرُهُ عُمَرُ وَيَرُدُّهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ،
فَيُؤَخِّرُهُ عُمَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِعُمَرَ:
«بِعْنِيهِ»، قَالَ: هُوَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «بِعْنِيهِ» فَبَاعَهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، تَصْنَعُ بِهِ مَا شِئْتَ». [خ 2115]
هذا التعليق روى البخاري منه قطعة في باب: «من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو
أحق»، فقال [2610]: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا ابن عيينة.
وعند الإسماعيلي عن أبي أحمد بن زياد وابن صالح: أخبرنا ابن أبي عمر، وقال ابن
صالح: وحدثنا هارون، حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان عن عمرو.
(1/100)
وقال
أبو نعيم: حدثنا أبو علي، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان حدثنا
عمرو، قد ذكره.
ورويناه أيضاً في «مسند عبد الله بن الزبير الحميدي» من رواية بشر بن موسى عنه.
قال البخاري:
2116 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بِعْتُ مِنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ مَالًا بِالوَادِي بِمَاله بِخَيْبَرَ، فَلَمَّا تَبَايَعْنَا
رَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتي خَشْيَةَ أَنْ يُرَادَّنِي
البَيْعَ وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ «المُتَبَايِعَيْنِ بِالخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا»،
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا وَجَبَ بَيْعِي وَبَيْعُهُ، رَأَيْتُ أَنِّي
غَبَنْتُهُ، بِأَنِّي سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُودَ بِثَلاَثِ لَيَالٍ،
وَسَاقَنِي إِلَى المَدِينَةِ بِثَلاَثِ لَيَالٍ. [خ 2116]
هذا التعليق رواه الإسماعيلي عن أبي عمران: حدثنا الرمادي، قال: وأخبرني يعقوب بن
سفيان قال: وأخبرنا القاسم حدثنا ابن زَنْجُوْيَه، قالوا: حدثنا أبو صالح، حدثنا
الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد بهذا.
ورواه أيضاً من حديث أيوب بن سويد، عن يوسف بن يزيد، عن الزهري عن سالم عن أبيه.
قال: ورواه أبو صالح أيضاً عن الليث عن يونس، أخبرنا القاسم، أخبرنا ابن زنجويه
حدثنا أبو صالح.
وقال البيهقي: حدثنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا الإسماعيلي.
قال البيهقي: ورواه أبو صالح أيضاً ويحيى بن بكير عن الليث، عن يونس بن يزيد عن
الزهري عن سالم عن أبيه.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو عمرو حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا يعقوب بن
سفيان، حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد.
ثم قال: ذكره يعني البخاري فقال: وقال الليث، ولم يذكر من دونه، ويدل على أن
الحديث لأبي صالح، وأبو صالح ليس من شرطه.
(1/101)
قال
ابن بطال: هذا الباب حجة لمن يقول: الافتراق بالكلام، وحديث عمر بيِّنٌ في ذلك،
ألا ترى أن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهب الجمل في ساعته لابن عمر
قبل التفرق، ولو لم يكن الجمل له لما وهبه حتى يجب له بافتراق الأبدان.
وأما حديث ابن عمر في مبايعته لعثمان فقد احتج به من قال: إن الافتراق بالأبدان.
واحتج به أيضًا من قال: إن الافتراق بالكلام، وكان من حجة الذين جعلوا الافتراق
بالكلام أن قالوا: لو كان معنى الحديث التفرق بالأبدان، لكان المراد به الحض
والندب إلى حسن المعاملة من المسلم للمسلم، ولَا يفترسه في البيع على استخباره عن
الداء والغائلة، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من أقال نادمًا أقال الله
عثرته يوم القيامة»، ألا ترى قول ابن عمر: «وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار».
قال ابن التين: وذكر أبو عبد الملك أن في بعض الروايات: «وكانت السنة يومئذ».
قال: ولو كان على الإلزام لقال: كانت السنة، وتكون إلى يوم الدين.
قال ابن: بطال فحكى ابن عمر أن الناس كانوا يلتزمون حينئذٍ الندب؛ لأنه كان زمن
مكارمةٍ، وأن الوقت الذي حكى فيه التفرق بالأبدان كان التفرق بالأبدان متروكًا،
ولو كان على الوجوب ما قال: وكانت السنة، فلذلك جاز أن يرجع على عقبيه؛ لأنه فهم
أن المراد بذلك الحض والندب، لا سيما وهو الذي حضر فعل النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في هبته البكر له بحضرة البائع قبل التفرق.
وقال الطحاوي: روينا عن ابن عمر ما يدل أن رأيه كان في الفرقة بخلاف ما ذهب إليه
من قال: إن البيع لا يتم إلا بها. وهو ما حدثنا سليمان بن شعيب، حدثنا بشر بن
بكير، حدثنا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر
قال: ما أدركت الصفقة حيًّا فهو من مال المبتاع.
قال ابن جرير: صح هذا عن ابن عمر، ولا يعلم له مخالف من الصحابة.
(1/102)
قال
ابن المنذر: يعني في السلعة تتلف عند البائع قبل أن يقبضها المشتري بعد تمام
البيع.
قال ابن المنذر: هي من مال المشتري؛ لأنه لو كان عبدًا فأعتقه المشتري كان عتقه
جائزًا؛ ولو أعتقه البائع، لم يجز عتقه.
قال الطحاوي: فهذا ابن عمر يذهب فيما أدركت الصفقة حيًّا فهلك بعدها أنه من مال
المشتري، فدل ذلك أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال قبل الفرقة التي تكون بعد
ذلك، وأن البيع ينتقل بالأقوال من ملك البائع إلى ملك المبتاع حتى يهلك من ماله إن
هلك، وهذا من ابن عمر دالٌّ على مذهبه في الفرقة التي سمعها من النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فيما ذكروا.
وقد وجدنا عن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يدل على أن المبيع يملكه
المشتري بالقول دون التفرق بالأبدان، وذلك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
«من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه»، فكان ذلك دليلًا على أنه إذا قبضه حلَّ له
بيعه، ويكون قابضًا له قبل التفرق بالأبدان.
وروي عن سعيد بن المسيب يعني الحديث المخرج عند ابن ماجه من طريق ابن لهيعة، عن
موسى بن وردان، عنه قال: سمعت عثمان يخطب على المنبر ويقول: كنت أشتري التمر
فأبيعه بربح فقال لي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا اشتريت فاكتل، وإذا
بعت فكِلْ».
فكان من ابتاع طعامًا مكايلة فباعه قبل أن يكتاله لا يجوز بيعه، فإذا ابتاعه
فاكتاله وقبضه ثم فارق بائعه، فكلٌّ قد اجتمع أنه لا يحتاج بعد الفرقة إلى إعادة
الكيل.
وخولف بين اكتياله إياه بعد البيع قبل التفرق وبين اكتياله إياه قبل البيع، فدل
ذلك أنه إذا اكتاله اكتيالًا يحل به بيعه، فقد كان ذلك اكتيالاً له وهو له مالك،
وإن اكتاله اكتيالاً لا يحل بيعه فقد كال له وهو غير مالك له، فثبت بما ذكرنا وقوع
ملك المشتري في المبيع بابتياعه إياه قبل فرقة تكون بعد ذلك، فهذا وجه من طريق
الآثار.
(1/103)
وفي
الحديث: أن يسأل رب السلعة بيعها وإن لم يعرضها، وأن البيع لا يحتاج إلى قبض.
قال ابن التين: وقول البخاري: (إِذَا لَمْ يُنْكِرِ الْبَائِعُ عَلَى
الْمُشْتَرِي) تعسف، ولا يحمل فعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه وهب ما فيه
لآخر خيار ولا إنكار؛ لأنه إنما بعث صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مبينًا.
وقوله: (سُقْتُهُ إِلَى أَرْضِ ثَمُوْدَ) يعني: أن الأرض التي أعطيته بعدها من أرض
ثمود ثلاث ليالٍ، والأرض التي أعطاني من المدينة على ثلاث.
وقوله في الترجمة: (أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ) كأنه إنما أخذه من القياس
على الهبة؛ لأن العتق آكد من الهبة.
وفي الحديث: جواز بيع الشيء الغائب على الصفة.
قال ابن بطال: وأجمع العلماء على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من
الهبة أو العتق أنه بيع جائز، واختلفوا إذا أنكر ولم يرض بما أحدثه المبتاع،
فالذين يرون أن البيع يتم بالكلام يجيزون هبته وعتقه، ومن يرى التفرق بالأبدان لا
يجيز شيئًا من ذلك، إلا بعد التفرق، وحديث عمر حجة عليهم.
%ج 3 ص 148%
بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الخِدَاعِ فِي البَيْعِ
2117 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: «إِذَا
بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلاَبَةَ». [خ 2117]
وعند الدارقطني من حديث ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر أن رجلًا من الأنصار كان
بلسانه لوثة، وكان لا يزال يغبن في البيوع، فذكر ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فقال: «إِذَا بعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ مرتين».
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن يحيى بن حبان، قال: هو جدي منقذ بن عمرو، وكان
رجلًا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التجارة ولا
يزال يغبن.
(1/104)
وفيه:
وكان عُمِّر عُمرًا طويلًا، عاش ثلاثين ومئة سنة، وكان في زمن عثمان حين فشا
الناس.
وفي لفظ عن ابن عمر: كان حَبَّانُ بن منقذ رجلًا ضعيفًا، وكان قد سُفع في رأسه
مأمومة، فجعل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له الخيار فيما يشتري ثلاثًا،
وكان قد ثقل لسانه، فكنت أسمعه يقول: لا خلابة لا خلابة.
قال الدارقطني: وكان ضرير البصر.
وفي الطبراني: لما عمي قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك.
وعند ابن حزم من حديث ابن إسحاق: «أن منقذًا سُفِعَ في رأسه مأمومة في الجاهلية،
فحلت لسانه».
وفيه: «وأنت بالخيار ثلاثًا»، وقد تقدم طرف منه قبل.
وفي «الاستيعاب»: الذي قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قل لا خلابة» هو
منقذ بن حبان، وذلك محفوظ من حديث ابن عمر وغيره، انتهى.
الحاكم ذكره من حديث ابن عمر قال: كان حَبَّان بن منقذ رجلاً ضعيفاً، الحديث.
وقال: هو حديث متصل الإسناد.
وقال الجياني: حَبَّان بن منقذ شُجَّ في بعض مغازيه مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في بعض الحصون بحجر.
وزعم ابن قرقول أن هذا
الرجل كان ألثغ ولا يعطيه لسانه إخراج اللام، فكان ينطق به ياءً باثنين من تحت أو
ذالًا معجمة.
قال: وعند ابن أبي جعفر عن بعض شيوخه: «لا خيانة» بالنون، وهو تصحيف.
وزعم أبو عمر أن هذا خاص بهذا الرجل، وأن المغابنة بين المتبايعين لازمة، ولا خيار
للمغبون بسببها، سواء قلت أو كثرت، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وأصح
الروايتين عن مالك.
وقال البغداديون من أصحابه: للمغبون الخيار بشرط أن يبلغ الغبن ثلث القيمة، وإن
كان دونه فلا، وكذا حدَّه أبو بكر وابن أبي موسى من الحنابلة. وقيل: من السدس، وعن
داود: العقد باطل.
وعن مالك: إن كانا عارفين بتلك السلعة وبسعرها في وقت البيع لم يفسخ البيع كثيراً
كان الغبن أو قليلاً، فإن كان أحدهما غير عارفٍ بذلك فسخ البيع، إلا أن يريد أن
يمضيه، ولم يحدَّ مالك في ذلك حدًّا.
(1/105)
احتجَّ
لأبي حنيفة ومن تابعه: أن هذا المخدوع جعل له الخيار لما يلحقه من ذلك، فلو كان
الغبن شيئًا يملك به فسخ العقد لما احتاج إلى شرط الخيار مع استغنائه عنه.
قال المالكيون: هذه الحجة لنا لأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لك الخيار،
ولم يقل له: اشترط الخيار، فلو كان الغبن مباحاً لم يكن لقوله: «لا خلابة» معنى،
ولم ينفعه ذلك، فلما كان ذلك منفعة جعل له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الخيار
بعد ذلك لينظر فيما باعه ويسأل عن سعره، وإنما جعل له ذلك ليرينا الحكم في مثله.
وأيضاً إن قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تلقوا الركبان للبيع فمن تلقاها فهو
بالخيار إذا دخل السوق» انتهى.
اعترض ابن حزم على هذا بقوله: فيه الخيار إلى دخول السوق، ولعله لا يدخله إلا بعد
عام
أو أكثر.
قال المالكيون: وإنما جعل له الخيار في ذلك لأجل الغبن يلحقه، فعلم بهذا أن الغبن
يوجب الخيار، وأيضاً لو ابتاع سلعة فوجد بها عيباً كان له الخيار في الرد لأجل
النقص الموجود بها، فلا فرق بين أن يجد النقص بالسلعة أو بالثمن.
وتمسك بهذا الحديث من لا يرى الحجر على الكبير، لا سيما وقد جاء في بعض طرقه أن
أهل هذا الرجل سألوا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحجر عليه لما في عقوده من
الغبن، فلم يحجر عليه، وأمره بقوله: «لَا خِلَابَةَ» انتهى.
لقائل أن يقول: لما سألوا الحجر أقرهم - عليه الصلاة والسلام - عليه، فلو كان الحجر
على الكبير لا يجوز لأنكر عليهم قولهم.
وقال ابن العربي: يحتمل أن الخديعة كانت في العيب أو في العين أو في الكذب أو في
الثمن أو في الغبن، وليست قضية عامة فتحمل على العموم، وإنما هي خاصة في عين
وحكاية حال.
فإن قيل كيف يدعون الخصوص وقد روى ابن لهيعة: حدثنا حبان بن واسع، عن طلحة بن يزيد
بن ركانة أنه كلم عمر بن الخطاب في البيوع، فقال: «ما أجد لكم شيئاً مما جعله
سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحبان بن منقذ».
(1/106)
وفي
حديث ابن لهيعة عن حبان بن واسع، عن أبيه، عن جده، قال: عمر بن الخطاب .. الحديث.
فيقال له: هذان حديثان ضعيفان.
وقال ابن حزم: ومن قال حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة، فله الخيار ثلاث ليال بما في
خلالهن من الأيام، إن شاء رد بعيب أو بغير عيب أو بخديعة أو بغير خديعة بغبن أو
بغير غبن، وإن شاء أمسك، فإذا انقضت الليالي الثلاث بطل خياره ولزمه، ولا رد إلا
من عيب إذا وجد.
فإن قال لفظا غير: لا خلابة، بأن يقول: لا خديعة،
أو لا غشاً، أو لا كيداً، أو لا غبناً، أو لا مكراً، أو لا عيباً، أو لا ضرراً، أو
على السلامة، أو لا داءً، أو لا غائلةً أو لا خبثاً، أو نحو هذا لم يكن له الخيار
المجعول لمن قال: لا خلابة؛ لكن إن وجد شيئاً مما بايع على ألا يعقد بيعه بطل
البيع، وإن لم يجده لزمه البيع.
و (الخِلَابَة): المخادعة، خَلَبَه يَخْلبُه خَلْباً وخِلابة وخَالَبَه.
قال ابن سيده: وهي الخِلِّيبى، وَرجل خالبٌ، وخَلَّاب، وخَلْبُوب وخَلَبُوب:
خدَّاع، الأخيرة عن كراع. زاد الجوهري: كذاب.
قال ابن سيده: وامرأة خَلَبوب على مثال خيروب، هذه عن اللحياني. وخَلُوب وخالِبة
وخَلَّابة.
وفي «الكتاب المنتهى»: الخَلْب القطع والخديعة باللسان، خلَبه يخلِبه، ويخلُبه،
واختلبه اختلاباً، والخَلُوب: الخادع، والخَلِبَة: الخدَّاعة من النساء.
بابُ مَا ذُكِرَ فِي الأسْوَاقِ
قول عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب تقدم أول كتاب البيوع.
(1/107)
2118
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
زَكَرِيَّا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ
مُطْعِمٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، يُخْسَفُ
بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ
بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟
قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى
نِيَّاتِهِمْ». [خ 2118]
في مسلم: «صنع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في منامه شيئاً لم يكن يفعله؟
فسئل فقال: العجب إنَّ ناساً من أمَّتي يؤمُّون البيت لرجل من قريش قد لجأ
بالبيت»، وفيه: «قلنا: يا رسول الله إنَّ الطريق قد يجمع الناس. قال: نعم فيهم
المستبصر والمجبور وابن
السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتَّى، يبعثهم الله على نيَّاتهم».
وفي «مستخرج أبي نعيم»: «وفيهم أشرافهم».
وعند الإسماعيلي: «وفيه سواهم»، بدل من أسواقهم قال: ورواه البخاري: «وفيهم
أسواقهم»، وليس سواهم، وأظنُّ أنَّ «أسواقهم» تصحيف، فإنَّ الكلام في الخسف بالناس
لا بالأسواق.
وقال المهلَّب: في هذا أن من كثَّر سواد قوم في معصية أو فتنة أنَّ العقوبة تلزمه
معهم إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك؛ لأنَّ الخسف لمَّا أخذ السوقة عقوبة لهم شمل
الجميع.
واستنبط مالك من هذا: مَن وجد مع قوم يشربون الخمر وهو لا يشرب أنَّه يعاقب.
ويريد المهلب: أنَّ المغلوبين على تكثير السواد ليسوا ممَّن يستحقُّ العقوبة،
لقوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ} [الفتح: 25] الآية.
(1/108)
وفيه:
علم من أعلام النبوة، وهو إخباره بما يكون.
قال ابن التين: لعلَّ هذا الجيش الذين يخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة فينتقم منهم،
ويكون الذين يبعثون على نيَّاتهم وحضرت آجالهم بالخسف، كانوا ينكرون بقلوبهم ولا
يقدرون على غير ذلك؛ وقد قال جلَّ وعزَّ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث قوله: «إنَّ ناساً من أمَّتي يؤمُّون هذا البيت»، والجيش الذي
يهدمونه ليسوا من أمَّته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
والبيداء من الأرض: المفازة.
فإن قيل: ما ذنب من أُكره على الخروج أو من جمعته وإيَّاهم الطريق؟ فيجاب بأنَّ
عائشة لمَّا سألت، قال: «يبعثون على نيَّاتهم» فماتوا
بها حين حضرت آجالهم وبعثوا على نيَّاتهم.
حديث أبي هريرة تقدم في الصلاة.
وذكر البخاري حديث أنس بن مالك:
2120 - كَانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي السُّوقِ، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا أَبَا القَاسِمِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَالَ:
إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَمُّوا
بِاسْمِي، وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي». [خ 2120]
وفي حديث خالد بن إسماعيل عن زهير عن حميد: دعا رجل بالبقيع يا أبا القاسم ..
الحديث
قال ابن التين: ليس هذا الحديث ممَّا يدخل في هذا التبويب؛ لأنَّه ليس فيه ذكر
للسوق؛ اللهم إلا أن يريد أصل الحديث.
ورواه أيضاً من حديث جابر.
(1/109)
وأخبرنا
الإمام أبو محمد النضري قراءة عليه، أخبرنا ابن الفرات، عن فاطمة بنت سعد الخير،
أخبرنا أبي قراءة عليه، أخبرنا أبو منصور المعمري، أخبرنا القاضي أبو بكر محمَّد
بن عمر، أخبرنا الإمام أبو حفص البغدادي، قال: حدثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد
العزيز، حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا سلمة - يعني ابن الفضل - عن يحيى بن
العلاء، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من تسمَّى باسمي فلا يتكنَّى بكنيتي».
وفي حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه: «لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي،
أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم».
وفي حديث شريك بن عبد الله عن مسلم بن عبد الرحمن عن أبي زرعة: «من تسمَّى باسمي
فلا يتكنَّى بكنيتي ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمَّى باسمي».
ومن حديث ابن أبي ليلى عن أم حفصة بنت عبيد عن عمِّها البراء بن عازب: «من تسمَّى
باسمي فلا يتكنَّى بكنيتي».
وفي لفظ: «لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي».
قال ابن شاهين: ذكر الخلاف في ذلك فذكر حديثاً من جهة محمَّد
بن عمران الحجبي سمعت صفية بنت شيبة قالت عائشة: جاءت امرأة إلى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله إني ولد لي غلام فسميته محمَّدًا وكنَّيته بأبي
القاسم فذُكر لي أنك تكره ذلك. فقال: «ما حرِّم اسمي وأُحلَّ كنيتي».
وعن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد أنَّ محمَّد بن علي ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن
طلحة ومحمد بن سعد كانوا كلهم يُكنَّون بأبي القاسم، وكان لمالك بن أنس ابن يقال
له: محمَّد، وكنيته أبو القاسم، فقيل له في ذلك، فقال: لا بأس به.
(1/110)
وهذا
الحديث يوجب أن يكون ناسخاً للأوَّل؛ لأنَّ ولد الصحابة كُنُّوا بأبي القاسم، وقد
روي عن بعض التابعين أنَّه كان يقول: إذا رأينا الرجل يُكنَّى بأبي القاسم
كنَّيناه بأبي القاصم بالصاد من جهة الكره لذلك، وحديث النهي فطُرُقُه لا أعلم في
أكثرها علَّةً.
وزعم ابن التين أنَّ الشافعي وأهلَ الظاهر ذهبوا إلى أنَّه لا يحلُّ التكنِّي بأبي
القاسم لأحد أصلاً، سيَّما كان اسمه أحمداً أو محمَّداً أم لم يكن؛ لظاهر الحديث.
الثاني: أنَّ هذا النهي منسوخ، وأنَّ هذا الحكم كان في الزمن الأوَّل للمعنى
المذكور في الحديث ثمَّ نسخ، فيباح لكلِّ أحد، وهو مذهب مالك وجمهور العلماء.
الثالث: قال ابن جرير: ليس بمنسوخ، والنهي نهي تنزيه، لا نهي حرمة.
الرابع: النهى عن التكنِّي بأبي القاسم مختصٌّ بمن اسمه محمد أو أحمد، ولا بأس بها
لمن لم يكن اسمه ذلك.
الخامس: النهي عن التكنِّي بأبي القاسم مطلقاً، وألا يسمِّي القاسم؛ لئلا يُكنَّى
والده به.
السادس التسمية بمحمد مطلقا لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «تسمون أولادكم محمدًا
وتلعنونهم».
وقوله: (وَلَا تَكَنُّوا) قال ابن التين: ضبط في أكثر الكتب بفتح التاء وضم النون
المشددة، وفي بعضها بضم التاء والنون على وزن تُزَكُّوا، وفي بعضها
بفتح التاء والنون مشدَّدة مفتوحة على حذف إحدى التاءين.
وقوله: (لَمْ أَعْنِكَ) أي: لم أردك.
(1/111)
2122
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي طَائِفَةِ
النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي وَلاَ أُكَلِّمُهُ، حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي
قَيْنُقَاعَ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ: أَثَمَّ لُكَعُ،
أَثَمَّ لُكَعُ؟ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا
أَوْ تُغَسِّلُهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّه فأَحِبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ». [خ 2122]
في موضع آخر: «أين لكع ثلاثاً؟ ادع الحسين بن علي».
عند الإسماعيلي: «فجاء الحسن أو الحسين يشتدُّ».
وقال الداودي: سقط بعض الحديث عن الناقل، وإنما أدخل حديثاً في حديث، إذ ليس بيت
فاطمة في سوق بني قينقاع، إنَّما بيتها بين أبيات النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
ومعانقته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحسن إباحة ذلك لغيره، وأمَّا معانقة الرجل
للرجل فاستحبَّها سفيان، وكرهها مالك وقال: هي بدعة.
وتناظر مالك وسفيان في ذلك فاحتجَّ سفيان بأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعل
ذلك بجعفر، قال مالك: هو خاصٌّ له، فقال: ما تخصُّه بغير ذلك؟ فسكت مالك.
اللُّكَعُ: في قول الأصمعي: هو العَيِيُّ الذي لا يتَّجه لمنطق ولا غيره، مأخوذ من
الملاكيع، يعني الذي يخرج مع السلى من البطن.
قال الأزهري: والقول قول الأصمعي، ألا ترى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال
للحسن وهو صغير: «أين لكع؟» أراد أنه لصغره لا يتَّجه لمنطق ولا ما يصلحه، ولم يرد
أنَّه لئيم ولا عبد.
وفي «الموعب»: اللَّكَيع، والمرأة لَكيعة ولَكَعاء ولَكَاع ومَلْكَعانة.
قال: ويوصف به الحسن والحمق واللؤم، وقد لَكَع لَكْعاً مثل حدر.
(1/112)
وقال
بعض النحويين يعني سيبويه: لا يقال مَلْكَعان إلا في النَّداء، وبعض يقوله في
النِّداء وغيره.
وعن
إسماعيل حدثنا أبو الحسن سمعت المبرد حدثنا الثوري عن أبي يزيد: اللُّكَع الفلو،
والأنثى: لُكعة.
وفي «المحكم»: اللُّكَع المهر.
وفي «الجامع»: أصل اللُّكْع من الكُلْع ولكن قلب.
وفي «الصحاح»: اللُّكَع الذليل.
وفي «المجمل»: اللَّكْع الكَسْع. انتهى
الأشبه والأجود أن يحمل الحديث على ما قاله بلال بن جرير الخطفي، وسئل عن
اللُّكَع؟ فقال: هو في لغتنا الصغير.
قال الهروي: وإلى هذا ذهب الحسن، إذا قال الإنسان: يا لُكع، يريد: يا صغير.
قال السهيلي: كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمزح ولا يقول إلا حقاً، وههنا أراد
تشبيهه بالفلو والمهر؛ لأنه طفل، كما أنَّ الفلو والمهر كذلك، وإذا قصد بالكلام
قصد التشبيه لم يكن إلا صدقاً، والله تعالى أعلم.
وقول سفيان:
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَأَى نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ،
أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ.
أراد البخاري أن يبيِّن سماع عبيد الله من نافع المعنعن في السند.
2123 - 2124 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو
ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بن عقبة، عَنْ نَافِعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ:
«أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنَ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ
أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ
الطَّعَامُ». [خ 2123 - 2124]
وفي لفظ: «حتى يستوفوه».
وعند أبي داود بسند جيد، عن زيد بن ثابت: «نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم».
وعند مسلم عن أبي هريرة: «من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى [يكتاله]»
قال أبو عمر: وفي حديث القاسم بن محمَّد: نهى أن يبيع أحدٌ طعاماً اشترى بكيل
حتَّى يستوفيه.
(1/113)
قال:
والقبض والاستيفاء سواء، ولا يكون ما بيع من الطعام على الكيل والوزن مقبوضاً إلا
كيلاً أو وزناً، وهذا لا خلاف فيه، فإن وقع البيع في الطعام على الجزاف، فقد اختلف
في بيعه قبل قبضه وانتقاله.
وقال في: باب كَرَاهةِ السَّخَبِ فِي السُّوقِ
2125 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أفلح، حَدَّثَنَا هِلاَلٌ،
عَنْ عَطَاءِ
عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ وقيل له: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ
رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ، وَاللهِ
إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ. [خ 2125]
وفيه: «وَلَا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ».
وفي آخره:
تَابَعَهُ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ هِلاَلٍ، وَقَالَ سَعِيدٌ،
عَنْ هِلاَلٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ سَلاَمٍ.
متابعة عبد العزيز أخرجها البخاري مسندة فقال: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ».
قال أبو علي بن السكن: هو ابن مسلمة.
وقال أبو مسعود الدمشقي: هو عبد الله بن محمَّد بن رجاء.
وقال الجيَّاني: عندي أنَّه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وإلى ذلك أشار أبو
مسعود.
على أنَّ الحاكم أبا عبد الله قطع على أنَّ البخاري لم يخرج في «صحيحه» عن كاتب
الليث.
وقد روى البخاري في كتاب «الأدب» عن عبد الله بن صالح، حدثنا عبد العزيز بن أبي
سلمة عن هلال، وهو حديث تفرد به البخاري.
وأمَّا قول سعيد عن هلال، فرويناه في «معجم الطبراني» قال: حدثنا المطَّلب بن
شعيب، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أسامة،
عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام: إنَّا لنجد صفة رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم .. الحديث.
ورواه الترمذي من حديث محمَّد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده،
وقال: حسن غريب.
قوله: (أَجَلْ) أي نعم.
(1/114)
وكان
عبد الله بن عمرو كما روى البزَّار من حديث ابن لهيعة، عن واهب عنه، أنه رأى في
المنام كأنَّ في إحدى يديه عسلًا وفي الأخرى سمنًا وكأنَّه يلعقهما، فأصبح فذكر
ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «تقرأ الكتابين التوراة والقرآن» فكان
يقرأهما.
وقوله: (وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ) أي:
حافظهم وحافظ دينهم. يقال: أحرزت الشيء أحرزه إحرازاً، إذا حفظته وضممته إليك
وصنته عن الأخذ. والأميُّون: العرب؛ لأنَّ الكتابة كانت عندهم قليلة.
وقوله: (سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ) يعني: لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على
الله تعالى في الرزق والنصر، والصبر عند انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق،
واليقين بتمام وعد الله، فتوكَّل عليه، فسمِّي المتوكِّل.
وقوله: (لَيْسَ بِفَظٍّ) أي: سيئ الخلق.
(وَلَا غَلِيظٍ): وهي الشدَّة في القول.
وقول القائل لعمر: أنت أفظُّ وأغلظ. قيل: لم يأت أفعل هنا للمفاعلة بينه وبين من
أشرك معه، بل بمعنى: أنت فظٌّ غليظ على الجملة لا على التفصيل.
و (السَّخَّابُ): الكثير الصياح والجلبة، ولم يكن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
سخَّابًا في سوق ولا غيره، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:
4].
وفيه: ذمُّ الأسواق وأهلها الذين يكونون بهذِه الصفة المذمومة من الصخب، واللغط
والزيادة في المِدْحَة والذمِّ لما يتبايعونه، والأيمان الحانثة؛ ولهذا قال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «شرُّ البقاع الأسواق» لما يغلب على أهلها من هذِه الأحوال
المذمومة.
وقوله: (ولَا يَدْفَعُ بِالسَّيئَةِ السَّيِّئَةَ) أي لا يسيء إلى من أساء إليه
على سبيل المجازاة المباحة لمَّا تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال جل وعز:
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى: 43]
(1/115)
وقوله:
(بِالْمِلَّةِ الْعَوْجَاءِ) يعني ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، وتغيير ملَّة
إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن استقامتها، وإمالتها بعد قوامها.
وقوله: (وَيفْتَحُ بِه أَعْيُنًا عُمْيًا) قال ابن التين: كذا للأصيلي جعل
(عُمْيًا)، نعتًا للأعين، وهو جمع عمياء، وفي بعض روايات الشيخ أبي الحسن: «أعين
عُمي»، فأضاف أعين إلى عُمي وهو جمع أعمى، وكذلك الكلام في الآذان أيضًا.
وقوله: (وَقُلُوبًا غُلْفًا) فليس هو إلا جمع أغلف سواء كان مضافًا أو غير مضاف،
وترك
الإضافة فيه بيِّن، وقرأ ابن عباس «غُلْفٌ» -بضم اللام- كأنَّه جعله جمع غلاف، وهي
قراءة الأعرج وابن محيصن.
وقوله: (أُحِبُّهُ) بضم الهمزة من أحبَّ رباعي وهي اللغة المشهورة. وقيل فيه بفتح
الهمزة من حبَّه يَحِبُّه ثلاثي، أنشد للمبرد في «الكامل»:
أحب أبا مروان من أجل تمره وأعلم أن الرفق بالمرء أرفق
ووالله لولا تمره ما أحببته وكان عياض منه أدنى ومشرق
وقال آخر:
لعمرك إنني وطلاب مضر لكالمزداد مما حبَّ بعدا
قال: وقرأ أبو رجاء: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبُّكُمُ اللَّهُ} ففعل في هذا شيئين
أحدهما أنه جاء به من حببت، والآخر أنه أُدغم في موضع الجزم، وهو مذهب تميم وقيس
وأسد.
وقال أبو جعفر محمد بن أحمد الجرجاني في ردِّه على المبرد الذي رواه ابن أَشْتَه،
وكذا في «الاستغناء» وهو الصواب عن أبي رجاء «يَحْبِبْكُمُ اللَّهُ» بإظهار
التضعيف وفتح الياء من يَحبب، ولا يكادون يقولون: حبَّ، في الماضي، إنَّما يُقال
في المستقبل فقط، هذا هو المشهور، على أنَّهم قالوا في يحِبُّ أيضًا؛ إنَّها لغةٌ
قد ماتت.
(1/116)
قال
صاحب «المنتهى»: وهذا شاذ، لأنَّه لا يأتي في المضاعف يفعِل -بالكسر- ممَّا كان
متعدياً إلا ويشركه يفعُل - بالضمِّ- ما خلا هذا الحرف وحده وهو الحُبُّ والحِبُّ
ذكره ابن سيده وقال: كره بعضهم حببته، وأنكر أن يكون هذا البيت لفصيح؛ يعني قوله:
ما حببته، وحكى سيبويه: حببته وأحببته بمعنى. انتهى
الشعر الماضي رويناه عن ابن بري في كتاب «الإيضاح» أنه قال هو لغيلان بن شجاع
النهشلي، وقال: الحِبُّ يجيء تارة بمعنى المحِّب، وتارة بمعنى المحبوب، وشاهد
الأول قول المخبل:
أتهجر ليلى، بالفراق، حبيبها وما كان نفسا، بالفراق، تطيب
أي محبها
وشاهد الثاني قول ابن الدُّمَيْنَة:
وإن الكثيب الفرد، من جانب الحمى إلي، وإن لم آته، لحبيب
أي لمحبوب.
ومن الأمثال السائرة: من حَبَّ طَبَّ.
باب الكَيْلِ عَلَى البَائِعِ وَالمُعْطِي
لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}
[المطففين: 3] يَعْنِي: كَالُوا لَهُمْ وَوَزَنُوا لَهُمْ كَقَوْلِهِ:
{يَسْمَعُونَكُم} [الشعراء: 72]: يَسْمَعُونَ لَكُمْ.
روينا عن الفراء في كتاب «المعاني» أنه قال: الهاء في موضع نصب، تقول في الكلام:
قد كلتك طعامًا كثيرًا، وكلتني مثله، وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا
التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم، فهذا شاهد وهو من كلام أهل الحجاز ومن
جاورهم من قيس.
وقوله: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} [المطففين: 2] يريد من الناس وهما يعتقبان -
يعني: على ومَنْ- في هذا الموضع؛ لأنه حق عليه فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال:
أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فهو مثل قولك: استوفيت منك.
وفي «مقامات التنزيل» لأبي العباس: هذِه السورة في رواية همام وقتادة ومحمد بن ثور
عن معمر مكية.
وقال السدي: إنها مدنية.
وقال أبو بكر بن عياش عن الكلبي: نزلت على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طريقه
من مكة إلى المدينة.
(1/117)
وقال
السدي: استقبل بها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو داخل المدينة من مكة
شرفها الله تعالى.
قال أبو العباس: نظرت في اختلافهم فوجدت أول السورة مدنياً كما قال السدي والكلبي
وآخرها مكياً كما قال قتادة و ... .
ثم إن الكلبي روى عن أبي صالح عن ابن عباس: كان يمر عليٌّ على الحارث بن قيس وناس
معه فيسخرون من علي ويضحكون؛ ففيه نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون} [المطففين: 29] إلى آخر السورة.
وفي «أسباب النزول» للواحدي عن السدي: قدم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
المدينة وبها رجل يقال له: أبو جهينة ومعه صاعان
يكيل بأحدهما ويُكال بالآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفي «تفسير الطبري»: كان عيسى بن عمر - فيما ذُكِرَ عنه - يجعلهما حرفين، ويقف على
كالوا، وعلى وزنوا، فيما ذكر، ثم يبتدئ فيقول: هم يخسرون، والصواب في ذلك عندنا
الوقف على هم.
قال البخاري:
وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا».
هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة من حديث طارق بن عبد الله المحاربي بسند صحيح.
قال البخاري:
وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ لَهُ:
«إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ».
هذا التعليق رواه الدارقطني بسند فيه ضعف إلى منقذ مولى سراقة، وهو غير مشهور، عن
عثمان، قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا ابتعت طعامًا فاكتل، وإذا بعت
فكِل».
ورواه أيضاً محمد بن حمير - عند ابن أبي حاتم - عن الأوزاعي، حدثني ثابت بن ثوبان،
حدثني مكحول، عن أبي قتادة قال: كان عثمان يشتري الطعام ويبيعه قبل أن يقبضه، فقال
له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا ابْتَعْتَ فَاكتَلْ إِذَا بِعْتَ
فَكِلْ» قال: وقال أبي: هذا حديث منكر بهذا الإسناد.
(1/118)
ورواه
ابن ماجه من حديث ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن سعيد بن المسيب، عن عثمان وعن
جابر: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه
الصاعان، صاع البائع وصاع المشتري» في إسناده ابن أبي ليلى.
وقال السفاقسي: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ) أي: أوفِ، (وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ)
أي: استوف بكيل لا لك ولا عليك.
وقوله في حديث ابن عمر:
2126 - «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ». [خ 2126]
وعند مسلم: «حتى ينقله من مكانه».
وعند أبي داود: «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه».
وعنده أيضاً عن ابن عباس: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه».
قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
ولمسلم: «حتى يكتاله».
وعن أبي
هريرة: «حتى يكتاله».
وعن جابر: «إذا ابتعت الطعام فلا تبعه حتى تستوفيه».
وعند أبي داود عن زيد بن ثابت: «نهى أن تباع السلع حيث تُبْتاع حتى يحوزوها إلى
رحالهم».
وعند أحمد عن حكيم بن حزام: «إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه».
رواه من حديث يوسف بن ماهك عن حكيم ورواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن
يوسف عن عبد الله بن عصمة عن حكيم، وابن عصمة ضعيف ذكر هذا الدارقطني.
وعند أبي داود بسند جيِّد عن زيد بن ثابت: «نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم».
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من اشترى طعامًا فليس له بيعه حتى يقبضه،
واختلفوا في بيع غير الطعام على أربعة مذاهب:
أحدها: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام، قاله الشافعي
ومحمد بن الحسن، وهو قول ابن عباس.
الثاني: يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون، قاله عثمان بن عفان وابن
المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
الثالث: لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأراضي، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.
(1/119)
الرابع:
لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب، قاله مالك وأبو ثور.
وفي رواية ابن وهب عن مالك: في دون الخضروات.
وقال عثمان البَتِّي: يجوز بيع كل شيءٍ قبل قبضه، وكأنه لم يبلغه الحديث.
وفي حديث جابر:
2127 - «كِلْ لِلْقَوْمِ». [خ 2127]
فلما كان هذا للوفاء الذي على أبيه لأنه الغارم عنه صار كأنه بائع واليهودي مشتري؛
لأنه أعطى الثمن قبل ذلك في مقابلة ما يأخذه من التمر، ولهذا أتى البخاري بهذا
الحديث في هذا الباب.
وفيه: أنَّ الكيل على البائع، والذي عليه الفقهاء أنَّ الكيل والوزن فيما يكال
ويوزن من المبيعات على البائع، ومن عليه الكيل والوزن فعليه أجرة ذلك.
قال المهلب: وكتاب الله جلَّ وعزَّ يشهد أيضاً بذلك وهو قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ} [المطففين: 3] فدل هذا أن يكيل إذا اشترى ويكتل لغيره إذا باع.
وفي قصة يوسف صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن البائع عليه الكيل، قال تعالى: {أَلَا
تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} [يوسف: 59].
والتعليقان اللذان إثر حديث جابر تقدم في الصلاة وصلهما، وسيأتي في الأطعمة له
تكملة.
2128 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، عَنْ ثَوْرٍ،
عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ
لَكُمْ». [خ 2128]
ورواه ابن ماجه عن عمرو بن عثمان بن سعيد عن بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن
خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، عن أبي أيوب، فذكره من مسند أبي أيوب.
رواه إسماعيل بن عياش، عن بحير مثل رواية بقية.
وقال الدارقطني في كتاب «العلل»: القول قول بحير بن سعد لأنه زاد.
ورواه ابن ماجه أيضًا عن هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن عبد الرحمن
الحمصي، عن عبد الله بن بسر.
(1/120)
وقال
البيهقي: رواه أبو الربيع الزهراني، عن ابن المبارك، عن ثور، عن خالد، عن جبير بن
نفير، عن المقدام.
أخبرنا أبو عمرو الأديب أخبرنا الإسماعيلي أخبرنا المنيعي عنه.
وكذا رواه الإسماعيلي في «مستخرجه» من حديث أبي الربيع بزيادة جبير بن نفير.
وعنده: «يبارك لكم فيه».
وفي «علل ابن أبي حاتم» قال أبي: هذا الصحيح؛ لأن ثورًا زاد رجلًا، وهي أشبه
بالصواب.
السر في الكيل لأنه يتعرف به ما يقوته وما يستغله.
قال ابن بطال: لأنهم إذا اكتالوا يزيدون في الأكل، فلا يبلغ لهم الطعام إلى المدة
التي كانوا يقدرونها، وقال صلى الله
عليه وسلم: «كيلوا» أي: أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم مع ما وضع
الله جل وعز من البركة في مُدِّ أهل المدينة بدعوته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال: والكيل مندوب إليه، والندب إليه دليل على البركة.
وقال أبو الفرج البغدادي: يشبه أن تكون هذِه البركة للتسمية عليه في الكيل.
فإن قيل: هذا معارض بما ذكرته عائشة: كان عندي شطر شعير فأكلت منه حتى طال علي،
فكلته ففني.
فالجواب قول المهلب: أنها كانت تخرج قوتها بغير كيل، وهي متقوتة باليسير، فبورك
لها فيه مع بركته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الباقية عليها وفي بيتها، فلما كالته
علمت المدة التي يبلغ إليها ففني عند انقضائها.
وقيل أيضًا: إنه يعارض ما روي: [أن] النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على حفصة
فوجدها تكتال على خادمها، فقال: «لا توكي فيوكي الله عليك».
قالوا: قال ذلك لأنه في معنى الإحصاء على الخادم والتضييق، أما إذا اكتال على معنى
المقادير وما يكفي الإنسان فهو الذي في حديث الباب، وقد كان صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم يدَّخر لأهله قوت سنة، ولم يكن ذلك إلا بعد معرفة الكيل.
وروي أن النظر في المعيشة خير من بعض التجارة، ولهذا قيل: ما عال من اقتصد.
وقال أبو الدرداء: من فقهك عويمر إصلاحك معيشتك.
الباب الذي بعده تقدم.
(1/121)
باب
مَا يُذْكَرُ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ وَالحُكْرَةِ
حديث ابن عمر تقدم وكذا حديث ابن عباس.
قال الجوهري (وَالحُكْرَةِ): بضم الحاء، قال ابن التين: هو إمساك الطعام عن البيع
مع الاستغناء عنه عند حاجة الناس إليه انتظار الغلاء في ثمنه.
وفي «المحكم»: الاحتكار جمع الطعام ونحوه ممَّا يؤكل واحتباسه والحُكْرَة والحُكْر
جميعاً ما احتُكِر.
والجُزاف والجِزاف والجزافة: بيعك الشيء واشتراؤك بلا كيل
ولا وزن. قال ابن سيده: وهو يرجع إلى المساهلة، وهو دخيل.
وقول صخر الغي:
فأقبل منه طوال الذرى ... كأن عليهن بيعاً جزيفا
أراد: طعاماً بيع جزافاً بغير كيل، يصف سحاباً.
وفي كتاب الأزهري من نسخة عليها خطه: جُزاف، وعلى الجيم رفعة، وتحتها خفضة.
وفي «شرح المهذب»: عند الشافعي بيع الصبرة من الحنطة والتمر مجازفة صحيح، وليس
بحرام. وهل هو مكروه؟ وفيه قولان أصحهما مكروه كراهة تنزيه، والبيع بصبرة الدراهم
كذلك حكمه.
وعن مالك أنه لا يصح البيع إذا كان بائع الصبرة جزافاً يعلم قدرها، كأنه اعتمد ما
رواه الحارث بن أبي أسامة عن الواقدي عن عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس قال: سمع
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عثمان يقول في هذا الوعاء كذا وكذا: ولا أبيعه إلا
مجازفة، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا سميت كيلا فكل».
وعند عبد الرزاق: قال: قال ابن المبارك عن الأوزاعي: إن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال: «لا يحل لرجل باع طعاماً جزافاً قد علم كيله حتى يعلم صاحبه».
وفي كتاب «الرِّبَا» لابن أسلم: أخبرنا عبد الله بن منير، عن سلمة عن ابن المدل عن
الأوزاعي عن واصل قال: سألت مجاهدًا وعطاءً والحسن وطاوس عن الرجل يشتري طعامًا
جزافًا لا يعلم كيله ورَب الطعام قد عرف كيله؟ فكرهوه كلهم.
(1/122)
قال
القرطبي: في حديث الباب دليل لمن سوَّى بين الجزاف والمكيل من الطعام في المنع من
بيع ذلك حتى يقبض، ورأى أن قبض الجزاف قبضه، وبه قال الكوفيون والشافعي وأبو ثور
وأحمد وداود، وحمله مالك على الأولى والأحب.
ولو باع الجزاف قبل نقله جاز، لأنه بنفس تمام العقد في التخلية بينه وبين المشتري
صار في ضمانه، ولدليل الخطاب في قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
«من ابتاع طعاما بكيل» وما في معناه.
وإلى جواز ذلك صار سعيد بن المسيب والحسن والحكم والأوزاعي وإسحاق.
وقال ابن قدامة: إباحة بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها لا نعلم
فيه خلافا، فإذا اشترى الصبرة جزافا فلم يجز بيعها حتى ينقلها، نص عليه أحمد في
رواية الأثرم، وعنه رواية أخرى: بيعها قبل نقلها، اختاره القاضي، وهو مذهب مالك.
قال: ونقلها قبضها، كما جاء في الخبر.
وقال مالك فيمن رفع طعامًا ضيعته ليس بحكرة.
وعن أحمد: إنما يحرم التحكير ما يقوت دون سائر الأشياء.
واحتكاره في الحرم إلحاد فيه.
وزعم جماعة أن المنع منه إنما هو زمن الشدة والمجاعة، دليله أن سعيد بن المسيب روى
هذا الحديث عن معمر بن عبد الله بن نافع، سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يقول: «لا يحتكر إلا خاطئ مرتين» وكان يحتكر البدوي الحنطة والبزر، كذا في «مسند
أحمد».
وعند ابن التين وغيره: الزيت، كذا هو في البخاري.
وفي «مسند الدارمي» من حديث سعيد بن المسيب أيضاً عن عمر عن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم قال: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون».
وعند الحاكم عن أبي أمامة: «نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحتكر الطعام».
وعن ابن عمر يرفعه: «من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله جل وعز، وبرئ
الله منه».
في «علل الخلال» قال أحمد: هذا حديث منكر.
قال الحاكم: وعن أبي هريرة يرفعه: «من احتكر يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو
خاطئ وقد برئت منه ذمة الله جل وعز».
(1/123)
وعن
عائشة مرفوعاً: «ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه».
وعن اليَسَع بن المغيرة: «مرَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برجل في السوق يبيع
طعاماً بسعر هو أرخص من سعر السوق فقال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبشر
فإنَّ الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله
والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله عز وجل».
وعن معقل بن يسار سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من دخل في شيء من
أسعار المسلمين ليغلي عليهم كان حقًّا على الله أن يقذفه في معظم جهنم ورأسه
أسفله».
قال الحاكم: هذه الأحاديث خرجتها احتساباً لما فيه الناس من الضيق وإن لم تكن على
شرط هذا الكتاب. انتهى
وقال مهنا: حدثنا بقية عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن أبي هريرة يرفعه: «يحشر
الحكَّارون وقتلة الأنفس إلى جهنم في درجة واحدة»، وقال: كتبته عن عبد الرزاق.
وفي «المصنف» من حديث نوفل بن عبد الملك عن أبيه عن علي: «نهى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم عن الحكرة بالبلد».
ومن حديث ليث عن الحكم: أُخبر عليٌّ برجل احتكر طعاماً بمئة ألف، فأمر به أن يحرق.
وعن ابن عمر: ولا يحتكر إلا خاطئ أو باغي.
وعن عثمان: أنه نهى عن الحكرة.
وذكر أبو العباس القشيري في المحتكرين من حديث الهيثم بن رافع: حدثنا أبو يحيى
المكي أن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من احتكر
على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام».
ومن حديث القاسم عن أبي أمامة يرفعه: «نهى أن يحتكر الطعام».
وعن كثير عن ابن عمر عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من احتكر أربعين يوماً
برئ من الله، وبرئ الله منه».
وعن سهل بن سعد مثله.
ومن حديث عبد الله بن أبي بكر عن عبد الرحمن، عن عمه قال النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «المحتكر كالملحد في كتاب الله».
(1/124)
وعن
عائشة وعلي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من احتكر طعاماً أربعين يوماً يريد
به غلاء المسلمين ثم تصدَّق يعني بذلك الطعام لم يكن كفارة».
قال النخعي عن «إن باعه وتصدق بثمنه لم يقبل منه»: وإن حج لم يقبل منه.
وذكره النسوي من حديث سعيد عن معمر بن عبد الله بن فضلة، من حديث الدولابي عن عبد
السلام بن عاصم أخبرنا أبو زهير أخبرنا أبو إسحاق عن محمد بن إبراهيم عنه.
وقال سعيد: وكان معمر يحتكر.
وعن أبي الزناد قال: قلت لابن المسيب: تحتكر؟ قال:
ليس هذا بالذي قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنما هو: أن يأتي الرجل
للسلعة عند غلائها فيغالي بها، وأما أن يشتريه إذا اتضع ثم يرفعه فإذا احتاج الناس
إليه أخرجه، فذلك خير.
وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك.
وقول ابن عباس:
2132 - «وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ». [خ 2132]
يجوز بهمز وبغير همز؛ أي: يؤخر.
قال ابن التين: قول ابن عباس: (دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ) تأوله على السلف، وهو أن
يشتري منه طعامًا بمئة إلى أجل ويبيعه منه قبل قبضه بمئة وعشرين، وهو غير جائز؛
لأنه في التقدير بيع دراهم بدراهم والطعام مؤجل غائب.
قال ابن التين: وليس هذا تأويله عند أكثر العلماء، وقيل: معناه: أن يبيعه من آخر
ويحيله به.
(1/125)
2134
- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كَانَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عِنْدَهُ
صَرْفٌ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، حَتَّى يَجِيءَ خَازِنُنَا مِنَ الغَابَةِ.
قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ فِيهِ
زِيَادَةٌ. قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ، سَمِعَ عُمَرَ بْنَ
الخَطَّابِ يُخْبِرُ عَن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ
وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ». [خ 2134]
كذا هذا الحديث في جميع النسخ، وكذا ذكره الإسماعيلي وأبو نعيم وابن التين، وأما
ابن بطال فترجم له: باب بيع ما ليس عندك منفرداً عن الأحاديث قبله.
وهو حديث خرَّجه الجماعة.
وفي لفظ البخاري:
2174 - «التَمَسَ صَرْفًا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَدَعَانِي طَلْحَةُ،
فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي، فَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي
يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الغَابَةِ، وَعُمَرُ يَسْمَعُ
ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ تُفَارِقُهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ». [خ 2174]
وعند أبي نعيم الأصبهاني قال الحميدي: قال سفيان: هذا أصح حديث روي
عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصرف.
وخالف ذلك أبو الوليد بن رشد فقال: أصحها حديث أبي سعيد الخدري؛ يعني الآتي بعد.
وكذا قاله ابن عبد البر، قال: وفي طريق يحيى بن يحيى الليثي عن مالك: «الذهب
بالورق».
وكذا رواه معن وروح بن عبادة وعبد الله بن رافع عن مالك.
وكذا قاله معمر وابن علية في هذا الحديث عن الزهري: «الذهب بالورق»، ولم يقولوا:
«الذهب بالذهب والورق بالورق».
(1/126)
وعن
أبي بكر بن أبي شيبة: أشهد على ابن عيينة أنه قال: «الذهب بالورق»، ولم يقل:
«الذهب بالذهب»؛ يعني في حديث ابن شهاب هذا.
ورواه ابن إسحاق عن الزهري فقال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة» الحديث.
وكذا رواه أبو نعيم عن ابن عيينة ولم يقله أحد عن ابن عيينة غيره.
وكذا رواه الأوزاعي عن مالك.
وعند البيهقي: «ولا يشفوا بعضه على بعض فإني أخاف عليكم الرِّمَّا»، قيل لنافع:
وما الرَّمَّا؟ قال الربا.
قال الخطيب: قوله: «إني أخاف عليكم الرَّمَّا» من كلام عمر، ووهم ابن معشر فوصلها
بحديث أبي سعيد وأدرجها.
وعند ابن حزم: روينا من طريق ابن وهب عن يزيد بن عياض، عن إسحاق بن عبد الله عن
جبير بن أبي صالح، عن مالك بن أوس بن الحدثان، أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قال: «التمر بالتمر» الحديث.
ثم قال: مالك لا يعرف له سماع من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجبير بن أبي
صالح مجهول، ويزيد بن عياض هو بن جعدة مذكور بالكذب والرجيع. انتهى كلامه.
وفيه نظر في موضعين:
الأول: مالك قال أحمد بن صالح: له صحبة، وصح حديثه: «كنا عند النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فقال وجب» الحديث.
وقال سلمة بن وردان: رأيت
جماعة من الصحابة فذكره فيهم.
وفي «تاريخ البخاري»: «وكلهم صحب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ منهم مالك بن
أوس».
وفي كتاب «الصحابة» للبغوي رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذكره فيهم: ابن
خزيمة والماوردي وابن منده وابن السكن وأبو نعيم وأبو عمر.
الثاني: جبير ليس مجهولاً، لرواية ابن أبي ذئب وإسحاق بن عبد الله عنه، وكذا ذكره
في كتاب «الثقات» لابن حبان.
وعند مسلم عن معمر عن عبد الله: «الطعام بالطعام مثلا بمثل».
وعن عثمان يرفعه: «لا تبيعوا الدينار بالدينار ولا الدرهم بالدرهم».
(1/127)
وعن
أبي هريرة: «الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما،
والتمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً
بيد، فمن زاد واستزاد فقد أربا إلا ما اختلفت ألوانه».
وفي لفظ: «وزناً بوزن مثلاً بمثال فمن زاد واستزاد فقد أربا».
وعن فضالة بن عبيد: «الذهب بالذهب وزنا بوزن».
وعند أبي القاسم البغوي بسند صحيح عن هشام بن عامر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم نهى عن بيع الورق بالذهب نساء، وأنبأنا أن ذلك الربا».
وعند البيهقي من حديث بشر بن عمر، حدثنا مالك، عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن
عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم إلينا.
ثم قال: قال الشافعي: هذا خطأ، أخبرنا سفيان عن وردان الرومي سأل ابن عمر: إني
أصوغ الحلي ثم أبيعه وأستفضل فيه قدر أجرتي أو عمل يدي، فقال ابن عمر: الذهب
بالذهب لا فضل بينهما، هذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم.
قال الشافعي: يعني بصاحبنا: عمر بن الخطاب.
قال أبو عمر قول: الشافعي عندي غير جيد على أصله؛ لأن حديث ابن عيينة في قوله «صاحبنا»
مجمل يحتمل أن يكون أراد الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الأظهر فيه ويحتمل أن
يكون عمر فلما قال
مجاهد: عهد نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسر ما أجمل وردان، وهذا أصل يعتمد
عليه الشافعي في الآثار، لكن الناس لا يسلم أحد منهم من السهو انتهى كلامه.
(1/128)
وكأن
الواهم هو لا الشافعي، لأن البيهقي روى عن أبي عبد الله الحافظ حدثنا أبو بكر بن
إسحاق أخبرنا أبو مسلم حدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم سمعت نافعًا يقول:
كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف، ولم يسمع فيه من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
شيئًا، قال: قال عمر: لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل
سواء بسواء كما تقدم، فهذا نافع يقول: إن ابن عمر لم يسمع النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في الصرف شيئاً، ولا يقول نافع هذا إلا بتوقيف من سيده عبد الله.
وقال البيهقي: وفي رواية سالم أيضا دلالة على أنه أباه لم يسمع من النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم في الصرف شيئا، إنما سمعه من أبيه ومن أبي سعيد وهي في «صحيح
الإسماعيلي» من حديث ابن أخي الزهري عن عمه عن سالم عن أبيه أن أبا سعيد حدثه
حديثاً مثل حديث عمر عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصرف.
وتحمل رواية مجاهد في قوله: «عهد نبينا إلينا» على الأمة، كما قيل في قول الحسن:
خطبنا عبد الله، أو لما كان أبوه من العدالة والضبط هو المخبر نزله في الصحة منزلة
من سمعه من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال بعضهم في حديث مسدد عن يحيى بن
سعيد كأنك تسمع الحديث من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعني لسلامة الطريق
ولثقته رجالا وضبطهم.
يزيد هذا وضوحاً ما في «صحيح مسلم» من حديث أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن
الصرف فلم يريا به، فسألت أبا سعيد الخدري فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك
لقولهما، فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، جاءه
صاحب نخل بصاع من تمر طيب فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنى لك هذا؟»
قال: انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع، فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت» الحديث،
قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني.
(1/129)
وفي
لفظ: فجاءه ابن عمر فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل» الحديث.
فقال أبو سعيد: سمعته أذناي يقول: «لا تبايعوا الذهب بالذهب» الحديث.
وهو في «صحيح البخاري» من حديث سالم عن أبيه أن أبا سعيد حدثه فذكره.
وعند ابن عدي من حديث معاوية بن عطاء عن الثوري عن منصور عن زر عن ابن عمر،
الحديث، وفيه: «ونهى عن بيع الزيت بالزيت»، وقال: إسناد باطل، وعن سفيان: لا تصح
هذه الزيادة بوجه من الوجوه.
وعند مالك في «الموطأ» عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب
أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن.
قال أبو عمر: وهذا يجري مَجرى المتصل، وظاهره الانقطاع لأني لا أحفظ لعطاء سماعاً
من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيئاً، لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة
عثمان سنة اثنتين وثلاثين ومولد عطاء: سنة إحدى وعشرين.
وقيل: سنة عشرين ويمكن أن يكون سمع عطاء من معاوية؛ لأنه سمع من جماعة أقدم من
معاوية، ولكنه لم يشهد هذه القصة لأنها كانت في زمن عمر بن الخطاب، وذكر أن مثل
هذه القصة عرضت لمعاوية مع عبادة بن الصامت وحديث عبادة محفوظ عند أهل العلم، ولا
أعلم أن أبا الدرداء رواه، انتهى.
في «الموطآت» للدارقطني: رواه أبو قرة موسى بن طارق قال: ذكر مالك، عن زيد بن أسلم
عن عطاء أو عن سليمان بن يسار أنه أخبره: أن معاوية باع سقاية، الحديث، وكذا ذكره
عبد الله بن وهب في «مسنده» عن مالك.
حديث عبادة المشار إليه خرجه مسلم بلفظ: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر [والشعير بالشعير والتمر] بالتمر
والملح بالملح سواء بسواء عيناً بعين».
وفي لفظ: «الطعام
بالطعام مثلاً بمثل» الحديث.
(1/130)
وعند
الدارمي بسند جيد عن مسروق عن بلال.
وذكره ابن بطال بسند فيه عن ابن المسيب عن بلال قال: كان عندي تمر دون، فابتعت
تمراً أجود منه في السوق، وبنصف كيله صاعين بصاع، فحدثت النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم بما صنعت فقال: «هذا الربا بعينه، انطلق فرده على صاحبه وخذ تمرك فبعه ثم
اشتر به التمر» انتهى.
الذي في الصحيح: أن هذا رواه أبو سعيد قال جاء بلال. الحديث.
وعند البزار: حدثنا العباس بن عبد العظيم، قال: حدثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين،
حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق، عنه. ثم قال: وهذا الحديث رواه عن إسرائيل
عمرو بن محمد وعثمان بن عمر.
وحدثنا محمد بن معمر، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا كثير بن يسار، عن ثابت، عن أنس:
أتي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتمر الريان فقال: «أنى لكم هذا التمر؟»
قالوا: كان عندنا تمر بعل فبعناه صاعين بصاع فقال: «ردوه على صاحبه».
وعند الحاكم من حديث إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير قال: سمعت أبا أسيد الساعدي
سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم
وصاع حنطة بصاع حنطة وصاع شعير بصاع شعير وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بين شيء من
ذلك» وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعند البخاري سيأتي عن أبي بكرة: «نهانا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
نبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبيع الذهب الفضة كيف
شئنا يعني يداً بيد».
وفي «الموطأ»: مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: «أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم السعدين أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة
عينا و كل أربعة بثلاثة عيناً، فقال لهما رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
أربيتما فردا».
قال أبو عمر: السعدان سعد بن مالك وسعد بن عبادة.
قال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على أن الذهب عينه وتبره سواء لا يجوز
التفاضل في شيء منه.
(1/131)
وكذلك
الفضة بالفضة تبرها وعينها ومصوغ ذلك كله ومضروبه، لا يحل التفاضل في شيء منه،
وعلى ذلك مضى السلف والخلف.
قال ابن بطال: كتب أبو بكر الصديق إلى عماله، وروي مثله عن علي، وروى مجاهد عن
ثلاثة [عشر] صحابياً مثله، وإنما حرم الله جل وعز الربا حراسة للأموال وحفظاً لها.
قال أبو عمر: إلا شيء يروى عن معاوية من وجوه أنه كان لا يرى الربا في بيع العين
بالتبر ولا بالمصوغ، وكان يجيز في ذلك التفاضل ويذهب إلى أن الربا لا يكون في
التفاضل إلا في التبر بالتبر والمصوغ بالمصوغ وفي العين بالعين، والسنة المجتمع
عليها من نقل الآحاد ونقل الكافة خلاف ما كان يذهب إليه معاوية.
وقوله: (فَتَرَاوَضْنَا) يعني زدت أنا ونقص هو.
وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا في الأعيان الستة المنصوص عليها الذهب والفضة
والحنطة والشعير والتمر والملح، واختلفوا فيما سواها، فذهب أهل الظاهر وقبلهم
مسروق وطاووس والشعبي وقتادة وعثمان البتي فيما ذكره الماوردي: إلى أنه يتوقف
التحريم عليها.
وقال سائر العلماء: لا يتوقف التحريم عليها بل يتعدى إلى ما في معناها.
فأما الذهب والفضة، فالعلة فيهما عند أبي حنيفة، الوزن في جنس واحد، فألحق بهما كل
موزون.
وعند الشافعي: العلة فيهما جنس الأثمان.
وأما الأربعة الباقون ففيها عشرة مذاهب:
مذهب أهل الظاهر المتقدم ألا ربا في غير الأجناس الستة.
الثاني: ذهب أبو بكر بن كيسان الأصم: إلى أن العلة فيها كونها منتفعاً بها، فحرم
التفاضل في كل ما ينتفع به، حكاه عنه القاضي حسين.
الثالث: مذهب ابن
سيرين وأبي بكر الأودي الشافعي: إلى أن العلة الجنسية، فحرم كل شيء بيع بجنسه:
كالتراب بالتراب متفاضلاً، والثوب بالثوبين والشاة بالشاتين.
الرابع: مذهب الحسن بن أبي الحسن: أن العلة المنفعة في الجنس، فيجوز عنده بيع ثوب
قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار، ويحرم عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته
ديناران.
(1/132)
الخامس:
مذهب سعيد بن جبير: أن العلة تفاوت المنفعة في الجنس، فيحرم التفاضل في الحنطة
بالشعير لتفاوت منافعهما، وكذلك الباقلاء بالحمص والدخن بالذرة.
السادس: مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن: أن العلة كونه جنساً تجب فيه الزكاة، فحرم
الربا في جنس تجب فيه الزكاة من المواشي والزروع وغيرهما، ونفاه عما لا زكاة فيه.
السابع: مذهب مالك: كونه مقتاتاً مدخراً، فحرم الربا في كل ما كان قوتاً مدخراً،
ونفاه عما ليس بقوت: كالفواكه، وعما هو قوت لا يدخر: كاللحم.
الثامن: مذهب أبي حنيفة: أن العلة كونه مكيل جنس، أو الوزن مع جنس، فحرم الربا في
كل مكيل وإن لم يؤكل: كالجص والنورة والأشنان، ونفاه عما لا يكال ولا يوزن وإن كان
مأكولا: كالسفرجل والرمان.
التاسع: مذهب سعيد بن المسيب، وهو قول الشافعي في القديم: أن العلة كونه مطعوماً
يكال أو يوزن فحرمه في كل مطعوم يكال أو يوزن، ونفاه عما سواه، وهو كل ما لا يؤكل
ولا يشرب، أو يؤكل ولا يوزن: كالسفرجل والبطيخ.
العاشر: أن العلة كونه مطعوماً فقط، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أم لا، ولا ربا
فيما سوى المطعوم غير الذهب والفضة، وهو مذهب الشافعي الجديد.
في «شرح المهذب»: وهو مذهب أحمد وابن المنذر.
قال ابن رشد: اتفقوا على أن من شرط الصرف أن يبيع ناجزاً، واختلفوا في حده فقال
أبو حنيفة والشافعي: ما لم يتفرقا، وقال مالك: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف،
وإن لم يفترقا.
وذكر الإسماعيلي أن البخاري قال: بيع الطعام والحكرة، وليس فيه الحكرة، انتهى.
لقائل أن يقول: الأصل في الاحتكار حبس الطعام، وإذا قبضه وحازه فقد حبسه عن غيره
وفي حديث ابن عمر المذكور هذا في الباب لفظة: «حتى يقبضه»، وفي لفظ: «حتى ينقله»
فلعل هذا مراد البخاري، والله تعالى أعلم.
وأما الحديث المصرح فيه بالحكرة من طريق معمر بن عبد الله فليس على شرطه إنما هو
على شرط مسلم وقد قدمناه.
(1/133)
وقوله:
(سَوَاء بِسَوَاءٍ) قال ابن التين: ضبط في غير أمٍّ بالقصر، وهو في اللغة: ممدود
مفتوح السين؛ أي: المماثلة في المقادير.
وصرف وافتعل اصطرف منه، والأصل: اصترف بتاء.
والذهب: قال في «المنتهى»: ربما أنث لغة حجازية، والقطعة منه ذهبة، وتجمع على
أذهاب وذهوب.
وفي «تهذيب الأزهري»: لا يجوز تأنيثه إلا أن يجعل جمعاً لذهبة.
وفي «الموعب» لابن التياني عن صاحب «العين»: الذهب التبر، والقطعة منه ذهبة، يذكر
ويؤنث.
وعن ابن الأنباري: الذهب أنثى وربما ذُكِّر، وعن الفراء: وجمعه ذهبان.
(وَهَاءَ وَهَاءَ): قال صاحب «العين» هو حرف يستعمل في المناولة، تقول: هاء وهاكَ،
وإذا لم تجئ بالكاف مددت فكانت المدة في هاء خلفاً من كاف المخاطبة فتقول: للرجل
هاءَ، وللمرأة هائي، وللاثنين هاؤهما، وللرجال هاؤم، وللنساء هاؤنَّ.
وعن الفراء: أهل الحجاز يقولون: ها يا
رجل، وللمرأة: هَأِ امرأة بهمزة ليس بعدها يا.
وأهل نجد من تميم وقيس وأسد يختلفون فيقول بعضهم: هاءَ يا رجل نصباً، كقول أهل
الحجاز للاثنين: هاءَوَا، وللثلاث هاءَن بهمزة مخففة.
ويخلطون في الواحدة فيقولونها بالياء وبغير ياء هائي وهاءِ.
وكان بمعنى إذا قالوا للمرأة هائي ممدودا أن يقولوا للرجل هَأْ مثل خَفْ.
وبلغني أن بعض العرب يجعل مكان الهمز كافا فيقول: هاك يا رجل بغير همز، ذكره في
«الموعب».
وفي «المنتهى»: يقول هَأْ يا رجل بهمز ساكنة، مثال هَعْ؛ أي خذ.
وفي «الجامع»: فيه لغات: بألف ساكنة وهمزة مفتوحة اسم للفعل، ولغة أخرى: ها يا رجل
كأنه من هائي يهائي فتحذف الياء للجزم، ومنهم من يجعله بمنزلة الصوت فيقول: ها يا
رجل وها يا رجلان وها يا رجال وها يا امرأة وها يا امرأتان وها يا نسوة وأنشد
المرزباني لعُرَيْفِجَة ويقال عرفجة بن رميلة النهشلي:
لما رأت في ظهري انحناء وفي يدي من كرمي التواء
تجعل في كل غبوقي ماء ثم تقول من بعيد هاء
دحرجه إن شئت أو إلقاء لا جعل الله به شفاء
(1/134)
وفي
هذه اللفظة لغات سبع ذكرها السِّيْرَافيُّ.
وقوله: (لَا تُشِفُّوا) الشفاء النقصان والزيادة شفَّ يَشِّفُّ شفا زاد وأشفَّ
يُشِفُّ إذا نقص والاسم منه الشف.
قال ابن التين: أراد في الحديث لا تزيدوا بعضها على بعض ولا تنقصوا وكأنَّ الزيادة
أولى لأنه عداه بعلى، وعلى مختصة بالزيادة وعن مختصة بالنقصان ولا يصح حمله على
النقص مع على إلا على مذهب من يجيز بدل الحروف بعضها من بعض وفيه بعد.
والربا: يقع في التبايع بمعنيين:
أحدهما بالزيادة، والآخر بالنسيئة، فالزيادة لا تكون إلا في الجنس الواحد كالذهب
بالذهب متفاضلاً، والورق بالورق متفاضلاً.
والنسيئة تكون في الجنس الواحد والجنسين كالذهب بالذهب نسيئة والذهب
بالورق نسيئة، وهذان الأمران حرام عند الشافعي، وبه قال عامة الصحابة والتابعين
ومن بعدهم.
وقال أبو حنيفة كذلك في النقدين، وقال فيما عداهما: يجوز التفرق قبل القبض، فأجاز
فيهما النسيئة.
وذهب جماعة من الصحابة إلى أنَّ الربا إنما هو في النسيئة خاصة، فأمَّا التفاضل
فجائز إذا كان يدًا بيدٍ، حكي ذلك عن ابن عباس وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وعبد
الله بن الزبير والبراء بن عازب.
واختلف عن ابن عباس؛ ففي مسلم أنَّ أبا سعيد قال له: أرأيت هذا الذي تقول أشيء
سمعته من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو شيء وجدته في كتاب الله جل وعز؟
فقال: ما وجدته في كتاب الله ولا سمعته من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
ولأنتم أعلم برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مني، ولكن أخبرني أسامة أنَّ رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الربا في النسيئة».
وعند الترمذي وابن المنذر وأبي بكر الأثرم: أنه رجع إلى قول الجماعة.
وعند ابن حزم من طريق حبان بن عبد الله، عن أبي مجلز: قال عبد الله لأبي سعيد:
جزاك الله خيرًا ذكرتني أمرًا قد كنت أنسيته، فأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فكان
ينهى عنه بعد ذلك.
(1/135)
قال
أبو محمد: حبان عن أبي مجلز لا حجة فيه؛ لأنه منقطع لم يسمعه من أبي سعيد ولا من
ابن عباس.
قال أبو محمد: وقد روى رجوع ابن عباس، سليمان بن علي الربعي، وهو مجهول لا يدرى من
هو، عن أبي الحوراء، وروى عنه أيضًا أبو الصهباء أنه كرهه، وروى عنه طاوس ما يدل
على الثقة، وروى عنه الثقة المختص به خلاف هذا، ثم روى بسند صحيح من حديث عبد الله
بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنَّه
قال: ما كان الربا قط هاك وهات. وحلف سعيد بن جبير بالله ما رجع عنه عبد الله حتى
مات. انتهى.
وفي حديث سعيد عن أبي صالح قال: صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف.
وعن سعيد بن جبير: سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف، فكان يأمر به ولم
ير به بأسًا.
قال ابن حزم: وفي حديث أبي مجلز عن أبي سعيد الذي أسلفناه: «وإن لك ما يُكال
ويوزن» قال أبو محمد: هذِه اللفظة ليست من كلام النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
إنما هي مدرجة من كلام أبي سعيد؛ لأن أبا صالح رواه عن أبي سعيد وكذا نافع وأبو
سلمة بن عبد الرحمن وأبو المتوكل الناجي وابن المسيب وعقبة بن عبد الغافر وأبو
نضرة والجريري وعطاء بن أبي رباح بأسانيد متصلة عن الثقات، وما منهم أحد ذكر هذا
اللفظ، وهو بين في الحديث لأنه لما تم كلام سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال أبو مجلز: قال: وكذا ما يُكال، الحديث، مفصولًا عن الحديث الأول.
وفي كتاب «البيوع» للأثرم قال ابن عباس: ما كان إلا برأي يقوله لأبي سعيد. قال
سليمان الربعي: فذكروا ذلك عند الحسن بن أبي الحسن فقال: يا أبا سعيد سل هذا فإن
هذا شهد أبا الحوراء أنه شهد على ابن عباس بأنه رجع قال: لو لم يرجع عنه لم يلتفت
إليه.
(1/136)
وحدثنا
موسى بن إسماعيل أخبرنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالم قال: ذكر في حديث أن أبا
صالح قال: سألت أبا سعيد فقال: هو حرام إلا مثلا بمثل، فأخبر أبو سعيد بقول ابن
عباس فالتقوا ثلاثتهم، فقال ابن عباس له: ما أنا بأقدمكم صحبة ولا أعلمكم بكتاب
الله، ولكني سمعت زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان: سمعنا نبي الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم يقول: «لا يصلح بيع الذهب والفضة إلا يدا بيد» فقال أبو سعيد: إنما
سمعته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا».
قال ابن التين: ورواية ابن عباس عن أسامة إنْ كانت محفوظة، فيحتمل أن يكون سمع بعض
الحديث فحكى ما سمع، وذلك أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئل عن الذهب
بالفضة، أو الشعير بالتمر
فقال: «إنما الربا في النسيئة».
ورد أبو سليمان قول من قال إنه منسوخ؛ بقوله: النسخ إنما يقع في أمر كان مشروعًا
قبل ورود النسخ عليه، فأما ما لم يكن مشروعاً قبل فلا يطلق عليه النسخ وهذا مما
غلط فيه كثير من العلماء، يضعون التحريم موضع النسخ كمن يقول: شرب الخمر منسوخ ولم
يكن شربه مشروعا قط وإنما كانوا يشربونها على عادتهم المتقدمة قبل الحظر.
باب بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ
كذا هذا الباب في جميع ما رأيت من النسخ، وكذا ذكره صاحب «المستخرج» وابن التين
وقال: بوَّب البخاري: بيع ما ليس عندك، ولم يأت فيه بحديث إلا عن ابن عباس: «نهى
عن الطعام أن يباع قبل أن يقبض»، وعن ابن عمر «فلا يبعه حتى يستوفيه».
ثم قال: زاد إسماعيل: «حتى يقبضه» انتهى
لقائل أن يقول: إذا منع من بيع الشيء قبل قبضه وقد عقد فيه بيعاً كان منعه أن يبيع
ما [لم] ينتقل ملكه إليه، ولا عقد مبيعاً أولى فتبويبه على هذا صحيح.
وأما ابن بطال فبوَّب له: باب بيع الطعام قبل قبضه، وبوَّب لحديث مالك بن أوس عن
عمر: باب بيع ما ليس عندك مما قد قدمنا.
(1/137)
وقال:
لا يجوز بيع ما ليس عندك ولا في ملكك وضمانك من الأعيان كالمكيلة والموزونة
والعروض لنهي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك.
وقد روى النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن: عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده، قال فيه الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط جماعة من أئمة المسلمين ولفظه: «لا يحل سلف
وبيع ولا شرطين في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك».
وفي لفظ عن جده عبد الله: أنه كتب عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه لما بعث
عتاب بن أسيد إلى أهل مكة شرفها الله تعالى قال له: «أخبرهم أنه لا يجوز بيعتين في
بيعة ولا بيع ما لا يملك ولا سلف وبيع ولا شرطين في بيع».
وعن حكيم بن حزام قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا تبع ما ليس عندك».
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال البيهقي: إسناده حسن متصل.
وقال أبو طالب عن أحمد: إنما يرويه أيوب عن محمد عن يوسف بن ماهك عن حكيم مرسلاً،
وغيره يجعل بين يوسف وحكيم عبد الله بن عصمة.
وذكر ابن حزم من جهة أصبغ: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا أبي حدثنا حبان بن هلال حدثنا
همام بن يحيى أخبرنا ابن أبي كثير أن يعلى حدثه أن يوسف حدثه أن حكيم بن حزام
حدثه. الحديث.
قال ابن القطان: وكذا رواه ابن أيمن عن أبي خيثمة سواء.
وروى الدارقطني من حديث أحمد بن صخر الدارمي، عن حبان بن هلال، عن همام بن يحيى،
عن يحيى بن أبي كثير، عن يعلى، عن يوسف، عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم، والله
أعلم.
(1/138)
قال
ابن بطال: استنبط البخاري يعني حديث حكيم وإن لم يكن من شرطه، من حديث مالك بن
أوس، وذلك أنه يدخل في بيع ما ليس عندك والمعنى ما يكون في ملكك غائبًا من الذهب
والفضة، ولا يجوز بيع غائب منها بناجز، وكذا البر والتمر والشعير لا يباع شيء منه
بجنسه ولا بطعام مخالف لجنسه إلا يدًا بيد، لقوله: «إلا هاء وهاء»، يعنى خذ وأعط
حياطة من الله جل وعز لأصول الأموال، وحرزًا لها إلا ما خصت السنة بالجواز من بيع
ما ليس عندك مما يكون في الذمة من غير الأعيان، توسعة من الله جل وعز لعباده
ورفقًا بهم.
وقول البخاري:
2136 - زَادَ إِسْمَاعِيْلُ: «حَتَّى يَقْبِضَهُ». [خ 2136]
يعني ابن أبي أويس عن مالك، وليس هو زيادة إنما أتى بلفظة بدل أخرى، وقال
الإسماعيلي ردا على البخاري: قد قاله أيضاً الشافعي وقتيبة وابن مهدي عن مالك.
ثم في النسخ التي رأيناها: (فَلَا يَبِيْعُهُ)، قال ابن التين: محمول على أن لفظه
لفظ الخبر ومعناه الأمر مثل قوله جل وعز: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة: 79]
وزعم ابن المنذر أن قوله: «نهى عن بيع ما ليس عندك» يحتمل أن يقول: أبيعك هذه
الدار بكذا على أن أشتريها من صاحبها، أو على أن يسلمها لك
صاحبها، وهذا مفسوخ على كل حال، لأنه غرر، إذ قد يجوز ألا يقدر على تلك السلعة، أو
لا يسلمها إليه مالكها.
أو نقول: يحتمل أن يقول: أبيعك عبدًا أو دارًا مغيبة عني في وقت البيع، فلعل الدار
تتلف ولا ترضاها، فهذا أيشبه الغرر.
وفي كتاب «الربا» لمحمد بن أسلم قاضي سمرقند: ومن الاحتيال في الربا إذا قال: اشتر
هذا حتى أشتريه منك، حدثنا علي بن حكيم، عن وكيع، عن سفيان بن سعيد، عن ابن جريج،
عن زيد بن أسلم أن رجلاً قال لرجل: اشتر هذا البعير حتى أشتريه منك، فقال: كرهه
ابن عمر.
وحدثنا علي عن وكيع عن سفيان عن حماد عن إبراهيم: أنه كره أن يقول اشتر فذكر من
كذا وكذا حتى أشتريه منك.
(1/139)
وحدثنا
علي عن وكيع عن الحكم بن أبي الفضيل سمعت الحسن يقوله، وسأله عن الرجل يساومني
الحرير فأقول: ليس عندي، فيقول: اشتر حتى أشتريه منك، قال: المواضعة وكرهه.
وحدثنا علي عن وكيع عن محمد بن أسلم عن إبراهيم بن ميسرة قلت لطاوس: يأتيني الرجل
فيسامني بسلعة وليست عندي فيقول لي اشتر حتى أشتريها منك فكرهه.
قال محمد بن أسلم: ولقد كره الحسن وابن سيرين أن يكون الرجل يشتري التجارة فيحملها
إلى منزله، فيضعها في بيت يبتغي بها من يشتريها بالنسيئة.
وذكر أبو إسحاق في «المهذب» ولا يجوز بيع ما لا يملكه في غير إذن.
قال محيي الدين رحمهما الله تعالى: يريد من غير إذن شرعي فيدخل فيه الوكيل والولي
والوصي وبيع مال المحجور وبيع القاضي ونائبه ممن يمتنع من بيع ماله في وفاء ما
عليه من الدين.
الباب الذي بعده تقدم ذكره.
باب إِذَا اشْتَرَى مَتَاعًا أَوْ دَابَّةً فَوَضَعَهُ عِنْدَ البَائِعِ، أَوْ
مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أَدْرَكَتِ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنَ
المُبْتَاعِ.
هذا التعليق تقدم ذكره، وأن ابن حزم صححه، وقال ابن التين: لا مخالف لابن عمر فهو
الإجماع.
وذكر البخاري حديث عائشة المتقدم في كتاب الصلاة مطوَّلاً، وهنا ذكره لقول النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكر لما قال له:
2138 - يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي نَاقَتَانِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ:
«قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ». [خ 2138]
قال ابن التين: بيع الغائب على الصفة جائز، ومنعه الشافعي، وجائز عند مالك أنْ
يبيع والمشتري بالخيار إذا رأى، وأنكر هذا البغداديون من أصحابه.
وعند أبي حنيفة أنَّ البيع جائز، وإن لم يشترط المشتري الخيار، ويجب له الخيار
حكمًا، ويستدل بهذا الحديث، وأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخذها بالثمن، ولم
يذكر شرط خيار رؤية، ودليل البغداديين: أنه عقد عَرِيَ عن الصفة فكان فاسدًا
كالسلم.
(1/140)
قال
المهلب: وجه استدلال البخاري في هذا الباب بحديث عائشة أنَّ قول الرسول صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم لأبي بكر في الناقة: (قَدْ أَخَذْتُهَا) لم يكن أخذاً باليد،
ولا بحيازة شخصها، وإنما كان التزامه لابتياعها بالثمن وإخراجها من ملك أبي بكر؛
لأنَّ قوله: (قَدْ أَخَذْتُهَا) يوجب أخذًا صحيحًا وإخراجًا واجبًا للناقة من ملك
أبي بكر إلى ملك سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالثمن الذي يكون عوضًا
منها، فهل يكون التصرف بالبيع قبل القبض أو الضياع إلَّا لصاحب الذمة الضامنة لها؟
انتهى
وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر وغيره: أنَّ أبا بكر لمَّا قدَّم الناقة لرسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليركبها، قال: «لا أركب ناقة ليست لي» قال: هي لك، قال:
«بالثمن».
فهذا دليل على رؤيتها وحوزها، انتهى.
قال: وفي استعداد أبي بكر للناقتين دليل على أنه أفهم الناس لأمر الدين؛ لأنه
أعدهما قبل أن ينزل الإذن بالخروج من مكة إلى المدينة؛ لأنه قبل ذلك رجا أنه لا بد
أن يؤذن له فأعد لذلك، انتهى.
في «الدلائل» للبيهقي وغيره أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إني أرجو
أن يؤذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: [وهل يؤذن لك] قال: «نعم»
فاشترى ناقتين وحبس نفسه على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ويستدل أبو حنيفة ومن قال بقوله بأن الافتراق بالكلام لا بالأبدان، لأن النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قد أخذتها بالثمن» قبل أن يفترقا، وتم البيع
بينهما.
قال ابن التين: وقع في رواية للبخاري: «عددتهما للخروج»، وصوابه: أعددتهما، لأنه
رباعي.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في هلاك المبيع قبل أن يقبض، فذهب أبو حنيفة
والشافعي إلى أن ضمانه إن تلف من البائع.
وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: من المشترى.
وأما مالك ففرق بين الثياب والحيوان، فقال: ما كان من الثياب والطعام، فهلك قبل
القبض، فضمانه من البائع.
(1/141)
قال
ابن القاسم: لأنه لا يعرف هلاكه ولا بينة عليه، وأما الدواب والحيوان والعقار فمصيبته
من المشترى.
وعن ابن حبيب: اختلف العلماء فيمن باع عبداً أو احتبسه بالثمن، وهلك في يديه قبل
أن يأتي المشترى بالثمن، فكان سعيد بن المسيب وربيعة والليث يقولون: هو من البائع.
وأخذ به ابن وهب، وكان مالك قد أخذ به أيضًا، وقال سليمان بن يسار: مصيبته من
المشترى سواء حبسه البائع بالثمن أم لا، ورجع مالك إلى قول سليمان بن يسار.
باب لَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ،
حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ أَوْ يَتْرُكَ
2139 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَن ابْنِ عُمَرَ
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ
عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ». [خ 2139]
وفي لفظ في باب: «النهي عن تلقي الركبان» وذكره هنا كان أنسب مما ذكره: «نهى رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبيع بعضكم على بيع بعض ولا يخطب الرجل على خطبة
أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب» انتهى.
بهذا اللفظ [هنا] ترجم به الباب، وكأنه على عادته يحيل على أصل الحديث.
وهو حديث خرجه الستة، وكذا حديث أبي هريرة المخرج إثر حديث ابن عمر بلفظ:
2140 - «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ
لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ
يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا
لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا». [خ 2140]
وفي حديث عقبة بن عامر من عند البيهقي: «لا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه حتى
يذر ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر» وسنده جيد.
وعند ابن السكن: «لا يبع بعضكم على بيع بعض إلا الغنائم والمواريث».
(1/142)
قال
ابن قرقول: يأتي كثير من الأحاديث على لفظ الخبر، وقد يأتي بلفظ النهي، وكلاهما
صحيح.
وقال أبو السعادات بن الأثير: كثير من روايات هذا الحديث «لا يبيع» بإثبات الياء،
والفعل غير مجزوم، وذلك لحن، وإن صحت الرواية فيكون لا نافية، وقد أعطاها معنى
النهي، لأنه إذا نفي أن يوجد هذا البيع، فكأنه قد استمر عدمه، والمراد من النهي عن
الفعل: إنما هو طلب إعدامه واستبقاء عدمه، فكان النفي الوارد من الواجب صدقه يفيد
ما يراد من النهي.
وقال ابن حزم: ثم ولا يحل لأحد أن يسوم على سوم أخيه، ولا يبيع على بيعه، والمسلم
والذمي سواء، فإن فعل فالبيع مفسوخ، وذكر الحديث.
ثم قال: هذا خبر معناه الأمر، لأنه لو كان معناه الخبر لكان خلفًا لوجود خلافه،
والخلاف مقطوع ببعده عن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقال النووي: في جميع النسخ: (وَلَا يَسُومُ) بالواو، وكذا: (يَخْطُبُ) مرفوع،
وكلاهما لفظه لفظ الخبر، والمراد به النهي، وهو أبلغ في النهي، لأنَّ خبر الشارع
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُتصوَّر وقوع خلافه، والنهي قد يقع خلافه، فكان
المعنى عاملوا هذا النهي معاملة الخبر المتحتم.
قال ابن التين وغيره: البيع هنا السوم.
مثاله أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله،
بأرخص منه، أو أجود منه بثمنه أو نحو ذلك، وهذا حرام.
ويحرم أيضاً الشراء على شراء أخيه وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار: افسخ البيع
وأنا أشتري منك بأكثر من هذا
الثمن ونحو هذا.
وأما السوم فهو أن يكون قد اتفق صاحب مالك السلعة والراغب فيها أو ركنا وتبايعا
ولم يعقداه، فيقول للبائع: أنا اشتريته وهذا حرام بعد استقرار الثمن، أما السوم في
السلعة التي تباع فيمن يزيد، فليس بحرام.
(1/143)
قال
ابن التين: وأجمع العلماء أن حكم الذمي حكم المسلم في ذلك إلا الأوزاعي فإنه أجاز
السوم على سوم الذمي محتجًّا بما في مسلم: «لا يسم المسلم على سوم المسلم».
وكذا يفهم من حديث ابن عمر المذكور: «لا يبيع أحدكم على بيع أخيه» والذمي ليس أخا
للمسلم، وهذا يرد قول ابن حزم الذي سلف إذا قاس الذمي على المسلم من غير نص فخالف
قاعدته.
قال النووي: أجمع العلماء على منع البيع على بيع أخيه والشراء على شرائه والسوم
على سومه فلو خالف وعقد فهو عاص وينعقد البيع هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين.
وقال داود لا ينعقد، وعن مالك روايتان كالمذهبين. وجمهورهم على إباحة البيع
والشراء فيمن يزيد وبه قال الشافعي وكرهه بعض السلف.
والكلام على الخطبة يأتي إن شاء الله تعالى في الشروط.
وبيع الحاضر للباد والنجش يأتي ذكرهما.
باب بَيْعِ المُزَايَد
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِبَيْعِ المَغَانِمِ
فِيمَنْ يَزِيدُ.
هذا التعليق روى ابن أبي شيبة بعضه عن وكيع، عن سفيان، عمن سمع مجاهدًا وعطاء
قالا: لا بأس ببيع من يزيد.
وعند البيهقي من حديث زيد بن أسلم: سمعت رجلًا تاجرًا -يقال له: شهر- يسأل عبد
الله بن عمر عن بيع المزايدة، فقال: نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن
يبيع أحدكم على بيع أخيه حتى يذر، إلا المغانم والمواريث.
وفي «علل الخلال» عن أحمد: هذا حديث منكر.
وقال أبو بكر: حدثنا وكيع عن حزام بن هشام الخزاعي، عن أبيه قال: شهدت عمر بن
الخطاب باع إبلًا من إبل الصدقة فيمن يزيد.
وحدثنا معمر عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك
عن رجل من الأنصار: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باع حِلْسا وقد جاء:
فيمن يزيد».
وعند الترمذي فقال رجل: آخذهما بدرهم، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من
يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟» فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه. وقال: هذا حديث
حسن.
(1/144)
وقال
منهال: سألت أحمد عن أبي بكر الحنفي فقال: لا أعرفه. وحديث أنس في بيع القدح ليس
له إسناد.
قال أبو بكر: حدثنا جرير عن مغيرة عن حماد قال: لا بأس ببيع من يزيد.
2141 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ حدثنا عَبْدُ الله أخبرنَا الحُسَيْنُ
المَكْتِبُ عنْ عَطَاءِ بنِ أبِي رباحٍ عنْ جابِرٍ أنَّ رجُلاً أعْتَقَ غلاَما
لَهُ دُبُر فاحْتاجَ فأخذَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ مَنْ
يَشْتَرِيهِ مِنِّي فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا
فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ. [خ 2141]
وفي لفظ: «لم يكن له مال غيره فاشتراه ابنُ النحام بثمان مئة درهم عبداً قبطياً،
مَاتَ عَام أول، فِي إِمَارَة ابْن الزبير.
هذا حديث أخرجه الستة.
وعند مسلم: أعتق رجل من بني عُذْرَة فبلغ ذلك النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
«لك مال غيره؟» قال لا. فقال: «من يشتريه مني؟» فاشتراه نعيم بثمان مئة درهم. فقال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك
فإن فضل شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول بين يديك وعن
يمينك وعن شمالك».
وفي لفظ: أن رجلاً من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غُلَاماً عَن دبر يُقَال
لَهُ يَعْقُوب.
وعند أبي داود: «أنت أحق بثمنه والله غنى عنه» وباعه بسبع مئة أو تسع مئة درهم.
وعند النسائي: وكان محتاجاً وعليه دين فذكر ذلك لرسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فباعه وأعطاه ثمنه فقال: «اقض دينك».
وفي لفظ: «أنفقها على عيالك فإنما الصدقة عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول».
وفي لفظ: «من يشتريه؟ من يشتريه؟»، وفيه: «إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه».
اختلف العلماء هل المدبر يباع أم لا؟
فذهب أبو حنيفة ومالك وجماعة
(1/145)
من
أهل الكوفة إلى أنه ليس للسيد أن يبيع [مدبره، قال] أبو حنيفة إن مات سيده ولم
يخرج من الثلث سعى في فكاك رقبته وإن مات سيده وعليه دين فبيع للغرماء سعى لهم
وخرج حراً.
وأجازه الشافعي وأحمد وأهل الظاهر وأبو ثور وإسحاق، وهو قول عائشة ومجاهد والحسن
وطاوس، وباعت عائشة مدبرة لها سحرتها.
وكرهه ابن عمر وزيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين وابن المسيب والزهري والشعبي والنخعي
وابن أبي ليلى والليث بن سعد.
وعن الأوزاعي: لا يباع إلا من رجل يريد عتقه.
وجوز أحمد بيعه بشرط أن يكون على السيد دين.
وعن مالك يجوز بيعه عند الموت، ولا يجوز في حال الحياة، كذا ذكره ابن الجوزي عنه.
وحكى مالك إجماع أهل المدينة على بيع المدبر وهبته.
استدل من أجاز بيعه بحديث جابر، قال ابن بطال: ولا حجة فيه لأن في الحديث أن سيده
كان عليه دين فثبت أن بيعه كان لذلك؛ لأنها قضية عين تحتمل التأويل، وتأوله بعض
المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه. انتهى.
قد أسلفنا هذا في متن الحديث قبل، فلا حاجة إلى التأويل.
وأما ما روي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «المدبر لا يباع ولا يشترى
وهو جزء من الثلث» فذكره ابن جرير من حديث ابن عمر ووهاه.
قال وروي عن أبي جعفر محمد بن علي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرسلاً، أنه
باع خدمة المدبر، وعن جابر أن أولاد سيد المدبر الذي باعه النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم كان سفيهاً، فلذلك تولى بيعه بنفسه.
المدبرة إذا مات سيدها ما نراهم إلا أحراراً، وولدها كذلك.
وعن ابن شهاب وربيعة أن عائشة باعت مدبرة، فأنكر ذلك عمر وأمرها أن تشتري
غيرها بثمنها وتدبرها.
ومن قال المدبر لا يباع فيما ذكر في «المصنف»: شريح وزيد بن ثابت وابن المسيب
وسالم والشعبي والحسن ومحمد وابن عمر بأسانيد لا بأس بها.
قال ابن سيرين: لا بأس ببيع خدمة المدبر، وكذا قاله ابن المسيب.
(1/146)
وقال
ابن بطال: وقد قيل إن سيد المدبر الذي باعه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان
سفيهاً، فلذلك تولى بيعه بنفسه، وبيع المدبر عند من يجوزه لا يفتقر فيه إلى بيع
الإمام وهذا الحديث أصل في أن أفعال السفيه مردودة. انتهى.
وهذا هو الذي فهمه البخاري إذ بوَّب عليه أيضاً: «باب من باع مال المفلس والمعدم
وقسمه بين الغرماء».
قال ابن بطال: وجمهور العلماء على أن ولد المدبرة الذين تلدهم بعد التدبير
بمنزلتها يعتقون بموت سيدها، فإذا سرى التدبير في الولد، فلأن يلزم في الأم بطريق
الأولى.
قال ابن التين: قال بعض العلماء: لا يجوز لأحد أن يخلع من جميع ماله لهذا الحديث؛
ولحديث كعب بن مالك وسعد بن مالك.
وأجمع المسلمون على صحة التدبير، ومذهب الشافعي ومالك في آخرين أنه يحسب عتقه من
الثلث.
وقال الليث وزفر: من رأس المال.
وذكر ابن رشد: أن جمهور العلماء يجوِّز وطء المدبرة إلا ابن شهاب فإنه منعه.
وعن الأوزاعي كراهته إن لم يكن وطئها قبل التدبير.
وقال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث بيع المزايدة، والمزايدة أن يعطي به واحد
ثمناً ثم يعطي غيره زيادة فيقبلها. انتهى
كأن البخاري أراد بالترجمة ما حكاه عن عطاء، وما قدمناه من حديث أنس في المزايدة
ليست من شرط البخاري، والله تعالى أعلم.
باب النَّجْشِ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ البَيْعُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى: النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ.
وقال البخاري: وَهْوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ، لَا يَحِلُّ. قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «الخَدِيعَةُ فِي النَّارِ».
هذا حديث خرجه أبو داود في سننه بسند لا بأس به.
قال البخاري:
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهْوَ رَدّ».
هذا التعليق خرجه البخاري في صحيحه مسنداً.
(1/147)
2142
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ النَّجْشِ».
[خ 2142]
وقال أبو عمر: رواه أبو سعيد إسماعيل بن محمد قاضي المدائن، عن يحيى بن موسى
البلخي، أخبرنا عبد الله بن نافع، عن مالك عن نافع عن ابن عمر: «نهى رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن التخيير»، والتخيير أن يمدح الرجل السلعة بما ليس
فيها، هكذا قال التخيير وفسره، ولم يتابع على هذا اللفظ، والمعروف النجش.
قال الشافعي: النجش أن يحضر الرجل السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها
ليقتدي به السُّوَّام فيعطوا بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يعلموا سومه فهو عاص
إن كان عالماً بنهي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والبيع جائز لا يفسده معصية
رجل نجش عليه.
قال أبو عمر: والنجش أيضًا أن يفعل ذلك ليغر الناس في مصلحته، والمشتري لا يعرف
أنه ربها.
وأصل النجش: الاستثارة، وسمي الناجش ناجشاً لأنه يلبس الرغبة في السلعة ويرفع
ثمنها وهذا التناجش، ينجش نجشاً.
وفي «الزاهر»: أصل النجش مدح الشيء وإطراؤه.
وفي «الغريبين»: النجش: تنفير الناس عن الشيء إلى غيره.
وفي «الجامع»: أصله من الختل، يقال: نجش الرجل إذا ختل.
وفي «المغرب» للمطرزي: النجش بفتحتين، وروي بالسكون.
وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع لازم ولا خيار.
وعن مالك له الخيار إذا علم وهو عيب من العيوب [كما في المصراة].
وقال أهل الظاهر: [البيع] باطل مردود على بائعه إذا ثبت ذلك عليه.
وكأن البخاري يذهب إلى قولهم.
وحديث أبي هريرة تقدم.
باب بَيْعِ الغَرَرِ وَحَبَلِ الحَبَلَةِ
(1/148)
2143
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عَنْ بَيْعِ
حَبَلِ الحَبَلَةِ»، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، كَانَ
الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، الَّذِي فِي
بَطْنِهَا. [خ 2143]
وفي لفظ: «كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم عنه».
وعند مسلم: «كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة».
وكأن البخاري فهم من بيع حبل الحبلة الغرر فلهذا بوب عليه، والحديث الذي فيه الغرر
صريحاً لم يذكره، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر».
وفي كتاب «البيوع» لأحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل زيادة: «نهى عن المضامين
والملاقيح وحبل الحبلة».
وفي «صحيح ابن حبان» عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن
بيع الغرر».
عند أحمد بسند لا بأس به عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر».
قال أحمد فيما ذكره حنبل: لم يرفعه عن زيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع غير ابن
سماك، اضرب عليه من مكانك. وحدثنا هشيم فلم يرفعه جعله من قول ابن مسعود.
وعن عمران بن حصين: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن بيع ما في ضروع
الشاة قبل أن تحلب وعن بيع الجنين في بطون الأنعام وعن بيع السمك في الماء وعن بيع
المضامين يعني الغيَّب والملاقيح وحبل الحبلة وعن بيع الغرر» رواه ابن أبي عاصم في
كتاب «البيوع».
وعن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بيع الغرر»، رواه
ابن ماجه بسند ضعيف، وقال أحمد: هو حديث منكر.
(1/149)
وعند
الدارقطني: «نهى أن يباع تمر حتى يطعم أو صوف على ظهر أو لبن في ضرع أو سمن في
لبن».
وعن شهر بن حوشب عن أبي سعيد: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شراء ما
في بطون الأنعام حتى تضع وعن ما في ضروعها إلا بكيل وعن شراء [العبد وهو آبق وعن
شراء المغانم حتى تقسم] وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة القانص».
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب.
قال أبو عمر بن عبد البر: جاء تفسير هذا الحديث يعني حديث ابن عمر -كما ترى- سياقه
وإن لم يكن مرفوعاً فهو من قول ابن عمر وحسبك. وبهذا التأويل قال مالك والشافعي،
وهو الأجل المجهول، ولا خلاف بين العلماء أنَّ المبيع إلى هذا من الأجل لا يجوز.
وقال آخرون في تأويل الحديث: معناه: بيع ولد الجنين الذي في بطن الناقة.
قال أبو عبيد: هو نتاج النتاج، وبهذا قال أحمد وإسحاق.
وهذا البيع أيضا مجمع على أنه لا يجوز [ولا يحل] لأنه بيع غرر ومجهول، وبيع ما لم
يُخلق. وذلك لا يجوز في بيوع المسلمين، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث جعل التفسير عن عبد الله لقول أبي بكر في كتاب «الفصل للوصل
المدرج في النقل»: تفسير حبل الحبلة ليس من كلام عبد الله بن عمر، وإنما هو من
كلام نافع أدرج في الحديث، رواه أبو سلمة موسى بن إسماعيل التّبُوْذَكي، عن جويرية
مبيناً مفصلاً أخبرنا الحسن بن أبي بكر أخبرنا أبو سهل القطان حدثنا عبد الكريم بن
الهيثم التبوذكي حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله أن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون
الجزور إلى حبل الحبلى وأن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن ذلك.
و (حَبَل الحَبَلَةِ): أن تنتج الناقة ما في بطنها وينتج الذي في بطنها فسر ذلك
نافع.
وقوله: هو بيع ولد الجنين الذي في بطن الناقة هو التفسير الأول سواء فلا حاجة كانت
به إلى ذكره.
وذكر ابن السكيت وأبو عبيد ولم أره لغيرهما من القدماء أن الحبل مختص بالآدميات،
وإنما يقال في غيرهن الحمل.
(1/150)
قال
ابن السكيت: إلَّا في حديث «نهى عن بيع حبل الحبلة» وذلك أن يكون الإبل حوامل
فيبيع حبل ذلك الحبل، انتهى.
وفي «المحكم»: كل ذات ظفر حبل.
قال الشاعر:
أو ذِيخَة حُبْلى مُجِحٍّ مُقْرِب
ونقله الجوهري عن أبي زيد.
وقال ابن دريد: يُقال لكل أنثى من الإنس وغيرهم: حبلت. وكذا ذكره الهجري والأخفش
في نوادرهما.
وفي «الجامع»: امرأة حبلى، وسنورة حبلى. وأنشد:
إن في دارنا ثلاث حبالى ... فوددنا أن لو وضعن جميعا
جارتي ثم هرتي ثم شاتي ... فإذا ما وضعن كن ربيعا
جارتي للمخيض والهر للفار ... وشاتي إذا اشتهيت مجيعا
حكاه في «الموعب» عن صاحب «العين» والكسائي.
ومعنى حبل الحبلة: حمل الكَرْمة قبل أن تبلغ، جعل حملها قبل أن تبلغ حبلاً، وهذا
كما نهى عن بيع ثمر النخل قبل أن يزهي.
قال: وقيل: هو أن يباع ما يكون في بطن الناقة، انتهى.
وهذا يرد قول النووي لقول أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات.
وفي «الغريبين»: الحبل يراد به ما في بطون النوق وأدخلت فيها الهاء للمبالغة، كما
تقول نَكَحَة وسَحَرَة.
قال صاحب «مجمع الغرائب»: ليس الهاء في الحبلة على قياس نَكَحَة، ولا مبالغة ههنا
في المعنى، ولعل الهروي طلب لزيادة الهاء وجهاً، فأطلق ذلك من غير تثبت، والله
تعالى أعلم.
وفي «المغرب» للمطرزي: حبل الحبلة مصدر حبلت المرأة، وإنما أدخلت التاء لإشعار
الأنوثة لأن معناه أن يبيع ما سوف تحمله الجنين إن كان أنثى، انتهى.
و (حَبَل الحَبَلَةِ): بفتحهما قال النووي حكي إسكان الباء في الأول، وهو غلط
والصواب الفتح.
وأمَّا (الغَرَرِ): فزعم ابن بطال أنَّه هو ما يجوز أن يوجد وألا يوجد، وكل شيء لا
يعلم المشتري هل يحصل له أم لا فشراؤه غير جائز، لأنه غرر.
قال ابن الأثير: هو ما كان على غير عهدة ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط
بكنهها المتبايعان من كل مجهول.
باب بَيْعِ المُلاَمَسَةِ
(1/151)
وَقَالَ
أَنَسٌ: نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
هذا التعليق خرجه البخاري في باب: «بيع المخاضرة» مسنداً بلفظ: «نهى رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن المحاقلة، والمخاضرة، والملامسة، والمنابذة،
والمزابنة».
والمخاضرة: بيع التمر خضراً لم يبد صلاحها.
وزعم ابن حزم أن بيع ذلك من المغيبات وشبهها جائز، يتصرف المرء في ملكه بما شاء،
والتسليم ليس شرطاً في صحة البيع، فإن قالوا: نهى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
عن بيع الغرر، قلنا: ليس هذا بغرر؛ لأنه بيع شيء قد صح في ملك بائعه وهو معلوم
الصفة والقدر، فعلى ذلك يباع ويملكه المشتري.
قلنا: ليس هذا بالغرر ملكاً صحيحاً، فإن وجده وإلا اعتاض منه الآخر.
وذكر أيضاً من حديث أبي هريرة يرفعه: «نهى عن المنابذة والملامسة».
2144 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي
عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَا
سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهَى عَنِ
المُنَابَذَةِ، وَهْيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ
قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَنَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ،
وَالمُلاَمَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ». [خ 2144]
وفي لفظ:
2145 - «نُهِيَ عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: المُلامَسَةِ
وَالمُنَابَذَةِ». [خ 2145]
وعند مالك عن داود عن أبي سفيان عنه: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى
عن المحاقلة والمزابنة»، والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل، والمحاقلة
كراء الأرض بالحنطة.
وفي كتاب الطَّرْقي: فسر بعضهم الملامسة في حديث أبي هريرة المذكور في كتاب الصلاة
وهو أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر أحدهما إلى ثوب الآخر ولكن
يلمسه لمساً.
(1/152)
وقيل:
أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام، فيقول له صاحبه: بعتك هذا بشرط أن
يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته. أو يجعل نفس اللمس بيعاً فيقول إذا
لمسته فهو مبيع لك أو يبيعه متاعاً على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس، وغيره.
قال النووي: وهذا البيع باطل على هذه التأويلات كلها، والله أعلم.
والمنابذة: هو أن يقول أنبذ ما معي وتنبذ ما معك يشتري أحدهما من الآخر، ولا يدري
كل واحد منهما كم مع الآخر.
وقيل: أن يجعل النبذ نفس البيع، وهو تأويل الشافعي.
وقيل: يقول: بعتك، فإذا نبذته إليك فقد انقطع الخيار، ولزم البيع.
وقيل: المراد نبذ الحصاة، ونبذ الحصاة هو أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت
عليه الحصاة التي أرميها، أو: بعتك من هذه الأرض ما انتهت إليه الحصاة، أو يقول:
بعتك بأنك بالخيار إلى أن أرمي هذه الحصاة، أو يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعاً،
فيقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيع منك بكذا.
وهذان البيعان عند جماعة العلماء من بيع الغرر
والقمار لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه ولا علم صفته.
ومن هذا بيع الشيء الغائب على الصفة فإن وجد كما وصف لزم المشتري ولا خيار له إذا
رآه، وإن كان على غير الصفة فله الخيار، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق، وهو مروي عن
ابن سيرين وأيوب والحارث العُكْلي والحكم وحماد. ذكره ابن حزم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز بيع الغائب على الصفة وغير الصفة، وللمشتري خيار
الرؤية، وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس والنخعي والشعبي والحسن البصري ومكحول وهو قول
الأوزاعي وسفيان، كأنهم استندوا إلى ما رواه الدارقطني عن أبي هريرة بسند ضعيف
يرفعه: «من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه».
والمحاقلة: قيل هي بيع الزرع في سنبله بمقدار من الغلة معلوم.
(1/153)
وقال
أبو عبيد: مأخوذ من الحقل، وهو الذي يسميه الناس: القراح بالعراق. وفي الحديث: «ما
تصنعون بمحاقلكم؟» أي: بمزارعكم. وتقول للرجل: احقل، أي: ازرع.
وإنما وقع الحظر في المحاقلة والمزابنة لأنهما من الكيل، وليس يجوز شيء من الكيل
والوزن إذا كانا من جنس واحد إلا يداً بيد، ومثلا بمثل، وهذا مجهول لا يدرى أيهما
أكثر.
وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن يغلظ سوقه.
قال: فإن كانت المحاقلة مأخوذة من هذا فهو ببيع الزرع قبل إدراكه.
قال: والحقلة المزرعة، وقيل: لا يثبت البقلة إلا الحقلة.
وقيل: بيع الزرع قبل أن يطيب.
وقيل: هو حقل ما دام أخضر.
وقيل: هي المزارعة بالثلث والربع أو نحوه مما يخرج منها، فيكون كالمخابرة. انتهى.
يرد هذا ما رواه جابر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن المخابرة
والمحاقلة» والمحاقلة: أن يبيع الرجل الزرع بما به فرق حنطة والمخابرة كراء الرض
بالثلث والربع.
قال ابن جريج: فقلت لعطاء: أَفسَّرَ لكم جابر في المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم.
والمزابنة: أن يبيع الرجل التمر في رؤوس النخل بمئة فرق.
فهذا يوضح لك أن المخابرة غير المحاقلة، وزعم الشافعي أن تفسير
المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن تكون عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
منصوصاً، ويحتمل أن يكون عن رواية من دونه، والمحاقلة في الزرع كالمزابنة،
والمخابرة هي المزارعة على الجزء والخبرة بالضم هو النصيب.
قال ابن قرقول: سميت زمن خيبر لمعاملة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إياهم على
الجزء من ثمارها فقيل: خابرهم، ثم تنازعوا فنهوا عنها ثم جازت بعد. هذا قول ابن
الأعرابي وغيره يأباه.
وقيل: إنها لفظة مستعملة، والأكار: يقال له الخبير لعلمه في الأرض.
وقيل: مشتقة من الخبار وهي الأرض اللينة.
وقال ابن الأنباري: مأخوذة من خيبر؛ لأن أول هذه المعاملة كان فيها.
(1/154)
وقال
ابن عبد البر: أقل أحوال هذا التفسير إن لم يكن مرفوعاً فهو من قول أبي سعيد
الخدري، وقد أجمعوا أن من روى شيئاً وعلم مخرجه سلم له تأويله؛ لأنه فهم مخرج
القول فيه فهو أعلم به.
وقد جاء تفسير المزابنة عن ابن عمر وجابر المذكورين في الصحيح وحديث ابن عمر
والمزابنة: اشتراء التمر بالتمر كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا.
وفي لفظ: والمزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، أو زبيب إن
كان كرماً أو حنطة إن كان زرعاً.
وقال سفيان: المخابرة كراء الأرض بالحنطة، والمزابنة بيع ما في رؤوس النخل بالتمر،
والمحاقلة: بيع السنبل من الزرع بالحب المصفى.
المنابذة تقدم.
باب النَّهْىِ لِلْبَائِعِ أَنْ لَا يُحَفِّلَ الإِبِلَ وَالغَنَمَ وَالبَقَرَ
وَكُلَّ مُحَفَّلَةٍ
وَالمُصَرَّاةُ التِي صُرِّيَ لَبَنُهَا وَحُقِنَ فِيهِ، وَجُمِعَ فَلَمْ تُحْلَبْ
أَيَّامًا. وَأَصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ المَاءِ، يُقَالُ منه: صَرَّيْتُ
المَاءَ إِذَا حَبَسْتَهُ.
المحفلة: هي المصراة، مأخوذ من حفل الناس، واحتفلوا: أي اجتمعوا وكثروا، وكل شيء
كثرته فقد حفلته، ولما كانت التصرية في الإبل والغنم والبقر يؤخر صاحبها حلبها
أياماً حتى يجتمع لبنها في
ضرعها، فإذا جاء من يطلبها يحسبها غزيرة اللبن فيزيد في ثمنها، ثم يظهر له بعد ذلك
نقص لبنها عن أيام تحفُّلها.
وفي «المحكم»: حَفَلَ اللَّبنُ فِي الضَّرْع يَحْفِلُ حَفْلًا وحُفُولًا
وتَحَفَّلَ واحْتَفَلَ: اجْتَمَعَ؛ وحَفَلَه هُوَ وحَفَّلَه، وضَرْع حَافِل،
والجمع حُفَّل، وناقة حَافِلَة وحَفُول، وحَفَل الشيء يَحْفِلُه حَفْلاً
والتَّحَفُّل التزين وكذلك التَّحْفِيْل.
قال: وصَرِيَت الناقة، وصَرَت وأَصْرَت: تحفَّل لبنها في ضرعها، وصَرَيْت الناقة
وغيرها من ذوات اللبن، وصَرَّيتها وأَصْرَيْتُها: حفَّلْتها. وناقة صَرْيَاء:
مُحَفَّلة، وجمعها: صَرَايَا، على غير قياس.
(1/155)
2148
- حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ
فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بعد أَنْ يَحْلِبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ،
وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ». [خ 2148]
هذا خرجه الستة في كتبهم، ولما ذكر ابن حزم الذين رووه عن الأعرج والذين رووه عن
أبي هريرة قال: هؤلاء الأئمة الأثبات الثقات رواه عنهم من لا يحصيهم إلا الله جل
وعز فصار نقل كأنه متواتر لا يرده إلا محروم غير موفق.
وقال البخاري:
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَمُوسَى
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صَاعَ
تَمْرٍ».
التعليق عن أبي صالح رواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن سهيل
عن أبيه أبي صالح فذكره.
وخرج أيضاً التعليق عن موسى بن يسار، عن القعنبي عن داود بن قيس عن موسى بن يسار
عن أبي هريرة فذكره.
والذي علقه عن مجاهد لم أر إلا ما في «مسند البزار»: حدثنا محمد بن موسى القطان
حدثنا عمر بن لبان حدثنا محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عنه عن أبي هريرة، الحديث،
وفيه: «من ابتاع مصراة فله أن يردها وصاعاً من طعام».
وقال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي
هريرة إلا محمد بن مسلم، ورواه عن محمد بن مسلم عمران وأبو حذيفة.
والتعليق عن الوليد بن رباح رواه ... .
وقال البخاري:
وَقَالَ بَعْضُهُمْ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ».
هذا التعليق رواه مسلم عن العقدي عن قرة عنه عن أبي هريرة وفيه: «وهو بالخيار
ثلاثة أيام»، وفيه: «صاعا من طعام لا سمراء».
قال البيهقي: المراد بالطعام هنا التمر لقوله: «لا سمراء».
(1/156)
وكذا
رواه عوف عن الحسن مرسلاً وفيه: «إناء من طعام أو يأخذها».
قال: ورواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أنس مرفوعاً وفيه: «صاعاً من تمر».
وفي حديث عوف عن ابن سيرين عن أبي هريرة: «هو بالخيار إن شاء ردها وإناء من طعام».
قال البخاري:
وَقَالَ بَعْضُهُمْ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: «صَاعًا مِنْ تَمْرٍ». وَلَمْ يَذْكُرْ
ثَلاَثًا.
هذا التعليق رواه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان عن أيوب عن محمد فذكره.
ورواه البيهقي من طريق يزيد بن هارون حدثنا هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ: «من
اشترى مصراة فردها فليرد معها صاعا من تمر لا سمراء».
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد عن أبي أسامة عن هشام بن حسان
عن محمد وفيه: «وهو بالخيار ثلاثة أيام وقال صاعا من تمر لا سمراء» يعني الحنطة
قال البخاري: وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ.
وذكر البخاري في حديث الأعرج عن أبي هُرَيْرَةَ: «ولاَ تُصَرُّوا الغَنَمَ، ومَنِ
ابْتَاعَهَا فهو بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا: إن رضيها
أمسكها، وإن سخطها رَدَّهَا وَصَاعَاً من تَمْرٍ». [خ 2148]
وفي لفظ: «ففي حلبتها صاع من تمر»
وفي حديث المعتمر: حدثنا أبي، حدثنا أبو عثمان عن ابن مسعود: «من اشترى شاة محفلة
فردها فليرد معها صاعاً من تمر».
أن تلقى البيوع.
قال الإسماعيلي: حديث المحفلة من قول ابن مسعود، وقد رفعه أبو خالد الأحمر، عن
التيمي، أخبرنا به القاسم حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد فذكره.
قال: ورواه ابن المبارك ويحيى بن سعيد وابن أبي عدي ويزيد بن زريع وقاسم وجرير
وغيرهم موقوفًا على ابن مسعود. حديث المحفلة.
قال: وقرأت على عمران بن موسى عن ... عن عبيد الله بن معاذ حدثنا المعتمر، قال
قال: أبي أخبرنا أبو عثمان، عن عبد الله قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من
اشترى شاة محفلة فردها، فليرد معها صاعًا من تمر».
(1/157)
وفي
«سنن سعيد بن منصور» عن فليح عن أيوب عن عبد الرحمن عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي
هريرة يرفعه: «من اشترى شاة مصراة فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وصاعاً من لبن».
وفي «المصنف» لابن أبي شيبة من حديث ابن أبي كثير، عن أبي كثير عن أبي هريرة
يرفعه: «إذا باع أحدكم اللقحة أو الشاة فلا يحفلها».
أخبرنا أبو الأحوص عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه: «لا تستقبلوا ولا تحفلوا»، وقال
قيس بن أبي حازم كان يقال: التصرية خلابة.
وعند ابن ماجه من حديث المسعودي عن جابر، عن أبي الضحى، عن مسروق عن ابن مسعود أنه
قال: أشهد على الصادق المصدوق أبي القاسم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «بيع
المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم».
وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي الضحى إلَّا من حديث جابر الجعفي.
وعنده أيضاً من حيث جميع بن عمير - وفيه كلام شديد - عن ابن عمر قال رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد
معها مثل أو مثلي لبنها قمحا».
قال ابن قدامة: هذا حديث مطرح الظاهر بالاتفاق؛ إذ لا قائل به مع شك الراوي أيضا
ومخالفة الأحاديث الصحاح.
وعند البيهقي من حديث شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنه نهى أن
يتلقى الجلَّاب وأن يبيع حاضر لباد ومن اشترى مصراة فهو بخير النظرين فإن حلبها
ورضيها أمسكها وإن ردها رد معها صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر».
قال البيهقي يحتمل أن يكون هذا الشك من بعض الرواة لا
أنه على وجه التخيير ليكون موافقاً للأحاديث الفائتة في هذا الباب.
ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» فذكر المصراة عن وكيع حدثنا شعبة عن الحكم وفيه:
«صاعا من تمر أو صاعا من طعام» فلا حاجة إذاً إلى ما ذكره البيهقي، ولا التفات إلى
من قال: هو مضطرب، كما سيأتي.
(1/158)
قوله:
(لا تُصَرُّوا) كذا هو مضبوط بضم التاء وفتح الصاد، وضم الراء المشددة بعدها واو
الجمع.
و (الإِبِلَ): بالنصب، قال القرطبي نحو: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:
32] وهو الصحيح تقييدًا ولغة.
قال: وقد قيده بعضهم: «لا تَصُرُّوا الإبلَ» بفتح التاء، وضم الصاد، ونصب
«الإبلَ». وبعضهم: بضم التاء وفتح الصاد، ورفع «الإبلُ» والأول هو الصحيح.
قال ووجهه: أنها مأخوذة من: صَرَّيت اللبن في الضَّرع: إذا جمعته. وليست من الصَّر
الذي هو الربط، ولو كان من ذلك لقيل فيها: مُصَرورة. وإنما جاء: مصراة. وإلى معناه
ذهب أبو عبيد وغيره.
وعلى هذا: فأصل «تُصَروا الإبل»: تصريوا، استثقلت الضمَّة على الياء، فنقلت إلى ما
قبلها؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضمومًا فانقلبت الياء واواً، فاجتمع
ساكنان، فحذفت الواو الأولى، وبقيت واو الجمع.
و (الإبلَ): ينصب على أنه مفعول (تُصَرُّوا). هذا أحسن ما قيل في هذا، وأجراه على
القياس.
وقال النووي: يحتمل أنْ يكون أصل المصراة مُصَرَّرة، أُبدلت إحدى الراءين، كقوله
تعالى: {دَسَّاهَا} [الشمس: 10] أي: دسسها، كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس، قال:
ويحتمل أن يكون أصلها مصرورة، فأبدل من إحدى الراءين ياءً، كما قالوا: تَقَضِّيَ
البازي.
ومعنى التصرية عند الفقهاء: أن يجتمع اللبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم
الضرع.
وعند الشافعي: هو أن يربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها.
قال الخطابي: وقول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح.
والتصرية حرام سواء تصرية الناقة والشاة والجارية والأتان والفرس لأنه غش وخداع
وبيعها صحيح مع أنه حرام، وللمشتري
الخيار في إمساكها وردها.
قال الأصحاب في خيار المشتري لها: هل هو على الفور وبعد العلم؟ أو ممتد ثلاثة أيام
لظاهر الأحاديث؟
(1/159)
والأصح
عندهم أنه على الفور، ويحملون التقييد بثلاثة لأن الغالب أنه لا يعلم فيما دون
ذلك، وإذا ردها رد معها صاعاً من تمر سواء كان اللبن قليلا أو كثيرا، سواء كانت
ناقة أو بقرة أو شاة، وهذا مذهب الشافعي ومالك في رواية عنه والليث وابن أبي ليلى
وأبي يوسف وأبي ثور، وفقهاء المحدثين.
وقال بعض أصحاب الشافعي يرد صاعاً من قوت البلد ولا يختص بالتمر.
وقال أبو حنيفة، وطائفة من أهل العراق، وبعض المالكية، ومالك في رواية عنه غريبة،
يردها ولا يرد صاعًا من تمر، لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئا لغيره رد مثله إن كان
مثلياً وإلا فقيمته وأما جنس آخر من العروض فخلاف الأصول.
وعن القرطبي لم يأخذ به أبو حنيفة والكوفيون ومالك وابن أبي ليلى في رواية.
قال أبو حنيفة ومحمد: التصرية ليس بعيب، ولا يردّ به. وحكي عن أبي حنيفة: أنه يرجع
بأرش التصرية.
ولهذا الخلاف سببان:
أحدهما: أن هذا الحديث يعارضه قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في: «الخراج بالضمان».
المخرج عند الترمذي مصححاً من حديث لابن عباس.
وعند الحاكم صحيحاً من حديث الزنجي عن هشام عن أبيه عن عائشة مثله، ثم قال: رواه
ابن أبي ذئب عن مخلد عن عروة عنها مختصراً، قال: وفي حديث عاصم بن علي بسنده عن
عائشة: «قضى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن الخراج بالضمان».
رواية الثوري أخبرناه [أبو] بكر الصيرفي، حدثنا عبد الصمد بن الفضل حدثنا قبيصة بن
عقبة عنه.
ورواه أيضا ابن المبارك ويحيى بن سعيد.
وقال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الخراج بالضمان قلت: هشام بن عروة رواه؟ قال:
لم يروه إلا مسلم بن خالد.
وقال مهنا عن [حماد بن سلمة فحدث به] عن هشام عن أمه، عن عائشة: «الخراج بالضمان».
[لا وإنما المتحدث] به ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن
عروة عن عائشة.
وقال: كان إذا جاؤوه بهذا الحديث في كتاب حدث به، عن ابن أبي ذئب وإذا سألوه عنه
يحدث به، وما أدري لهذا الحديث أصلاً.
(1/160)
وأخرج
الترمذي هذا الحديث عن أبي سلمة ويحيى بن خلف حدثنا عمر بن علي عن هشام. قال: حديث
حسن صحيح غريب من حديث هشام.
واستغربه محمد بن إسماعيل من حديث عمر بن علي، ورواه جرير عن هشام أيضاً.
وحديث جرير يقال تدليس، ذكر فيه جرير ولم يسمعه من هشام، ولما ذكر حديث ابن خفاف
حسنه.
وقال في «العلل»: قال محمد: لا أعلم لمخلد غير هذا الحديث وهو حديث منكر. قلت:
فحديث هشام؟ قال: إنما رواه الزنجي وهو ذاهب الحديث. قلت: قد رواه عمر بن علي عن
هشام، فلم يعرفه من حديث عمر. فقلت: ترى أن عمر ذكر فيه، فقال: لا أعرف عمر بن
علي. قلت له: رواه جرير عن هشام؟ فقال: قال محمد بن حميد: إن جريراً روى هذا في
المناظرة ولا يدرون له فيه سماعاً. وضعف محمد حديث هشام في هذا الباب.
وخرج ابن حبان حديث مخلد في «صحيحه»، وقال أبو علي الطوسي: يقال هذا حديث صحيح
غريب.
وقال ابن حزم: هذا خبر فاسد.
وقال ابن القطان قال المنتجالي: مخلد ثقة.
قال: فالحديث على هذا صحيح، ووجه ذلك أن مشتري المصراة ضامن لها لو هلكت عنده
واللبن غلة فيكون له.
الثاني: أنه معارض لأصول شرعية وقواعد كلية:
أحدها: أن اللبن مما يضمن بالمثل، والتمر ليس بمثل.
الثاني: أنه لما عدل عن المثل إلى غيره فقد نحا به نحو المبايعة، فهو: بيع الطعام
[بالطعام غير يد بيد، وهو الرِّبا.
الثالث: أن الصَّاع] المقابل [للَّبن محدودٌ]، واللَّبن ليس بمحدود، [فإنَّه
يختلف] بالكثرة والقلَّة.
الرابع: أن اللبن غلَّة، فيكون للمشتري كسائر المنافع، فإنها لا تردُّ في الردّ
بالعيب ولما كان ذلك، فالحديث وإن كان صحيحًا؛ فهو منسوخ بقوله: «الخراج بالضمان»،
وإما مرجوح بما ذكروا من القواعد المخالفة، فإنها قواعد كلية.
قال ابن عبد البر: قال مالك: أو لأحد في الأخذ بهذا الحديث رأي.
(1/161)
قال
ابن القاسم: وأنا آخذ به؛ إلا أن مالكاً قال لي: أرى أهل البلدان إذا نزل بهم هذا
أن يعطوا الصاع من عيشهم. قال: وأهل مصر عيشهم الحنطة.
وزعم أبو حنيفة أنه كان قبل تحريم الربا.
وروى أشهب عن مالك نحو ذلك أنه سئل عن هذا الحديث فقال: سمعت ذلك وليس بالثابت ولا
الموطَّأ عليه. قيل له: نراك تضعف الحديث. قال: كل شيء يوضع موضعه وليس بالموطأ
ولا الثابت وقد سمعته.
قال: واعتلوا في جواز دعوى النسخ في ذلك قالوا: كما نسخت العقوبات بالغرامات. ولم
يجعلوا حديث المصراة أصلًا يقيسون عليه ولد الجارية إذا ولدت عند المشتري ثم اطلع
على عيب لأنهم اختلفوا في ذلك: فقال مالك: يردها وولدها على البائع.
وقال الشافعي: يحبس الولد لنفسه لأنه حدث في ملكه، قالوا: ومعلوم أن في لبن
المصراة جزءاً حادثاً في ملك المشتري في الحلبة الأولى لأن اللبن يحدث بالساعات
فقد أثر في هذا الحديث برد ما حدث من ذلك في ملك المبتاع وهذا يعارضه حديث الخراج
فلهذا لم يجعلوا هذا الحديث أصلاً يقيسون عليه يعني المصراة.
قال أبو عمر: وقيل نسخه {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ} [النحل: 126] قالوا: ولا يجب فيمن استهلك لأحد شيئاً إلا مثله أو قيمته
ومنهم من قال: نسخه الخراج بالضمان والكالئ بالكالئ.
وقال: نسخت كما نسخت العقوبات في الغرامات بأكثر من المثل ... تؤخذ منه ... التمر
من غير ... غرامة مثله.
قال ابن التين ومن جملة ما [ردوا به] حديث المصراة بالاضطراب قال: مرة صاعاً من
تمر ومرة صاعاً من طعام ومرة مثل أو مثلي
لبنها قمحاً.
وأيضاً: إن الحديث وإن وقع بنقل العدل الضابط عن مثله إلى قائلة لا بد في اعتباره
أن يكون غير شاذ ولا معلول، واختلف الناس في التعليل:
(1/162)
فأبو
حنيفة اعتبر أن مخالفته عموم الكتاب والسنن المشهورة علة في التوقف عن العمل بظاهر
الحديث، وهذا الحديث كما ترى يعارضه قوله جل وعز: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وبحديث الخراج ونحوه من أدلة إيجاب
المثل الكامل أو الناقص.
وقال الطحاوي: قال محمد بن شجاع: نسخه حديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فلما
قطع صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالفرقة الخيار ثبت بذلك ألا خيار لأحد بعد هذا إلا
لمن استثناه سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا وهو قوله لا بيع
الخيار.
قال الطحاوي: وهذا عندي فاسد لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب
وخيار العيب لا تقطعه الفرقة.
وقال عيسى بن أبان: كان ذلك في أول الإسلام حيث كانت العقوبات في الديون حتى نسخ
الله الربا فردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها.
وقال ابن حزم: صح عن ابن مسعود من اشترى محفلة فليرد معها صاعا من تمر. وصح أيضا
عن أبي هريرة من فتياه ولا مخالف لهما من الصحابة في ذلك.
وعن زفر: يردها وصاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو نصف صاع من برٍّ.
وقال ابن أبي ليلى في أحد قوليه وأبو يوسف: يردها وقيمةَ صاعٍ من تمر.
وقال أبو حنيفة ومحمد: إن كان اللبنَ حاضرًا لم يتغيَّر ردها ورد اللبن، ولا يرد
معها صاع تمر [ولا شيئًا، وإن كان قد أكله لم يكن له ردها] لكن يرجع بقيمة العيب
فقط.
وعن داود: لا يثبت [الخيار] بتصرية البقر؛ لأنها ليست مذكورة في الحديث.
قال ابن عبد البر: واختلف المتأخرون من أصحاب
مالك في مشتري عدد من الغنم فوجدها كلها مصراة، فبعضهم قال: يرد عن كل واحدة صاعاً
من تمر، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال بعضهم: يرد عن جميعها صاعاً واحداً من تمر
أو صاعاً من عيش بلده.
(1/163)
قال
ابن قدامة: فمن اشترى مصراة من غير الأنعام كالأمة والأتان والفرس ففيه وجهان:
أحدهما يثبت له الخيار، وهو مذهب الشافعي لعموم قوله: «من اشترى مصراة ومن اشترى
محفلة»، ولأنه تصرية ما يختلف الثمن فيه فثبت الخيار لتصرية الأنعام.
الثاني: لا يثبت له الخيار.
قال ابن التين: اختلف إذا ردها - يعني المصراة - بغير عيب التصرية فعن أشهب هل يرد
الصاع معها أم لا؟
قال أبو عمر: وأما قوله: «لا تلقوا الركبان» فقد روي هذا المعنى بألفاظ مختلفة،
فرواية الأعرج عن أبي هريرة: «لا تلقوا الركبان».
وفي رواية ابن سيرين عنه: «لا تلقوا الجلب».
ورواية أبي صالح وغيره: «نهى أن تتلقى السلع حتى تدخل الأسواق».
وروى ابن عباس: «لا تستقبلوا السوق ولا يتلق بعضكم لبعض».
والمعنى واحد.
فحملة مالك على أنه لا يجوز أن يشتري أحد من الجلب والسلع الهابطة إلى الأسواق
وسواء هبطت من أطراف المصر أو من البوادي حتى يبلغ بالسلعة سوقها.
وقيل لمالك: أرأيت إن كان ذلك على رأس ستة أميال؟ فقال: لا بأس بذلك، والحيوان
وغيره في ذلك سواء.
وعن ابن القاسم: إذا تلقاها متلق واشتراها قبل أن يهبط بها إلى السوق، قال ابن
القاسم: تعرض فإن نقصت عن ذلك الثمن لزمت المشتري.
قال سحنون: وقال لي غير ابن القاسم يفسخ البيع.
وقال الليث: أكره تلقي السلع وشراءها في الطريق لو على بابك حتى تقف السلعة في
سوقها؛ وسبب ذلك [الرفق بأهل الأسواق] لئلا ينقطع بهم [عما له جلسوا] يبتغون من
فضل الله تعالى، فنهوا عن ذلك؛ لأن في ذلك إفساداً عليهم.
وقال الشافعي: رفقاً بصاحب السلعة لئلا يبخس في ثمن سلعته.
وعند أبي حنيفة: من أجل الضرر، فإن لم يضر
بالناس تلقي ذلك لضيق المعيشة، وحاجتهم إلى تلك السلعة، فلا بأس بذلك.
(1/164)
وقال
ابن حزم: لا يحل لأحد تلقي الجلب، سواء خرج لذلك أو كان ساكناً على طريق الجلاب،
وسواء بعد موضع تلقيه أو قرب، ولو أنه عن السوق على ذراع فصاعداً، لا لأصحابه ولا
لقوت ولا لغير ذلك، أضر ذلك بالناس أو لم يضر، فمن تلقى جلباً أي شيء كان فإن
الجالب بالخيار إذا دخل السوق متى ما دخله، ولو بعد أعوام في إمضاء البيع أو رده.
واحتج بحديث علي بن أبي طالب وابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود وابن عباس في النهي
عن ذلك، ثم قال: هذا نقل متواتر رواه خمسة من الصحابة وأفتى به أبو هريرة وابن عمر
ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة أجمعين، انتهى.
حديث علي رواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن عبد الملك عن أبيه عن علي ونوفل ضعيف.
بابُ بَيْع الْعَبْدِ الزَّانِي
وَقَالَ شُرَيْحٌ: إنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا.
هذا التعليق ذكره أبو ... .
2152 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ، حَدثنَا اللَّيْثُ، حدَّثني سَعِيدٌ
المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ قَالَ
النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذَا زَنَتِ الأمَةُ فتَبَيَّنَ زِناهَا
فَلْيَجْلِدْهَا ولاَ يُثَرِّبْ فإنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا ولَوْ
بِحَبْلٍ مِنْ شَعر». [خ 2152]
وفي رواية أيوب بن موسى: «فليجلدها الحد».
قال أبو عمر: لا نعلم أحدًا ذكر فيه الحد غيره.
وقال الدارقطني: رواه ابن جريج وإسماعيل بن أمية وأسامة بن يزيد وعبد الرحمن بن
إسحاق وأيوب بن موسى ومحمد بن عجلان وابن أبي ذئب وعبيد الله بن عمر العمري،
فقالوا: عن سعيد، عن أبي هريرة، لم يذكروا أبا سعيد.
وفي مسلم كذلك، وذكره البخاري في كتاب المحاربين متابعة من جهة إسماعيل ابن أمية.
قال الدارقطني: والمحفوظ حديث الليث، والله تعالى أعلم.
(1/165)
2153
- 2154 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ
وَلَمْ تُحْصِنْ قَالَ: «إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ
فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ». [خ 2153 - 2154]
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ.
هذا خرجه الستة في كتبهم.
قوله: (وَلَمْ تُحْصِنْ) قال الطحاوي: لم يقل هذِه اللفظة غير مالك بن أنس عن
الزهري.
قال أبو عمر: هي في رواية ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب، كما رواه مالك.
قال ابن عبد البر: تابع مالكًا على سند هذا الحديث يونس بن يزيد ويحيى بن سعيد،
ورواه عقيل والزبيدي وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله، عن شبل بن حامد
المزني أنَّ عبد الله بن مالك الأوسي أخبره أنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم سُئل عن الأمة، الحديث.
إلَّا أنَّ عقيلًا وحده قال: مالك بن عبد الله، وقال الآخران: عبد الله بن مالك،
وكذا قال يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن شبل بن حامد عن عبد الله بن مالك الأوسي،
فجمع الإسنادين جميعًا في هذا الحديث، وانفرد مالك بإسناد واحد.
وعند عقيل والزبيدي وابن أخي الزهري فيه أيضًا إسناد آخر عن ابن شهاب عن عبيد الله
عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئل عن الأمة
إذا زنت. الحديث.
هكذا قال ابن عيينة في هذا الحديث، جعل شبلًا مع أبي هريرة وزيد، فأخطأ وأدخل
إسناد حديث في آخر، ولم يقم حديث شبل.
قال أحمد بن زهير: سمعت يحيى يقول: شبل لم يسمع من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
شيئًا.
(1/166)
وفي
رواية: [ليست له صحبة]، يقال: شبل بن معبد، وشبل بن حامد، روى عن عبد الله بن
مالك، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال يحيى: وهذا عندي أشبه.
وقال محمد بن يحيى النيسابوري: جمع ابن عيينة في حديث: أبا هريرة
وزيد بن خالد وشبلًا، وأخطأ في ضمه شبلًا إلى أبي هريرة وزيد بن خالد في هذا
الحديث.
قال: وإن كان عبيد الله بن عبد الله قد جمعهم فيه، فإنه رواه عن أبي هريرة وزيد عن
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعن شبل، عن عبد الله بن مالك، عن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم فترك ابن عيينة عبد الله، وضم شبلًا إلى أبي هريرة وزيد فجعله
حديثًا واحدًا، وإنما ذا حديث وذاك حديث، وقد ميزهما يونس بن يزيد، وتفرد معمر
ومالك بحديث أبي هريرة وزيد.
قال: وروى الزبيدي وابن أخي الزهري وعقيل حديث شبل فاجتمعوا على خلاف ابن عيينة.
قال أبو عمر: كذا قال محمد بن يحيى: إن معمراً ومالكًا تفردا بحديث أبي هريرة
وزيد، وقد تابعهما يحيى بن سعيد الأنصاري. انتهى
قد خرج البخاري أيضًا هذا الحديث من طريق صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد
الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد، فذكره.
وأما تخريجه في كتاب الترمذي وحكم بصحته عن الأشج عن أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة. فغير جيد لأن النسائي لما رواه في كتابه أدخل حبيب بن أبي
ثابت بين الأعمش وأبي صالح.
وعند النسائي أن رجلاً أتى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إن جاريتي زنت
وتبين زناها. قال: «اجلدها خمسين» ثم أتاه فقال: عادت وتبين زناها. قال: «اجلدها
خمسين» ثم أتاه فقال: عادت. قال: «بعها ولو بحبل من شعير».
وفي لفظ من حديث الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة في الرابعة أو الثالثة بعها ولو
بضفير، قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ.
(1/167)
ولما
ذكر أبو عمر [حديث عمارة بن أبي فروة، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة
مرفوعًا: «إذا زنت الأمة» الحديث، قال: ورواه إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن حميد،
عن أبي هريرة، قال فإن الطريقين جميعا خطأ].
وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي جميلة عن علي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أُخبر بأمة فجرت، فأرسلني إليها فقال: «أقم عليها الحد»، ثم قال: «أقيموا الحدود
على ما ملكت أيمانكم».
وممن كان يجلدها إذا زنت أو يأمر برجمها ابن مسعود وأبو برزة وسيدة نساء العالمين
فاطمة رضي الله عنها وزيد بن ثابت وأبو المهلب وإبراهيم النخعي وابن عمر وأشياخ
الأنصار -قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى- وعلقمة والأسود وأبو جعفر محمد بن علي وأبو
ميسرة.
قوله: (فتَبَيَّنَ زِناهَا) يريد إما بالبينة أو بالحبل أو بالإقرار.
والأمة: المملوكة، وجمعها إماء، وإموان.
قال القتال الكلابي أنشده المبرد:
أنا ابن أسماء أعمامي لها وأبي إذا ترامى بنو الإموان بالعار
وهل يجلدها السيد أم لا؟
وبالأول قال مالك والشافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يقيمه إلَّا بإذن الإمام بخلاف التعزير، احتج في «الهداية»
بأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أربع إلى الوالي» فذكر منها الحدود.
وهل يكتفي السيد بعلم الزنا أو لا؟
عند المالكية في هذا روايتان، قال القرطبي: إذا كانت متزوجة بأجنبي لم يقمه سيدها
ومنهم من لم يفرق بين التزويج وغيره.
وقوله: (ولاَ يُثَرِّبْ) لا يوبخ ويلوم وينكث ويعير على الذنب، كأنه يقول لا يكتفي
بذلك ويعطل الحد الواجب عليها، ولأن الإكثار من اللوم يزيل الحياء والحشمة، وغالب
أحوال العبيد عدم الاندفاع باللوم، وإنما يظهر أثر ذلك في لحر لقول ابن مفرغ:
العبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه الملامة
ولما أخذه ... .
وفي الحديث أنَّ الأمة لا تُرجم سواء كانت [متزوجة أم لا، والزاني إذا] حد ثم زنى
ثانيًا لزمه حد آخر على ذلك الأئمة الأربعة.
(1/168)
(فَلْيَبِعْهَا
ولَوْ بِحَبْلٍ) والبيع واجب، وذكر الحبل بمعنى التقليل والتزهيد في الزانية.
واستنبط منه بعضهم جواز البيع بالغبن، قال: لأنه بيع خطير بثمن يسير.
قال القرطبي وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الغبن المختلف فيه إنما هو بيع الجاهلة من
المغبون، وأمَّا مع علم البائع بقدر ما باع وما قبض فلا يختلف فيه، لأنه عن علم
منه ورضا، فهو إسقاط لبعض الثمن، لا سيما أن الحديث خرج على جهة التزهيد وترك
الغبطة.
واختلفوا في قوله: (وَلَمْ تُحْصِنْ) فقيل: لم تعتق، ويكون فائدته أنها لو زنت وهي
مملوكة فلم يحدها سيدها حتى عتقت لم يكن له سبيل إلى جلدها.
وقيل: ما لم تتزوج، وفائدته إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد فلو كان ملكه جاز للسيد
ذلك لأن حقهما حقه.
وقيل: لم تسلم وفائدته أن الكافرة لا تحد وإنما تعزر وتعاقب وعلى هذا فيكون الجلد
المأمور به تعزيراً لا حداً.
قال القرطبي: كل هذا إنَّما يتنزل على أن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
علَّق الجلد المأمور به في الجواب على نفي الإحصان المأخوذ قيدًا في السؤال، وعلى
القول بدليل الخطاب. وحينئذ يكون هذا الحديث على نقيض قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25] فإن شرط الجلد في الحديث نفي الإحصان، وشرط الحدِّ في
الآية ثبوت الإحصان، فلا بدَّ أن يكون أحد الإحصانين غير الآخر. ولو قرَّرناه
واحدًا فيهما للزم أن يكون الجلد المترتب على الإحصان مثبتاً في الآية.
وقد اختلف في إحصان الآية الكريمة كما اختلف في الإحصان المنفي في الحديث:
فقال قوم: هو الإسلام. قاله ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم. فعلى هذا: فلا
تُحدُّ كافرةٌ.
وقال آخرون: هو التزويج. قاله علي وابن عباس، وابن جبير، ومجاهد
وعلى هذا فتُحدُّ المتزوجة وإن كانت كافرة، قال الشافعي.
(1/169)
وقال
آخرون: هو الحرية. روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، وعلى هذا: فلا تُحدُّ أمةٌ بوجه
وإن كانت مسلمة، لكنها يعزرها سيِّدها.
وكل هذا الخلاف أوجبه اشتراك لفظ الإحصان.
والذى يرفع الإشكال عن الحديث إن شاء الله تعالى: أن نفي الإحصان إنما هو من قول
السَّائل، ولم يصرَّح النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأخذه قيدًا في الجلد. فيحتمل
أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعرض عنه، وأتى بالجلد مطلقًا.
ويشهد لهذا التأويل أن الأحاديث الواردة في جلد الأمة إذا زنت ليس فيها ذكر لذلك
القيد من كلامه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقوله: «إذا زنت أمة أحدكم».
قال: ولو سلمنا أن ذلك القيد من كلامه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتنزلنا على القول
بدليل الخطاب فأولى الأقوال به أن يحمل على التزويج.
ويستفاد منه صحة مذهب مالك رفعا للاشتراك، وتنزيلاً للحديث على فائدة مستجدَّة.
قال: والذي يحسم مادة الإشكال عن الآية والحديث حديث علي: «أقيموا على أرقائكم
الحدّ، من أحصن منهم ومن لم يحصن».
وهذا الحديث وإن كان موقوفًا على علي في كتاب مسلم، فقد رواه النسائي مرفوعا بهذا
اللفظ، قال: فتُحدُّ الأَمَة على أي حال كانت.
ويعتذر عن الإحصان في الآية بالذكر فإنه أغلب حال الإماء أو الأهم في مقاصد الناس،
لا سيما إذا حمل الإحصان على الإسلام.
وإذا باعها عرَّف بزناها، لأنَّه عيبٌ، ولعل السيِّد الثاني يُعِفُّها بالوطء، أو
يبالغ في التحرز عليها، أو يزوجها أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها والتوسعة
عليها وشبه ذلك.
[ ... ابن ... ] بأن فقهاء الأمصار على أنَّه كالأمة إلا أهل الظاهر فقالوا يجلد
مئة جلدة مصيراً إلى قوله جل وعز: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ
جَلْدَةٍ} [النور: 2] انتهى.
الآية الكريمة ترد قولهم لأنه قال: كل واحد. ولا قائل [بحد الأمة جلد] مئة لا نحن
ولا هم.
(1/170)
وزعم
ابن عبد البر أن من قرأ «أَحصنَّ» بفتح الألف فمعناه: تزوجن وأسلمن، ومن قرأ
أُحصنَّ بضم الألف فمعناه: زوجن
قال الطحاوي: وزعم بعضهم أن قوله: (فَاجْلِدهَا) على التأديب لا الحد، وقال:
ويحتمل أنَّ الله تعالى أعلم نبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ حد الإماء إذا
زنين قبل الإحصان جلد خمسين، فأعلم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك الناس.
وكان الشطر فيهن بعد الإحصان بالتزويج ما هو أغلظ من ذلك إذ كان هو المفعول
بالقياس على الحرائر، ثم أبان الله عز وجل أنَّ حكمهن بعد الإحصان كحكمهن قبله
تخفيفًا ورحمة بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] الآية.
حديث يزيد تقدم.
باب هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ؟ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ
يَنْصَحُهُ؟
وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ
أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ».
هذا التعليق رواه مسلم في الاستئذان عن قتيبة ويحيى بن أيوب وابن حجر عن إسماعيل
بن جعفر عن العلاء، عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قال: «حق المسلم على المسلم ست» فذكر منها: «وإذا استنصحك فانصح له».
وعند البيهقي من حديث حمزة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الزبير عن جابر قال رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه» انتهى.
كذا قال عبد الملك بن عمير، وفي النسائي عن عبد الملك بن جريج عن أبي الزبير أصل
الحديث.
قال البيهقي: وروي معناه عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه عن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم.
وقيل عنه عن أبيه عمن سمع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [وفيه: النهي عن بيع حاضر
لبادٍ].
[قال البخاري:]
وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ.
هذا التعليق رواه .. .
(1/171)
وقال
ابن التين: يحتمل أن يكون البخاري أراد بحديث ابن عباس «لا يبع حاضر لباد» وبقول
عطاء: إن بيع الحاضر للبادي جائز بلا كراهة. وترجمته بعد هذا تحقق مقصوده وهي من
كره أن يبيع حاضر لباد بأجر.
قال ابن بطال: أراد البخاري جواز ذلك بغير أجر، ومنعه إذا كان بأجر، كما قال ابن
عباس: لا يكون له سمساراً، فكأنه أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان من طريق النصح.
قال ابن التين: ولأنَّ البدوي قد يستنصح الحضري.
ويحتمل أنْ يكون صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك على معنى المصلحة لأهل الحضر
والنظر لهم؛ لإلزامهم الجماعة، وطلبهم للعلم والمذاكرة فيه فقال: «دعوا الناس يرزق
الله بعضهم من بعض» فإذا تولى الحضري البيع للبدوي رفع في أثمان السلعة، بخلاف
تولي البدوي ذلك بنفسه، فربما سأل أقل من سؤال الحضري وينتفع بذلك أهل الحضر، ولم
يزل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينظر للعامة على الخاصة، فيريد البخاري على هذا
التأويل أن ترك السمسرة على هذا التأويل، وترك بيع الحاضر للبادي من النصيحة
للمسلمين.
وقال ابن بطال: أريد به نفع أهل الحضر.
وقال الطحاوي: الحاضر يعلم أسواق البلد فيستقصي على الحاضرين، فلا يكون لهم في ذلك
ربح، بخلاف البدوي.
وقد أخذ قوم بظاهره، روي ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وأنس وهو قول الليث والشافعي.
ورخص في ذلك آخرون، روي ذلك عن عطاء ومجاهد وقال: إنما نهى سيدنا رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك في زمانه وأما اليوم فلا.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقالوا: قد عارض هذا الحديث قوله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «الدين النصيحة»
وفي جعله الخيار للبائع دليل على صحة البيع إذ الفساد لا خيار فيه، وقال صاحب
«اللباب»: نسخ هذا الخيار قوله: «البيعان بالخيار».
وقال مالك: لا أرى أنْ يبيع [حاضر للبادي، ولا لأهل القرى، وأمَّا أهل] المدن من
أهل الريف فليس بالبيع لهم بأس.
(1/172)
وقال
ابن المنذر: تأول قوم النهي على وجه التأديب لا التحريم، لقوله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض».
واختلفوا هل يفسخ ذلك البيع؟
فعن ابن القاسم: يفسخ، وإن فات لا شيء عليه.
وفي رواية سحنون عنه: يمضي البيع، وهو قول ابن وهب والشافعي.
وفي حديث طلحة بن عبيد الله عند أبي داود من حديث سالم المكي أن أعرابياً حدثه أنه
قدم بجلوبة له على عهد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنزل على طلحة فقال له:
«إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق
فانظر من يبايعك فتشاورني حتى آمرك أو أنهاك».
ورواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن سالم أبي النضر عن رجل من بني تميم
عن أبيه عن طلحة.
ورواه سليمان بن أيوب الطلحي عن أبيه عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه.
قال يعقوب بن شيبة في أحاديث سليمان بن أيوب الطلحي وهي سبعة عشر حديثاً رواها عن
أبيه عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه هذه الأحاديث عندي صحاح أخبرني بها أحمد بن
منصور عنه.
ولما خرجه البزار من حديث ابن إسحاق عن سالم المكي عن أبيه قال: هذا الحديث لا
نعلمه يروى عن طلحة إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً قال عن سالم عن أبيه عن طلحة
إلا مؤمل بن إسماعيل، وغير مؤمل يرويه عن رجل.
وعن الأوزاعي: ليست الإشارة بيعا.
وروي عن مالك الرخصة في الإشارة.
وقال الليث: لا يشير عليه.
ولم يراع الفقهاء في السمسار أجراً ولا غيره.
والناس في تأويل هذا الحديث على قولين: فمن كره بيع الحاضر للبادي كرهه بأجر وبغير
أجر.
ومن أجازه أجازه بأجر وبغير أجر.
باب لا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَةِ
كذا هذا الباب في البخاري، وذكر ابن بطال أن في نسخته لا يشتري حاضر لباد بالسمسرة
وكذا ترجم له الإسماعيلي.
قال البخاري:
(1/173)
وَكَرِهَهُ
ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ وَالمُشْتَرِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:
إِنَّ العَرَبَ تَقُولُ: بِعْ لِي ثَوْبًا. وَهْيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ.
هذان التعليقان ذكرهما ... .
وفي حديث عبد الله عن نافع: كانوا يتبايعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه مكانهم
فنهاهم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه.
قال المهلب: أعلى السوق وإن كان خارجًا عن السوق في الحاضرة أو قريبًا منها بحيث
يجد من يسأله عن سعرها لا يجوز الشراء هناك؛ لأنه داخل في معنى التلقي، وأما
الموضع البعيد الذي لا يقدر فيه على ذلك فيجوز فيه البيع وليس بتلقٍ.
قال مالك: وأكره أن يشتري في نواحي المصر حتى يهبط به السوق.
وقال ابن المنذر: بلغني عن أحمد وإسحاق أنهما نهيا عن التلقي خارج السوق، ورخص في
أعلاه.
ومذاهب العلماء في حد التلقي متقاربة، روي عن يحيى بن سعيد مقدار الميل عن المدينة
وعن مالك ستة أميال.
البابان بعده تقدما.
وقال ابن عبد البر: الرواية «بيع الثمر» بثاء مثلثة بالتمر بتاء ثانية.
باب بَيْعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ
ذكر فيه حديث ابن عمر:
2172 - 2173 - نهى عَنِ المُزَابَنَةِ، وَالمُزَابَنَةُ: بيع الثّمر بِكَيْل، إِنْ
زَادَ فَلِي، وإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ. [خ 2172 - 2173]
قَالَ يعني ابن عمر:
وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
رَخَّصَ فِي بيع العَرَايَا بِخَرْصِهَا.
وعند مالك عن عبد الله بن يزيد أن زيداً أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص
عن البيضاء بالسلت فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء. فنهاه عن ذلك وقال سمعت
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أينقص الرطب إذا يبس؟» فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك.
(1/174)
ذكر
الدارقطني في كتاب «الموطَّآت» في رواية عبد الله الحنفي فقال النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم لمن حوله: «هل ينقص إذا يبس؟» قالوا: نعم. قال: «فلا إذن».
وقال عبد الحميد: «لا خير فيه».
وفي رواية ابن نمير: فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أليس ينقص إذا يبس؟» قالوا:
بلى. فكرهه.
ولما خرجه الطوسي والترمذي قالا: حسن صحيح.
وقال الحاكم: تابعه يعني مالكاً إسماعيل بن أمية ويحيى بن أبي كثير ولفظه: حدثنا
عبد الله بن يزيد أن أبا عياش أخبره سمع سعداً: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة»، ثم قال: صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة
مالك، وأنه محكَّم في كل ما يرويه من الحديث إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح
خصوصاً في حديث أهل المدينة لمتابعة هذين الإمامين له والشيخان لم يخرجاه لما خشيا
من جهالة زيد أبي عياش.
وعند الطحاوي عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله عن عمران
بن أبي أنس أن مولى لبني مخزوم حدثه أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الرجل يسلف الرجل
الرطب بالتمر إلى أجل فقال سعد: نهانا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذا.
قال أبو جعفر: فهذا عمران وهو رجل متقدم معروف قد روى هذا الحديث كما رواه يحيى بن
أبي كثير فكان ينبغي في تصحيح الآثار أن يرتفع حديث عبد الله بن يزيد لمكان
الاختلاف فيه وثبت حديث عمران فيكون النهي الذي جاء في حديث سعد هذا إنما هو لعلة
النسيئة لا غير.
ولما خرجه الحاكم من صحيحه من حديث مخرمة بن بكير عن أبيه عن عمران قال: سمعت أبا
عياش قال: سألت سعداً عن اشتراء السلت بالتمر فقال سعد: أبينهما فضل؟ قالوا نعم.
قال لا يصح. سئل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اشتراء الرطب بالتمر فقال:
أبينهما فضل؟ فقالوا: نعم الرطب ينقص. فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا يصلح. وقال
صحيح الإسناد.
(1/175)
ولما
خرجه ابن حبان في صحيحه من حديث مالك عن ابن يزيد قال أبو حاتم: البيضاء: الرطب من
السلت باليابس من السلت.
وخرجه أيضا ابن خزيمة في صحيحه على ما ذكره [الصريفي] [000]
وفي «الاستذكار» لابن عبد البر قيل: إن أبا عياش هذا هو أبو عياش الزرقي حدثني عبد
الوارث حدثنا قاسم حدثنا الخشني حدثنا ابن أبي عمر حدثنا ابن عيينة عن إسماعيل بن
أمية عن عبد الله بن يزيد عن أبي عياش الزرقي أن رجلا سأل سعداً.
وقال الطحاوي في «المشكل»: هذا محال لأن أبا عياش الزرقي من جلة الصحابة لم يدركه
ابن يزيد.
وقد روي أيضاً عن ابن يزيد عن سعد بن مالك وعياش، وهذا لا يعرف.
قال أبو جعفر فيه: بأن فساد هذا الحديث في سنده وقفه.
وقال ابن حزم: زيد أبو عياش لا يدرى من هو. وعن أبي حنيفة مجهول.
وقال ابن المواق: عينه معروفة وحاله مجهولة.
وقال الدارقطني: هو ثقة.
وذكره فيهم ابن حبان وابن خلفون.
وعند الدارقطني من حديث موسى بن عبيد الله وفيه كلام عن عبد الله بن دينار عن ابن
عمر قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الرطب اليابس».
وقال الإسماعيلي: ليس في الحديث الذي ذكره البخاري من جهة النص الزبيب بالزبيب ولا
الطعام بالطعام إلا من جهة المعنى.
قال: والبخاري ينحو نحو أصحاب الظاهر فلو حقق الحديث بيع التمر في رؤوس الشجر
بمثله من جنسه يابسا أو صحح الكلام على قد ما ورد به لفظ الخبر كان أولى.
والمزابنة، مفاعلة، لا تكون إلا بين اثنين، وأصلها الدفع الشديد.
قال الداودي: كانوا قد كثر فيهم المدافعة بالخصام، فسمي مزابنة، ولما كان كل واحد
من المتبايعين يدفع الآخر في هذه المبايعة عن حقه، سميت بذلك.
قال ابن سيده: الزبن دفع الشيء عن الشيء، زَبَن الشيء يَزْبِنه زَبْنا وزَبَن به،
انتهى.
هذا يرد قول من قال الدفع من ... .
(1/176)
وفي
«الجامع» للقزاز: المزابنة كل بيع فيه غرر، وهو بيع كل جزاف لا يعلم كيله ولا وزنه
ولا عدده، وأصله أن المغبون يريد أن يفسخ البيع، ويريد الغابن ألا يفسخه فيتزابنان
عليه، أي: يتدافعان.
وقيل: هو بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا وبيع العنب في الكرم بالزبيب. وأصله
ما ذكرنا.
وعند الشافعي: هو بيع مجهول بمجهول أو معلوم، من جنس تحريم الربا في نقده، وخالفه
مالك في هذا القيد، فقال: سواء كان مما يحرم الربا في نقده أو لا، مطعوما كان أو
غير مطعوم.
وقال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر،
لأنه مزابنة، وقد نهي عنه.
فأما بيع رطب ذلك بيابسه إذا كان مقطوعاً، وأمكن فيه المماثلة، فجمهور العلماء لا
يجيزون بيع شيء من ذلك بجنسه لا متماثلاً ولا متفاضلاً، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الحنطة الرطبة باليابسة والتمر بالرطب مثلا بمثل، ولا
يجيزه متفاضلاً. قال ابن المنذر: وأظن أبا ثور وافقه.
وقال أبو عمر: لا خلاف بين العلماء أن تفسير المزابنة في هذا الحديث من قول ابن
عمر أو مرفوعة، وأقل ذلك أن يكون من قوله، وهو راوي الحديث فسلم له، كيف ولا مخالف
في ذلك.
وأجمعوا على تحريم بيع العنب بالزبيب، وعلى تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة
صافية، وهي المحاقلة، وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على الشجر أو مقطوعاً.
وقال أبو حنيفة: وإن كان مقطوعا جاز بيعه بمثله من اليابس.
والعرية: النخلة المعرَّاة وهي التي وهب ثمرة عامها.
والعرية أيضا التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل.
وقيل: هي النخلة التي قد أكل ما عليها واستعرى الناس في كل وجه أكلوا الرطب من
ذلك.
وفي «الجامع»: وأنت مُعْرٍ.
(1/177)
وفي
«الصحاح»: فيعروها الذي أعطيته أي يأتيها وهي فعيلة بمعنى مفعولة وإنما أدخلت فيها
الهاء لأنها أفردت [فصارت في عداد الأسماء مثل النطيحة] والأكيلة ولو جئت بها مع
النخلة قلت نخلة عَرِيٌّ.
وعند القرطبي: وقيل هي فعيلة بمعنى فاعلة أي عريت من ملك معريها وقيل عراه يعروه
إذا أتاه يطلب منه عَرِيَّة.
(فَأَعْرَاهُ) أي: أعطاه إياها، كما يقال: سألني وأسأله، فالعَرِيَّةُ: اسم للنخلة
المعطى ثمرها، فهي اسم لعطية خالصة، وقد سَمَّتِ العربُ عطايا خاصة بأسماء خاصة،
كالمنيحة لعطية الشاة للبن، والإفْقَار لما رُكِب فقارُه، فعلى هذا إنَّ العرية
عطية لا بيع، ولِمَا ثبت ذلك عند مالك وأحمد وإسحاق والأوزاعي العرية المذكورة في
الحديث بأنها إعطاء الرجل من جملة حائطه نخلة أو نخلتين عَامًا على ما تقتضيه
اللغة، غير أنهم اختلفوا في شروط كثيرة وأحكام متعددة، وحاصل مذهب مالك: أنها عطية
ثمرة نخلة أو نخلات من حائط، فيجوز لمن أُعطيَها أن يبيعها إذا بَدَا صلاحها من كل
أحد بالعين والعروض، ومن معطيها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بشروط:
أحدها: أن يكون أقل من خمسة وُسْق، وفي الخمسة خلاف.
وثانيها: أن يكون خرصها من نوعها ويابسها نخلًا وعنبًا، وفي غيرهما مما يُوْسَقُ
ويُدْخَرُ للقوت خلاف.
وثالثها: أن يقوم بالخرص عند الجُداد.
ورابعها: أن يشتري جملتها لا بعضها.
وخامسها: أن يكون بيعها عند طيبتها، فلو باعها من الْمُعْرِي قبل ذلك على شرط
القطع لم يجز، لتعدي محل الرخصة.
(1/178)
وأما
أبو حنيفة فإنه فَسَّرَ العرية بما إذا وهب رجل ثمر نخلة أو نخلات ولم يقبضها
الموهوب له، فأراد الواهب أن يعطي الموهوب له تمرًا ويتمسك بالثمرة جاز له ذلك، إذ
ليس من باب البيع، وإنما هو من باب الرجوع في الهبة التي لم يجب بناء على أصله: أن
الهبة لا تجب إلا بالقبض، وهذا المذهبُ إبطالٌ لحديث العرية من أصله، وذلك أن حديث
العرية تضمن أنه بيعٌ مُرَخَصٌ فيه في مقدار مخصوص.
وقال الطَّحَاويُّ: معناها عند أبي حنيفة: أن يعري الرجلُ الرجلَ ثمرةَ نخله من
نخله فلم يسلم ذلك له حتى إليه حتى يبدو له، فرخَّصَ له أن يحبس ذلك ويعطيه مكان
خرصه تمرًا، وهذا التأويل كأنه أشبه، لأن العرية إنما هي العطية، ألا ترى إلى مدح
الأنصار كيف مدحهم إذ يقول يعني سويد بن أبي الصلت فيما
ذكره القرطبي، وقال ابن التين: هو لحسان بن ثابت:
ليست بسنهاءٍ ولا رجبيَّةٍ ولكن عرايا في السنين الجوائح
قال أبو جعفر: أي أنهم كانوا يُعْرُونها في السنين الجوائح، فلو كانت العرية كما
ذهب إليه مالك, كانوا ممدوحين بها، إذ كانوا يُعْطُون كما يعطَون, ولكن العرية
بخلاف ذلك.
قال: فإن قيل: فقد ذكر في حديث زيد بن ثابت: «نَهَى عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ
بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا». في هذا الحديث بيعُ تمرٍ بتمرٍ، قيل له:
ليس في الحديث من ذلك شيء, إنما فيه ذكر الرخصة في العرايا, مع ذكر النهي عن بيع
التمر بالتمر, وقد يقرن الشيء بالشيء وحكمهما مختلف.
(1/179)
فإن
قال قائل: فقد ذكر التوقيف في حديث أبي هريرة على خمسة أوسق, وفي ذكره ذلك ما ينفي
أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه، قيل له: ما فيه ما ينفي شيئًا مما ذكرت,
وإنما يكون ذلك كذلك لو قال: لا تكون العرية إلا في خمسة أوسق, فأما إذا كان
الحديث إنما فيه: «رَخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ
دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» فذلك يحتمل أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا مقدارها، فنقل أبو هريرة رضي الله عنه ذلك, وأخبر
بالرخصة فيما كانت.
في «الاستذكار» عن محمود بن لبيد بطريق منقطعة أنه قال لرجل من الصحابة: إما زيد
بن ثابت وإما غيره، ما عراياكم هذه، فَسَمَّى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن الرطب يأتي ولا بيدنا ما نبتاعه به، فرخص
لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بيدهم يأكلونها رطبًا.
قال الطحاوي: ولا ينفي ذلك أن تكون تلك الرخصة جارية فيما هو أكثر من ذلك، فإن
قلت: ففي حديث جابر وابن عمر إلا أنه أرخص في العرايا، فصار ذلك مستثنى من بيع
التمر بالتمر، فثبت بذلك أنه بيع تمر بتمر.
قيل له: قد يجوز أن يكون قصد بذلك إلى المعري، ورخص له أن يأخذ ثمرًا بدلًا من
تمرٍ في رؤوس النخل، لأنه
يكون بذلك في معنى البائع وذلك له حلال، فيكون الاستثناء لهذِه العلة، وفي حديث
سهل بن أبي حَثْمَةَ: «إلَّا أنَّهُ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا
تَمْرًا يَأْكُلُهَا أهْلُهَا رَطْبًا» فقد ذكر للعرية أهلًا وجعلهم يأكلونها
رطبًا، ولا يكون ذلك إلا وملكها الذين عادت إليهم بالبدل الذي أخذ منهم، وبذلك ثبت
قول أبي حنيفة.
(1/180)
قال:
وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى الْبَائِعَ
وَالْمُبْتَاعَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ».
قال: وقال زيدُ بنُ ثابت: «رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا فِي النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ،
تُوهَبَانِ لِلرَّجُلِ فَيَبِيعُهُمَا بِخَرْصِهِمَا تَمْرًا» قال أبو جعفر:
فَهَذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ رَوَى عَنِ
سَيْدِنَا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الرُّخْصَةَ فِي الْعَرِيَّةِ،
فقد أجراها مجرى الهبة.
وعن مكحول أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «خَفِّفُوا الصَّدَقَاتِ،
فإنَّ في المالِ العَرِيةَ والوصيَّةَ».
قال: فدلَّ أن العرية إنما هي ما يملكه أرباب الأموال قومًا في حياتهم كما يملكون
الوصايا بعد مماتهم.
قال ابن رشد: وإلى كونها هبة قالَ مالكٌ، وأما الشافعي فالعرية عنده بيع الرطب في
رؤوس النخل بتمر مُعَجَّل، قال القرطبي: فلم يعرج على اللغة المعروفة فيها، وكأنه
اعتمد على تفسير يحيى بن سعيد راوي الحديث، فإنه قال: العرية أن يشتري الرجل تمر
النخلات لطعام أهله رطبًا بخرصها تمرًا، وهذا لا ينبغي أن يعول عليه، لأن يحيى بن
سعيد ليس صحابيًا فيقال: فَهِمَ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولا رفعه
إليه، ولا يثبت عنه عُرْفٌ غالبٌ شرعيٌّ حتى يرجحه على اللغة، وغايته أن يكون
رأيًا ليحيى لا رواية له، ثم يعارضه تفسير ابن إسحاق، فإنه قال: العرايا: أن يهب
الرجل للرجل النخلات، فيشقَّ عليه أن يقوم عليها، فيبيعها بمثل خرصها.
ثم هو عين المزابنة المنهي عنها، ووضع رخصه في موضع، لأنه ترهق إليها حاجة أكيدة،
ولا تندفع بها مفسدة، فإن المشتري لها بالتمر متمكن من بيع
(1/181)
تمره
بعين أو عروض، ويشتري بذلك رطبًا، فإن قيل: قد يتعذَّر هذا، قيل: يأخذ بيع الرُّطب
بالتمر إذا كان الرطب لا على رؤوس النخل، إذ قد يتعذر بيع التمر على من هو عنده
ممن يريد أن يشتري الرطب به، ولا يجوز ذلك.
الأبواب التي بعده ... في باب تفسير العرايا.
(وَقَالَ مَالِكٌ: العَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ،
ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ
بِتَمْر).
ذكر أبو عمر عن ابن وهب أن مالكًا قال: العرية أن يعري الرجلُ الرجلَ النخلة
والنخلتين أو أكثر من ذلك سنة أو سنتين أو ما عاش، فإذا طاب الثمر وأرطب قال صاحب
النخل: أنا أكفيكم سقيها وضمانها، ولكم خرصها تمرًا عند الجداد، فكان ذلك فيه
معروفًا كله عند الجداد، ولا أحب أن يجاوز ذلك خمسة أوسق، قال: وتجوز العرية في كل
ما يبس ويدخر نحو التين والزيتون، ولا أرى لصاحب العرية أن يبيعها إلا بتمر في
الحائط ممن له تمر يخرصه.
وقال ابنُ القاسمِ عنه: لا يجوزُ بيع العرية بخرصها حتى يحل بيعها، ولا يجوز بعد
ما حلَّ بيعها أن يبيعها بخرصها تمرًا إلا إلى الجداد، وأما بالطعام فلا يصلح.
وروى محمد بن شجاع البلخي عن عبد الله بن نافع عن مالك: أن العرية النخلة
والنخلتان للرجل في حائط بعينه، والعادة بالمدينة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت
الثمار إلى حوائطهم، فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول: أنا أعطيك
خرص نخلك تمرًا، فأرخص لهما في ذلك.
قال أبو عمر: هذه الرواية مخالفة لأصل مالك في العرية.
وروى ابن القاسم عنه وسُئل عن نخلة في حائط رجل لآخر له أصلها، فأراد صاحب الحائط
أن يشتريها منه بعد ما أزهت بخرصها تمرًا يدفعه إليه عند الجداد، فقال مالك: إن
كان إنما يريد به الكفاية لصاحبه والرفق به فلا بأس، وإن كان إنما أراد ذلك لدخوله
وخروجه وضرر ذلك عليه فلا خير فيه.
قال ابن القاسم: وليس هذا مثل العرية.
(1/182)
قال
أبو عمر: هذه الرواية تضارع رواية ابن نافع، وذكر الأثرم في «سننه» عن أحمد:
العرية أنا لا أقول فيها بقول مالك، أقول: هي أن يعري الرجل الجار أو القرابة
للحاجة والمسكنة، فإذا أعراه إياها فَلِلْمُعْرَى أن يبيعها ممن شاء، ثم قال: مالك
يقول ببيعها من الذي أعراها إياه، وليس هذا وجه الحديث عندي، بل يبيعها ممن شاء،
كذا فسره ابن عيينة وغيره.
قلت له: فإذا باعها له أن يأخذ الثمن الساعة أو عند الجداد؟
قال: يأخذ الثمن الساعة، قلت: إن مالكًا يقول: ليس له أن يأخذ الثمن الساعة حتى
يجدَّ، قال: بلى يأخذه على ظاهر الحديث.
قلت: كأنه إنما رخص له من أجل الحاجة، فله أن يأخذه الساعة، قال: نعم من أجل
الساعة يأكلها أهلها رطبًا، ثم قال: الذي يشتريها إنما له أن يأكلها رطبًا.
حَدَّثَنَا الحكم بن موسى، حَدَّثَنا عيسى بن يونس، حَدَّثَنا عثمان بن حكيم عن
عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال: «لا بأسَ أنْ يُبَاعَ مَا فِي رؤوسِ
النَّخْلِ بِمَكِيْلِهِ منَ التَّمْرِ إذا كانَ بينهما فضل دينارٍ أو عشرةِ
دَرَاهَمَ».
قال الأثرم: فذكرت هذا لأبي عبد الله فقال: هذا حديث منكر.
قال أبو عمر: ويجوز للرجل أن يعري الرجل حائطه ما شاء، ولكن البيع لا يكون إلا في
خمسة أوسق فما دونها.
وفي «شرح الموطأ» لابن حبيب: العرية في الثمار بمنزلة العمرى في الدار، وبمنزلة
المنحة في الماشية.
وقول البخاري: (وَقَالَ ابنُ إِدْرِيسَ: العَرِيَّةُ لاَ تَكُونُ إِلَّا
بِالكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَكُونُ بِالْجِزَاف، وَمِمَّا
يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ المُوَسَّقَة).
ذكر الحافظ الْمِزِّيُّ: أن هذا الكلام كله قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي
الله عنه، وأن له هذا الموضع في «صحيح محمد بن إسماعيل البخاري» وموضع آخر في كتاب
الزكاة.
(1/183)
وقال
ابن التين: قيل (ابنُ إدريسَ) هو الشافعي، وقيل - هو الأكثر -: إنه عبد الله بن
إدريس الأودي الفقيه الكوفي، وكلام ابن بطال يدل على أن البخاري هو القائل:
(وممَّا يقوِّي ذلك ... ) إلى آخره لا ابن إدريس، قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وهذا إجماع، فلا يحتاج إلى تقوية، ولم يأت ذكر الأوساق الموسقة إلا
في حديث مالك عن داود بن الحسين، وفي حديث جابر من رواية ابن إسحاق، لا في رواية
ابن أبي حثمة، وإنما يُرْوَى عن سهل من قوله من رواية الليث عن جعفر بن أبي ربيعة
عن الأعرج، قال: سمعت سهل بن أبي حثمة قال: «لا يباعُ التمرُ في رؤوسِ النخلِ
بالأَوْسَاقِ الْمُوَسَّقةِ إلا أوسق ثلاثة أو أربعة أو خمسة، فيأكلها الناس، وهي
المزابنة» ففي قول سهل حجة لمالك في مشهور قوله: إنه تجوز العرايا في خمسة أوسق،
وقد يجوز أن يكون الشك في دون خمسة أوسق، واليقين في خمسة أوسق، إذ الواو لا تعطي
رتبة، فلذلك يترجح قول مالك في ذلك.
الحديث الذي بعده تقدم.
وقوله: (وَقَالَ يَزِيدُ: عَن سُفيَانَ بنِ حُسَينٍ) يزيد هذا هو ابن هارون، قاله
الحافظ الدمياطي.
(بابُ بَيعِ الثِّمَارِ قَبلَ أَن يَبدُوَ صَلَاحُهَا)
(1/184)
2193
- وَقَالَ اللَّيْثُ، عنْ أَبِي الزِّنَادِ، كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيِّ، مِنْ بَنِي حَارِثَةَ:
أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ
النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يَتَبَايَعُونَ
الثِّمَارَ، فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ، قَالَ المُبْتَاعُ:
إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ، أصَابَهُ مُرَاضٌ، أصَابَهُ قُشَامٌ،
عاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَقَالَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ: «فَإِمَّا لاَ، فَلاَ تَبِيعُوا
حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُ التَّمْرِ» كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ. [خ 2193]
وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ
يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا، فَتَبِينَ
الأَصْفَرُ مِنَ الأَحْمَرِ قَالَ أَبُو عبد الله: رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ،
حدَّثَنَا حَكَّامٌ، حدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عنْ زَكَرِيَّاءَ، عنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عنْ عُرْوَةَ، عنْ سَهْلٍ، عنْ زَيْدٍ.
وأخرج أبو داود الحديثَ عن أحمد بن صالح، عن عنبسة بن خالد، عن يونس بن يزيد، عن
أبي الزناد, والبيهقي
عن أبي اليسر، والحاكم وغيرهما، حَدَّثَنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثَنَا
ابن عبد الحكم، حَدَّثَنا أبو زرعة وهب الله بن راشد عن يونس قال: قال أبو الزناد:
كان عروة يحلف، فذكره.
قوله: (فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ) أي: أقطعوا ثمر نخيلهم، ومنه الجَداد، والجداد:
المبالغة في الأمر، كذا في الرواية: (جدَّ) وقال ابن التين: أكثر الروايات:
<أَجَدَّ> قال: ومعناه: دخلوا في زمن جداد، مثل أظلم دخل في الظلام.
(1/185)
وفي
«المحكم»: جَدَّ النخلَ يَجُدُّه جَدًّا وجُدَادًا وجَدَادًا صرَمه، عن
اللِّحْياني.
و (الدُّمَانُ) قال ابنُ قُرْقُولٍ: هو بضم الدال وتخفيف الميم، رويناه من طريق
القابسي وغيره، وعن السرخسي بفتح الدال، ورواه بعضهم بكسرها وبالفتح ذكره أبو
عبيد، وبالوجهين قرأناه على ابن سراج، ومعناه: فساد الطلع وتعفينه، وعند أبي داود
من طريق ابنِ دَاسَةَ: (الدَّمَارُ) بالراء، وكأنه ذهب إلى الفساد المهلك لجميعه
الْمُذْهِب له، قال أبو الفضل غفر الله له: هذا تصحيف، وقال الخطابي: لا معنى له.
قال: وقال الأصمعي: (الدُّمَال) بميم ولام في آخره: التمر المتعفن.
وحكى أبو عبيد عن أبي الزناد: (الأدْمَانُ) بفتح الهمزة والدال، والصحيح:
(الدمَانُ) بفتح الدال وضمها، وزعم بعضهم أن فساد التمر وعفنه قبل إدراكه حتى يسود
من الدمن وهو السرقين، الذي في «غريب الخطابي» بالضم، وكأنه الأشبه، لأن ما كان من
الأدواء والعاهات فهو بالضم كالسُّعال والزُّكَام والصُّداع والْمُراض.
قال ابن التين: هو اسم لجميع الأدواء على وزن فعال غالبًا، وضُبِطَ في أكثر
الأمهات بالكسر، وقال في «المحكم»: الدمن والدمان: عفن النخل وسوادها، وقيل: هو
أنه تتسع النخلة عن عفنٍ وسواد، وقال القَزَّازُ: هو فساد النخل قبل إدراكه، وإنما
يكون ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفونًا.
و (القُشَامُ) بالضم عن الأصمعي وغيره: انتفاض تمر النخل قبل أن يصير بلحًا.
قال ابن التين: وقيل: هو أُكال يقع في التمر.
وقوله: (فَإِمَّا لَا) ذكر الجُوَاليقي أن العوام يفتحون الألف واللام ويسكنون
الياء، والصواب كسر الألف وبعدها لا، وأصله: إلا يكن ذلك الأمر فافعل هذا، وما
زائدة،
وعن سيبويه: افعل هذا إن كنت لا تفعل غيره، ولكنهم حذفوا لكثرة استعمالهم إياه.
(1/186)
وقال
ابن الأنباري: دخلت ما صلة كقوله جل وعز: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَدًا} [مريم: 26] فاكتفى بلا من الفعل كما تقول العرب: من سلم عليك فسلم عليه
ومَن لا، يعني: ومن لا يسلم عليك فلا تسلم عليه، فاكتُفي بلا من الفعل، وأجاز
الفراء: من أكرمني أكرمته، ومن لا، معناه: ومن لم يكرمني لم أكرمه، قال ابن
الأثير: أصلها: إن وما، أدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها.
وقد أمالت العرب: لا، إمالة خفيفة، والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء، وهو
خطأ.
ومعناه: إن لم يفعل هذا فليكن هذا.
و (الْمَشُورَةِ) قال الهَجَري في «نوادره»: لم تَفرع من شوارنا بفتح الشين، يعني المشورة،
والواو جزم، وهي فعولة، وعند ابن سِيْدَه: هي مَفْعُلة، ولا تكون مفعولة لأنها
مصدر، والمصادر لا تجيء على مثال مفعولة وإن جاءت على مثال مفعول، وكذلك المشورة،
وفي «الجامع» قال الفراء: مشورة قليلة، وبدأ بها صاحب «المنتهى» وصاحب «الصحاح»
قبل المضمومة الشين، وزعم صاحب «التنصيف» والحريري في آخرين: أن تسكين الشين وفتح
الشين مما تلحن فيه العامة، وكأنه غير جيد لما أسلفناه، وهي مشتقة من شُرتُ العسل
إذا جنيته، فكأن المستشير يجني الرأي من المشير، وقيل: بل أخذ من قولك: شرت الدابة
إذا أجريتها مُقبلة ومُدبرة لتسبر جريها وتختبر جوهرها، فكأن المستشير يستخرج
الرأي الذي عند المشير، وكلا الاشتقاقين متقارب معناه من الآخر، والمراد بهذه
المشورة: ألا تشتروا شيئًا حتى يتكامل صلاح جميع هذه الثمرة لئلا تجري منازعة.
قال الداودي: هذا تأويل من بعض نقلة الحديث وإن يكن محفوظًا فقد يكون ذلك أول
الأمر، ثم عزم بعد كما في حديث ابن عمر مبتدأ النهي، وكذا حديث أنس وغيرهما.
(1/187)
قال
ابن التين: قوله: (لَم يَكُن زَيدٌ يَبِيعُ ثِمارَ أَرضِهِ حَتَّى تَطلُعَ
الثُّرَيَّا) يريد مع طلوع الفجر تطلع من المشرق، وهو وقت استقبال الضيف، وذكر عن
مالك أنه لم يأخذ بقول زيد هذا، وذكر
أن الحكم عنده لا تباع ثمار حتى تزهو، ولعلَّ زيد أيضًا لم يكن تطلع الثريا إلا
وثماره قد زهت فلذلك كان يتبعها النهي، لعل زيدًا أخذ بحديث حتى تذهب العاهة، قيل:
متى ذلك؟ قال: طلوع الثريا، ذكره الطحاوي من حديث ابن عمر.
2199 - وقول البخاري: قَالَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ
سَالِم بْن عَبْدِ اللهِ، عَنْ أبيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا». [خ
2199]
رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب عن يونس به، وذكر الخطيب في
«المدرج»: أن أبا الوليد رواه عن شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بزيادة:
«وكَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ: حَتَّى يَذْهَبَ عَاهَتُهَا». قال
الخطيب: وهذه الزيادة من قول ابن عمر، بيَّن ذلك مسلم بن إبراهيم وغندر في
روايتهما هذا الحديث عن شعبة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قال قوم: لا يجوز بيع الثمر في رؤوس النخل حتى تحمر أو تصفر،
منهم مالك والليث والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، كأنهم لمحوا أحاديث
الباب، وحديث أنس: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ
بيعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَحْمَرَّ أو يَصفرَّ» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
(1/188)
وعند
الخطيب زيادةٌ قال: هي مدرجة: «أَفَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ
تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيْكَ؟!» قال: وهو من كلام أنس، وكذا ذكره الدَّارَقُطْني في
تتبعه روايات مالك، قال الطحاوي: وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يجوز بيعها إذا
تخلقت وظهرت وإن لم يبدُ صلاحها، واحتجا بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «منِ
ابْتَاع ثَمَرَةً قَبْلَ أنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا للبَائِعِ إِلَّا أنْ
يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» فأباح بيع ثمرة في رؤوس النخل قبل بدو صلاحها، وقالا:
لما لم يدخل ما بعد الإبار في الصفقة إلا بالشرط جاز بيعها منفردة، فدلَّ هذا أن
نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، المراد به غير هذا المعنى، وهو النهي عن
السَّلَم في الثمار في غير حينها وقبل أن يكون، فيكون بائعًا لما ليس عنده، وقد
نهى عن ذلك في نهيه عن بيع السنين.
حَدَّثَنَا يونسٌ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ
الْأَعْرَجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ». قال يونس: قال لنا
سفيان: هو بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.
(1/189)
وروي
أيضًا عن قتادة عن الحسن عن سَمُرَةَ قال: «نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» فدلت الآثار على أن النهي عن بيعها قبل
بدو صلاحها أنها المبيعة قبل كونها بالسلف عليها، فنهى رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عن ذلك حتى تكون وحتى تُؤْمَن عليها العاهة، فحينئذ يجوز السلم
فيها، ألا ترى أن ابن عمر لما سأله أبو البختري عن السلم في النخل، كان جوابه له
في ذلك ما ذكر في حديثه من النهي عن بيع الثمار حتى تطعم، فدل على أن النهي إنما
وقع في هذه الآثار على بيع الثمار قبل أن تكون ثمارًا، ألا ترى إلى قوله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَرَأَيْتَ إنْ مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ
أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيْهِ؟!» فلا يكون ذلك إلا على المنع من ثمرة لم تكن، فأما
بيع الثمار في أشجارها بعدما ظهرت، فإن ذلك عندنا جائز صحيح، لقوله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «منِ ابْتَاعَ نَخْلًا بعدَ أنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْذِي
بَاعَهَا إِلَّا أنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاع»، وكان محمد بن الحسن يذهب إلى أن
النهي الذي اشترطناه ذكرناه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو بيع
الثمرة على أن تُتْرَكَ في رؤوس النخل حتى تبلغ وتتناهى وحتى تُجَدَّ، وقد وقع
البيع عليه قبل التناهي، فيكون المشتري قد باع ثمرًا ظاهرًا، وما ينميه على نخل
البائع بعد ذلك إلى أن يُجَدَّ فذلك باطل، فأما إذا وقع البيع بعدما تناهى عِظَمُه
وانقطعت زيادته فلا بأس بابتياعه واشتراط تركه إلى أنْ يُحْصَدَ ويُجَد، قال:
وإنما وقع النهي عن ذلك لاشتراط الترك لمكان الزيادة، قال: وفي ذلك دليل على أن لا
بأس بذلك الاشتراط
في ابتياعه بعد عدم الزيادة، حَدَّثَنا بذلك سليمان بن شعيب عن ابنه عن محمد،
وتأويل أبي حنيفة وأبي يوسف في هذا أحسن عندنا، والله تعالى أعلم، والنظر أيضًا
يشهد له.
(1/190)
قوله:
(حَتَّى يَزْهُوَ) قال ابن الأعرابي: يقال: زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وأزهى
إذا احمر أو اصفر، وقال غيره: يزهو خطأ في النخل، وإنما يقال: تزهى، وقد حكاهما
أبو زيد الأنصاري، وقال الخليل: أزهى التمر، قال القَزَّازُ: وأنكر أزهى بعضهم،
يعني الأصمعي، وفي «المحكم»: الزَّهْوُ والزُّهو البسر إذا ظهرت فيه الحمرة، وقيل:
إذا لَوّن، واحدته زهوة، وأزهى النخل وزها تكون بحمرة وصفرة، وقَالَ
الخَطَّابِيُّ: الصواب في العربية زَهِيَ.
قال القرطبي: حديث الباب وغيره يدل على التحريم أو الكراهة، فبالأول قال الجمهور،
وإلى الثاني صار أبو حنيفة.
وهل يجوز بيعها قبل بدو الصلاح بشرط القطع أو لا يجوز وإن شرطه؟.
روي هذا عن ابن أبي ليلى والثوري تمسكًا بعموم الأحاديث، ويجوز اشتراط التباعد
الكافة، وكذلك له الإبقاء وإن لم يصرح باشتراطه عند مالك، إذ لا يصلح اجتناء
الثمرة دفعة واحدة، لأن تناهي طيبها ليس حاصلًا، وإنما يحصل في أوقات، وشذَّ ابن
حبيب فقال: هي على الجدِّ حتى يشترط التبقية، وما صار إليه مالكٌ أوضح المسالك.
وقال ابن التين: بيعها قبل بدو صلاحها لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يشترط
التبقية وهو المراد بالحديث، ولا خلاف في فساده، ذكر ذلك جماعة، وحكى بعضهم عن
يزيد بن أبي حبيب جوازه، وهذه الأخبار ترد عليه، وإن شرط القطع لا خلاف في جوازه،
وإن أطلق فلا يجوز
خلافًا لأبي حنيفة، وذكر النووي: إن باع الثمر قبل بدو صلاحها بشرط القطع صحَّ
بالإجماع، قال أصحابنا: ولو شرط القطع ثم لم يقطع فالبيع صحيح، ويلزمه البائع
بالقطع، فإن تراضيا على إبقائه جاز، وإن باعها بشرط التبقية فالبيع باطل بالإجماع،
وأما إذا اشترط القطع فقد انتفى الضرر، فأما إذا بيعت بعد بدو الصلاح فيجوز بيعها
مطلقًا وبشرط القطع وبشرط التبقية لمفهوم هذه الأحاديث، وبه قال مالك، وقال أبو
حنيفة: يجب بشرط القطع.
(1/191)
ومعنى
(يَبْدُوَ) يظهر، وهو بلا همز، ووقع في بعض كتب المحدثين بألف بعد الواو وهو خطأ،
والصواب حذفها في مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب مثل:
زيد يبدو، والاختيار حذفها أيضًا، ويقع في مثل: حتى يزهو، وصوابه حذف الألف منه.
وقال ابن الجوزي: وإذا بدا الصلاح في بعض الجنس من ثمر البستان يجوز بيع ذلك
الجنس، فيه روايتان: أحدهما يجوز، والثانية لا يجوز إلا بيع ما قد بدا صلاحه،
وإنما اشترط بدو الصلاح لأمور:
منها أن ثمن الثمرة في تلك الحال قليل، فإذا تركها حتى تصلح زاد ثمنها، وفي تعجيله
للقليل نوع تضييع للمال.
ومنها لئلا يوقع أخاه المسلم في نوع عذر.
ومنها: المخاطرة والتغرير بماله.
ومنها: مخافة التشاجر والإثم عند فساد الثمرة.
وقول البخاري في باب إذا أراد بيع تمر بتمر خيرٍ منه:
2201 – حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ، عنْ مَالِكٍ، عنْ عبد المَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ
عبد الرحمن، عنِ ابنِ المُسَيِّبِ، عنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ: أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى
خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، قَالَ: لاَ وَاللهِ يَا رَسول
اللهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ
بِالثَّلاَثَةِ، فَقَالَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا تَفْعَل،
بِعِ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا». [خ 2201]
(1/192)
قال
ابن عبد البر: ذِكْرُ أبي هريرة في هذا الحديث لا يوجد من غير رواية عبد المجيد
هذا، وإنما يحفظ هذا الحديث لأبي سعيد، كذلك رواه قتادة عن سعيد بن المسيَّب عن
أبي سعيد من رواية حفاظ أصحاب قتادة هشام الدستوائي وابن أبي عروبة، وكذا رواه
يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد، وكذا رواه محمد بن
عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد، وروى الدراوردي عن عبد المجيد بن سُهَيْل عن أبي
صالح السَّمَّان عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
مثله سواء، ولا نعرفه بهذا الإسناد هكذا إلا من حديث الدراوردي، وكل من روى عن عبد
المجيد بن سهل هذا عنه بإسناده عن سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد ذكر في آخره، وكذا
الميزان إلا مالكًا فإنه لم يذكره في حديثه, انتهى.
ذكر البخاري في المغازي، وقال عبد العزيز الدراوردي عن عبد المجيد عن سعيد: إن أبا
سعيد وأبا هريرة حدثاه: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعثَ أَخَا
بنِي عَدِيٍّ منَ الأنصارِ إلى خَيْبَرَ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا» وعن عبد المجيد
عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله.
قال أبو عمر: جُلُّ أصحاب مالك يقولون: عبد المجيد، وفي رواية ابن نافع: عبد
المجيد، وعند يحيى بن يحيى ويحيى بن بُكَيْرٍ وابن عيينة: القولان جميعًا وعبد
المجيد أصح، وذكر الخطيب الحافظ أنَّ اسم العامل سَواد بن غَزِيَّة البَلوي حليف
الأنصار، وقيل: مالكُ بنُ صَعْصَعَة الخزرجي.
وقال ابن التين: وقع في بعض روايات الشيخ أبي الحسن: <والصَّاعَيْنِ
بالثلاثِ> بغير هاء، وهو الذي سمعت، وكذا في رواية
أبي ذَرٍّ، وفي بعض روايات أبي الحسن أثبت الهاء.
(1/193)
قال
أبو عمر: الميزان وإن لم يذكره مالك فهو أمر مجتمع عليه لا خلاف بين أهل العلم
فيه، كلٌّ يقوله على أصله: إن ما داخله في الجنس الواحد من جهة التفاضل والزيادة
لم تجز فيه الزيادة والتفاضل لا في كيل ولا في وزن، والوزن والكيل عندهم في ذلك
سواء إلا ما كان أصله الكيل لا يباع إلا كيلًا، وما كان أصله الوزن لا يباع إلا
وزنًا، وما كان أصله البيع الكيل فبيع وزنًا، فهو عندهم مماثلة وإن كرهوا ذلك، وما
كان موزونًا فلا يجوز أن يباع كيلًا عند جميعهم، لأن المماثلة لا تدرك بالكيل إلا
فيما كان كيلًا لا وزنًا اتباعًا للسنة، وأجمعوا أن الذهب والوَرِق والنحاس وما
أشبهه لا يجوز شيء من هذا كيلًا بكيل بوجه من الوجوه.
والتمر كله على اختلاف أنواعه جنس واحد، لا يجوز فيه التفاضل في البيع والمعاوضة،
وكذلك البُرُّ والزبيب وكل طعام مَكِيلٍ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهذا حكم الطعام الْمُقتات كله عند مالك، والشافعي الطعام
كله مقتاتًا كان وغير مقتات، وعند أبي حنيفة الطعام المكيل والموزون.
وأجمع العلماء على أن البيع إذا وقع محرمًا فهو مفسوخ مردود، لأمره صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لهذا العامل برد ما ابتاعه، قال: وزعم قوم أن بيع العامل الصاعين
بالصاع كان قبل نزول آية الربا، وقبل إخبارهم بتحريم التفاضل في ذلك، فلذلك لم
يأمر بفسخه، قال: وهذه غفلة، لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال في مغانم خيبر
للسعدين: «أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا» وفتح خيبر مقدم على ما كان بعد ذلك مما وقع في
تمرها وجمع أمرها.
وقد احتج بعض الشافعية بهذا الحديث على أَن الْعينَة لَيست حَرَامًا، يَعْنِي:
الْحِيلَة الَّتِي يعملها بَعضهم توصلًا إِلَى مَقْصُود الرِّبَا، بِأَن يُرِيد
أَن يُعْطِيهِ مئة دِرْهَم بمئتين،
(1/194)
فيبيعه
ثوبًا بمئتين ثمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بِمئة، وموضع الدلالة من هذا الحديث: أن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال له: «بِيْعُوا هَذَا واشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ
هَذَا» ولم يفرق بين أن يشتري من المشتري أو من غيره، فدلَّ على أنَّه لا فرق.
قال النوويُّ: وهذا كله ليس بحرام عند الشافعي وأبي حنيفة، وقال مالك وأحمد: هو
حرام.
قال القرطبي: على أصل مالك في سدِّ الذرائع، فإنَّ هذه الصورة تؤدي إلى بيع التمر
بالتمر متفاضلًا، ويكون الثمن لغوًا، وأيضًا فلا حُجَّة لهم في هذا الحديث، لأنَّه
ليس فيه شراء التمر الثاني ممن باع منه التمر الأول، ولا تناوله ظاهر اللفظ
بعمومه، بل بإطلاقه، والمطلق يحتمل التقييد احتمالًا يوجب الاستفسار، فكأنه إلى
الإجمال أقرب، وبهذا فرق بين العموم والإطلاق، فإنَّ العموم ظاهر في الاستغراق،
والمطلق صالح له لا ظاهر فيه، وإذا كان كذلك فيتقيد بأدنى دليل، وقد دلَّ على
تقييده الدليل الذي استند على سدِّ الذرائع، ولو استدل بحديث ابن عمر المذكور في
«كتاب الزهد» للإمام أحمد بسند صحيح: حَدَّثَنا أسود بن عامر، حَدَّثَنا أبو بكر بن
عَيَّاش عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح عنه، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إِذَا -يَعْنِي ضَنَّ النَّاسُ- تَبَايَعُوا بالعينِ،
واتَّبَعُوا أَذْنَابَ البقرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَنْزَلَ
اللهُ بِهِمْ بَلَاءً، فَلَمْ يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ»،
وهو مخرج عند أبي داود من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن نافع عنه، وأبو عبد
الرحمن ليس بالمشهور، وخرجه علي بن عبد العزيز في «مسنده» عن أبي الأحوص بسند حسن،
قال: حَدَّثَنا إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ عن ليث عن عبد الملك عن عطاء عنه لكان
صوابًا من القول.
(1/195)
وقال
ابن حزم: ومن باع من آخَرَ دنانير بدراهم، فلما تمَّ البيعُ بينهما بالتفرق
والتخيير اشترى منه أو من غيره بتلك الدراهم دنانير تلك أو
غيرها أقل أو أكثر، فكلُّ ذلك حلال ما لم يكن عن شرط، لأن كل ذلك عقد صحيح وعمل
منصوص على جوازه، وأما الشرط فحرام، ومنع من هذا قوم وقالوا: إنه باع منه دنانير
متفاضلة، فقلنا: بل هما صفقتان، ولكن أخبرونا أَلَهُ أن يصارفه بعد شهر أو سنة
بتلك الدراهم وتلك الدنانير عن غير شرط، فمن قولهم: نعم، فقلنا لهم: التفاضل
والنسيئة معًا، ومَنْعُهُمْ من النقد هذا عجيب لا نظير له، وقد روى ابن سيرين: أن
عمر خطب فقال: إن الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار سواء مثلًا بمثل، فقال له ابن
عوف: فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب؟! فقال عمر: لا، ولكن ابتع بهذا عرضًا، فإذا قبضته
وكان له نية فاهضم ما شئت وخذ أي نقد شئت.
وقال سليمان بن بشير: أعطاني الأسود بن يزيد دراهم وقال: اشتر لي بها دنانير، ثم
اشترى بالدنانير دراهم كذا وكذا، قال: فبعتها من رجل، فقبضت الدنانير وطلبت في
السوق حتى عرفت السعر، فرجعت إلى بيعي فبعتها منه بالدراهم التي أردت، فذكرت ذلك
للأسود، فلم ير به بأسًا.
وقال ابن عبد البر: وإنما سكت من سكت من الرواة في هذا الحديث عن ذكر فسخ البيع
الذي باعه العامل، فلأنه معروف في الأصول، لأن ما ورد التحريم به لم يجز العقد
عليه، ولا بدَّ من فسخه، وقد جاء منصوصًا في هذا الحديث عند مسلم وفيه:
«فَردُّوهُ».
قال: واحتمل أن يكون العامل فعلَ هذا على أصل الإباحة التي كانوا عليها، ثم نزل
بعدُ التحريمُ. انتهى.
قد تقدم ردُّ هذا القول، وفي الحديث حجة على من يقول -يعني أبا حنيفة-: إن بيع
الربا جائز على أصله من حيث إنه بيع ممنوع بوصفه من حيث هو ربًا، فيسقط الربا أو
يصح البيع.
قال القرطبي: ولو كان على ما ذكر لفسخ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصفقة بردِّ
الزيادة على الصاع.
(1/196)
قال
ابن الجوزي: وفي التخيير له صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التمر الطيب وإقرارهم
عليه دليل على أن النفس يرفق
بها لحقِّها، وهو عكس ما يصنعه جهَّال المتزهدين من حملهم على أنفسهم ما لا تطيق
جهلًا منهم بالسُّنة.
(بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، أوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ
بِإِجَارَةٍ)
2203 - قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ،
أخبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ ابنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُخْبِرُ عَنْ نَافِعٍ،
مَوْلَى ابنِ عُمَرَ: أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرِ
الثَّمَرُ، فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا، وَكَذَلِكَ العَبْدُ وَالحَرْثُ،
سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَ. [خ 2203]
إبراهيم هذا هو ابن يوسف بن يزيد بن زاذان الفراء، وقد تقدم من قول البخاري عن
شيوخه: هذه الصنعة أخذها منهم في حال المذاكرة.
2204 – حَدَّثَنا عبد الله بن يُوسُفَ، أخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، عنْ عبد
الله أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ
أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ». [خ 2204]
قال أبو العباس الطرقي: الصحيح من رواية نافع ما اقتصر عليه في هذا الحديث من
التأبير خاصة، قال: وحديث العبد -يعني «ومَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلهُ مَالٌ
فَمَالُهُ للْبَائِعِ إلاَّ أَنْ يشْتَرطَ الْمُبْتَاعُ» - يذكره عن ابن عمر عن
عمر موقوفًا، قال: وقد رواه عن نافعٍ عبدُ ربِّه بنُ سعيد وبُكَيْر بن الأشجِّ،
فجمعا بين الحديثين مثل رواية سالم وعكرمة بن خالد، فإنهما رويا الحديثين عن ابن
عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/197)
وما
روى النسائي حديث هلال بن العلاء عن أبيه، عن محمد بن مسلمة، عن ابن إسحاق، عن
نافع، عن ابن عمر، عن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بحديث التأبير
والعبد، قال: هذا خطأ، والصواب: حديث ابنه -يعني عن عمر موقوفًا- وقال عبد ربه بن
سعيد لشعبة: لا أعلمهما إلا عن النبي ولم يشك. وقال الدَّارَقُطْني: رواه سفيان بن
حسين عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر، عن النبي، قال غيره: يرويه عن الزهري،
عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي، لا يذكر فيه عمر، ورواه نافع فخالف سالمًا، فجعله
عن ابن عمر عن عمر
من قوله، ووهم ابن معاوية فرواه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي،
والصواب: عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر.
قوله: (هُوَ الصَّحِيح) ورواه ابن إسحاق، وابن أبي ليلى، وأشعث بن سَوَّاد، ومحمد
بن عبيد الله، وسليمان بن موسى، وحميد الأعرج، ويزيد بن سنان، وعبد ربه بن سعيد،
عن نافع عن ابن عمر عن النبي بالقصتين جميعًا.
قال: ووهموا فيه على نافع، وروى القصتين جميعًا مرفوعين الثوري عن عبيد الله بن
عيسى، عن الزهري عن سالم عن أبيه، وسفيان عن عمر عن الزهري، قال: ورواه قتيبة عن
الثوري عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي، ولم يتابع عن ابن دينار، وذكره
البخاري أيضًا في باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، فقَالَ ابنُ
بَطَّالٍ: أراد البخاري أن النبي لَمَّا جعل لبائع أصول النخل المؤبرة أن يدخل إلى
الحائط للسقية وتعهده، ولم يَجُز لمشتري الأصول أن يمنعه الممر إليها، وكذا صاحب
العرية يجوز له أن يدخل لعريته لسقيها أو إصلاحها، ولا خلاف في هذا بين الفقهاء.
وقال أبو عمر: اتفق نافع وسالم عن ابن عمر مرفوعًا في قصة النخل، واختلفا في قصة
العبد، رفعها سالم، ووقفها نافع على عمر بن الخطاب.
قوله: (وَهُوَ أَحَدُ الأَحادِيثِ الأَربَعَةِ التي اختَلفَ فيها نافِعٌ وَسَالم).
(1/198)
وقال
القَزَّازُ: من رواه يشترط بغير هاء، أجاز اشتراط بعض الثمرة، ومن رواه بالهاء لا
يجوز اشتراط الكل، قال: وكذلك وقع في مال العبد بالهاء وبغيرها.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أخذ بظاهر هذا الحديث مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق
فقالوا: من باع نخلًا قد أُبِّرت ولم يشترط ثمرته المبتاع، فالثمرة للبائع، وهي في
النخل متروكة إلى الجذاذ، وعلى البائع السقي، وعلى المشتري تخليته وما يكفي من
الماء، وكذلك إذا باع الثمرة دون الأصل فعلى البائع السقيُ.
وقال أبو حنيفة: سواء أُبِّر أو لم يُؤَبَّر هو للبائع، وللمشتري أن يطالبه بقلعها
عن النخل في الحال، ولا يلزمه أن يصبر إلى الجذاذ، فإن اشترط البائع في البيع ترك
الثمر إلى الجذاذ فالبيع فاسد.
واحتجوا بالإجماع على أن الثمرة لو لم تُؤَبَّر حتى تناهت وصارت بَلَحًا أو
بُسْرًا فبيع الثمرة لا يدخل فيه، فعلمنا أن المعنى في ذكر الإِبَار ظهور الثمرة
خاصة، إذ لا فائدة لذكر الإبار غير ذلك، ولم يفرقوا بين الإبار وغيره، قالوا: وقد
تقرر أن من باع دارًا له فيها متاع، فللمشتري المطالبة بنقله من الدار في الحال.
قال القرطبي: ويقال: أبَرتُ النخلة آبرُها بكسر الباء وضمها، فهي مأبورة، كقوَّمت
الشيء تقويمًا فهو مقوَّم، وإبار كل ثمر بحسبه، وبما جرت عادتهم فيه بما ينبت
ثمرَه ويعقده، وقد يعبر بالتأبير عن ظهور الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فيها
شيئًا.
وقال النووي: أبَرتُه آبُرُه أبرًا بالتخفيف كأكلته آكُلُه أكلًا، وأبَّرته
بالتشديد أؤبِّره تأبيرًا كعلَّمته أعلَّمه تعليمًا، والإبار: هو شق طلع النخلة،
سواء خُطَّ فيه أم لا، ولو تأبرت بنفسها، أي: تشققت، فحكمها في البيع حكم المؤبرة
بفعل الآدمي، وفي «الكامل» للمبرد: لما غزا أبو جُبَيْلَةَ المدينة، كان مالك بن العجلان
نظر فيه من ثمرة طيبة فقال: إنه تقرر علينا ثمر هذه النخلة فأبرتها، فحديث فلما
جاء مالك ووجدها كذلك قال:
(1/199)
جددتُ
جَنَى نخلتي ظالمًا وكان الثمار لمن قد أبَرْ
فلما قدم النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المدينة أطرفوه بهذا الحديث يعني به.
(بابُ بَيعِ المخَاضَرَةِ)
2207 - ذكر فيه حديث إسحاق عن أنس: (نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالمُخَاضَرَةِ ... ) الحديث، وهو من أفراد
البخاري، وزعم الإسماعيلي أن في بعض الروايات: «والمخاضرةُ
بيعُ الثَّمَارِ قبلَ أنْ تطعمَ، وبيعُ الزَّرعِ قبلَ أن يشتدَّ ويفرك منه». [خ
2207]
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأجمعوا أنه لا يجوز بيع الزرع أخضر إلا القصيل لأكل الدواب،
وأجمعوا أنه يجوز بيع البقول إذا قُلِعَتْ من الأرض كالفجل والكُرَّاثِ والبصل
واللفت وشبهه، فأجاز شراءها مالك وقال: إذا استقل ورقه وأمن، والأمان عنده أن يكون
ما يقطع منه ليس بفساد.
وقال أبو حنيفة: بيع النبت المغيب في الأرض جائز، وهو بالخيار إذا رآه.
وقال الشافعي: لا يجوز بيع ما لا يُرى، وهو عندي بيع الغرر.
(بابُ بَيع ِالجُمَّارِ وَأَكلِهِ)
2209 - ذكرَ حَديثَ ابنِ عُمَرَ: كُنْتُ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وَهُوَ يَأْكُلُ جُمَّارًا، فَقَالَ: «مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ
كَالرَّجُلِ المُؤْمِنِ» فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا
أَحْدَثُهُمْ، قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ». [خ 2209]
قال ابن المنير: لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على بيع الجُمّار إِلَّا
بِالْقِيَاسِ على أكله، إذْ يدلُّ على أَنه مُبَاح، واستغرب الشَّارِح ذكره لبيع
الجُمّار بِنَاء مِنْهُ على أَنه مجمع عَلَيْهِ، وَأَنه لَا يتخيّل لأحد فِيهِ
الْمَنْع. وَقد وَقع فِي عصرنا لبَعْضهِم إِنْكَار على من جمَّرَ نَخلَه ليأكله
تحرجًا من أكل غَيره مما لم يَصْفُ من الشُّبهة وَنسبه لإضاعة المَال، وَذهل عَن
كَونه حفظ مَاله بِمَالِه.
(1/200)
قال
ابن التين: وأَكْلُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بحضرة القوم يرد على من كره من
أهل العلم إظهار الأكل، وقال: ينبغي أن يُخفى مدخله ما يُخفى مخرجه.
(بَابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي
البُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالمِكْيَالِ وَالوَزْنِ، وَسُنَّتِهِم عَلَى
نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمُ المَشْهُورَةِ)
وَقَالَ النَّبِيُّ لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:
6].
التعليق الأول رُوِيَ مسندًا عنده بعد، وتفسير الآية الكريمة يذكر في هذا الباب
نصًا.
2211 - ثم ذكر حديث عائشة قَالَتْ: قَالَتَ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ لرَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ
عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ
مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ». [خ 2211]
وذكر حديث أبي طَيْبَةَ الحجَّام, وقال: (قالَ عَبدُ الوَهَّابِ عَن أَيُّوبَ عَن
مُحَمَّدٍ: لَا بَأسَ العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأخُذُ لِلنَّفَقَةِ
رِبحًا).
قال ابن المنير: مقصود البخاري بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضي
به على ظواهر الألفاظ، وترد إلى ما خالف الظواهر من العرف، ولهذا ساق: (لَا بَأسَ
العَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ) أي: لا بأس أن يبيعه سلعة مرابحة العشرة بأحد عشر,
وظاهره: أن ربح العشرة أحد عشر، فتكون الجملة أحدًا وعشرين, ولكن العرف فيه أن
للعشرة دينارًا ربحًا, فيقضى بالعرف على ظاهر اللفظ, فإذا صحَّ الاعتماد على العرف
معارضًا بالظاهر، فالاعتماد عليه مطلقًا أولى, ووجه دخول حديث أبي طيبة في
الترجمة: أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يعارضه اعتمادًا على العرف في مثله.
(1/201)
قال
ابن التين وقوله: (وَيَأخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبحًا) إن أراد نفقة نفسه، فمذهب مالك
أنها لا تحسب ولا يحسب لها ربح، وإن أراد نفقة الرقيق فتجب عند مالك ويحسب لها
ربح، فهو خلاف مالك على كل حال إلا أن يريد أنه بيَّن ذلك، أو كانت عندهم عادة،
فتحتاج بيان هذه النفقة، لأنه يحتمل أن تكون كثيرة أو قليلة، وفي أكثر ما في الباب
دليل بوب عليه أن العادة تقوم عند عدم الشرط مَقامَه وهو مذهب مالك وغيره، وقال
الشافعي: لا اعتبار بذلك.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقوله: (يَأْخُذُ للعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ) يعني: لكل
عشرة من رأس المال دينار.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فأجازه قوم وكرهه آخرون، وممن كرهه ابن عباس، وابن عمر،
ومسروق، والحسن وبه قال أحمد وإسحاق، قال أحمد: البيع مردود.
وأجازه سعيد ابن المسيَّب والنخعي وهو قول مالك والثوري والكوفيين والأوزاعي.
وحجة منكره: لأنه بيع مجهول، وحجة من أجازه: بأن الثمن معلوم، والربح معلوم.
وأصل هذا الباب بيع الصبرة كل قفيز بدرهم، ولا يعلم مقدار ما في الصبرة من الطعام،
فأجازه قوم وأباه آخرون، ومنهم من قال: لا يلزم إلا القفيز الواحد، وعن مالك: لا
يأخذ في المرابحة أجر السمسار ولا أجر الشدِّ والطَّي ولا النفقة على الرقيق، ولا
كراء البيت، وإنما يحسب هذا في أصل المال، ولا يحسب له ربح، وأما كراء البز فيحسب
له الربح، لأنه لا بد منه، فإن أربحه المشتري على ما لا تأثير له جاز إذا رضي
بذلك، وقال أبو حنيفة: يحسب في المرابحة أجرة القصارة، وكراء
(1/202)
البيت،
والسمسرة، ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام علي بكذا، يقوم عند عدم الشرط مقامه،
فهو مذهب مالك وغيره، وقال الشافعي: لا اعتبار بذلك، واستدلَّ جماعة من أصحابه على
جواز القضاء على الغائب في حقوق الآدميين لا حقوق رب العالمين، وكأنه غير جيد،
لأنها كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون
غائبًا عن البلد أو مستترًا لا يقدر على الخروج، وإنما هو إفتاء، فإنه إن صحَّ ما
قُلتِ فخذي من ماله بالمعروف.
وفيه دلالة أن المرأة لا تأخذ من مال زوجها شيئًا بغير إذنه قلَّ أو كثر، ألا ترى
أنه لما سألته قال لها: لا، ثم استثنى فقال: إلا بالمعروف.
وقولها في رواية أخرى: «مِسِّيكٌ» قال أبو موسى المديني: بكسر الميم وتشديد السين،
وقال ابنُ قُرْقُولٍ: كذا ضبطه أكثر المحدثين، ورواه المتقنون بفتح الميم وتخفيف
السين وكسرها، كذا عند المستملي وأبي بحر، وكذا ذكر أهل اللغة، لأن أمسك لا يبنى
منه فعل، إنما يُبنى من الثلاثي, وذكر السُّهَيلي أن أبا سفيان كان حاضرًا عند سؤالها،
فقال لها: أنت في حل مما أخذت، وهذا يوضح لك أنه ليس قضاء على غائب.
2212 – حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حدَّثَنَا ابن نُمَيْرٍ، أخْبَرَنَا هِشَامٌ،
وحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ فَرْقَدٍ، سَمِعْتُ هِشَامَ
بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: {وَمَنْ كَانَ
غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
[النساء: 6] أُنْزِلَتْ فِي وَالِي اليَتِيمِ الَّذِي يقومُ عَلَيْهِ وَيُصْلِحُ
فِي مَالِهِ، إنْ كَانَ فَقِيرًا أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ. [خ 2212]
(1/203)
هذا
الحديث أخرجه في التفسير فقال: حَدَّثَنا إسحاق بن منصور, حدَّثَنَا ابن نمير،
ولَمَّا استخرج أبو نعيم هذا الحديث في التفسير من طريق إسحاق بن إبراهيم عن ابن
نمير قال: رواه -يعني البخاري- عن إسحاق بن منصور, عن ابن نمير.
وقوله: (بابُ بَيعِ الشَّريكِ مِن شَريكِهِ) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: بيع الشريك من
شريكه في كل شيء مشاع جائز, وهو كبيعه من الأجنبي، فإن باعه من الأجنبي فللشريك
الشفعة لعلة الإشاعة، قال البخاري في باب بيع الأرض والدور: ورواه عبد الرحمن بن
إسحاق عن الزهري, عبد الرحمن هذا ... مدني نزل البصرة.
وقوله: (قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فِي كُلِّ مَالٍ).
ورواه أحمد بن حنبل في «مسنده» عن عبد الرزاق بلفظ: «في كلِّ مالٍ يُقْسَمُ».
ورواهُ إسحاق بن إبراهيم عنه فقال: «فِي الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا
قُسِمَتِ الْحُدُودُ، وَعَرَفَ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ فَلَا شُفْعَةَ».
(بَابٌ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَرَضِيَ)
2215 - ذكر حديث ابن عمر عن الثلاثة الذين سُدَّ عليهم الغار مطوَّلًا. [خ 2215]
قوله: (آوَاهُم) وفي رواية: <فَأَوَوا> هو بقصر الهمزة, ويجوز مدُّها, أي:
انضموا إلى الغار, وجعلوه لهم مأوى.
وقول بعضهم: (ادْعُوا بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ) استدلَّ به من يقول: يُسْتَحب
للإنسان أن يدعو الله تعالى بصالح عمله ويتوسل به، وفيه إثبات كرامات الأولياء
والصالحين.
وقوله: (لا أَغبِقُ) من الغُبوق, وهو اسم للشراب الْمُعَدِّ للعشيِّ.
وقوله: (دَأْبي وَدَأْبَهُما) أي: شأني وشأنهما، قال الفراء: أصله مِن دأبتُ، إلا
أن العرب حوَّلت معناه إلى الشأن.
وقوله: (فنَأَى بي طَلَبُ الشَّجَرِ يَومًا) منهم من يجعل الهمزة بعد الألف, وهما
لغتان وقراءتان, وهو البعد. أي: بعد بي طلب الشجر التي ترعاها الإبل.
وقوله: (لَمْ أَرُحْ) هو من الرواح، وهو ما بعد الزَّوال.
(1/204)
وقوله:
(يَتَضَاغَونَ) أي: يضجُّون من الجوع، والضُّغَاءُ ممدود مضموم الأول: صَوت
الذِّلة والفاقة.
وقوله: (فَافرُج) بضم الراء (عَنَّا فُرْجَةً) هي بضم الفاء، وزعم ابن التين أنه
ضبط في أكثر الأمهات (فَافْرُجْ) بضم الراء، وذكر صاحب «الصحاح»: أنه يكسر.
وذكر البخاري هنا: بـ (فَرْقٍ مِنْ ذُرَةٍ) وقال في المزارعة: «فَرْقُ أَرُزٍّ).
قوله: (فَزَرَعتُ حَتَّى اشتَرَيتُ مِنهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا) هو موضع الترجمة,
وبه استدل الحنفيون وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذن
مالكه إذا أجازه المالك بعد ذلك, وموضع الدلالة قوله: (فَلَم أَزرَعهُ حَتَّى
جَمَعتُ مِنهُ بَقَرًا) وفي رواية: <فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ
مِنْهُ الأَمْوالُ>. انتهى.
للشافعي أن يقول هذا إخبار عن شرع من قبلنا, وهل هو شرع لنا؟ فيه خلاف عند
المحققين، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: استدلَّ به أحمد على أن المستودع إذا اتجرَ في
مال الوديعة
وربح أن الربح إنما يكون لرب الملك, قال: وهذا لا يدل على ما قال, وذلك أن صاحب
الفَرَق إنما تبرع بفعله وتقرب به إلى الله جل وعز. وقد قال: إنه اشترى بقرًا, وهو
تصرف منه في أمر لم يوكله به, فلا يستحق عليه ربحًا, والأشبه معناه أنه قد يتصدق
بهذا المال على الأجير بعد أن اتجر فيه وأَنْمَاه.
والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء في المستودَع إذا اتجر بمال الوديعة, والمضارب إذا
خالف رب المال فربح أن ليس لصاحب المال من الربح شيء وعند أبي حنيفة المضارب ضامن
رأس المال، والربح له ويتصدق به والوضيعة عليه, وقال الشافعي: إن كان اشترى السلعة
بعين المال فالبيع باطل, وإن كان بغير عينه فالسلعة ملك المشتري وهو ضامن للمال.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأما من اتجر في مال غيره:
(1/205)
فقالت
طائفة: يطيب له الربح إذا ردَّ رأس المال إلى صاحبه، سواء كان غاصبًا للمال أو كان
وديعةً عندهم تعديًا فيه، هذا قول عطاء ومالك والليث والثوري والأوزاعي وأبي يوسف،
واستحبَّ مالك والثوري والأوزاعي تنزهه عنه ويتصدق به.
وقالت طائفة: يرد المال ويتصدق بالربح كله، ولا يطيب له منه شيء، هذا قول أبي
حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر.
وقالت طائفة: الربح لرب المال، وهو ضامن لما تعدَّى فيه، وهو قول ابن عمر وأبي
قلابة وبه قال أحمد وإسحاق.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأصح هذه الأقوال قول من قال: إن الربح للغاصب والمتعدي,
والله أعلم.
(بَابُ الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الحَرْبِ)
2216 - حدَّثَنَا أبو النُّعْمَانِ، حدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عنْ أَبِيهِ، عنْ أَبِي
عُثْمَانَ، عنْ عبد الرحمن بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النبيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ
يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بَيْعًا أَمْ
عَطِيَّةً -أَوقَالَ: أَم هِبَةً-؟ قَالَ: لاَ، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ
شَاةً». [خ 2216]
وفي موضع آخر: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ مِئَةً وَثَلاثينَ رَجُلًا، فَقَالَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ
صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ». الحديث, وفيه:
(فَصُنِعَتْ، وَأَمَرَ بِسَوَادِ البَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللهِ، مَا في
الثَّلاَثِينَ وَالمِئَة إِلَّا وقَدْ حَزَّ لَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ
كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، وَجَعَلَ مِنهَا قَصْعَتَيْنِ، وَأَكَلُوا أَجْمَعُونَ
وَشَبِعْنَا، وَفَضَلَ فِي القَصْعَتَيْنِ فَحَمَلْناهُ عَلَى البَعِيرِ).
(1/206)
قال
أبو عبد الله: (مُشْعَانٌّ) طويل جدًا فوق الطول.
كلام البخاري لم يبِنْ منه مراده, هل كلامه عائد على الرجل أو على شعره، والذي
رأيت عند اللغويين ما ذكره ابنُ التَّيَّانيّ في «الموعب» عن الأصمعي: شَعْر
مُشْعَانٌّ بتشديد النون: منتفشٌ.
وأخبرني جويرية قال: خرج الوليد وهو مشعان الرأس وهو يقول: هلك الحجاج وقرة بن
شريك ويتفجع عليهما، واشْعَانَّ الشعر اشْعِيْنَانًا وهو الثائر المتفرق، وفي
«التهذيب»: تقول العرب: رأيت فلانًا مشعان الرأس إذا رأيته شعثًا منتفش الرأس
مُغبرًّا، وروى عمرو عن أبيه: أشعن الرجل إذا ناصَى عدوه فاشعانَّ شعره، وفي
«الجامع»: رأيت شعر فلان مشعانًا إذا رأيته جافًّا طائر الشعر، وعن المستملي: هو
البعيد العهد بالدهن، وقال ابن التين: هو مثلُ احْمَارَّ.
و (سَوادُ البَطنِ) قال ابنُ قُرْقُولٍ: قيل: هو الكبد خاصة، وقيل: حشوة البطن
كلها.
و (حَزَّ) قطع، والحُزَّةُ بضم الحاء: القطعة.
وهذا الحديث من أعلام نبوته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفيه رأفتُه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالحاضرين وتفقد الغائبين، وهو رد على جهلة المتصوفة حيث
يقولون: من غاب فات نصيبه.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: فيه ثبوت ملك الكافر على ما في يده.
وفي قوله: (أَمْ هِبَةً) دليل على قبول الهدية من المشرك لو وَهَب، وقد قال صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِعِيَاضِ بنِ حِمَار حين أهدى له في شركه: «إِنَّا لَا
نقبلُ زَبَدَ الْمُشْرِكينَ» يريد عطاءهم، قال أبو سليمان: يشبه أن يكون ذاك
منسوخًا، لأنَّهُ قد قبل هدية غير واحد من أهل
الشرك، أهدى له الْمُقَوْقَسُ وأُكَيْدَرُ دومة، قال: إلا أن يزعم زاعم أن بين
هدايا أهل الشرك وهدايا أهل الكتاب فرقًا. انتهى كلامه.
وفيه نظر في مواضع:
(1/207)
الأول:
قوله: إلا أن يزعم زاعم أن بين هدايا أهل الشرك وهدايا أهل الكتاب فرقًا، ردَّه
قول عبد الرحمن في نفس هذا الحديث: إنَّ هَذَا الرجلَ كانَ مشركًا، وقد قال له:
(أهدية أم بيع؟).
الثاني: هدية أُكَيْدر كانت قبل إسلام عبد الرحمن بن أبي بكر راوي هذا الحديث، لأن
إسلامه كان في هدنة الحديبية، وذلك في سنة سبع، وهدية أُكَيْدر كانت بعد وفاة سعد
بن معاذ، ذكر البخاري ... عنْ أنسِ بنِ مالكٍ: «إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ أَهْدَى
إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جُبَّةً منْ سُنْدُسٍ، فَعَجِبَ
النَّاسُ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
فِي الجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَه» وسعد توفي بعد غزوة بني قريظة سنة أربع في قول
ابن عقبة، وعند ابن إسحاق سنة خمس، وأيًّا ما كان فهو قبل إسلام عبد الرحمن، وبعث
حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس في سنة ستٍّ، ذكره ابنُ مَنْدَه وغيره، فدلَّ أنه
قبل هذا الحديث.
الثالث: لقائل يقول: إن هذين اللذين قبل منهما هديتهما ليسا سوقة، إنما هما ملكان،
وبينهما وبين السوقة فرقان، فقبول هديتهما تألُّفًا، لأنه لو ردَّ هديتهما لحصل
منهما من ذلك بعض الشيء، وكذا يقال في هدية كسرى المذكورة في كتاب الحربي من حديث
ثُوَيْرِ بنِ أبي فَاخِتَة عن أبيه عن علي، وردَّ هدية عياض بن حمار، وكان بينه
وبين النبي معرفة قبل البعثة، فلما بُعِثَ أهدى له فردَّ هديته، وكذا ذو
الجَوْشَن، لما فرغ النبي من بدر أهدى له فرسًا فلم يقبلها، وكذا مُلَاعبُ
الأَسِنَّةِ، حين رد هديته. ذكر الأولين أحمد والأخير الحربي كلهم كانوا سوقة
ليسوا ملوكًا، وأهدى له ملك أيلة وفروة الجذامي فقبلها، وهي من الباب الذي ذكرناه.
وقد ذكر أبو عبيد في «كتاب الأموال» فيما رويناه عنه في كتاب أكيدر لما ذكرناه،
قيل: إن سيدنا
%ج 3 ص 245%
(1/208)
رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما قبل هدية أبي سفيان بن حرب، لأنها كانت في
مدة الهدنة بينهما، وكذا المقوقس إنما قبل هديته، لأنه أكرم حاطبًا وأقر بنبوته
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولم يؤيسه من إسلامه، وقبول هدية الأكيدر، لأن خالدًا
قدم به، فحقن صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دمه وصالحه على الجزية، لأنه كان
نصرانيًا ثم خلى سبيله، يعني: فأهدى، وكذا ملك أيلة لما أهدى كان كساه النبي بردًا
وكتب له ببحرهم، وهذا كله يرجع إلى أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان لا يقبل
هدية إلا من كتابيٍّ.
الرابع: نقول: قَبوله هديتهم، لأنه يثيبهم عليها كما أسلفناه، وقبوله هذا المشرك
أيضًا ذلك تأنيسًا له، ولأن يثيبه بأكثر مما أهدى.
وقد اختلف الناس فيما يُهْدَى للأئمة، فروي عن علي: أنه كان يوجب ردَّه إلى بيت
المال، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: ما أَهْدَى إليه أهل الحرب فهو له دون
بيت المال.
قال أبو سليمان: وأما ما يُهْدَى لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
خاصة فهو في ذلك بخلاف الناس، لأن الله جلَّ وعزَّ اختصه في أموال أهل الحرب
بخاصية لم تكن لغيره قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ} [الحشر: 6]، بعد قوله: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7]،
فسبيل ما تصل إليه يده من أموالهم على جهة الهدية والصلح سبيل الفيء يضعه حيث أراه
الله، فأما المسلمون إذا أهدوا إليه فكان من سجيته ألا يردها بل يثيبهم.
وفيه أن ابتياع الأشياء من المجهول الذي لا يُعْرَفُ جائزٌ حتى يطَّلع على ما يلزم
التورع عنه، أو يوجب ترك مبايعته لغصب أو سرقة وشبههما، قال ابن المنذر: من كان
بيده شيء فظاهره أنه مالكه، ولا يلزم المشتري أن يعلم حقيقة ملكه.
واختلف العلماء في مبايعة مَنِ الغالبُ على مالِه الحرامُ وقبول هديته وجائزته:
(1/209)
فرخصت
فيه طائفة، فكان الحسن بن أبي الحسن لا يرى بأسًا أن يأكل الرجل من طعام العَشَّار
والصرَّاف والعامل، ويقول: قد أحل الله تعالى طعام اليهودي والنصراني، وقد أخبر جل
وعز أن اليهود أكَّالون للسحت، قال الحسن: ما لم
يعرفوا شيئًا منه حرامًا، يعني: معيَّنًا.
وعن الزهري ومكحول: إذا كان المال فيه حرام وحلال فلا بأس أن يؤكل منه، إنما يكره
من ذلك الشيء الذي يُعْرَفُ بعينه.
وقال الشافعي: لا أحب مبايعة من أكثرُ ماله ربًا أو كسبُه من حرام، فإن بويع لا
يفسخ البيع.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: والمسلم والذمي والحربي في هذا سواء.
وسيأتي ذكره أيضًا إن شاء الله في كتاب الهدية.
(بَابُ شِراءِ الممْلُوكِ مِنَ الحَرْبيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِهِ)
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِسَلْمَانَ: «كَاتِبْ» وَكَانَ
حُرًّا، فَظَلَمُوهُ وَبَاعُوهُ.
هذا التعليق خرَّجه ابن حبان في «صحيحه» والحاكم من حديثه عن أبي الفضل الحسن بن
يعقوب, حَدَّثَنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب, حَدَّثَنا علي بن عاصم, حَدَّثَنا
حاتم بن أبي صَغِيْرَةَ، عنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ, عن زيد بن صُوحان, فذكره وقال:
هذا حديث صحيح عالٍ في ذكر إسلام سلمان الحديثَ، وفيه: حَتَّى لَقِيَنِي رَكْبٌ
مِنْ كَلْبٍ، فَسَأَلْتُهُمْ: فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامِي حَمَلُونِي حَتَّى
أَتَوا بِلَادَهُم فَبَاعُوني, فقال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كَاتِبْ
يَا سَلمَانُ».
(1/210)
وقال
البزار: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنا بكرُ بنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنا
محمدُ بْنِ إِسْحَاقَ، سَمِعَ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ
بْنِ لَبِيدٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ الحديثَ، وفيه: «ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ
كَلْبٍ تُجَّارٌ، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ
وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ، قَالُوا: نَعَمْ،
فَأَعْطَيْتُهُمْ وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي
الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ بأُوقيةٍ, فقال رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كَاتِب يَا سَلمَانُ»، فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة
نخلة أحييها له, وعلى أربعين أوقية، الحديثَ.
وعند الحاكم أيضًا ما يدل أنه هو ملَّك رقبته لهم, وهو عنده من حديث أبي الطفيل عن
سلمان صحيحًا, وفيه: «فَمَرَّ بِي نَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلْتُهُمْ عنْ
رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالُوا: نَعَمْ، ظَهَرَ فِينَا
رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَكُونَ
عَبْدًا لِبَعْضِكُمْ عَلَى أَنْ تَحْمِلُونِي عَقِبَهُ وَتُطْعِمُونِي مِنَ
الْكِسَرِ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ إِلَى بِلَادِكُمْ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَبِيعَ
بَاعَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَسْتَعْبِدَ اسْتَعْبَدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ:
أَنَا فَصِرْتُ عَبْدًا لَهُ حَتَّى أَتَى بِي مَكَّةَ فَجَعَلَنِي فِي بُسْتَانٍ
لَهُ» الحديثَ.
وعند البخاري: حَدَّثَنِي الحَسَنُ قالَ: حَدَّثَنا مُعْتَمِرٌ، قَالَ أَبِي
حَدَّثَنا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ: «أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَة عَشَرَ،
مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ». وسيأتي طرف منه في الفضائل, قَالَ البُخَارِيُّ: وسُبي
عمار وصهيب وبلال. انتهى.
(1/211)
يعني
البخاري أنهم كانوا في الجاهلية يسبي بعضهم بعضًا, ويمتلكون بذلك, وقد روينا عن
سعد أنه قال: أخبرنا أبو عامر العقدي وأبو حذيفة موسى بن مسعود قالا: حَدَّثَنا
زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: «إِنِّي
رَجُلٌ مِنَ العربِ منَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ, وَلَكِنِّي سُبِيْتُ، سَبَتْنِي
الرُّومُ غُلَامًا صَغِيرًا بَعْدَ أَنْ عَقَلْتُ أهلي وَعَرَفْتُ نَسَبِي»
الحديثَ.
قَالَ البُخَارِيُّ: قال الله جل وعزَّ: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
فِي الرِّزْقِ} الآية [النحل: 71] , قال ابن التين: معناه: أن الله فضَّل الملَّاك
على مماليكهم, فجعل المملوك لا يقوى على ملك مع مولاه, وأعلم أن المالك لا يشرك
مملوكه فيما عنده, وهما من بني آدم, فكيف تجعلون بعض الرزق الذي يرزقكم اللهُ لله
وبعضه لأصنامكم فتشركون بين الله وبين الأصنام، وأنتم لا ترضون ذلك مع عبيدكم
لأنفسكم؟!
(1/212)
2217
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنا أَبُو الزِّنَادِ
عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِسَارَةَ،
فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ
الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ
النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي
مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِي
حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ
مِنْ مُؤْمِنٍ غَيْرِي وَغَيْركِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَامَتْ
تَوَضَّأَتْ، ثُمَّ صَلَّتْ وَقَالَتْ: اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ
وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ
عَلَيَّ الكَافِرَ،
قَالَ: فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ». [خ 2217]
قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ: «فقَالَتْ:
اللهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ: هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ،
أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا
شَيْطَانًا، أرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ، فَرَجَعَتْ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللهَ كَبَتَ الكَافِرَ
وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً؟».
(1/213)
ذكر
أبو محمد عبد الملك بن هشام في كتاب «التيجان»: (أن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خرج من مدين إلى مصر, وكان معه من المؤمنين ثلاث مئة وعشرون رجلًا, وبمصر
ملكها عمرو بن امرئ القيس بن نابليون بن سبأ، وكان خالَّ إبراهيم صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لشدة إعجابه به, فوشى به خياط كان إبراهيم يمتار منه, فأمر بإدخال
إبراهيم وسارة, ثم نحَّى إبراهيم وقام إلى سارة, فلما صار إبراهيم صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ خارج القصر جعله الله له كالقارورة الصافية, فرأى الملك وسارة وسمع
كلامهما, فهمَّ عمرو بسارةَ ومدَّ يده فيبست, فمدَّ الأخرى فكذلك, فلما رأى ذلك
كفَّ عنها وقال: يا سارة أهكذا يصيب الرجال معك؟! فقالت: أنا ممنوعة من الخلق إلا
من بعلي إبراهيم, فأمر بدخوله وقال له: لا تحدث يا إبراهيم نفسك بشيء, فقال: أيها الملك
إن الله جل وعز جعل قصرك لي كالقارورة, فما خفي عليَّ شيء مما فعلت, فقال الملك:
لكما شأن عظيم يا إبراهيم).
قال ابن هشام: وكان الخياط أخبر الملك بأنه رآها تطحن, فقال الملك: يا إبراهيم ما
ينبغي لهذه أن تخدم نفسها, فأمر له بهاجر.
وفي «المعارف» لابن قتيبة: القرية الأردن, والملك صادوق, وكانت هاجر لملك من ملوك
القبط.
وعند الطبري: كانت امرأة ملك من ملوك مصر, فلما قتله أهل عين شمس احتملوها معهم,
وزعم أن الملك الذي أراد سارة اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك.
وذكر السُّهَيلي في «الروض»: أن سارة هي بنت توبيل بن ناحور، وقيل: سارة بنت هاران
بن ناحور، وقيل: بنت هاران بن تارخ،
(1/214)
وهي
بنت أخيه على هذا, وأخت لوط, قاله الْعُتْبِي في «المعارف»، والنَّقَّاشُ في
«التفسير» قال: وذلك أن نكاح بنت الأخ كان حلالًا إذ ذاك، ثم إن النَّقَّاشَ نقض
هذا القول فقال في تفسير قوله جلَّ وعز: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]: هذا يدل على تحريم بنت الأخ على لسان نوح صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ.
قَالَ السُّهَيلي: وهذا هو الحق, وإنما توهموا أنها بنت أخيه، لأن هاران أخوه وهو
هاران الأصغر، وكانت هي بنت هاران الأكبر وهو عمُّه.
قال ابن الجوزي: على هذا الحديث إشكال ما زال يختلج في صدري، وهو أن يقال: ما معنى
توريته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الزوجة بالأخت، ومعلوم أنَّ ذِكْرَهَا
بالزوجية أسلمُ لها، لأنه إذا قال: هذه أختي قال: زوجنيها، وإذا قال: امرأتي، سكت،
هذا إن كان الملك يعمل بالشرع، فأما إذا كان كما وصف من جَوْرِه فما يبالي أكانت
زوجة أو أختًا، إلى أن وقع لي أن القوم كانوا على دين المجوس، وفي دينهم أن الأخت
إذا كانت زوجة كان أخوها الذي هو زوجها أحق بها من غيره، فكان الخليل صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أراد أن يستعصم من الجبار بذكر الشرع الذي يستعمله، فإذا هو جبار
لا يراعي جانب دينه، قال: واعترض على هذا بأن الذي جاء بمذهب المجوس زرادشت وهو
متأخر عن الزمان، فالجواب: أن لمذهب القوم أصلًا قديمًا ادَّعاهُ زرادشت وزاد عليه
خرافاتٍ أُخَرَ، وقد كان نكاح الأخوات جائزًا من زمن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ويقال: إنَّ حرمته كانت على لسان موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
قال: ودلَّ على أن دين المجوس له أصل ما رواه أبو داود: «أنَّ النبيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أخذَ الجزيةَ منْ مَجُوسِ هَجَر».
ومعلوم أن الجزية لا تؤخذ إلا ممن له كتاب أو شبهة كتاب، ثم سألت عن هذا بعض علماء
أهل الكتاب،
(1/215)
فقال:
كان من مذهب القوم أن من لها زوج لا يجوز أن تتزوج إلا أن يهلك زوجها، فلما علم
إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هذا قال: هي أختي، كأنه قال: إن كان الملك
عادلًا فخطبها مني أمكنني دفعه، وإن كان ظالمًا تخلصت من القتل، وقيل: إن النفوس
تأبى أن يتزوج الإنسان بامرأة وزوجها موجود، فعدل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن
قوله: زوجتي، لأنه يؤدي إلى قتله أو طرده عنها وتكليفه لفراقها.
وقال القرطبي: قيل: إن ذلك الجبار كان من سيرته أنه لا يغلب الأخ على أخته ولا
يظلمه فيها، وكان يغلب الزوج على زوجته، وعلى هذا يدل مساق الحديث، وإلا فما الفرق
بينهما في حق جبار ظالم؟! وهذا من باب المعاريض الجائزة والحِيَلِ من التخلص من
الظلمة، بل نقول: إنه إذا لم يتخلص رجل من الظلمة إلا بالكذب الصراح جاز له أن يكذب،
وقد يجب في بعض الصور بالاتفاق لكونه ينجي نبيًّا أو وليًّا ممن يريد قتله، أو
نجاة المسلمين من عدوهم، انتهى.
الذي ذكرناه من عند ابن هشام يرد هذا كله فينظر.
وقولها: (فَغَطَّ) قال ابن التين: ضبط في بعض الأصول بفتح الغين، وصوابه بالضم،
كذا في بعض الأصول.
و (رَكَضَ بِرِجْلهِ) أي: ضرب بها.
وقول الأعرج: (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إنَّ أبَا هُرَيْرَةَ: قالَ: اللهُمَّ إِنْ
يَمُتْ) الحديثَ موقوف الظاهر، وكذا ذكره أصحاب الأطراف، وكأن أبا الزناد روى
القطعة الأولى مسندة وهذه موقوفة.
وقوله: (مَا أَرسَلتُمْ إِليَّ إِلَّا شَيطانًا) سبب قوله ذلك أنه جاء في بعض
الروايات لما قبضت يده عنها قال لها: ادعي لي، فقال ذلك لئلا يتحدث بما ظهر من
كرامتها فتعظم في نفوس الناس وتتبع، فَلبس على السَّامع بِذكر الشَّيْطَان.
و (آجَرُ) هي هَاجر من حَقْن من كَوْرَةِ أَنْصِنَا.
و (كَبَتَ الكافرَ) أي: ردَّه خائبًا، وقيل: أحزنه، وقيل: أغاظه، لأن الكبت شدة
الغيظ، وقيل: صرعه وصرفه، وقيل: أذلَّه، وقيل:
(1/216)
أخزاه،
وقيل: أصله كَبَدَ، أي: بلغ الهم كَبِدَه، فأبدل من الدال تاء.
وقولها: (وَأخدَمَ وَلِيْدَةً) أي: أعطى خادمًا.
وفيه قبول هدية المشرك، وهذا موضع الدلالة لما بوب البخاري، وزعم الخطابي أن من
قال لامرأة: أنت أختي، لا يريد طلاقًا لم يكن طلاقًا، ولو قال: مثل أختي، ولم يرد
الطلاق يكون ظهارًا.
وفيه دلالة لمن لم ير طلاق المكره واقعًا، والله أعلم.
2218 - ثم ذكر البخاري حديث اختصام سعد وعبد بن زمعة الحديث المتقدم. [خ 2218]
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مناسبة ذكره في هذا الباب أن عبد بن زمعة قال: هذا ابن
أَمَةٍ، أي: ولد على فراشه، فأثبت لأبيه أمةً وملكًا عليها في الجاهلية، فلم ينكر
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذاك وسمع خصامها، وهو دليل على تنفيذ عهد المشرك
والحكم به.
وذكر البخاري في حديث حكيم بن حزام (أَتَحَنَّثُ) أو (أتَحَنَّتُ)، كذا في نسخة
السماع، الأول بالثاء المثلثة والثاني بالمثناة وعليها تمريض، وفي بعض النسخ
بالعكس، كذا ذكره ابن التين، قال: ولم يذكر أحد من اللغويين التاء المثناة، وإنما
هو بالمثلثة كما جاء في حديث حراء: (فَيتَحنَّث) أي: يتعبد، وذكر أبو الفضل عياض:
أن التاء المثناة غلط من جهة المعنى، والرواية صحيحة، والوهم فيه من شيوخ البخاري
بدليل قول البخاري ويقال أيضًا: عن أبي اليمان، والصحيح الذي روته الكافَّةُ
بالمشددة، ويحتمل على تقدير الصحة أن يكون أصلها من الحانوت أو الحانة، قال ابن
الأثير: كانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت والحانةُ مثله، فعلى هذا التقدير
(أَتَحَنَّثُ) أي: أتجنب موضع الخمارين والحانة.
(1/217)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: غرض البخاري في هذا الباب إثبات ملك الحربي المشرك، وجواز تصرفه في
ملكه بالبيع والهبة والعتق وجميع ضروب التصرف, إذ أقرَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ سلمان عند مالكه الكافر، وكذلك كان أمر عمار وصهيب وبلال، باعهم ملاكُهم
-من الكفار- المسلمين، واستحقوا أثمانهم.
وقال الطبري: إن قال قائل: كيف جاز لليهودي ملك سليمان وهو مسلم؟ فالجواب: أن حكم
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وشريعتَه أن من غلبه من أهل الحرب على نفس غيره
أو ماله، ولم يكن المغلوب على ذلك ممن دخل في صبغة الإسلام فهو لغالبه ملكًا، وكان
سلمان حين غلب على نفسه غير مؤمن، وإنما كان إيمانه إيمان تصديق بالنبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا بُعِثَ مع إقامته على شريعة عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فأقره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مملوكًا لمن كان في يده، إذ كان
الحكم أن من أسلم من رقيق المشركين في دار الحرب ولم يخرج مراغِمًا لسيده، وكان
سيده من أهل صلح المسلمين فهو مملوك لمالكه.
وقول البخاري: وقالَ جابرٌ: «حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بَيْعَ الخِنْزِيرِ». مذكور عنده مسندًا بعدُ بلفظ: سمعتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عامَ الفتحِ وهو بِمَكَّةَ يقولُ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى
وَرَسُوْلَهُ حَرَّمَا بَيْع الخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأَصْنَامِ».
وعند ابن أبي شيبة: حدَّثَنَا ابن أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي
الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ لَنَا،
فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الكريمةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ سَأَلْنَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنهُ فَقَالَ: «أَهَرِيقُوهُ».
(1/218)
وعند
الترمذيِّ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي
اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لأَيْتَامٍ فِي حِجْرِي، قَالَ: «أَهَرِقِ الخَمْرَ،
وَاكْسِرِ الدِّنَانَ». قال أبو عيسى: رَوَى الثَّوْرِيُّ هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ عِنْدَهُ
وَهَذَا أَصَحُّ، ولَمَّا ذكر حديث أبي سعيد من جهة مجالد حسنه، قال ابن التين: في
هذا إبطال لقول من شذَّ من الشافعية إذ قال: يترك الخنزير إذا لم يكن فيه ضراوة،
ومذهب الجمهور أنه إذا وجد الخنزير في دار الكفر وغيرها وتمكنَّا من قتله قتلناه.
وذكر البخاريُّ في:
(بَاب: لاَ يُذَابُ شَحْمُ المَيْتَةِ وَلاَ يُبَاعُ وَدَكُهُ)
قَالَ البُخَارِيُّ: رواه جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، هذا التعليق
ذكره البخاري في «صحيحه» مسندًا بعدُ، وقال في أخبار بني إسرائيل: رواه أبو هريرة
عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كأنه يريد بما سنذكره هنا:
2223 - وذكر حديث ابنَ عباسٍ قالَ: بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ فُلاَنًا بَاعَ خَمْرًا،
فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الشُّحُومُ، فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا؟!». [خ 2223]
وعند أبي داود من حديث أبي الوليدِ بَرَكَةَ عن ابنِ عباسٍ قال: رَأَيْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جَالِسًا عِنْدَ الرُّكْنِ، قَالَ: فَرَفَعَ
بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَضَحِكَ، وقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ -ثَلَاثًا-
إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
ثَمَنَهُ».
و عن أبي هريرة يرفعه: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ
الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ».
(1/219)
وعند
مسلمٍ عن ابنِ عباسٍ: «إِنَّ رَجُلًا أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟ قَالَ: لَا، فَسَارَّ
إِنْسَانًا، فَقَالَ لَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بِمَ
سَارَرْتَهُ؟، قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ
شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا، قَالَ: فَفَتَحَ الْمَزَادَةَ حَتَّى ذَهَبَ مَا
فِيهَا».
وفي «علل ابن أبي حاتم» عن عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن
الوليد، عن عبد الله بن عمرو يرفعه: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ بَيْعَ الخنازيرِ
والميتةِ والأصنامِ، فقالَ رجلٌ: مَا تَرَى في شُحُوْمِ الميتةِ؟ فقالَ: لَعَنَ
اللهُ اليهودَ» الحديثَ.
قال: قال لي أبي: لا أعلم أحدًا من المصريين روى هذا الحديث عن يزيد عن عمرو بن
الوليد، فإن كان عبد الحميد حفظه فإن محله الصدق، وذكر النسائي في «سننه» فلانًا
هذا سمَّاه سَمُرَةَ بنَ جُنْدَبٍ.
وعند البيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس قال: قال عمر: إن سمرة باع خمرًا، قاتل
الله سمرةَ الحديثَ.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: قيل: إن سمرة لم يبع الخمر بعينها، ولكن خللها ثم باعها،
وإلا فكيف يجوز على مثل سمرة بيع عين الخمر، وقد شاع تحريمه، لكنه خلَّلها
متأولًا، وكان سمرة واليًا لعمر على البصرة، ويحتمل أنه باع العصير ممن يتخذه
خمرًا، والعصير قد يسمى خمرًا كما يسمى به العنب، قال جل وعز: {إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36].
وقال ابن الجوزي: يحمل على أنه كان يأخذها من أهل الكتاب عن قيمة الجزية، فيبيعها
بينهم ظنًا منه أن ذلك جائز. وقال: قائله لنا ابن ناصر وإنما كان ينبغي له أن
يوليهم بيعها، قال ابن ناصر: هذا هو الصحيح.
(1/220)
وذكر
الحافظ أبو بكر الإسماعيلي فيما رويناه عنه في كتاب «المدخل»: يجوز أن سمرة علم
بتحريم ثمنها ولم يعلم بتحريم بيعها، ولو لم يكن كذلك لما أقره عمر على عمله
ولعزله لو فعله عن علم، أخبرنا بذلك الإمام علي بن أبي بكر عرف بابن الصلاح قراءة
عليه وأنا أسمع عن سبط الشامي عنه، أخبرنا ثابت بن بندار، أخبرنا البرقاني عنه
سماعًا.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أجمع العلماء على تحريم بيع الميتة بتحريم الله جل وعز لها،
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدَّمُ} [المائدة: 3]، واعترض بعض
الملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان الأب وطئها، فإنها تحرم على الابن،
ويحل له بيعها بالإجماع وأكل ثمنها، قال القاضي: وهذا تمويه على من لا علم عنده،
لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من
الناس، ويحل لهذا الابن الانتفاع في جميع الأشياء سوى الاستمتاع، ويحل لغيره
الاستمتاع وغيره بخلاف الشحوم فإنها محرمة المقصود منها، وهو الأكل منها على جميع
اليهود، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل على كل أحد، فكان ما عدا الأكل تابعًا له
بخلاف موطوءة الأب، وقد قال العلماء: وفي عموم تحريم الميتة أنه يحرم بيع جثة
الكافر كأنهم لمحوا ما جاء أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم
الخندق، فبذل الكفار في جسده للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عشرة آلاف درهم،
فلم يأخذها ودفعها إليهم، وقال: لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه، ذكره ابن هشام، وله
أصل في «كتاب الترمذي».
و (جَملوها) أي: أذابوها، [واستدل به أصحاب مالك على سد الذرائع، لأن اليهود توجه
عليهم اللوم بتحريم أكل الثمن من جهة تحريم أكل الأصل، وأكل الثمن ليس هو أكل
الأصل بعينه، لكنه لما كان سببًا إلى أكل الأصل بطريق المعنى استحقوا اللوم ولهذا]
%ج 3 ص 255%
(1/221)
قَالَ
الخَطَّابِيُّ في هذا الحديث: إبطال الحيل والوسائل التي يتوصل بها إلى المحظورات
ليعلم أن الشيء إذا حرم عينه حرم ثمنه.
(بَابُ بَيْعِ التَّصَاوِيرِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا رُوحٌ، وَمَا يُكْرَهُ مِنْ
ذَلِكَ).
2225 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الحَسَنِ، قَالَ: كُنْتُ
عِنْدَ ابنِ عَبَّاسٍ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا مَعِيشَتِي
مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ، فَقَالَ ابنُ
عَبَّاسٍ: لاَ أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً، فَإِنَّ اللهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى
يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا» فَرَبَا الرَّجُلُ
رَبْوَةً شَدِيدَةً، وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنْ أَبَيْتَ
إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ، فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ وكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ
رُوحٌ. [خ 2225]
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَمِعَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ مِنَ النَّضْرِ
بْنِ أَنَسٍ هَذَا الوَاحِدَ.
طريق سعيد هذه التي أشار إليها البخاري خرَّجها هو في كتاب اللباس عن عباس بن
الوليد عن عبد الأعلى عن ابن أبي عروبة، سمعت النضر يحدث قتادة قال: كنت عند ابن
عباس، فذكره.
(1/222)
ورواها
مسلم فأدخل ابن سعيد والنضر قتادة، قال الجِيَاني: وليس بشيء لتصريح البخاري وغيره
بسماع سعيد من النضر هذا الحديث وحده، وعند مسلم أيضًا أبي غسان وأبي موسى عن معاذ
بن هشام عن أبيه عن قتادة عن النضر مثله، وعنده أيضًا: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي
النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي
جَهَنَّمَ». وعند أبي: وليس لسعيد بن أبي الحسن في «الصحيحين» غير هذا، ولا للنضر
عن ابن عباس فيهما غيره، وعند أبي جعفر الطحاوي بسند صحيح عن أبي بكرة: حَدَّثَنا
أبو الوليد، حَدَّثَنا شعبة عن عون بن أبي جُحَيْفَةَ عن أبيه، قال: «لَعَنَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْمُصَوِّرِيْنَ».
وعن عمير عن أسامة بن زيد يرفعه: «قَاتَلَ الله قَوْمًا يُصَوِّرُوْنَ مَا لَا
يَخْلُقُوْنَ».
وعن مجاهدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ, إِنِّي جِئْتُكَ الْبَارِحَةَ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَدْخُلَ
الْبَيْتَ; لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ تِمْثَالُ رَجُلٍ, فَمُرْ
بِالتِّمْثَالِ, فَلْيُقْطَعْ رَأْسُهُ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ»،
وفي لفظ: «تَمَاثِيلُ خَيْلٍ وَرِجَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَقْطَعَ رُؤُوسَهَا أو
أَنْ تَجْعَلَهَا بِسَاطًا».
(1/223)
قالَ
الْمُهَلَّبُ: إنما َكُرِهَ هذا من أجل أن الصورة التي فيها الروح كانت معبودة في
الجاهلية، فَكُرِهَتْ كلُّ صورة وإن كانت لا فيء لها ولا جسم قطعًا للذريعة، حتى
إذا استوطن أمر الإسلام، وعرف الناس من أمر الله وعبادته ما لا يخاف عليهم فيه من
الأصنام والصور، أرخص فيما كان رقمًا أو صبغًا أو وُضِعَ موضع المهنة، وزعم النووي
أن كل ذلك حرام، وأما ما لا روح فيه فليس بحرام، وإليه ذهب الثوري وأبو حنيفة
ومالك وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين، قال: وقال بعض السلف: إنما ينهى عما
كان له ظلٌّ ولا بأس بالصور التي لا ظلَّ لها، قال: وهو مذهب باطل، وقال الزهري:
النهي عن الصورة عامٌّ. وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقمًا في ثوب، وهو مذهب
القاسم بن محمد. انتهى.
وكأن البخاري فَهِمَ من قوله في الحديث: (إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ
يَدِي) وأجابه ابن عباس بإباحة صور الشجر وشبهه جواز البيع فترجم عليه.
قال القرطبي: في قوله عند مسلم: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يومَ القِيَامَةِ
الْمُصَوِّرُوْنَ» يقتضي ألا يكون في النار أحد يزيد عذابه على عذاب المصورين،
وهذا يعارضه قوله جل وعز: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:
46]، وقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَشَدَّ الناسِ عَذَابًا عَالِمٌ لَمْ
يَنْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ». وقوله: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يومَ
القِيَامَةِ إِماَمُ ضَلَالةٍ» في أشباه لذلك، قال: ووجه التوفيق أن الناس الذين
أضيف إليهم أشد لا يراد بهم كل نوع الناس، بل بعضهم المشاركون في ذلك المعنى المتوعَّد
عليه بالعذاب، ففرعون أشد المدعين للإلهية عذابًا، ومن يقتدي به في ضلالةِ كفرٍ
أشدُّ ممن يقتدي به في ضلالة بدعة، ومن صوَّر صورًا ذات أرواح أشد عذابًا ممن صور
ما ليس فيه روح، فيجوز أن
(1/224)
يعني
بالمصورين الذين يصورون الأصنام للعبادة كما كانت الجاهلية تفعل، وكما تفعل
النصارى، فإن عذابهم يكون أشد ممن يصورها لا للعبادة. انتهى.
لقائل أن يقول: (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا) بالنسبة إلى هذه الآية لا إلى غيرها
من الكفار، فإن صورها للتعبد أو لمضاهاة خلق الله، فهو كافر قبيح الكفر، فلذلك
زِيْدَ في عذابه.
قال عياض: وأجمعوا على منع ما كان له ظل ووجوب تغييره، إلا ما ورد في اللعب
بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك، وكره مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادعى
بعضهم أن إباحة اللعب بهن للبنات منسوخ.
قال القرطبي: واستثنى بعض أصحابنا من ذلك ما لا يبقى كصور الفخار والشمع وما شاكل
ذلك، وهو مطالب بدليل التخصيص، وكانت الجاهلية تعمل أصنامًا من العجوة حتى أن
بعضهم جاع فأكل صنمه.
قال القرطبي: ويستفاد من قوله: (وليسَ بِنَافِخٍ) جواز التكليف بما لا يقدر عليه
قال ولكن ليس مقصود الحديث التكليف، وإنما المقصود منه تعذيب الْمُكَلَّفِ وإظهار
عجزه عما تعاطاه مبالغة في توبيخه وإظهار قبح فعله.
وقوله: (رَبَا الرَّجُلُ) قال ابنُ قُرْقُولٍ: أي ذُعِرَ وامتلأ خوفًا، وعن صاحب
«العين»: ربا الرجلُ أصابه نفس في جوفه، وهو الربو والرَّبْوة والرِّبوة، وهو نهج
ونفس متواتر.
قال عياض: مذهب العلماء كافة أن الشجر ونحوه لا يحرم إلا ما روي عن مجاهد، فإنه
جعل الشجر المثمر من المكروه، قال: ولم يقله غيره.
وقال الطحاوي: فلما أبيحت التماثيل بعد قطع رؤوسها الذي لو قطع من ذي الروح لم يبق
دَلَّ ذلك على إباحة تصوير ما لا روح له، وعلمنا أن الثياب المستثناة هي المبسوطة
لا ما سواها من الثياب المعلقة والملبوسة، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
(بَابُ إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا)
2227 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ أبي سعيدٍ، عَنْ
(1/225)
أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ اللهُ جَلَّ
وَعَزَّ: «ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي
ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ». [خ 2227]
قَالَ البَيْهَقِيُّ: رواه النُّفَيْلِيُّ عن يحيى بن سليم فقال: عن سعيد بن أبي
سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وفي «مسند أبي يعلى الموصلي» زيادة: «وَمَنْ كُنْتُ
خَصْمُهُ خَصَمْتُهُ».
قال ابن التين: الربُّ جلَّ وعزَّ خصمٌ لجميع الظالمين، إلا أنه أراد التشديد على
هؤلاء الثلاثة.
وقوله: (بَاعَ حُرًّا) يعني: متعمدًا، وغير المتعمد لا يدخل في هذا.
وقال أبو الفرج: إذا منع الحر التصرف فيما أباح الله له وألزمه حال الذِّلَّةِ
والصَّغَار، فكأنه نازع الربَّ جلَّ وعزَّ في عباده، فلذلك كان عظيمًا من الذنوب.
وقال ابن المنذر: كل من لقيته من أهل العلم على أنه من باع حرًّا لا يقطع، بل
يعاقب.
وروي عن ابن عباس: أن البيع يرد ويعاقبان.
وروى خلاس عن علي بن أبي طالب أنه قال: تقطع يدُه.
قال أبو بكر: والصوابُ قولُ الجماعة، لأنَّه ليس بسارقٍ، ولا يجوز قطع غير السارق.
وقال ابن حزم: ولا يحل بيع الحر، وفيه خلاف قديم وحديث، نوردُ إن شاء الله منه ما
تيسر، ليعلم مدعي الإجماع فيما هو أخفى من هذا أنه غير جيد.
ثم ذكر عن عبد الله بن بُرَيْدَةَ: أن رجلًا باع نفسه، فقضى عمر بن الخطاب بأنه
عبد كما أقر على نفسه، وجعل ثمنه في سبيل الله تعالى.
وَعِنْدَ ابنِ أَبِي شَيْبَةَ عن شريك عن الشعبي عن علي قال: إذا أقرَّ على نفسه
بالعبودية فهو عبد. ومن طريق سعيد بن منصور: حَدَّثَنا هشيم، أخبرنا مغيرة بن مقسم
عن النخعي، فيمن ساق إلى امرأته رجلًا، فقال إبراهيم: هو رهن بما جعل فيه حتى يفتكَّ
نفسه.
(1/226)
وعن
زرارة بن أوفى رضي الله عنه قاضي البصرة ومن التابعين رضي الله عنهم: أنه باع
حرًّا في دَين عليه.
قال أبو محمد: وقد روينا هذا القول عن الشافعي وهي أقوالٌ غريبة لا يعرفها من
أصحابه إلا من تبحر في الآثار، وهذا أيضًا عمر وعلي بحضرة الصحابة ولم يعترضهم
معترض.
قال: وقد جاء أثر
بأن الحر يباع في الدين في صدر الإسلام إلى أن أنزل الله جلَّ وعزَّ: {وَإِنْ
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة} [البقرة: 280].
روى دينار عن أبي سعيد الخدري: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بَاعَ حُرًّا أَفْلَسَ». ورواه الدَّارَقُطْني من حديث حجاج عن ابن جرير فقال: عن
أبي سعيد أو أبي سعد على الشك.
وعند الدارمي من حديث مسلم بن خالد الزنجي، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن
السليماني، عن سُرَّقٍ أنَّهُ أخذَ منْ أعرابيٍّ بَعِيْرَيْنِ فَبَاعَهُمَا، فقالَ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا أَعْرَابيُّ، اذهبْ فَبِعْهُ حَتَّى تستوفيَ
حقًا» فأعتقه الأعرابي.
ورواه أبو سعد عن أبي الوليد الأزرقي عن مسلم، وهو سند صحيح، وأما قول عبد الحق:
مسلم وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيفان فغير جيد، لأن مسلمًا وثقَّه غير واحد،
وعبد الرحمن لا دخل له في هذا، ورواه أبو عبد الله الحاكم من حديث بندار،
حَدَّثَنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار،
حَدَّثَنا زيد بن أسلم، وقال: صحيح على شرط البخاري.
وفي «مراسيل أبي داود» عن الزهري ما يعارض هذا، وهو: «كانَ يَكُونُ عَلَى عَهْدِ
رَسُوْلِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ديونٌ عَلَى رجالٍ، مَا عَلِمْنَا
حُرًّا بِيْعَ في دينٍ».
وقوله: (أَعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ) يريد: نقض عهدًا عاهده عليه، قاله ابن بطال.
وقال ابن الجوزي: يعني حلف بي، لأنه اجترأ على الله جلَّ وعزَّ.
(1/227)
و
(الخَصْمُ) قال ثعلب في «الفصيح»: تقول هو خَصمٌ، وهما خَصم، وهم خَصم، الواحد
والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث على حال واحدة. وزعم الهَجَري: أن الخَصْم
بالفتح الجماعة من الخصوم، والخِصم بكسر الخاء الواحدُ، وأنشد:
وأطلب شأو الخِصم حتى أردَّه على غير ما يهوى وقد كان أضلعا
وقَالَ الخَطَّابِيُّ: الخصم هو المولع بالخصومة الماهر فيها، وعن يعقوب: يقال
للخصم: خصيم، وفي «الواعي»: خصيم للمخاصِم والمخاصَم. وفي كتاب «المطرز» عن الفراء
أنه قال: كلام العرب الفصحاء ألا يثنُّوا الاسم إذا كان مصدرًا ولا يجمعوه، ومنهم
من يثنيه ويجمعه، والفصحاء يقولون: هذا خِصم في جميع الحالات، والآخرون يقولون:
هذان خصمان وهم خصوم وخصماء وكذا ما أشبهه، وأنشد القول لذي الرمة:
أَبَرُّ عَلَى الخُصُومِ، فَلَيْسَ خَصْمٌ وَلَا خَصْمانِ يَغْلِبُه جِدالا
(بَابُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اليَهُودَ بِبَيْعِ
أَرَضِيهِمْ حِينَ أَجْلاَهُمْ)
فِيهِ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
كذا ذكره البخاري من غير زيادة شيء في الباب، وهو ساقط في بعض الأصول.
والحديث الذي أشار إليه هنا خرجه في آخر كتاب الجهاد في باب إخراج اليهود من جزيرة
العرب وفيه: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ، فَمَنْ
وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ هُنَا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ
الأَرْضَ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ».
وعند ابن إسحاق: فسألوا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ يُجْلِيَهمْ،
ويكفَّ عنْ دمائهم، على أنَّ لهم ما حملتِ الإبلُ منْ أموالهم إِلَّا الْحَلْقَةَ،
فاحْتَمَلُوا ذلك وخرجوا إلى خيبر، وخَلُّوا الأموالَ لرسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فكانتْ لهُ خاصةً يضعها حيثُ يشاء، فَقَسَمَهَا سيدنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على المهاجرين.
(1/228)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: فإن قال قائل: هذا معارض لحديث المقبري عن أبي هريرة، لأن فيه:
«أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِبَيْعِ أَرْضِهِم؟».
فالجواب: أنه أمرهم ببيع أرضهم قبل أن يكونوا له حربًا، ثم أطلعه الله جل وعز على
الغدر منهم، وكان قبل ذلك أمرهم ببيع أرضهم وإجلائهم، فلم يفعلوا لأجل قول
المنافقين لهم: اثبتوا، فعزموا على مقاتلته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فصاروا له
حربًا، فحلَّتْ بذلك دماؤهم وأموالهم.
(بَابُ بَيْعِ العَبِيدِ وَالحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئَةً)
(وَاشْتَرَى ابنُ عُمَرَ رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ،
يُوفِيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ).
هذا التعليق رواه مالك في «الموطأ» فيما روينا عنه عن نافع أنَّ ابنَ عمرَ
اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأرْبَعَةِ أبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوفِيهَا
صاحِبَهَا بالرَّبَذَةِ.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قَدْ يَكُونُ البَعِيرُ خَيْرًا
مِنَ البَعِيرَيْنِ).
هذا التعليق رويناه في «مسند الشافعي» قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن طاوس، عن أبيه
عن ابن عباس: أنه سئل عن بعير ببعيرين فقال: قد يكون خيرًا من البعيرين.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ
فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا، وَقَالَ: آتِيكَ في الْآخَرِ غَدًا رَهْوًا إِنْ شَاءَ
اللهُ تعالى).
هذا التعليق ذكره عبد الرزاق في «مصنفه» فقال: أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن بُدَيْلٍ
الْعُقَيْلِيّ عَن مُطَرِّفِ بن عبد الله بن الشِّخِّيْرِ أَن رَافع بن خديج
فذكره.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ المُسَيِّبِ: لاَ رِبَا فِي الحَيَوَانِ:
البَعِيرُ بِالْبَعِيرَيْنِ، وَالشَّاةُ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وَقَالَ
ابنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ نَسِيئَةً).
(1/229)
هذا
التعليق رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن المسيب أنه قال: «لاَ رِبَا فِي
الحَيَوَانِ، قَدْ نَهَى عَنِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاقِيحِ، وَحَبَلِ
الْحَبَلَةِ» وذكره عبد الرزاق في «مصنفه»: أخبرنا معمر، عن الزهري، سئل سعيد،
فذكره.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ،
وَدِرْهَم بِدِرْهَمينِ نَسِيئَةً).
هذا التعليق رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: لَا
بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ، وَدِرْهَم بِدِرْهَمينِ نَسِيئَةً، قال: فإن كان
البعيران نسيئةً فهو مكروه.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأما قول ابن سيرين الذي ذكره البخاري فهو خطأ في النقل
عنه، والصحيح ما ذكره عبد الرزاق، قال: (وأَمَّا بيعُ الحيوانِ بالحيوانِ نسيئةً)
فإن العلماء اختلفوا فيه، فقالت طائفة: لا ربا في الحيوان، وجائز بعضه ببعض نقدًا
ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب علي بن أبي طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو
قول الشافعي وأبي ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل
نسيئةً وإن كانت من نَعَمٍ واحدة إذا اختلفت وبان اختلافها، وإنْ أشبهَ بعضها
بعضًا واتفقت أجناسها فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يدًا بيد, وهو قول
سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد، وقال الثوري والكوفيون وأحمد: لا يجوز بيع
الحيوان
(1/230)
بالحيوان
نسيئة اختلفت أجناسه أو لم تختلف، واحتجوا في ذلك بما رواه الحسن عن سمرة: «أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ بَيْعِ الحيوانِ بالحيوانِ» قال
الترمذي: حسن صحيح، وسماع الحسن من سَمُرَةَ صحيح إذا قال علي بن المديني وغيره،
وقال في «العلل»: سألت محمدًا عنه فقال: قد روى داود العطار عن معمر هذا وقال: عن
ابن عباس، وقال الناس: عن عكرمة مرسل وهَّنَ محمد هذا الحديث، قال أبو عيسى:
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فقال:
يعجبني أن تتوقَّاه. فقيل له: فيه شيء يصح؟ قال: فيه الحسن عن سمرة، ولا يصح سماع
الحسن من سمرة.
وقال عبد الله: حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا يحيى عن ابن أبي عروة عن قتادة عن الحسن
عن سمرة يرفعه: «نُهِيَ عنْ بيعِ الحيوانِ بالحيوانِ نسيئةً» قال: ثم يعني الحسن،
فقال: إذا اختلف الصنفان فلا بأس.
ولما رواه الحاكم من حديث يحيى بن الضُّرَيْسِ عن إبراهيم بن طَهْمَانَ عن الحجاج
بن الحجاج عن قتادة عن الحسن عن سَمُرَةَ: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الشَّاةِ باللحمِ» قال: صحيح الإسناد ورواته عن آخرهم
ثقات، وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة، وله شاهد مرسل في «الموطأ» عن زيد عن ابن
المسيب: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عنْ بيعِ اللحمِ
بالحيوانِ»، وفي «التمهيد»: عن سهل بن سعد، عن النبي مثله، قال: سنده موضوع.
وبما رواه الحاكم مصحَّح الإسناد من حديث سفيان بن سعيد عن معمر عن يحيى أبي كثير
عن عكرمة عن ابن عباس: «نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ
بَيْعِ الحيوانِ بالحيوانِ نسيئةً».
(1/231)
ولما
رواه البيهقي من حديث إبراهيم بن طَهْمَانَ عن معمر، قال: وكَذَلِكَ رَوَاهُ
دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارُ, عَنْ مَعْمَرٍ مَوْصُولًا،
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الذِّمَارِيِّ, عَنِ الثَّوْرِيِّ, عَنْ مَعْمَرٍ, قالَ
البيهقيُّ: وَكُلُّ ذَلِكَ وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ: عَنْ مَعْمَرٍ, عَنْ يَحْيَى,
عَنْ عِكْرِمَةَ, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسل.
%ج 3 ص 263%
والإسماعيليُّ ذكر في حديث ابن أبي كثير أن ابن طهمان رواه عن يحيى مرسلًا.
قالَ البيهقيُّ: رُوِّينَا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ وَهَّنَ رِوَايَةَ مَنْ
وَصَلَهُ، ورُوِيَ عنِ ابنِ خُزَيْمَةَ أنَّهُ قالَ: الصَّحِيحُ عَنْ أَهْلِ
الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ الْخَبَرُ مُرْسَلٌ لَيْسَ بِمُتَّصِلٍ.
ولما سألَ ابنُ أبي حاتمٍ أباهُ عنْ حديثِ عبدِ المجيدِ بنِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي
روَّادٍ عم معمرٍ مرفوعًا قال: الصحيحُ عنْ عكرمةَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مرسل، ولما سأل الأثرم أبا عبد الله عنه مرفوعًا قال: هذا باطل ليس بشيء،
وإنما هو مرسل، كذا رواه ابن المبارك، وفي كتب ابن معمر مرسل عن عكرمة.
وقال المنذري: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-: حديث ابن عباس في بيع الحيوان
بالحيوان رواه الثقات عن ابن عباس موقوفًا، أو عكرمة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مرسلًا. انتهى.
(1/232)
وقد
وقع لنا هذا الحديث مرفوعًا من طريق الزهري عن عكرمة بسند صحيح ذكره الإسماعيلي في
جمعه حديث يحيى بن أبي كثير فقال: حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن سعيد السُّلَمِي
المروزي بالبصرة، حَدَّثَنا طاهر بن خالد بن نزار، حَدَّثَنا أبي، حدَّثَنَا ابن
عيينة عن معمر عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير عن عكرمة، فذكره، وما رواه الطحاوي عن
إبراهيم بن محمد، حَدَّثَنا عبد الواحد بن عمرو بن صالح الزهري، حَدَّثَنا عبد
الرحمن بن سليمان عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا ببيعِ الحيوانِ بالحيوانِ اثنينِ بواحدٍ
ويَكْرَهُهُ نسيئةً» ولما خرجه الطُّوسي والترمذي من حديث حجاج بن أرطاة عن أبي
الزبير حسَّناه.
وقال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: حجاج عن أبي الزبير عن جابر
%ج 3 ص 264%
الحديث، فقال: حجاج زاد فيه شيئًا، وليث بن سعد سمعه مرسلًا من أبي الزبير لا يذكر
فيه شيئًا يقول: «إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ باعَ عَبْدًا
بِعَبْدَيْنِ» ثم قال: ليس فيه حديث يعتمد عليه ويعجبني أن يتوقاه.
وبما رواه أبو عيسى في كتاب «العلل» عن محمد بن عمرو المقدمي عن زياد بن جبير عن
ابن عمر قال: «نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الحيوانِ نسيئةً» ثم قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: إنما يرويه عن زياد عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسلًا.
ورواه الطحاوي عن محمد بن إسماعيل الصائغ وغيره قالوا: حَدَّثَنا مسلم بن إبراهيم،
حَدَّثَنا محمد بن دينار عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير عنه مرفوعًا.
وقال الأثرم: ورواه عن مسلم، قال أبو عبد الله محمد بن دينار: زعموا كان لا يحفظ،
كان يتحفظ لهم، قال الأثرم: فذكرت له حديث ابن عمر في الحيوان قال: ليس فيه ابن
عمر، إنما هو زياد بن جبير موقوف.
(1/233)
وقال
ابن مسعود: السَّلَفُ في كلِّ شيءٍ إلى أجلٍ مُسَمَّى لا بأسَ بِهِ ما خَلَا
الحيوان.
وقال سعيد بن جبير: كان حذيفة يكره السلم في الحيوان نسيئة، وقيل: هو مذهب ابن
عباس وعمار، وأجازوا التفاضل فيه.
قال الطحاوي: وقد كان قبل نسخ الربا يجوز بيع الحيوان نسيئة.
روى ابن إسحاقَ عن أبي سفيانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عنْ عَمْرِو بْنِ
حَرِيشٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا [فَنَفِدَتِ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ فِي قِلَاصِ الصَّدَقَةِ» فَجَعَلَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ
إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، ثم نسخ ذلك بأحاديث المنع، وثبت] أن القرض الذي هو بدل
عن مال لا يجب فيه حيوان في الذمم، وقد روى ذلك عن
%ج 3 ص 265%
نفر من المتقدمين، ولما ذكر ابن أبي حاتم حديث ابن عمرو هذا، قال: اختلف على ابن
إسحاق في إسناده، والحديث مشهور، ولما ذكره البيهقي قال: له شاهد صحيح عن ابن جريج
أن عمرو بن شعيب أخبره عن أبيه عن جده: «أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَهَ أنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا» الحديثَ. وفيه: «الْبَعِيرَ
بِالْبَعِيرَيْنِ وبِالأَبْعِرَةِ».
وسأل عثمانُ السِّجِسْتانيُّ يحيى بن معينَ عن سند هذا الحديث, فقال: سنده صحيح
مشهور، احتجَّ للشافعي بما في «الصحيحين» عن أبي هريرة، ورواه الشافعي عن الثقة عن
سفيان بن سعد عن سلمة بن كُهَيْلٍ عن أبي هريرة: «كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سِنٌّ مِنَ الْإِبِلِ، فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ،
فَقَالَ: أَعْطُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَّا سِنًّا فَوْقَ سِنِّهِ، فَقَالَ:
أَعْطُوهُ».
(1/234)
وعند
مسلم: عن أبي رافع، قال: «اسْتَسْلَفَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بَكْرًا، فَجَاءَتْهُ إِبِلٌ الصَّدَقَةِ، فقالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي رسولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ أقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فقلتُ: يا
رسولَ الله إِنِي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا جَمَلًا خِيَارًا -أو رَبَاعِيًا-
فَقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَعْطِهِ إِيَّاهُ».
قال الشافعي: هذا الحديث الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفيه
أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ضمن بعيرًا بالصفة، وفي هذا ما دل على أنه
يجوز أن يضمن الحيوان كله بصفة من السلف وغيره.
وفيه دليل أنه لا بأس أن يقضي أفضل مما عليه متطوِّعًا.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: واحتج الشافعي بأمر الدية فقال: قد قضى رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالدية مئة من الإبل، ولم أعلم المسلمين اختلفوا أنها بأسنان
معروفة في مضي ثلاث سنين، وأنه افتدى كل من لم يطب عنه نفسًا من سبي هوازن بإبل
سماها ست أو خمس إلى أجل.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: هذا فيما رواه أهل المغازي، وبما رواه عمر بن شعيب عن أبيه
عن جده.
قال
%ج 3 ص 266%
الشافعي: أخبرنا مالك عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمد بن علي، عن علي بن أبي
طالب: «أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يُقَالُ لهُ عُصَيْفِير بِعِشْرِينَ بَعِيرًا
إِلَى أَجْلٍ».
وعن مالك عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ
أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ يُوَفِّيهَا صَاحِبَهَا بِالرَّبَذَةِ».
(1/235)
قال:
وأَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ:
«جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى
الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَشْعُرْ -أو قالَ: يَسْمَعْ- بأَنَّهُ عَبْدٌ، فَجَاءَ
سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بِعْهُ،
فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ».
قال: وأَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عنْ عَبْدِ
الْكَرِيمِ الْجَزَرِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَخْبَرَهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بَعَثَ مُصَدِّقًا فَجَاءَ بِظَهْرٍ مُسِنَّاتٍ، فَلَمَّا رَآهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَبِيعُ الْبَكْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ
بِالْبَعِيرِ الْمُسِنِّ يَدًا بِيَدٍ، وَعَلِمْتُ مِنْ حَاجَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى الظَّهْرِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
فَذَاكَ إِذًا». وفي رواية ابن عباس: «بِعِ البَعِيْرَ بِالبَعِيْرَيْنِ».
وروينا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنه كان لا يرى بأسًا بالسلف في الحيوان.
وذكر أيضًا قول ابن شهاب في بيع الحيوان اثنين بواحد إلى أجل: لا بأس به.
قال: وأخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان،
وإنما نُهي من الحيوان عن ثلاث: المضامين والملاقيح وحبل الحبلة.
قال: والمضامين في بطون الإناث، والملاقيح: ما في ظهور الجمال، وحبل الحبلة: بيع
لأهل الجاهلية.
(1/236)
قال:
وأخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: ولبيع البعير بالبعيرين يدًا
بيد زيادة ورق، والورق نسيئة، قال الشافعي: وبهذا كله أقول، وخالفنا بعض الناس
فقال: لا يجوز أن يكون الحيوان نسيئة أبدًا، نناقضهم بالدية، وبالكتابة
%ج 3 ص 267%
على الوصفاء بصفة، وبإصداق العبيد والإبل بصفة.
قال: فإنما كرهنا السلم في الحيوان، لأن ابن مسعود كرهه، قال الشافعي: هو منقطع
عنه، قال أحمد: يرويه عنه إبراهيم النخعي.
قال الشافعي: ويزعم الشعبي الذي هو أكبر من الذي روي عنه كراهيته أنه إنما أسلف له
في لِقَاح فَحْلِ إبل بعينه، وهذا مكروه عندنا وعند كل أحد، هذا بيع الملاقيح أو
المضامين أو هما.
وقلت لمحمد بن الحسن: أنت أخبرتني عن أبي يوسف عن عطاء بن السائب عن أبي البختري،
أن بني عم لعثمان بن عفان أتوا واديًا، فصنعوا شيئًا في إبل رجل، فقطعوا به لبن
إبله وقتلوا فصالها، فأتى عثمان بن عفان وعنده ابن مسعود، فرضي بحكم ابن مسعود،
فحكم أن يعطى بواديه إبلًا مثل إبله، وفصالًا مثل فصاله، فأنفذ ذلك عثمان.
ويُرْوَى عن ابن مسعود: أنه قضى في حيوان مثله دينًا، لأنه إذا قضى به بالمدينة
وأعطيه بواديه كان دينًا، ونريد أن يروي عن عثمان أنه يقول بقوله، وأنتم تروون عن
المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال أسلم لابن مسعود وصفاء أحدهم أبو زيادة -أو
أبو زائدة- مولانا، ويروون عن ابن عباس: أنه أجاز السلم في الحيوان، وعن رجل آخر
من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ البَيْهَقِيُّ: روى أبو حسان
الأعرج قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن السلم في الحيوان فقالا: إذا سمى الأسنان
والآجال فلا بأس.
وقال أبو نضرة: سألت ابن عمر عن السلف في الوصفاء فقال: لا بأس به، قال: [وروي عن
عمر أنه كرهه، وكذلك عن حذيفة، والحديث عنهما منقطع، وعن ابن عباس وابن عمر موصول
بقولنا: قال الشافعي في القديم: وقد يكون ابن مسعود كرهه]
%ج 3 ص 268%
(1/237)
تنزهًا
عن التجارة فيه، لا على تحريمه انتهى.
للحنفي أن يقول: الأثر عن ابن مسعود ليس منقطعًا، بل هو موصول صحيح على شرط
الشيخين، رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن وكيع، حَدَّثَنا سفيان عن قيس بن مسلم عن
طارق بن شهاب: أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ أَسْلَمَ إِلَى عَتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي
قَلَائِصَ، قال: فسألت ابن مسعود، فَكَرِهَ السَّلَمَ في الحيوان.
وأما ما ذكر عن أبي نضرة عن عمر فمعارَض بقول ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا سهل بن يوسف
عن حُمَيْدٍ عن أبي نَضْرَةَ قال: قلت لابن عمر: إن أمراءنا ينهوننا عنه -يعني
السلم في الحيوان وفي الوصفاء قال: فأطع أمراءك إن كانوا ينهون عنه، وأمراؤهم
يومئذ مثل الحكم بن عمرو الغفاري وعبد الرحمن بن سمرة، وأما حديث الحسن بن محمد عن
علي فمنقطع ظاهر الانقطاع، وكذا حديث القاسم عن ابن مسعود، وكذا حديث زياد بن أبي
مريم، وليس في حديثه النسيئة، فلا حجة فيه على الحنفي الذي يدفع ذلك من نسيئها،
وكذا كل أثر تقدم لا نسيئة فيه.
وأما الرواية عن سعيد بن جُبَيْرٍ فَمُعَارَضَةٌ بقول أبي بكر: حَدَّثَنا وكيع،
حَدَّثَنا شُعْبَةُ عن عمار صاحب السابري قال: سمعت سعيد بن جبير يسأل عن السلم في
الحيوان فنهى عنه.
وفي «مصنف وكيع بن الجراح»: حَدَّثَنا حسن بن صالح عن عبد الأعلى قال: شهدتُ
شُرَيْحًا ردَّ السَّلَمَ في الحيوان.
وحَدَّثَنَا إسرائيلُ عنْ إبراهيمَ بنِ عبد الأعلى: سمعت سويد بن غفلة يكره السلم
في الحيوان.
وحَدَّثَنَا النضرُ بن أبي مريم أن الضَّحَّاكَ رخَّصَ في السَّلَمِ في الحيوان ثم
رجعَ عنه، وإلى قول الشافعي نَحَا البخاريُّ في تبويبه، وفي حديث عائشة رضي الله
عنها وأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ...
(بَابُ بَيعِ الرَّقيقِ)
(1/238)
2229
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي ابنُ مُحَيْرِيزٍ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا،
فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ، فَكَيْفَ تَرَى فِي العَزْلِ؟ فَقَالَ «أَوَ إِنَّكُمْ
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ لاَ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ، فَإِنَّهَا
لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَّا هِيَ خَارِجَةٌ»، وفي موضع
آخر ابن مُحَيْرِيْزٍ، هو عبد الله بن مُحَيْرِيز أبو محيريز الجُمَحِي. [خ 2229]
وعند النسائي: سَأَلَ رجلٌ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ
الْعَزْلِ، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي تُرْضِعُ وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ،
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ مَا قُدِّرَ فِي الرَّحِمِ
سَيَكُونُ».
وعند أبي داود عن جابر: أنَّ رَجُلًا سألَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
إِنَّ لِي جَارِيَةً أَطُوفُ عَلَيْهَا وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، فَقَالَ:
«اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».
ولفظ الترمذي من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عنه: قُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنَّا كُنَّا نَعْزِلُ، فَزَعَمَتِ اليَهُودُ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ
الصُّغْرَى، فَقَالَ: «كَذَبَتِ اليَهُودُ، إِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَخْلُقَهُ لَمْ تَمْنَعْهُ».
أحاديث العزل تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.
(1/239)
قال
القرطبي: روى هذا الحديث موسى بن عقبة عن ابن محيريز عن أبي سعيد فقال: «أَصَبْنَا
سَبْيًا منْ سَبْي هَوازن، وذلكَ يوم حُنَيْنٍ سنةَ ثمان» ووهم ابن عقبة في ذلك،
ورواه أبو إسحاق السبيعي عن الوداك عن أبي سعيد قال: «لَمَّا أَصَبْنَا سَبْيَ
حُنَيْنٍ سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ الْعَزْلِ،
فَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ كُلِّ الْمَاءِ يَكُونُ الْوَلَدُ». ورواه مسلم في «صحيحه»
من حديث علي بن أبي طلحة عن أبي الوداك بلفظ: «سُئِلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنِ العَزْلِ» لم يذكر سبي حنين ولا غيره، وكذا ما ذكره أبو عمر
من رواية موسى بن عقبة عن ابن محيريز، ذكره مسلم ولم يذكر فيه سبي أوطاس ولا غيره،
وإنما ذكر مسلم يوم أوطاس من
%ج 3 ص 270%
حديث أبي علقمة عن أبي سعيد في قضية تحرج أصحابه من وطء السبايا من أجل أزواجهن،
وهي قصة أخرى في زمن آخر غير زمان بني المصطلق التي في الخامسة، والصحيح في الأول
رواية من روى بني المصطلق.
وفي قوله: (فَنُحِبُّ الأَثْمَانَ) دلالة على عدم جواز بيع أمهات الأولاد، وهو حجة
على داود وغيره ممن يُجَوِّزُ بيعهن, وفي لفظ: (وَأَحْبَبْنَا الفِدَاءَ).
وقوله: (لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا) قال الداودي: هو أقرب إلى النهي، وقال
المبرد: معناه لا بأس عليكم أن تفعلوا، ومعنى (لا) الثانية طرحها.
و (النَّسَمَةُ): كل ذات روح، والنَّسَمُ الأرواح.
(بابٌ هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا)
(وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا).
(1/240)
هذا
التعليق ذكره ابن أبي شيبة عن ابن عُلَيَّةَ، قال: سئل يونس عن الرجل يشتري الأمة
فيسريها يصيب منها القبلة والمباشرة، فقال ابن سيرين: يكره ذلك، ويذكر عن الحسن:
أنه كان لا يرى بالقبلة بأسًا، وعن عكرمة في الرجل يشتري الجارية الصغيرة وهي أصغر
من ذلك، قال: لا بأس أن يمسها قبل أن يستبرئها، وقال إياس بن معاوية في رجل اشترى
جارية صغيرة لا يجامع مثلها، قال: لا بأس أن يطأها ولا يستبرئها، وكره قتادة
تقبيلها حتى يستبرئها.
وقال أيوب اللخمي: وقعت في سهم ابن عمر جارية يوم جلولاء، فما ملك نفسه أن جعل
يقبلها.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ثبت هذا عن ابن عمر.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: إِذَا وُهِبَتِ الوَلِيدَةُ الَّتِي
تُوطَأُ، أَوْ بِيعَتْ، أَوْ عَتَقَتْ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ،
وَلاَ يَسْتَبْرئ العَذْرَاء).
هذا التعليق رواه أبو بكر عن عبد الوهاب عن سعيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال:
إن اشترى أمة عذراء فلا يستبرئها، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا خلاف مَا يَقُوله
مَالك، وقيل: يستبرئ استحبابًا.
وقوله: (عَتَقَت) بفتح العين هو الصحيح، وروي بضم العين وليس بشيء، وعن ابن سيرين
في الرجل يشتري
%ج 3 ص 271%
الأمة العذراء قال: لا يقربن ما دون رحمها حتى يستبرئها. وعن الحسن: يستبرئها وإن
كانت بكرًا، وكذا قاله عكرمة، وقال عطاء في رجل اشترى جارية من أبويها عذراء، قال:
يستبرئها بحيضتين.
قال ابن الجوزي: مذهب جماعة منهم القاسم وسالم والليث وأبو يوسف: لا يستبرئ إلا من
بلغ. وكان أبو يوسف لا يرى استبراء العذراء وإن كانت بالغة.
قَالَ البُخَارِيُّ: (وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ
الحَامِلِ مَا دُونَ الفَرْجِ).
وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: «سُئِلَ ابنُ عباسٍ عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً
وَهِيَ حَامِلٌ أَيَطَؤُهَا؟ قَالَ: لَا».
(1/241)
ونهى
عنه أبو موسى الأشعري ونَاجِيةُ بن كعب وسعيد بن المسيب.
وفيه أحاديث تأتي إن شاء الله في موضعها.
2235 - حَدَّثَنا عَبْدُ الغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
خَيْبَرَ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الحِصْنَ ذُكِرَ لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ
بِنْتِ حُيَيِّ، وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا، وَكَانَتْ عَرُوسًا، فَاصْطَفَاهَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ بِهَا حَتَّى
بَلَغْنَا سَدَّ الرَّوْحَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي
نِطَعٍ صَغِيرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «آذِنْ
مَنْ حَوْلَكَ» فَكَانَتْ تِلْكَ وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى المَدِينَةِ قَالَ: فَرَأَيْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُحَوِّي لَهَا وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ،
ثُمَّ يَجْلِسُ عِنْدَ بَعِيرِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَضَعُ صَفِيَّةُ
رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ حَتَّى تَرْكَبَ. [خ 2235]
في «كتاب الواقدي»: كانت تعظم أن تجعل رجلها على ركبته، فكانت تضع ركبتها على
ركبته. قال: وفُحِصَتِ الْأَرْضُ أَفَاحِيصَ، وَجِيءَ بِالْأَنْطَاعِ فَوُضِعَتْ
فِيهَا، ثُمَّ جِيءَ بِالْأَقِطِ والسَّمْنِ، فَشَبِعَ النَّاسُ، وقالوا: مَا
نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا أَمِ اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ فَلَمَّا أَرْكَبَهَا على
البعيرِ وحَجَبَهَا علم النَّاس أَنَّهَا زَوجته.
و (حَيي) قال الدَّارَقُطْني: المحدثون يقولون بكسر الحاء المهملة، وأهل اللغة
بضمها.
(1/242)
و
(صَفِيَّةُ) من سبط هارون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانت عند سَلَام بن مشكم،
وكان خمَّارًا في الجاهلية
بتخفيف اللام، وفيه يقول أبو سفيان بن حرب:
سَقَاني فَرَوَّاني كُمَيتًا مُدَامَةً عَلَى ظَمَأٍ مِنِّي سَلَامُ بنُ مِشكَمِ
وقيل: بالتشديد وخُفف ضرورة، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحُقَيق، وقال الجاحظ في
«كتاب الموالي»: وَلَدَ صفيَّةَ مئةُ نبي ومئة ملِك، ثم صيرها الله تعالى أمَةً
لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وذكر القاضي أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان النُّوقاتي في «كتاب المحنة»:
أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أراد البناء بصفية استأذنته عائشة أن تكون
في المتنقبات، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: يا عائشة لو أنك رأيتها اقشعر
جلدك من حسنها، فلما رأتها حصل لها ذلك.
وفي «طبقات ابن سعد»: أنَّ الحصن الذي كانت فيه اسمه القُموص، سباها منه هي وابنة
عم لها، فعرض عليها النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يعتقها إن اختارت الله
ورسوله، فقالت: أختار الله ورسوله، وأسلمت، فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها مهرها،
ورأى بوجهها أثر خضرة قريبًا من عينها، فقال: ما هذا؟ قالت: يا رسول الله، رأيت في
المنام قمرًا أقبل من يثرب حتى وقع في حجري، فذكرتُ ذلك لزوجي كنانة فقال: تحبين أن
يكون هذا الملك الذي يأتي المدينة زوجك؟! فضرب وجهي.
فلما صار إلى منزل يقال له: تبار على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرِّس بها
فأبت عليه، فوجد في نفسه من ذلك، فقالت: خفت عليك قرب يهود، فلما كان بالصهباء على
بريد من خيبر عرَّس بها.
وفي لفظ: رأيت كأني وهذا الذي يزعم أن الله أرسله وملكٌ يسترُنا بجناحه.
وعن أبي الوليد: وليمة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ السمن والأقط
والتمر.
وفي لفظ: التمر والسويق.
(1/243)
وفي
«الإكليل» للحاكم: رأى في المنام كما رأت صفية قبل تزوجها بسيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وعند ابن سعد: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم كأن آتيًا
يقول: يا أم المؤمنين، ففزعت وأولته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يتزوجني.
وعن ابن عباس قال:
رأت سودة في المنام كأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أقبل يمشي حتى وطئ على
عنقها، فقال زوجها: لئن صدقت رؤياك لتتزوجين به، ثم رأت ليلة أخرى أن قمرًا انقض
عليها من السماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها السكران، قال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث
إلا يسيرًا حتى أموت وتتزوجين من بعدي، فاشتكى من يومه ذلك، ولم يلبث إلا قليلًا
حتى مات.
و (يُحَوِّي) بياء ... من تحتها مضمومة، وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْوَاو، وَهُوَ رِوَايَة أبي ذَر وَقَول أهل اللُّغَة، وَفِي رِوَايَة أبي
الْحُسَيْن: يحوى، بِالتَّخْفِيفِ ثلاثي وَهُوَ أَن يُدِير كسَاء فَوق سَنَام
الْبَعِير ثمَّ يركبه.
وقَالَ السُّهَيلي: حديث اصطفائه صفية يعارضه في الظاهر حديث أنس: أنها صارت
لدِحْيَةَ، فأخذها منه وأعطاه سبعة أرؤس، ويروى أنه أعطاه بنتي عمها عوضًا منها.
ويروى أنه قال له: «خُذْ رَأْسًا آخرَ مَكَانَهَا» ولا معارضة، فإنما أخذها من
دِحْيَةَ قبل القَسْم، وما عوضه فيها ليس على جهة البيع، ولكن على جهة النقل أو
الهبة، غير أن بعض رواة الحديث في الصحيح يقولون فيه: إنه اشترى صفية من دِحْيَةَ،
وبعضهم يزيد فيه بعد القَسْم، فالله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان، وهذا الأخير هو الذي
أراد به البخاري في الباب الذي تقدم قريبًا، وهو باب بيع العبيد والحيوان بالحيوان
نسيئة، وأورد فيه حديث صفية.
(1/244)
وقَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: كان تركه لها عند النبي صلى الله عليه والسلم وأخذه جارية من السبي
غير معينة بيعًا لها بجارية نسيئة حتى يأخذها ويستحسنها، فحينئذ تتعين له، وليس
ذلك يدًا بيد، وسفره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بصفية قبل أن يشتريها دليل لما
بوَّبَ البخاري له، لأنه لا بد أن يرفعها أو يُنزلها، وكان صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لا يمس يدَ امرأة لا تحل له، ولكن يعكر على هذا أنه كان تزوجها.
معنى قوله: (حَلَّت) أي: طهرت من حيضها، والزوجة لا تحتاج
إلى استبراء، فينظر.
وفي «سير ابن إسحاق»: لما أتى بها بلال أمر بها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَحِيزَتْ خَلْفَهُ وغطى عليها ثوبه، فعرف الناس أنه قد اصطفاها لنفسه.
واختلفوا في تقبيل الجارية ومباشرتها قبل الاستبراء، فأجازه أبو ثور، وكرهه مالك
والليث وأبو حنيفة والشافعي، وقال ابن الماجشون: إن كانت صغيرة أو ممن انقطع عنها
الحيض لا تستبرأ.
وفي الحديث أنَّ الوليمة بعد البناء.
و (العَبَاءةُ) ممدودة.
وفي «حواشي السنن»: الإمام إذا نقل ما لم يعلم بمقداره له استرجاعه والتعويض عنه،
وليس له أن يأخذه بغير عوض، قال: وإعطاء دِحْيَةَ كان برضاه، فيكون معاوضةُ جاريةٍ
بجاريةٍ، فإن قيل: الواهب منهيٌّ عن شراء هبته، قلنا: لم يهبه من مال نفسه، وإنما
أعطاه من مال الله على وجه النظر كما يعطي الإمام النفل لأحد أهل الجيش نظرًا،
وقيل: إنما يكون قصد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إعطاءه جارية من حشو السبي، فلما
اطلع أن هذه من خياره وأن ليس يمكن إعطاء مثلها لمثله، لأنه قد يؤدي ذلك إلى
المفسدة، فلذلك ارتجعها، ولأنه خلاف ما أراد أن يعطيه، وسيأتي الكلام عليه بأكثر
من هذا في النكاح.
(1/245)
قَالَ
البُخَارِيُّ: (وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ الحَمِيدِ، حَدَّثَنا يَزِيدُ،
كَتَبَ إِلَيَّ عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرًا: نَهَى النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عنْ بيعِ الخَمْرِ).
هذا خرجه مسلم عن محمد بن مثنى عن أبي عاصم الذي علق البخاري عنه، قال القرطبي:
اختلف في جواز بيع كل محرم نجس فيه منفعة كالزبل والعذرة، فَمنع من ذَلِك
الشَّافِعِي وَمَالك، وَأَجَازَهُ الكوفيون والطبري وَذهب آخَرُونَ إِلَى إجَازَة
ذلك من المشتري دون البائع، ورأوا أن المشتري أعذر من البائع لأنه مضطرٌ إلى ذلك،
روي ذلك عن بعض أصحابنا يحرم.
كتابُ السَّلَمِ
السَّلَمُ والسَّلَفُ والتسليفُ عبارة عن معنى واحد، غير أن الاسم الخاص بهذا
الباب السلم، لأن السَّلفَ يقال على القرض، والسلم في الشرع: بيع من البيوع
الجائزة بالاتفاق، قال القرطبي: وحدَّه أصحابُنا بأن قالوا: هو بيع معلوم في الذمة
محصور بصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم.
قال ابن حزم: السلم لا يجوز إلا إلى أجل مسمى، والبيع في كل مستملك لم يأتِ
النَّصُ بالنهي عن بيعه، ولا يجوز السلم إلا في كل مكيل أو موزون فقط، ولا يجوز في
حيوان ولا في مذروع أو معدود، لا في شيء غير ما ذكر.
قال: وكرهت طائفة السلم، روي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود: أنه كان يكره
السلم كله، قال وأباح أبو حنيفة ومالك السلف في المعدود والمذروع من الثياب بغير
ذكر وزنه، ومنعا من السلف حالًا.
وقال الشافعي: السلم يجوز حالًا قياسًا على جوازه إلى أجل، وأجاز السلم في كل شيء
قياسًا على المكيل والموزون، قال أبو محمد، والأجل ساعة فما فوقها، وقال بعض
الحنفية: لا يكون أقل من نصف يوم، وقال بعضهم: لا يكون أقل من ثلاثة أيام، وقال
المالكيون: يكره أقل من يومين، وقال الليث: خمسة عشر يومًا.
(1/246)
واختلف
في السلم في البيض، فلم يجزه أبو حنيفة، وأجازه مالك بالعدد، وفي اللحم أجازه
الشافعي ومالك، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السلم في الرؤوس والأكارع منعه أبو حنيفة،
وأجازه مالك، واختلف فيه قول الشافعي، [1] قال القرطبي: والسلم في الدر والفصوص
أجازه مالك.
%ج 3 ص 276%
وقول البخاري في بابِ السلمِ في كَيلٍ مَعلُومٍ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنا
إِسماعِيلُ عَنِ ابن