ج7. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
ثم
ذكر حديث زهير بن معاوية، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: «مَنَعَتِ
الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدَّهَا
وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ أَرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ
حَيْثُ بَدَأْتُمْ»
انتهى. ذكر أبو داود هذه اللفظة: «وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» وقال: قاله
زهير ثلاث مرات.
وقوله: (مَنَعَتِ الْعِرَاقُ) إلى آخره، فيه قولان:
الأول: المنع؛ لأن أهلها أسلموا فسقطت عنهم الجزية ذكره النووي، وأنكره ابن الجوزي
وقال: هذا إخبار عن اجتماع الكل في الإسلام قال: وليس هو بشيء، واستدل بحديث:
«كَيْفَ أنَتُم إِذَا لَمْ تَجْبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» انتهى.
لقائل أن يقول: قوله (إِذَا لَمْ تَجْبُوا) يوافق قول النووي؛ لأنهم إذا أسلموا لم
يجدوا من يجبون منه.
القول الثاني: وهو الأشهر أن معناه: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر
الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، وقد روى مسلم عن جابر بيانه وهو: «يُوشِكُ
أَهْلُ الْعِرَاقِ أَلَّا يَجِيءَ إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ، قُلْنَا:
مِنْ أَيْنَ ذَلكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ».
(بَابٌ)
3181 - حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ
قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: أَشَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَمِعْتُ
سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ: «اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ». [خ 3181]
(1/324)
وفي
لفظ: «اتَّهِموا أَنْفُسَكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ
يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا
هَذَا». وفي لفظ: «يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا،
فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ».
وفيه: «فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ،
أَوَ فَتْحٌ هُوَ قَالَ: نَعَمْ».
قال الْمُهَلَّبُ: قوله: (اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ) يعني: إنكم
إنما تقاتلون إخوانكم برأي رأيتموه، فلو كان الرأي يقتضى به لقضيت برد أمر النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوم أبي جندل، إذ ردَّه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يوم الحديبية حين قاضى أهل مكة شرفها الله تعالى.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: غرض البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن الصبر على المفاتن،
والصلة أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال: باب الصبر وعاقبته، ألا تراه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أخذ يوم الحديبية في قتال المشركين بالصبر والوقوع تحت
الدنية التي ظنها عمر في الدين، وكان ذلك الصبر واللين أفضل عاقبة في الدنيا
والآخرة بأن دخلوا في الإسلام، وأوجب لهم أجرهم في الآخرة، قال صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ
حُمْرِ النَّعَمِ» فكيف بأهل مكة أجمعين.
وأمر المقاضاة وكتبها تقدم في الصلح، وكذا (المُصَالَحَة عَلَى ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ) و (طَرْحِ جِيَفِ المُشْرِكِينَ فِي البِئْرِ) تقدم في الطهارة.
(1/325)
(بَابُ:
إِثْمُ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ)
3186 - حَدَّثَنا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ يرفعانه: «لِكُلِّ
غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ» القائل وعن ثابت هو شعبة بن الحجاج. [خ 3186]
وحديث ابن عمر يرفعه: «لكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ» تقدم.
وحديث ابن عباس قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوم فتح مكة: «لاَ هِجْرَةَ
وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَامٌ» الحديث تقدم في الحج.
وقد وقع لنا حديث آخر رواه ابن عساكر، من حديث الفضل بن موسى، عن شريك، عن أبي
إسحاق، عن عُمَارةَ بنِ غَزِية، عن علي، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلٍّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ
لَقِيَ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ أَجْذَمَ».
وعند الترمذي، من حديث علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد نحوه، وقال: حديث
حسن.
قال ابن المنير: مطابقة دخول حديث ابن عباس هنا أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ نصَّ على أنَّ مَكَّةَ شرفها الله تعالى اختصت بالحرمة إلا في
الساعة المستثناة، وليس المراد قتل المؤمن البر فيها، إذ كل بقعة كذلك، فالذي
اختصت به حرمة قتل الفاجر المتأهِّلِ للقتل، فإذا استقر أنَّ الفاجر قد حرم قتله
لعهد الله الذي خصها به، فإذا خص أحد فاجرًا بعهد الله في غيرها لزم نفوذ العهد له
بثبوت الحرمة في حقه، فيقوى عموم الحديث الأول في الغادر بالبر والفاجر.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مطابقته أن محارم الله عهوده إلى عباده، فمن انتهك منها
شيئًا لم يَفِ بما عاهد الله عليه، ومن لم يَفِ فهو من الغادرين.
(1/326)
وأيضًا
فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما فتح مكة شرفها الله تعالى منَّ على
أهلها كلهم، ومعلوم أنه كان فيهم من في قلبه شيء، ثم أخبر أن مكة حرام بحرمة الله
إلى يوم القيامة، وأنه لا يَحِلُّ قتال أحد منها، فإذا كان كذلك لا يجوز الغدر ببر
ولا فاجر، وتبويب البخاري (بَابُ: إِثْمِ الغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ) لعموم
قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ» يدخل فيه من غدر من
بَرٍّ وفاجرٍ، ودلَّ أن الغدر حرام.
وقال القرطبي: هذا خطاب منه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ للعرب بنحو ما كانت تفعل،
وذلك أنهم يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليعظموا الأول، ويذموا
الثاني.
قال: وقد شاهدنا هذا عادة مستمرة إلى اليوم. انتهى.
قال الشاعر:
~ أسُمَيَّ ويحك هل سمعتِ بغدرةٍ نُصِبَ اللِّوا كنا بها في مجمع؟!
قال القرطبي: فمقتضى هذا الحديث أن الغادر يُفْعَلُ به ذلك، لِيُشْهَرَ بالخيانة
والغدر فيذمه أهل الموقف، ولا يبعد أن يكون الوفي بالعهد يرفع له لواء يُعْرَفُ به
وفاؤه وبره فيمدحه أهل الموقف.
وقال النووي: اللواء لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب ويكون الناس تبعًا له.
قالوا: فمعنى: (لكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ) أي: علامة يشتهر بها في الناس؛ لأن موضع
اللواء شهرة مكان الرئيس، قال: والغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، يقال:
غَدَرَ يَغْدِر، بكسر الدال في المضارع. انتهى. يخدش في هذا ما ذكره الأصبهاني، أن
عمر سئل: من أشعر العرب؟ فقال: زهير. فقيل له: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال: «امْرُؤُ الْقَيْسِ صَاحِبُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ» فقال عمر: اللواء
لا يكون مع الأمير.
وفي الحديث بيان تغليظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره
يتعدى ضرورةً إلى خلق كثير، وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء، كما
في الحديث في تعظيم كذب الملوك.
(1/327)
والمشهور
أن هذا الحديث وارد في ذمِّ الإمام الغادر، إما لمن عاهده من المحاربين أو لرعيته
إذ لم يقم عليهم ولم يُحِطْهُم، فمن فعل ذلك فقد غدر بعهده أو يكون نهي للرعية عن
الغدر بالإمام.
قال القرطبي: وقد مال أكثر العلماء إلى أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر بخلاف
الخائن والفاسق، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه، والقولان في مذهب مالك.
دعاء الناس بآبائهم في الموقف، تقدم في الحد.
(1/328)
(كتاب:
بَدْءُ الْخَلْقِ)
(بَابُ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ جلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27])
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل في هذه الآية الكريمة غير قول، فمنها أن
الهاء تعود على الخلق، والمعنى: الإعادة والبعث أهون على الإنسان من إنشائه؛ لأنه
يقاسي في النشء ما لا يقاسي في البعث والإعادة.
وقال أبو عبيدة وكثير من أهل اللغة: إن معناه وهو هين عليه، أي: كل ذلك هين عليه،
وإن {أَهْوَنُ} ههنا ليس معناه أن الإعادة أهون عليه من الابتداء؛ لأن الابتداء
والإعادة كلٌ سهلٌ عليه.
قالوا: ومثل ذلك من الشعر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجَلُ على أيِّنا تعدو المنيَّةُ أوَّلُ
ومعنى لأوجل: لوَجِلٌ، وقالوا: الله أكبر بمعنى الله كبير، وهذا غير منكر، وأحسن
من هذين الوجهين: أنه جلَّ وعزَّ خاطب بما يعقلون، وأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون
البعث أسهل وأهون من الابتداء والإنشاء، وجعله مثلًا لهم فقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] أي قوله: {هُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ} فضربه لهم مثلًا فيما يصعب ويسهل.
قال البخاري: (هَيْنٌ وَهَيِّنٌ مِثْلُ: لَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ،
وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ).
قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخففين، قال الشاعر:
هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ بَنُو يسْر سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أَبْنَاءُ
أَيْسَارِ
وتذم بهما مثقلين.
(1/1)
3191
- حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ، حَدَّثَنا أَبِي، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ،
حَدَّثَنا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ
حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» فقَالُوا: قَدْ
بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ
اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِن لَمْ
يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ» قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فقَالُوا:
جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، فقَالَ: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ
شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ
يَا ابنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ. [خ 3191]
3190 - وفي لفظ: «جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا، فقَالُوا:
بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ،
فَقَالَ). الحديث [خ 3190]
قوله: (أَبْشِرُوا) قال ابن التين: يريد ما يجازي به المسلمون وما تصير إليه
عاقبتهم.
وقوله: (اقْبَلُوا البُشْرَى) زعم عياض أنه روي كذا عند الجماعة بباء موحدة وشين
معجمة، إلا الأَصِيلي فإنه عنده بياء مثناة من تحت وسين مهملة، والصواب الأول،
وجواب بني تميم يدل عليه، وقوله: (أَبْشِرُوا) يدل عليه أيضًا، وكان قدوم بني تميم
في سنة تسع من الهجرة، والقائل: (فَأَعْطِنَا) هو الأقرع بن حابس.
(1/2)
وفي
كتاب «المغازي» قال أبو موسى: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟! فقال له:
«أَبْشِرْ» فقال: أكثرت علي من البشرى، فأقبل علي وعلى بلال كهيئة الغضبان، فقال:
«رَدَّ البُشْرى، فَاقْبَلَاهَا» فقالا: قبلنا.
قال أبو الفرج: تغير وجهه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لقلة علم أولئك؛ لأنهم
عَلَّقُوا آمالهم بعاجل الدنيا دون الآخرة.
والقائل (جِئْنَاكَ
نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ): الأشعريون.
وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس: على أي شيء كان الماء؟ فقال: على متن الريح،
وذلك أن الله أول ما خلق اللوح والقلم، فقال للقلم: اكتب ما يكون، فكتب ذلك في
الذكر، وهو اللوح المحفوظ.
وفي «تاريخ الطبري» صحيحًا عن عبادة بن الصامت يرفعه: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ
تَعَالَى الْقَلَم».
وعن ابن إسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم مَيَّزَ بينهما، فجعل الظلمة
ليلًا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا.
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: بالقلم، ثم خلق سحابًا رقيقًا
وهو الغمام، ثم العرش، وقيل: خلق الماء قبل العرش. انتهى.
وقيل: أول ما خلق الله تعالى الدواة، ثم خلق نونًا وبسط الأرضين عليه فمادت، فخلق
الجبال.
وعن الْمُهَلَّبِ: أن السؤل عن مبادئ الأشياء والبحث عنها جائز في الشريعة، وجائز
للعالم أن يجيب عنها بما يعلم، فإن خشي من السائل إيهام شكٍ أو تقصير فهم فلا
يجبه، ولْيَنْهَهُ عن ذلك ويزجره.
قال البخاري:
(1/3)
3192
- وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الخَلْقِ، حَتَّى
دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ
ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ». [خ 3192]
قال أبو علي الجياني: هكذا في النسخ كلها عن البخاري.
وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما رواه عيسى يعني ابن موسى الغُنْجَار البخاري، عن أبي
حمزة يعني السكري، عن رقبة.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: عيسى بن موسى غنجار يحدث عن أبي حمزة، عن رقبة بن
مَصقَلة.
وفي «مستخرج أبي نعيم»: حدثنا أبو إسحاق،
حدثنا محمد بن المسيب، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا أحمد بن أيوب الضبي، حدثنا أبو
حمزة، عن رقبة بلفظ: «فَأَخْبَرَنَا بأهلِ الجنةِ وما يَعْمَلُونَ، وبأهلِ
النَّارِ وما يعملونَ». ثم قال: ذكره البخاري بلا رواية عن أبي حمزة، ولأبي حمزة
عن رقبة نسخة، ولا يعرف لعيسى عن رقبة نفسه شيء، وقد روى إسحاق ابن حمزة البخاري،
عن غنجار هذا، عن أبي حمزة، عن رقبة بن مَصقَلة نسخةً.
وقال خلف: قال ابن الفلكي: ينبغي أن يكون بين عيسى ورقبة، أبو حمزة.
وقال أبو العباس الطَرْقي: إنما يروي عيسى بن موسى هذا الحديث، عن أبي حمزة، عن
رقبة، وليس أبو حمزة في كتاب الجماعة عن الفَرَبْرِيِّ، وفي «كتاب حماد بن شاكر»
عن البخاري، و «كتاب ابن رُمَيْح» عن الفَرَبْرِيِّ، جميعًا عن عيسى، عن أبي حمزة،
عن رقبة.
قال البخاري:
3193 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ
سُفْيَانَ) فذكر حديث: «يشْتُمنِي عَبْدِي». [خ 3193]
أبو أحمد اسمه محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأزدي الزبيري، وسفيان
هو ابن سعيد الثوري.
(1/4)
3194
- وقوله في حديث أبي هريرة: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَه فِي كِتَاب
فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي». [خ 3194]
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قوله: (لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ) يريد: لما خلقهم، قال
تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] أي: خلقهن، وكل صنعة وقعت في
شيء على سبيل إتقان وإحكام فهو قضاء.
وقوله: (فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) كان بعض العلماء يقول: إن معناه دون
العرش استعظامًا أن يكون شيء من الخلق فوق عرش الله جل وعز، وكان يحتج في ذلك
بقوله جل وعز: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] قال معناه: فما دونها.
والذي قاله المحققون في تأويل الآية قولان: أحدهما أنه أراد بـ {مَا فَوْقَهَا} في
الصغر؛ لأن المطلوب هنا والغرض الصغر،
وقال بعضهم: فوق تزاد في الكلام وتلغى، كقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}
[الأنفال: 12] وكقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11].
وأجمعوا أن الاثنتين يراد الثنتين، فلم يك لحرف {فَوْقَ} فيه أثر.
وهذا أيضًا لا يتوجه في معنى الحديث، لأنك إذا نزعت منه هذا الحرف وألغيته لم يصح
معنى الكلام؛ لأنه لا يجوز أن يقول: فهو عنده العرش، كما لا يصلح أن يقال: فإن كن
نساء فوق اثنتين.
(1/5)
والقول
فيه - والله تعالى أعلم - أنه أراد بالكتابة أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه الله
جل وعز وأوجب، كقوله: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:
21] أي: قضى الله وأوجب، ويكون معنى قوله: (فَوْقَ الْعَرْشِ) أي: علم ذلك عند
الله فوق العرش لا ينسخ ولا يبدل كقوله: {قالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي
كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] وإماأن يريد بالكتاب اللوح
المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق والخليقة، وآجالهم وأرزاقهم وشبهه، ويكون معنى
قوله: (فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) أي فذكره عنده فوق العرش، ويضمن فيه الذكر
أو العلم.
كل ذلك جائز في الكلام على أن العرش مخلوق، فلا يستحيل أن يمسه كتاب مخلوق، فإن
الملائكة الذين هم حملة العرش لا يستحيل أن يماسوه إذا حملوه؛ لأنه جاء أنه على
كواهلهم، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله جل وعز. والله تعالى أعلم.
حديث عائشة وابن عمر تقدما في المظالم، وكذا حديث سعيد بن زيد.
وأما قول البخاري في آخره:
3198 - (قَالَ ابنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ لِي
سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ) ففائدته تصريح عروة بسماعه إياه من سعيد. [خ 3198]
وحديث أبي بكر تقدم في الحج.
(بَابٌ فِي النُّجُومِ)
وَقَالَ قَتَادَةُ: قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] أَي: خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: زِينَةً،
وَرُجُومًا، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ
فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَضَاعَ نَصِبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ.
هذا التعليق رويناه في «تفسير عبد بن حميد»، عن يونس، عن سفيان، عن قتادة بلفظ:
فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال رأيه.
(1/6)
وروينا
في كتاب «ذم النجوم» للحافظ أبي بكر الخطيب، من حديث إسماعيل بن عياش، عن البختري
بن عبيد، عن أبيه، عن أبي ذر، عن عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يقول: «لَا تَسْأَلُوا عَنِ النُّجُومِ».
ومن حديث عبيد الله بن موسى، عن الربيع بن حبيب، عن نوفل بن عبد الملك، عن أبيه،
عن علي: «نَهَانِي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ».
وعن أبي هريرة وعائشة وابن مسعود وابن عباس نحوه بأسانيد لا بأس بها.
وعن الحسن أن قيصر سأل قيس بن ساعدة الإيادي: هل نظرت في النجوم؟ قال: نعم نظرت
فيما يُرَادُ به الهداية، ولم أنظر فيما يراد به الكهانة.
وقد قلت في النجوم أبياتًا وهي:
علم النجوم على العقول وبال وطِلَابُ شيء لا ينال ضلال
ماذا طِلابك علم شيء غيبت من دونه الخضر أليس ينال
هيهات ما أحد بغامض فطنة يدري كم الأرزاق والآجال
إلا الذي من فوق عرش ربنا فلوجهه الإكرام والإجلال
وفي «الأنواء» لأبي حنيفة: المنكر في النجوم المذموم منه نسبة الأمر إلى الكواكب،
وأنها هي المؤثرة، فأما من نسب التأثير إلى خالقها وزعم أنه نصها أعلامًا وضربها
أمارا على ما يحدثه فلا جناح عليه، وقال المأمون: علمان نظرت فيهما وأنعمت فلم
أرهما يصحان: النجوم والسحر.
وفي «التنوير» لابن دِحْية: قول أهل السنة والجماعة أن الشمس والقمر والدراري
والبروج والنجوم جارية في الفلك، وأن السماء الدنيا مختصة بذلك كله.
وروى ابن عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي أنه قال: النجوم كلها معلقة كالقناديل من
السماء الدنيا في الهواء كتعليق القناديل في المساجد.
فإن قيل: كيف قال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] والقمر في
إحداهن؟
(1/7)
ويجاب:
بأن معنى فيهن: معهن، كما يقال: زيد في القوم أي: معهم، وقيل: إنه إذا جعل النور
في إحداهن فقد جعله فيهن، كما يقال: أعطه الثياب المعلمة، وإنما أعلم منها ثوب،
وقيل: كما يقال: في هذه الدور وليمة، وهي في واحدة، كما يقال: قدم في شهر كذا،
وإنما قدم في يوم منه.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هَشِيمًا مُتَغَيِّرًا) هذا التعليق ذكره
إسماعيل بن أبي زياد، عن ابن عباس في «تفسيره».
قال: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَلْفَافًا: مُلْتَفَّة) هذا التعليق رواه أبو جعر محمد
بن جرير، عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عيسى، وحدثني الحارث، حدثنا
الحسن، حدثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، فذكره.
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في واحد الألفاف، فكان بعض نحوي البصرة يقول:
واحدها لِفٌ. وقال بعض نحوي الكوفة: واحدها لِفٌ ولفيف.
قال: وإن شئت كان الألفاف جمعًا، وواحده جمع أيضًا، تقول: جنة لفاء، وجنان لُف، ثم
جمع اللف: ألفافًا، وقال آخر منهم: لم يسمع شجرة لِف، ولكن واحدها لفاء، وجمعها
وجمع لف: ألفاف، فهو جمع الجمع، والصواب من القول في ذلك: أن الألفاف جمع لِف أو
لفيف، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناها: ملتفة، واللفاء هي الغليظة، وليس
الالتفاف
من الغلظ في شيء إلا أن يوجه إلى أنه غَلُظ بالالتفاف فيكون ذلك حينئذ وجها.
(بَابُ: صِفَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ بِحُسْبَانٍ)
قَالَ مُجَاهِدٌ: (كَحُسْبَانِ الرَّحَى) هذا التعليق رواه عبد، عن شبابةَ، عن
وَرقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بحسبان قال كحسبان الرحى.
وأخبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: {الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [القمر: 5] قال: يدوران في مثل قطب الرحى.
(1/8)
وقول
البخاري: (وَقَالَ غَيْرُهُ: بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ) كأنه - والله أعلم - يشير
بالغير إلى قول عبد حدثنا جعفر بن عون، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن
أبي مالك: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [القمر: 5] قال: بحساب ومنازل.
قال البخاري: (وَقَالَ الحَسَنُ: {كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]: تُكَوَّرُ حَتَّى
يَذْهَبَ ضَوْؤهَا) هذا التعليق رواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، حدثنا
إسماعيل بن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن به.
قال: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ، وَرُؤْبَةُ: الحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّمُومُ
بِالنَّهَارِ) هذا التعليق ذكره ابن أبي زياد، في «تفسير ابن عباس».
3199 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ:
«أتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. [خ 3199]
قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ
فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا،
وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، فيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ
جِئْتِ. فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} الآية [يس: 38]».
قال ابن الجوزي: ربما أشكل الأمر في هذا الحديث على من لم
يتبحر في العلم فقال: نحن نراها تغيب في الأرض وقد أخبر القرآن العزيز أنها تغيب
في عين حمئة، فإذا دارت تحت الأرض وصعدت فأين هي من العرش؟ فالجواب: إن الأرضين
السبع في ضرب المثال كقطب رحى، والعرش لعظم ذاته كالرحى، فأينما سجدت الشمس سجدت
تحت العرش وذلك مستقرها.
(1/9)
وقال
أبو بكر بن العربي: أنكر قوم من أهل الغفلة اقتداءً بأهل الإلحاد سجودها وهو صحيح
ممكن، وتأَوَّلَه قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم وأنه يعني بالعرش الملك،
يعني: المخلوقات، وعلى مذهب الملحدة أنه تحتها في التحت غيرها، وفوقها في الفوق
غيرها في جميع سيرها، فلا يصح أن تكون ساجدة تحت العرش، وعلى التأويل الأول يصح أن
تخرج عن مجراها، والقدرة تشهد له، وعلى التأويل الثاني يكون المعنى في وجه المجاز
ساجدة أبدًا.
وقوله: (تَحْتَ الْعَرْشِ) يريد تحت الملك أي: القهر والسلطان، وهي تستأذن في
المسير فيؤذن لها حتى يقال لها: ارجعي، فترجع من مغربها، وتذهب الهيئة المدبرة
فيها، وبعد الرجوع يكون التكوير.
وقوله: (تَحْتَ الْعَرْشِ) صحيح؛ لأن الكل من الأرض تحت العرش، بل العالم جميعه.
وقراءة الجماعة: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] أي: في حركة دائمة إن طلعت غربت
أو سجدت سارت، وعن ابن عباس أنه قال: (لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا) أي هي تطلع كل يوم
في مطلع، وتغرب في آخر، لا تعود إليه إلا في مثل ذلك اليوم من العام الآخر، حتى
يكون طلوعها من حيث غروبها، وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعلي بن الحسين والكسائي في
رواية الدوري: (لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا) يعني تجري أبدًا لا تثبت في مكان.
وفي «ربيع الأبرار» قال طاوس: وربِّ هذه البَنِيَّةأن هذا القمر يبكي من
خشية الله تعالى ولا ذنب له.
وسيأتي الكلام على طلوع الشمس من مغربها في سورة الأنعام وفي الحشر.
3200 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ المُخْتَارِ،
حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ الدَّانَاجُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ». [خ 3200]
(1/10)
قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: روي في هذا الحديث زيادة لم يذكرها أبو عبد الله، وهي ما أخبرنا
ابن الأَعْرَابيّ، حدثنا عباس الدُّوري، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن
المختار، عن عبد الله الداناج: شهدت أبا سلمة قال: حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ
يُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وروينا في «مسند أبي داود الطيالسي» عن يزيد الرَّقَاشي، عن أنس يرفعه: «إِنَّ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ».
وذكره أبو مسعود الدمشقي في بعض نسخ كتاب «الأطراف» موهمًا أن ذلك في الصحيح،
وكأنَّهُ غير جيد لعدم سلف ومتابع فينظر.
وذكر ابن وهب في كتاب «الأهوال» عن عطاء بن يسار أنه تلا هذه الآية: {وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] قال: يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار
فتكون نار الله الكبرى.
وعن كعب الحبر: يجاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار.
وروى عكرمة، عن ابن عباس عنه تكذيب كعب في قوله، وقال: هذه يهودية يريد إدخالها في
الإسلام، الله أكرمُ وأجلُّ من أن يعذب على طاعته، ألم تر إلى قوله جل وعز:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] يعني: دأبهما
في طاعته، فكيف يعذب عبدين أثنى الله عليهما؟! ثم حدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ حديثًا فيه: «أَنَّ اللهَ لَمَّا أَبْرَمَ خَلْقَهُ فَلَمْ يَبْقَ
مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ آدَمَ، خَلَقَ الشَّمْسَ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فَإنَّمَا
كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَدَعهَا شَمْسًا فَإِنَّهُ خَلَقَهَا
(1/11)
مِثْلَ الدُّنْيَا مَا بَيْنَ مَشَارِقِها وَمَغَارِبِهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَطْمِسُهَا وَيُسَخِّرُ لَهَا قَمَرًا فَإِنَّهُ دُونَ الشَّمْسِ فِي الْعِظَمِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرُهُمَا مِنْ شِدَّةِ ارْتِفَاعِ السَّمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَ اللهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَمَا كَانَ خَلَقَهُمَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ وَلَا النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ شَمْسٌ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْءَ وَبَقِيَ فِيهِ النُّورُ، فَالسَّوَادُ الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْقَمَرِ شِبْهَ الْخُطُوطِ فَهُوَ أَثَرُ الْمَحْوِ، ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ عَجَلَةً مِنْ ضَوْءِ نُورِ الْعَرْشِ، لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عُرْوَةً، وَوَكَّلَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَلَكًا، كُلُّ مَلَكٍ مُعَلَّقٌ بِعُرْوَةٍ مِنْ تِلْكَ الْعُرَى، وَوَكَّلَ بِالْقَمَرِ وَعَجَلَتِهِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَلَكًا، كَالشَّمْسِ، وَخَلَقَ لَهُما مَشَارِقَ وَمَغَارِبَ فِي قُطْرَيِ الْأَرْضِ وَكَنَفَيِ السَّمَاءِ، ثَمَانِينَ وَمِائَةَ عَيْنٍ فِي الْمَغْرِبِ طِينَةً سَوْدَاءَ، وَثَمَانِينَ وَمِائَةَ عَيْنٍ فِي الْمَشْرِقِ مِثْلَ ذَلِكَ طِينَةً سَوْدَاءَ تَفُورُ غَلْيًا كَغَلْيِ الْقِدْرِ، فَكُلُّ يَوْمٍ وَكُلُّ لَيْلَةٍ لَهَا مَطْلَعٌ جَدِيدٌ وَمَغْرِبٌ جَدِيدٌ، وَخَلَقَ اللهُ بحْرًا دُونَ السَّمَاءِ بِمِقْدَارَ ثَلَاثِ فَرَاسِخَ، وَهُوَ بُرج مَلْفُوفٌقَائِمٌ فِي الْهَوَاءِ لَا يَقْطُرُ قَطْرُهُ، وَالْبِحَارُ كُلُّهَا سَاكِنَةٌ، وَذَاكَ الْبَحْرُ جَارٍ فِي سُرْعَةِ السَّهْمِ وَانْطِلَاقُهُ فِي الْهَوَاءِ مُسْتَوِيًا كَأَنَّهُ جَبَلٌ مَمْدُودٌ، تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ والحُسْنُ
(1/12)
فِي
لُجَّتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]-
والفلك: دوران العجلة في لجة ذلك البحر- فَلَوْ بَدَتِ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ
الْبَحْرِ لَأَحْرَقَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ بَدَا الْقَمَرُ لَافْتَتَنَ بِهِ
أَهْلُ الْأَرْضِ حَتَّى يَعْبُدُوهُ». وفي آخره: «يُجَاءُ بِالْقَمَرِ
وَالشَّمْسِ أَسْوَدَيْنِ مُكَدَّرَيْنِ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمَا، فَإِذَا كَانَا
حِيَالَ الْعَرْشِ سَجَدَا وَقَالَا: إِلَهُنَا قَدْ عَلِمْتَ طَاعَتَنَا لَكَ
فَلَا تُعَذِّبْنَا بِعِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّانَا، فَيَقُولُ جَلَّ
وَعَزَّ: صَدَقْتُمَا وَإِنِّي مُعِيدُكُمَا إِلَى مَا بَدَأَتْكُمَا مِنْهُ،
وَإِنِّي خَلَقْتُكُمَا مِنْ نُورِ عَرْشِي، ارْجِعَا إِلَيْهِ، فَيَرْجِعَانِ
وَيَخْتَلِطَانِ بِنُورِ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
جَلَّ وَعَزَّ: {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [الْبُرُوجِ: 13]».
وفي آخره: «أَنَّ كَعْبًا جَاءَ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ
ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ كِتَابٍ دَارِسٍ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ عَنْ كِتَابٍ مَحْفُوظٍ
حَدَّثَهُ عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وسَلَامُهُ،
وَسَأَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ بِالْحَدِيثِ لِيَحْفَظَهُ، فَأَعَادَهُ لَهُ فَلمْ
يَخْرِمْ حَرْفًا».
(1/13)
وفيه: «فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَيُرِي الْعِبَادَ آيَةً فَيَسْتَغثهُمْ خَرَّتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعَجَلَةِ، قال: فَتَقَعُ فِي غَمْرِ ذَلِكَ الْبَحْرِ وَهُوَ الْفَلَكُ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ أَنْ يُعَظِّمَ الْآيَةَ وَيُشَدِّدَ تَخْوِيفَ الْعِبَادِ، وَقَعَتِ الشَّمْسُ كُلُّهَا، فلَا يَبْقَى مِنْهَا عَلَى الْعَجَلَةِ شَيْءٌ، فَذَلِكَ حِينَ يُظْلِمُ النَّهَارُ وَتَبْدُو النُّجُومُ، وَهُوَ الْمُنْتَهَى مِنْ كُسُوفِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ آيَةً دُونَ آيَةٍ، وَقَعَ مِنْهَا النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ أَوِ الثُّلُثَانِ فِي الْمَاءِ، وَيَبْقَى سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَهُوَ كُسُوفٌ دُونَ كُسُوفٍ، فَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ صَارَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْعَجَلَةِ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ مِنْهَا يُقْبِلُونَ عَلَى الشَّمْسِ فَيَجُرُّونَهَا نَحْوَ الْعَجَلَةِ، وَالْأُخْرَى يُقْبِلُونَ عَلَى الْعَجَلَةِ فَيَجُرُّونَهَا نَحْوَ الشَّمْسِ، فَإِذَا أَخْرَجُوهَا كُلَّهَا اجْتَمَعَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ، فَاحْتَمَلُوهَا حَتَّى يَضَعُوهَا عَلَى الْعَجَلَةِ فَيَحْمَدُونَ اللهَ عَلَى مَا قَوَّاهُمْ، وَيَتَعَلَّقُونَ بِعُرَى الْعَجَلَةِ، وَيَجُرُّونَهَا فِي الْفَلَكِ بِالتَّسْبِيحِ، فَإِذَا بَلَغُوا بِهَا الْمَغْرِبَ أَدْخَلُوهَا تِلْكَ الْعَيْنَ، فَتَسْقُطُ مِنْ أُفُقِ السَّمَاءِ فِي الْعَيْنِ، قَالَ: فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ رُفِعَ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ فِي سُرْعَةِ طَيَرَانِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَبْلغ بِهَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ الْعُلْيَا حَتَّى تَكُونَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَيَسْجُدُ مَعَهَا الْمُوَكَّلُونَ بِهَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ فَذَلِكَ حِينَ يَنْفَجِرُ الصُّبْحُ،
(1/14)
فَإِذَا
وَصَلَتْ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ السَّمَاءِ فَذَلِكَ حِينَ يَمْضِي
النَّهَارُ».
قال أبو جعفر: في سنده، وعن مجاهد: السواد الذي في القمر كذلك خلقه الله، وكذا روي
عن قتادة. انتهى.
ليس من قول ابن عباس وما أسلفنا عن غيره خلف، ويؤيد قول غيره قوله جل وعز:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية
[الأنبياء: 98] وأيضا فليس تكويرهما في النار عذابًا لهما، ولكنه تبكيت لعبدتهما
الذين عبدوهما في الدنيا، ليعلموا أن عبادتهم إياهما كانت باطلًا، وهذا كما روي أن
الذباب كله في النار، ولا ذنب للذباب، والمعنى في ذلك: لتكون عقوبة لأهل النار
يتأذون بها كما يتأذون بالحيات وشبهها.
قال الإسماعيلي: وقد جعل الله جلَّ وعزَّ في النار ملائكة وليست تتأذى بالنار ولا
تعذب بها، وحجارة يعذب بها أهل النار، فيجوز أن يجعل الشمس والقمر عذابا في النار
لأهل النار، أو آلة من آلات التعذيب، نعوذ بالله من النار.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: معنى التكوير في الشيء البسيط: لف بعضه على بعض كالثوب
ونحوه، وعند المفسرين في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قالوا:
جمع ضوؤها ولُفَّ كما تلف العمامة، يقال: كورت العمامة على رأسي أكورها كورًا،
وكورتها تكويرًا: إذا لففتها.
وفي «الموضوعات» للنقاش عن ابن مسعود: تكلم ربنا بكلمتين صَيَّر أحدهما شمسًا
والأخرى قمرًا، وكلاهما من النور، ويعودان يوم القيامة إلى الجنة.
حديث ابن عمر وعائشة وابن مسعود تقدما في الكسوف، وحديث ابن عباس تقدم في أوائل
الصلاة.
(بَابُ: ما جَاءَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48])
ثم ذكر حديث ابن عباس: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا» وقد تقدم في الاستسقاء، ثم قال:
(1/15)
3206
- حَدَّثَنا مَكِّيُّ، حَدَّثَنا ابنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ:
كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ،
أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا
أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ، فَقَالَ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ:
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا} [الأحقاف: 24]» [خ 3206]
وفي موضع آخر رواه البخاري، عن سليمان أيضًا، عن عائشة وعنده: «مَا يُؤَمِّنُنِي
أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ».
وَفِي «كِتَابِ النَّسَائِي»: «إِذَا رَأَى مَخِيلَةً» يَعْنِي: الْغَيْمَ.
وعن الداودي: المخيلة سحاب وريح متغيرة على غير ما يُعهد.
وعند الهروي: جاء في التفسير: أمطرنا في الرحمة، ومُطِرنا في العذاب، وكلام العرب:
مطرت السماء من المطر، وعند أبي ذر: فإذا أمطرت.
وزعم عياض أن المفسرين وجدوه في القرآن في مواضع بالألف، والصحيح أنهما بمعنى، ألا
تراهم قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] وإنما ظنوه مطر رحمة فقيل
لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24].
وقوله: (سُرِّيَ عَنْهُ): أي كشف عنه ما خامره من الوجل، يقال: سروت الجُلَّ عن
الفرس: إذا نزعته عنه.
وقوله: (مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ) قال ابن العربي: كيف يلتئم
هذا مع قوله جل وعز: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}
[الأنفال: 33].
والجواب: أن الآية قبل الحديث؛ لأن الآية كرامة لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ ودرجة رفيعة لا تحط بعد أن رفعت، فإن الله لم يعذب أسلافهم لكونه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في أصلابهم، ولم يعذبهم لحرمة وجوده فهم، ولم يعذبهم
وهم يستغفرون بعد ذهاب نبيهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى كلامه.
(1/16)
وفيه
نظرٌ من حيث قوله: أن الآية قبل الحديث، ولو قال بعد الحديث لكان حسنًا، وأما قوله
فلا وجه له، قال ابن العربي: وقالت الصوفية: وكما أن كون سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بين أظهرهم مُنِع من عذابهم فالإيمان
الذي في القلوب أيضًا يمنع من تعذيب أبدانهم، والله تعالى أعلم.
(بَابُ: ذِكرِ المَلَائِكَةِ)
(وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلاَئِكَةِ صَلواتُ اللهِ
عَليهِم وَسَلامُهُ).
هذا التعليق رواه البخاري عن قريب مسندًا مطوَّلًا عن محمد بن سلام، عن مروان بن
معاوية، عن حميد عنه.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} الملائكةُ)
هذا التعليق رواه الطبري عن محمد بن سعد: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني
أبي عن أبيه عن ابن عباس، فذكره بزيادة الملائكة صافون تسبح لله جلَّ وعزَّ.
وروي نحو ذلك عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من حديث عبيد بن
سليمان عن الضحاك بن مزاحم، قال: كان مسروق يروي عن عائشة بلفظ: «مَا فِي
السَّماءِ الدنيا موضعُ قَدَمٍ إلا عليه ملكٌ ساجدٌ أو قائِمٌ، فذلك قوله تعالى:
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ}».
وحدثي أبو السائب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق، قال: قال عبد
الله: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا الجريري عن أبي نضرة
قال، كان عمر بن الخطاب، فذكرا نحوه.
ورواه أيضًا عن مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.
ثم إن البخاري قال:
(1/17)
3207
- حَدَّثَنا هُدْبَةُ، حَدَّثَنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: وقَالَ لِي
خَلِيفَةُ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ، وَهِشَامٌ،
قَالاَ: حَدَّثَنا قَتَادَةُ، حَدَّثَنا أَنَسُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ،
قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ البَيْتِ بَيْنَ
النَّائِمِ، وَاليَقْظَانِ - وَذَكَرَ: بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ - أُتِيتُ بِطَسْتٍ
مِنْ ذَهَبٍ، مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ
البَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً
وَإِيمَانًا، وَأُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، دُونَ البَغْلِ وَفَوْقَ الحِمَارِ:
البُرَاقُ، فَانطَلَقتُ مَعَ جِبرِيلَ».
وَفيه: «عيسى ويحيى في السماءِ الثَّانيةِ، وفي الثالثةِ يوسفَ، وفي الرابعةِ
إدريس، وفي الخامسةِ هارون، وفي السادسةِ موسى، وفي السابعة إبراهيم، صلوات الله
عليهم وسلامه». الحديث مطولًا. [خ 3207]
وفي موضع آخر من حديث شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، سَمِعْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ الإِسراءِ مِنْ مَسْجِدِ
الكَعْبَةِ: «جَاءَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، قَبْلَ أَنْ
يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي المسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ:
أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، وَقَالَ آخِرُهُمْ:
خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاؤُوا لَيْلَةً
أُخْرَى فِيمَا يرى النَّائِمُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَائِمَةٌ
عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ صَلَواتُ اللهِ
عَلَيهِم وَسَلامُهُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ،
فَتَوَلَّاهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ».
(1/18)
وفي
حديث أبي ذرٍّ الغفاري: «أَنَّه رأى إبراهيمَ في السماءِ السادسةِ صلى الله عليهما
وسلم».
وقال في موضع آخر: أَخْبَرَنَا ابنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، وقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
حَدَّثَنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، حَدَّثَنا ابنَ
عَبَّاسٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ
بِي مُوسَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا آدَمَ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ
شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ،
سَبِطَ الرَّأْسِ» الحديث.
قال الإسماعيلي: جمع البخاري بين حديثي شعبة ويزيد وسعيد على لفظ سعيد ولم يفصله،
وفي حديث سعيد زيادة ظاهرة على ما في حديث شعبة، ولفظه: «مُوْسَى رجلٌ آدمُ طُوالٌ
كَأنَّه مِن رجالِ شَنوءَةَ» وقال عيسى: «جَلْد»، وفي لفظ: «جَعْد مَربوع».
وقال ابن حزم: ثم لم نجد للبخاري شيئًا لا يحتمل مخرجًا
إلا حديث شريك هذا؛ فإنه تم عليه في تخريجه الوهم مع إتقانه وحفظه وصحة معرفته،
وألفاظ هذا الحديث مقحمة منكرة، والآفة من شريك في ذلك، أولها قوله: (إن ذلك قبل
أن يوحى إليه، وإنه حينئذ فرضت عليه الخمسون صلاة).
قال أبو محمد: وهذا بلا خلاف من أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد
أن أوحي إليه باثنتي عشرة سنة، فكيف يكون ذلك قبل أن يوحى إليه؟! وقد أورد مسلم في
«صحيحه» حديث شريك هذا، لكن بغير هذه الزيادة.
ومنها قوله: (فَدَنَى فَتَدَلى، فكانَ منه قابَ قَوسَين أَو أَدنى) وقال عبد الحق:
زاد شريك زيادة مجهولة، وأتى بألفاظ غير معروفة، وقد روى حديث الإسراء جماعة من
الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة عن أنس، فلم يأتِ أحد منهم بما
أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث.
(1/19)
وقال
أبو الفرج: لا يخلو هذا الحديث من أمرين، إما أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قد رأى في المنام ما جرى له مثله في اليقظة بعد سنين، أو يكون في
الحديث تخليط بين الرواة.
وقد انزعج لهذا الحديث الخطابيُّ وقال: هذا الحديث منام، ثم هو حكاية يحكيها أنس
ويخبر بها من تلقاء نفسه لم يعزها إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ولم يروها عنه. انتهى
لقائل أن يقول: قوله: (قبل أن يوحى إليه) أي: من أمر الإسراء شيء، ولم يعرف به حتى
وقع بعضه، أو قبل أن يوحى إليه في أمر الصلاة شيء؛ لأنها إنما فرضت ليلة الإسراء،
ولم يُنقل أنه فرض سواها، فكأنها من أهم المقصود منه، وهذا وإن بَعُدَ من ظاهر
اللفظ، فإن ظاهره العموم، فالمصير إليه أولى؛ سَحبًا لحكم الصحة على جميع ما تضمنه
الكتاب، وذلك أولى من إسقاطه أو وصفه بالغلط والزيادة فيه ما ليس بصحيح، أو يكون
قوله: (جاءَه ثلاثةُ نَفر قَبْلَ أنْ يُوْحَى إِلَيْهِ) على ظاهره، ثم جاؤوا إليه
مرة أخرى بعد البعثة فيما يرى قلبه كما في الحديث، قال: فلم يَرَهُم حتى جاؤوا
إليه ليلة أخرى، فلا منافاة بين قوله: (قبل أن يوحى إليه) وبين فرض الصلاة، والله
أعلم.
وقول ابن حزم: (وهذا بلا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة) فيه
نظر؛ لما ذكره هو في موضع آخر عن ابن سعد: أنه كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا
لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ليلة السبت.
وقال الوَاقِدِيُّ: ليلة سبع عشرة من ربيع الأول، وقال الحَرْبِيُّ: ليلة سبع
وعشرين من ربيع الآخر.
وقال ابن قتيبة: بعد سنة ونصف من رجوعه من الطائف، وقال عياض: بعد البعثة بخمسة
عشر شهرًا.
وقال ابن فارس: فلما أتت عليه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أُسري به.
(1/20)
وعن
السُّدِّيِّ فيما ذكره أبو الربيع بن سالم في كتابه «الناسخ والمنسوخ»: كان الإسراء
قبل الهجرة بستة أشهر، وروينا في «كتاب الوفاء» لأبي الفرج: كان الإسراء قبل
الهجرة بثمانية أشهر، وقيل: كان في ليلة سبع وعشرين من رجب، وعند ابن الأثير قبل
الهجرة بثلاث سنين، وعند أبي عمر بعد المبعث بثمانية عشر شهرًا، وقال الزهري: بعد
البعثة بخمس سنين.
ولما ذكر الحاكم حديث شريك قال: هذا فيه وهم في مواضع أربعة:
أحدها: ذِكر إدريس في السماء الثانية، والأخبار تواترت بأنه في الرابعة.
الثاني: ذكر هارون في السماء الرابعة, والأخبار تواترت بأنه في الخامسة.
الثالث: ذكر إبراهيم في السماء السادسة وموسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في
السابعة, والأخبار متواترة أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة. انتهى
لقائل أن يقول: هذا يدل على تعدد الإسراءات، وإذا حمل على هذا فلا خلف في
الروايات، وذكر عياض عن بعضهم: أن هذه الزيادات مِن ذكر النوم وذِكرِ شَق البطن
ودنوِّ الربِّ جل وعز الواقعةِ في هذا الحديث، إنما هي من رواية شريك عن أنس، فهي
منكرة من روايته؛ إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، مع أن أنسًا قد بيَّن من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره، وأنه لم
يسمعه من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال مرة: عن مالك بن صعصعة، وفي
«كتاب مسلم» لعله عن مالك بن صعصعة على الشك، وقال مرة: كان أبو ذر يحدِّث. انتهى
كلامه، وفيه نظر من حيث إن الحاكم قال في «الإكليل»: المعراج صحَّ سنده بلا خلاف
بين أئمة الحديث فيه، ومدار الروايات الصحيحة فيه على أنس، وقد سمع بعضه عن رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولم يسمع تمام الحديث، فسمع بعضه من أبي ذر
وبعضه من مالك بن صعصعة، وبعضه سمعه من أبي هريرة.
(1/21)
وأما
قوله: (إذ شَق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره) ففيه نظر من حيث إن
الشيخين رويا حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صَعْصَعَةَ المذكور أول الباب بلفظ:
«فَشَقَّ ما بينَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فاستخرجَ قلبي، ثم أُتيتُ بِطِسْتٍ منْ
ذَهَبٍ فغسلَ قلبي» الحديثَ.
وفي «الصحيحين» أيضًا من حديث محمد بن مسلم عن أنس عن أبي ذر بلفظ: «فنزلَ جبريلُ
فَفَرَجَ صدري، ثم غَسَلَهَ منْ ماءِ زَمْزَم».
وفي «مغازي موسى بن عقبة»: أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول ما
رأى أن الله جلَّ وعزَّ أراه رؤيا في المنام فشَقَّ ذلك عليه، فذكرها لخديجة
فعصمها الله جل وعز من التكذيب، ثم خرج من عندها فأخبرها أنه رأى بطنَه شُق ثم
طُهر وغُسل ثم أُعيد كما كان، فقالت:
هذا والله خير، فأبشِر، ثم استعلن له جبريل صلى الله عليهما وسلم.
وذكره محمد بن إسحاق أيضًا في «كتاب المبتدأ»، وروينا في «كتاب الصحيح» للحافظ
ضياء الدين من حديث أُبِيِّ بنِ كَعْب: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال:
«شُقَّ صَدْرِي وأنا ابنُ عَشْرِ سنين»، وكذا هو مذكور في «كتاب الدلائل» لأبي
نعيم الحافظ وأشار إلى غرابته.
وأما ذكر النوم فقد ورد في «الصحيح» من غير حديثه، ولئن كان منفردًا فلا إنكار
فيه؛ لأن أبا نعيم الحافظ ذكر من حديث أبان عن إبراهيم عن علقمة: «أول ما يؤتى به
الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه في المنام حتى تهدأ قلوبُهم، ثم يأتي الوحي
بعدُ»، فيحتمل أن يكون رآه أولًا منامًا، ثم جاءه الوحي بعدُ يقظةً، كذا ذكره
علقمة، يؤيده ما في كتاب «البستان في التعبير» للقيرواني عن سعيد بن المسيب، قال
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا مِنْ شيءٍ يجري لابنِ آدمَ إلا ويَرَاهُ في
مَنَامِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَه، ونسيَه مَن نسيَه».
(1/22)
وذكر
العزفي (1) في كتابه «الدر المنظم في مولد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
المعظم»: «أنَّ حَلِيْمَةَ رضي الله عنها رأتْ شقَّ صَدْرِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ في المنامِ على الهيئةِ التي أَخْبَرَهَا بها في اليقظةِ فَقَصَّتْهَا
على زَوْجِهَا» الحديث.
ولفظة الدُّنوِّ جاء في «الصحيح» تفسيرُها بشيء سائغ لا إنكار فيه: أن عائشة لما
سُئلت عنها قالت: «ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ،
وَإِنَّهُ رآهُ هَذِهِ المَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ
أُفُقَ السماءِ». وإنما ذكره مسلم في «صحيحه» عن ابن مسعود.
__________
(1) أبو العباس أحمد بن القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد اللَّخمي، عرف
بابن أبي عزفة، وإليها يُنسب، يرجع أصله ـ على أشهر الروايات ـ إلى المناذرة
اللّخميين من عرب اليمن، ثم استقرّ بعض أفراد أسرته بسبتة، وعرفت هذه الأسرة
بالعلم أولا حتى منتصف القرن السابع الهجري، ثم بالعلم والسياسة معا حتى أواخر
العقد الثالث من القرن الثامن. (557 - 633 هـ
ترك مصنفات نافعة رائقة بديعة، أهمها «برنامجه» الحافل الذي صنعه للتعريف بشيوخه
ومروياته عنهم؛ رواه عنه تلامذته، وهو إلى حدود اليوم معدود من الكتب المفقودة،
وكتاب «الدر المنظم في مولد النبي المعظم» وضعه لما رأى المسلمين يعظمون أعياد
النصارى وعوائدهم، وأكمله بعده ابنه أبو القاسم، حُقّق قسم منه بجامعة محمد الخامس
بالرباط ولم يطبع، ومنها «دعامة اليقين في زعامة المتقين» وهو مطبوع، و «منهاج
الرسوخ على علم الناسخ والمنسوخ»، وغيرها من المؤلفات
المصادر: برنامج شيوخ الرعيني (ص 42)، وبرنامج أبن أبي الربيع (ص 260) ضمن مجلة معهد
المخطوطات مج 1، وتاريخ الإسلام (14/ 100)، وتوضيح المشتبه (6/ 232)، ونيل
الابتهاج (ص 77)، وكفاية المحتاج (ص 33)، وأزهار الرياض (2/ 374)، والأعلام (1/
218)، ومعلمة المغرب (18/ 6068).
(1/23)
وقوله:
(لا خلافَ أنَّ خديجة صلَّتْ معه بعد فرض الصلاة) فيه نظر؛ لأن الزبير ذكر من حديث
يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أن خديجة رضي الله عنها توفيت قبل أن تفرض
الصلاة.
وقول البخاري: (وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي البَيْتِ المَعْمُورِ)
رواه أبو نعيم الحافظ عن أبي عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هُدبة،
حدثنا همام بن يحيى عن قتادة، حدثنا الحسن عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «أَنَّه رَأَى البيتَ المعمور يَدْخُلُهُ كلَّ يومٍ سَبْعُوْنَ
ألفَ مَلكٍ، وَلَا يَعُوْدُونَ فيه» انتهى.
لقائل أن يقول: هذا الحديث مرسل؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة على ما هو شائع
في ألسنة المحدثين، فكيف ساغ لأَبِي نُعَيْمٍ ذكره في «مستخرجه»، ومن شرط المستخرج
على الصحيح الاتصال مع صحة الإسناد، وأما البخاري فلا لوم عليه؛ لأنه ذكره
معلَّقًا، والتعليق المجزوم به عند جماعة من العلماء ليس ملتحِقًا بالصحيح، فيُجاب
بأن الحسن صحَّ سماعه من أبي هريرة من غير تردد ولا شكٍّ، بينت ذلك في كتابي
«إكمال تهذيب الكمال»، وكتابي «الإعلام بسنته عليه الصلاة والسلام» مُلَخِّصًا ما
ذكره أبو داود الطيالسي بسند على شرط الشيخين عن عباد بن راشد، حدثنا الحسن قال:
«حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ونحنُ إِذْ ذَاكَ بالمدينةِ»، وفي لفظ: «وهُو في
مَجْلِسِ أبي هُرَيْرَةَ».
وعند أبي القاسم في «الأوسط» بسند لا بأس به عن الحسن، قال: «خَطَبَنَا أبو
هُرَيْرَةَ، قالَ أبو القَاسِمْ» هذا الحديث يؤيد قول من قال: إن الحسن سمع من أبي
هريرة بالمدينة.
(1/24)
وفي
موضع آخر عن جسر بن فرقد عن الحسن قال: سألت أبا هريرة عن قوله تعالى:
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة: 72] الحديث، وعن ابن مهدي فيما ذكره ابن خلفون:
كان الحسن يقول: حدثنا أبو هريرة ونحن بالمدينة وهو الثَّبت.
وعند أبي موسى في «كتاب الترغيب» من حديث حماد بن عبد الله، سمعت الحسن قال: سمعت
أبا هريرة، فذكر حديثًا.
وعند ابن حبان في «صحيحه» عن الحسن قال: حدثني سبعة رهط من الصحابة، أبو هريرة
وأنس وابن عمر، وذكر آخرين، وعند ابن القطان نحوه من حديث عثمان الأعرج عنه.
وعند ابن شاهين من حديث يونس بن عبيد، عن الحسن عن أبي هريرة، فذكر الحديث ثم قال:
هذا صحيح غريب, وقال الدَّارَقُطْني: حدثنا دعلج، سمعت موسى بن هارون يقول: سمع
الحسن من أبي هريرة. وعند ابن أبي حاتم، قال قتادة: إنما أخذ الحسن - يعني العلم -
من أبي هريرة.
وعند ابن ماجه من حديث إسماعيل قال: دخلنا على الحسن فقال: دخلنا على أبي هريرة
نعوده.
وعند ابن أبي خَيْثَمَةَ عن سالم الخياط قال: سمعت الحسن وابن سيرين قالا: سمعنا
أبا هريرة، الحديث. قال ابن أبي خَيْثَمَةَ: أردنا منه قول الحسن: سمعت أبا هريرة،
ولما ذكر الدارمي حديثه مع حديث غيره في اجتناب المطاعم السوء قال: وهذه الأسانيد
قد ثبتت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومن أطراف حديث الإسراء ما ذكره البيهقي بأسانيد ثمانية إلى ابن حبان في «صحيحه»:
«فحملَهُ جبريلُ صلى الله عليهما وسلَّمَ على البُرَاقِ أَحَدُهُمَا رَدِيفُ
صَاحِبِهِ، حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَأُرِيَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ ثُمَّ رَجَعَا عَوْدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا ولم يُصَلِّ فيه، ولو
صَلَّى لكانت سُنَّة».
(1/25)
وعند
البيهقي بأسانيد ثابتة عن شداد بن أوس، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ
أُسْرِيَ بِكَ؟ قالَ: «صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي الْعَتَمَةَ بِمَكَّةَ مُعْتِمًا،
فَأَتَانِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ
فَاسْتَصْعَبَتْ، فَأَدَارَهَا بِأُذُنِهَا، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا حَتَّى
بَلَغْنَا أَرْضًا ذَاتِ نَخْلٍ، فَأَنْزَلَنِي فَقَالَ: صَلِّ فَصَلَّيْتُ،
فَقَالَ: أتدري أَيْنَ صَلَّيْتَ؟، قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ
بِيَثْرِبَ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا فأنزلني فَصَلَّيْتُ
وقَالَ: أتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِمَدْيَنَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَ أنزلني فَصَلَّيْتُ فَقَالَ: صَلَّيْتَ
بِبَيْتِ لَحْمٍ ثم دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الثَّامِنِ، فَأَتَى
قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فيه دَابَّتَهُ، وَدَخَلْنَا مِنْ بَابٍ فِيهِ
تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللهُ،
وأَخَذَنِي منَ العَطَشِ أَشَد مَا أَخَذَنِي فأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ».
وفي «مسلم»: «فأتاني جبريلُ بإناءٍ منْ لَبَنٍ، وإناءٍ منْ خَمْرٍ، فاخترتُ اللبنَ»
وفيه: «فَإِذا سِدرةُ الْمُنْتَهَى ورقُها كآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا نبقُها
كالقِلال».
وفي حديث شداد المتقدم: «ثمَّ انْصَرَفْنَا فمرَرنا بعِيرٍ لقريشٍ، فسلَّمت عليهم،
فقال بعضهم: هذا صَوْتُ محمد، ثم أتيتُ أصحابي قبلَ الصبحِ، فأتاني أبو بكر،
فقالَ: يا رسولَ الله أينَ كُنْتَ الليلةَ؟ فَقَد التَمَسْتُكَ في مظانِّك».
(1/26)
وفي
حديث عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس، وذكر مسيرَه: «فإذا بعجوزٍ على جانبِ
الطريقِ فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سِرْ، فسارَ، فإذا بشيء يدعوه متنحِّيًا عنِ
الطَّرِيْقِ يقول: هَلُمَّ يا محمد، فقال جبريل: سِر، فسار، فلقيه خَلْقٌ منَ
الخلقِ، فقالوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا أولُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يا آخرُ،
السَّلَامُ عَلَيْكَ يا حاشِرُ، فقال له جبريل: اردُدِ السلامَ، ثم ساروا حتى أتوا
بيتَ المقدسِ، فعرض عليه الماء والخمر واللبن، ثم قال له جبريل: أما العجوزُ فهي
الدنيا، وأما الذي أرادَ أنْ تميلَ إليه فذاك إبليسُ، وأما الذين سَلَّمُوا
عَلَيْكَ فإبراهيمُ وموسى صلى الله عليهما وسلم».
وفي حديث حذيفة: «أُتي بالبراقِ، فلم يزايلا ظهره هو وجبريل حتى أتيا به بيتَ
المقدسِ، فصعد به جبريلُ إلى السَّمَاءِ» قيل لحذيفة: أربطَ البراق؟، فقال: أكان
يخاف أن يذهب منه وقد أتاه الله بها؟!
وفي حديث أبي عمران الْجَوْنِي عن أنس، قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«جاءني جبريلُ، فقمْتُ إلى شجرةٍ فيها مثل وكري الطير، فقعدَ جبريلُ في أحدهما
وقعدتُ في الآخر، فسَمَتْ وارتفعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الخَافِقَيْنِ، وأنا أُقلِّبُ
طرفي، فلو شئتُ أنْ أمسَّ السماءَ مَسَسْتُ، فالتفتُ إلى جبريل، فإذا هو كأنه
حِلس، فعرفتُ فضلَ علمه بالله، ففُتح لي بابٌ منْ أبوابِ السماءِ، فرأيتُ النورَ
الأعظَمَ، وإذا دوني حجاب رفرف الياقوت والدر» وأسانيدها ثابتة.
وعند مسلم من حديث ابن مسعود: «انتهى إلى السدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة».
وفي حديث أبي هارون العبدي، وفيه كلام عن أبي سعيد يرفعه: «بينما أَنَا أسيرُ
(1/27)
إذْ دَعَانِي داعٍ عنْ يميني، يا محمد انظرني أسألك، فلم أُجِبْهُ، ثم دعاني داعٍ عنْ يساري فلم أجبه، وإذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها منْ كلِّ زينةٍ، فقالت: يا محمد، انظُرني أسألُك، فلم ألتفتْ إليها حتى أتيتُ بيتَ المقدس»، وفيه: «وسألتُ جبريلَ عنِ الذي دَعَانِي عن يميني، فقالَ: ذاكَ داعي اليهود، أمَا إنك لو أجبتَه لتهوَّدَتْ أمَّتُك، والذي عن يسارك داعي النَّصَارى، أمَا إنك لو أجبتَه لتنصَّرتْ أمتُك، والمرأةُ الحاسِرَةُ الدنيا، أمَا إنك لو أجبتَها لاختارتْ أمتُكَ الدنيا على الآخرة»، وفيه: «رأيتُ في سماءِ الدنيا أَخوِنة عليها لحمٌ مُشَرَّحٌ ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخوِنة عليها لحمٌ قد أَروَح ونَتِنَ عندها أناس يأكلون منها، قال جبريل: هؤلاء من أمتِكَ يتركونَ الحلالَ ويأتونَ الحرامَ، ثم مضيتُ هُنية، فإذا أنا بأقوام بطونهم مثال البيوت، كلما نهض أحدُهم خرَّ، وهمْ على سَابِلَةِ آلِ فرعونَ، فهؤلاء منْ أُمَّتِكَ الذين يأكلون الربا، قال: ثم مضيت هُنية، فإذا أنا بقوم مشافرُهم كَمَشَافِرِ الإبلِ يلتقمون الجَمْرَ ويخرجُ منْ أسافلهم، فقالَ: هؤلاءِ منْ أمتكَ الذين يأكلون أموالَ اليتامى ظُلْمًا، ثم مضيتُ هُنية، فإذا بنساءٍ مَعَلَّقَاتٍ بِثَدْيِهِنَّ، فقال: هؤلاءِ الزناة من أمتِك، ثم مضيتُ هُنية، فإذا أنا بأقوام يُقطَع من جنوبهم ويُلقَمون، ويُقَالُ لهم: كُلُوا ما كُنْتُمْ تأكلونَ منْ لحومِ إخوتكم، قلتُ: مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاءِ الغَمَّازونَ اللمَّازون من أمتك، وأنه رأى في السماء الثانية يوسف، وفي الثالثة ابنَي الخالة، قال: وفي السابعة فإذا أمتي شطرين، شطرٌ عليهم ثيابٌ بيضُ كأنها القراطيس، وشطر عليهم ثياب رُمْدٌ، قال: فدخلتُ البيتَ المعمور، ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحُجِبَ الآخرون، وهم على خير، فصليتُ أنا ومن معي في البيتِ المعمورِ، ثم رُفِعْتُ إلى السِّدرةِ الُمْنَتَهى، فإذا
(1/28)
كل
ورقة منها تكادُ أنْ تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري يقال لها: سلسبيل
يَنْشَقُّ منها نهران، أحدهما الكوثر والآخر يقال له: نهر الرحمة، فاغتسلتُ فيه
فغُفر لي ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبِي وما تأخرَ، ثم إني رُفِعْتُ إلى الجنة، ثم
عُرِضْتُ عليَّ النار»، وفيه: «لما راجعتُ ربي في الصلواتِ نادى ملك عندها: تمتْ
فريضتي وخفَّفتُ عن عبادي»، وفيه: «البراقُ صغيرُ الأذنين».
وفي حديث أبي جعفر الرازي، وفيه كلام عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي
هريرة: «أُتي بفرسٍ فَحُمِلَ عليه، ومرَّ في طريقهِ بقومٍ يَزْرَعُونَ في يومٍ ويحصدونَ
في يومٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عادَ كما كانَ، فقال جبريلُ: هؤلاءِ المجاهدونَ في
سبيلِ الله تُضَاعَفُ لهم الحسنةُ بسبعمائةِ ضعفٍ، ثم أَتى على قومٍ تُرضخُ رؤوسهم
بالصخرِ، كُلَّمَا رضختْ عادتْ، فقال جبريلُ: هؤلاءِ الذين تَتَثَاقلُ رؤوسُهُمْ
عنِ الصلاةِ، ثم أتى على قومٍ على أقبالِهِمْ رِقَاعٌ وعلى أَدْبَارِهِمْ رقاعٌ،
يَسْرَحُوْنَ كما تسرحُ الأنعامُ عنِ الضَّرِيْعِ والزَّقُومِ، فقال جبريلُ:
هؤلاءِ الذينَ لا يؤدونَ زكاةَ أموالهم، ثم أتى على قومِ بين أيديهم لحمٌ نَضِيْجٌ
ولحمٌ آخَرُ خبيثٌ، فجعلوا يأكلونَ من الخبيثِ ويدعون النَّضِيْجَ، فقال جبريلُ:
هؤلاء الذين يدعون النساءَ الحلالَ، ويأتي أحدُهم المرأةَ الخبيثةَ، ثم مرَّ على
رجلٍ قد جمعَ حُزمةَ حطبٍ عظيمةٍ لا يستطيع حملها، وهو يريدُ أنْ يزيدَ عليها،
فقالَ: هذا رجلٌ منْ أمتكَ عليه أمانةٌ لا يستطيع أداءَهَا، وهو يريد أن يزيد
عليها، ثم أتى على قوم تُقْرَضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريضَ من حديدٍ، كلما قرضت
عادت كما كانت، فقال: هؤلاء خطباء الفتنة، ثم أتى على جُحر
(1/29)
صغير
يخرج منه ثور كبير، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: هذا
الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها، فيريد أن يردها فلا يستطيع، ثم أتى على وادٍ
فوجد منه ريحًا باردة طيبة، ووجد ريح المسك، فقال: هذه الجنة، ثم مرَّ على واد،
فسمع صوتًا منكرًا فقال: هذه جهنم، قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، قال: فصليت مع
الملائكة، ثم أُتي بأرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فأثنوا على ربهم جل
وعز، ثم إن نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أثنى على ربه، قال إبراهيم في آخره:
بهذا فضلكم محمد صلى الله عليهما وسلم. ثم أُتي بآنية معه ثلاثة مغطَّاة أفواهُها،
فأُتي بإناء منها فشرب منه يسيرًا، ثم رُفع له إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى
رُوِيَ، ثم رُفع له إناء آخر فيه خمر فقال: قد رويت لا أريده، فقيل له: قد أصبتَ،
أما إنها ستحرُم على أمتِك، فلو شربتها لم يتبعك من أمتك إلا قليل».
وفيه: «ثم صعد إلى السماء السابعة: فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة،
وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه، وفي ألوانهم شيء، فأتوا نهرًا فاغتسلوا
فيه، فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم إنهم أتوا على نهر آخر فاغتسلوا منه،
فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم، فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم، هو
أول رجل شمط على وجه الأرض، والبيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما الذين
في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فتابوا فتاب الله عليهم،
والنهر الأول رحمة الله، والنهر الثاني نعمة الله، والنهر الثالث فسقاهم ربهم
شرابًا طهورًا، ثم انتهى إلى السدرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار
من لبن لم يتغير طعمه،
وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، قال: وهي شجرة يسير الراكب في
أصلها مائة عام لا يقطعها، وإن الورقة منها مغطية الخلق، فَكَلَّمَه رَبُّه عند
ذلك وقال له: سَل».
(1/30)
وفي
آخره: «اصبر على خمس، فإنهن يجزين عنك بخمسين، كل خمس عشر أمثالها، فكان موسى
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أشد عليهم حين مرَّ به، وخيرهم حين رجع إليه».
وفي «طبقات ابن سعد»: «بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نائم في بيته
ظهرًا أتاه جبريل وميكال فقالا: انطلق إلى ما سألت الله جلَّ وعزَّ، فانطلقا به
إلى ما بين المقام وزمزم فَأُتِيَ بالمعراج، فإذا أحسن شيء منظرًا فَعَرَجَا به
إلى السماوات». وفيه: «لما انتهيتُ إلى السماء السابعة لم أسمع إلا صريف الأقلام»،
ولما ذكر البراق قال: «في فخذيها جناحان تحفر بهما رجليها، وهي طويلة الظهر طويلة
الأذنين، ومعي جبريل لا يفوتني ولا أفوته، فانتهى البراق إلى موقفه الذي كان يقف
فربطه فيه، وكان مربط الأنبياء، قال: ورأيت الأنبياء جمعوا لي، فرأيت إبراهيم
وموسى وعيسى، فظننت أنه لا بدَّ من أن يكون لهم إمام، فقدمني جبريل حتى صليتُ بين
أيديهم».
و «قال بعضهم: فُقد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تلك الليلة، فتفرقت بنو عبد
المطلب يطلبونه ويلتمسونه، وخرج العباس حتى بلغ ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد يا
محمد، فأجابه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لبيك، فقال يا بن أخي عنَّيت
قومَك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: أتيت بيت المقدس، قال: في ليلتك؟! قال: نعم،
قال: هل أصابك الأخير؟»
وقالت أم هانئ: «ما أُسري به إلا من بيتنا، نام عندنا تلك الليلة».
وفي «كتاب عياض»: «رأى
موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في السماء السابعة بتفضيل كلام الله جل وعز له،
ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال موسى: لم أظن أن يُرفع عليَّ
أحدٌ».
قال عياض رحمه الله تعالى: اختلف السلف والعلماء، هل كان إسراء بروحه أو جسده؟ على
ثلاث مقالات:
(1/31)
فذهبت
طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء صلى
الله عليهم وسلم حقٌّ ووحي، وإلى هذا ذهب معاوية وحُكي عن الحسن، والمشهور عنه
خلافُه، وإليه أشار محمد بن إسحاق، وحجتهم قوله جل وعز: {وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] انتهى
ذكر ابن مردويه من حديث الحسن بن الحسن عن أمه فاطمة، عن أبيها الحسين بن عليٍّ،
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «رأيت في المنام كأن بني أمية
يتعاورون منبري هذا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60].
وذكره أيضًا من حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مرسلًا.
وما حكوا عن عائشة: «ما فقدتُ جسدَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»،
وقوله: «بينا أنا نائم» وقول أنس: وهو نائم في المسجد الحرام، وذكر القصة ثم قال
في آخرها: «فاستيقظتُ وأنا بالمسجدِ الحرامِ».
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهو
قول ابن عباس فيما صححه الحاكم وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن
صَعْصَعَةَ وأبي حَبَّة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن
المسيب وابن شهاب وابن زيد وإبراهيم والحسن ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج، وهو
دليل قول عائشة، وقول الطبري وأحمد بن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين، وهو قول
أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمتكلمين.
(1/32)
وقالت
طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظةً إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واحتجوا
بقوله جل وعز: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، فجعل إلى المسجد الأقصى
غايةَ الإسراء الذي وقع التعجُّب فيه بعظيم القدرة والتمدُّح بتشريف النبي محمد
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ به وإظهاره الكرامة له بالإسراء إليه، قال هؤلاء: ولو
كان الإسراء بجسده إلى زائدٍ على المسجد الأقصى لذكره فيكون أبلغ في المدح، ثم
اختلفت هذه الفرقتان: هل صلى ببيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره صلاتُه فيه،
وأنكر ذلك حذيفة وقال: والله ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
قال القاضي: والحق من هذا والصحيح إن شاء الله تعالى: أنه إسراء بالجسد والروح في
القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يُعْدَلُ عن الظاهر
والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته
استحالةٌ؛ إذ لو كان منامًا لقال: بروح عبده، ولم يقل: {بِعَبدِهِ}، وقوله: {مَا
زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى}، ولو كان منامًا لم يكن فيه معجزة ولا آية، ولما
استبعده الكفار ولا كذبوه، ولا ارتدَّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به؛ إذ مثل هذا
من المنامات لا يُنكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه
وحال يقظته إلى ما ذكر في الحديث من صلاته بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ببيت
المقدس في رواية أنس، أو في السماء على ما روى غيره.
وذكر مجيء جبريل له صلى الله عليهما وسلم بالبراق وشبه ذلك من مراجعته مع موسى
ودخوله الجنة، قال ابن عباس: هي رؤيا عين رآها النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
لا رؤيا منام.
وعن الحسن فيه: «بينا أنا جالسٌ في الحِجْرِ جاءني جبريل فهمزني
بعقبه فقمتُ فجلستُ فلم أر شيئًا، فعدتُ إلى مضجعي- ذكر ذلك ثلاثًا- قال في
الثالثة:
(1/33)
فأخذ
جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعضُدِي، فجرني إلى باب المسجد، فإذا بدابة ...
».
وعن أم هانئ: «ما أُسري برسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا وهو في بيتي
تلكَ الليلةَ، صلَّى العشاءَ الآخرة ونام بيننا، فلما كان قبل الفجر أهبنا النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلما صلى الصبح قال: يا أم هانئ، لقد صليتُ معكم
العشاء كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئتُ بيت المقدس فصليتُ فيه، ثم صليتُ الغداة
معكم الآن كما ترون»، فهذا بيِّن في أنه بجسمه.
وعن أبي بكر الصديق في رواية شداد: أنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ليلةَ أُسْرِيَ به: «طلبتُك يا رسول الله البارحةَ في مكانك فلم أجدك، فأجابه:
أنَّ جبريلَ حمله إلى المسجد الأقصى».
وعن عمر، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «صليتُ ليلةَ أُسريَ بي في
مقدم المسجد، ثم دخلتُ الصخرةَ، فإذا بِمَلَكٍ قائمٌ معه آنيةٌ ثلاث».
وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة، فتُحمل على ظاهرها.
ثم ذكر حديث أبي ذر في شرح الصدر، وحديث أبي هريرة وجابر في بعثة بيت المقدس.
وقد روي عن عمر في حديث الإسراء عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «ثم
رجعتُ إلى خديجةَ رضي الله عنها وما تحوَّلت عن جانبها».
ومن قال: إنها نوم، احتج بقوله جل وعز: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} [الإسراء:
60] فسمَّاها رؤيا، قلنا: قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1] يردُّه؛
لأنه لا يقال في النوم: أَسرى، وقوله: {فِتْنَة} يؤيد أنها رؤيا عينٍ وإسراء شخصٍ،
وليس في الحكم فيه ولا يكذب به أحد؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في
ساعة واحدة في أقطار متباينة، على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية، فذهب
بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من قبلُ غير هذا.
(1/34)
وأما
قولهم: إنه قد سماها في الحديث منامًا، وقوله: (بَيْنَ النَّائِمِ واليَقْظَان)،
وقوله أيضًا: (وهو نائم)، وقوله: (ثم استيقظتُ) فلا حجة فيه؛ إذ قد يحتمل أن يكون
أول وصول الملك إليه كان وهو نائم، أو أول حمله والإسراء به وهو نائم، وليس في
الحديث أنه كان نائمًا في القصة كلها إلا ما يدل عليه: (ثم استيقظتُ وأنا في
الْمَسْجِدِ الحرامِ) فلعل قوله: (استيقظتُ) بمعنى أصبحتُ، أو استيقظَ من نوم آخر
بعد وصوله بيته، ويدلُّ عليه أنَّ مَسْرَاه لم يكن طول ليله وإنما كان في بعضه،
وقد يكون قوله: (استيقظتُ وأنا في المسجد) لما كان غَمَرَه من عجائب ما طالع من
ملكوت السماوات والأرض، فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام،
أو يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه، ولكنه أُسري بجسده وقلبُه حاضر،
ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه حقٌّ، وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو
منٍ هذا، قال: تغميض عينيه؛ لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله، ولا يصح هذا أن
يكون في وقت صلاته بالأنبياء، ولعلَّهُ كانت له في هذه الإسراء حالات، أو
يُعَبَّرُ بالنوم هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع، ويقويه قوله في رواية عبد بن
حميد عن همام: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ» وربما قال: «مضطجع»، وفي رواية هدبة:
«مُضْطَجِعٌ» , وفي الرواية الأخرى: «بينَ النَّائِمِ واليقظانِ» فيكون سَمى هيئته
بالنوم؛ لما كانت هيئة النائم غالبًا.
وقول عائشة: (ما فُقِدَ جَسدُه)، فلم تُحدِّث عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن حينئذ زوجةً
ولا في سِنِّ مَن يضبط، ولعلها لم تكن ولِدت بعدُ، فإذا لم تشاهد ذلك دلَّ أنها
حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وغيرها يقول خلافه مما وقع
نصًا في حديث أم هانئ وغيره، وأيضًا فليس حديث عائشة بالثابت. انتهى.
(1/35)
حديث
عائشة في «صحيح مسلم» فكيف لا يكون ثابتًا؟ قال عياض: والأحاديث الأخر أثبتُ، لسنا
نعني حديث أم هانئ وما ذكرت فيه خديجة، انتهى.
حديث أم هانئ، ذكره ابن عساكر بسند لا بأس به.
قال عياض: وأيضًا فقد روي في حديث عائشة: (ما فقدتُ) ولم يدخل بها النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح صريح
قولها: إنه بجسده؛ لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين، فلو كانت عندها منامًا
لم تنكره.
فإن قيل: فقد قالَ جلَّ وعزَّ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] فقد
جعل ما رآه للقلب، وهذا يدل على أنه رؤيا نوم ووحيٍ لا مشاهدة عينٍ وحسٍّ.
قلنا: يقابله قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17]، فقد أضاف الأمر
للبصر، وقد قال أهل التفسير في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفُؤادُ} [النجم: 17] أي:
لم يوهمِ القلبُ العينَ غيرَ الحقيقة، بل صدق رؤيتها، وقيل: ما أنكر قلبه ما رأته
عينه. انتهى.
وقد أسلفنا من الاعتراضات على كثير من هذا الكلام، فلا حاجة لإعادته، والله أعلم.
وذكر ابن أبي خالد في كتابه «الاحتفال» في أسماء الخيل وصفاتها: أنَّ البُرَاقَ
ليس بذكر ولا أنثى، ووجهه وجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس، وقوائمه للجوهري.
أخبرنا الرُّحْلة حسن الكردي، أخبرنا أبو المُنَجَّا ابنُ اللتَيِّ أخبرنا ابن
السَّرَّاجِ، أخبرنا ابن شاذان، أخبرنا ابن السماك، حدثنا يحيى، حدثنا علي بن
عاصم، حدثنا التيمي عن أنس، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أتاني
جبريلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالبُراقِ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: قد
رأيتَها يا رسول الله، قال: هي بَدَنة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّ:
صَدَقت، قد رأيتها يا بابكر».
(1/36)
وأما
بكاء موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلأمَّته إذ قصر عددهم عن مبلغ عدد أمتنا،
وذلك من ناحية شفقته على أمته وتمني الخير لهم، وذلك من شيم الأخيار.
قال الداودي: فيه جواز تمني الخير والتنافس فيه.
وإنما قال: (يدخلُ منْ أمته أكثر) لأنَّ لكلِّ نبيٍّ أجرَ من اتبعه واهتدى به.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وقوله: (هَذَا الغُلَامُ) إنما هو على تعظيم المنة لله جل
وعز عليه فيما أناله من الكرامة من غير عمر طويل بلغه في عبادته وأفناه مجتهدًا في
طاعته، وقد تُسمي العربُ الرجلَ المستجمع السنِّ غلامًا ما دامت فيه بقية من قوة،
وذلك في لغتهم مشهور.
وقول ابن التين: قوله: (فَنُودِيَ أنْ قَدْ مضيتُ فريضتي) يحتج به من قال: إن الله
جل وعز كلَّم محمدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليلة الإسراء، فيه نظر؛ لما
أسلفنا من أنه نادى ملك فقال ذلك.
قال أبو الفرج: إن قيل: كيف رأى الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه في السماء وهم
مدفونون في الأرض؟ فقال ابن عقيل: إن الله تعالى شكَّل أرواحهم على هيئة صور
أجسادهم، زاد ابن التين: وإنما تعود الأرواح إلى الأجساد يوم البعث إلا عيسى صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإنه لم يمت.
وقولهم: (الأخُ الصَّالحُ) لأن الصلاح يشمل سائر الخلال الحسنة، واستحب من هذا
لقاء أهل الفضل بالبشر والدعاء والترحيب وإن كانوا أفضل من الداعي، ومنه جواز مدح
الإنسان في وجهه إذا أُمن عليه من أسباب الفتنة.
و (الْمَلَائِكَةُ) جمع مَلَك، قال ابن سِيْدَه: هو مخفَّف عن مَلأك، وقال
القَزَّازُ: هو مأخوذ من الألوك وهي الرسالة، وقد زعم قوم أنه يجوز أن يكون من
الْمُلك؛ لأن الله جل وعز قد جعل لكل ملَكٍ مُلكًا كملك الموت مَلَّكه قبض
الأرواح، وكإسرافيل صلى الله عليهما وسلم مَلَّكه الصُّوْرَ، وكذا سائرهم صلى الله
عليهم وسلم، ويفسد هذا قولهم: ملْأَكَة بالهمز، ولا أصل له على هذا القول في
الهمز. انتهى
(1/37)
الأَنْبِيْاءُ
أحياء، والحياة تستلزم الروح فيها، وقد جاء الملك جمعًا كما قال جل وعز:
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17].
وذكر الزَّجَّاجُ في «المعاني»: أن الرسل من الملائكة صلوات الله عليهم وسلامُه:
جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
وفي كتاب «ربيع الأبرار» للزمخشري عن سعيد بن المسيب: الملائكة صلوات الله عليهم
ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون.
وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل للريح والجنود، وميكال
للنبات والقطر، وملك الموت لقبض الأنفس، وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم ينزل إليهم
بما يؤمرون.
وعن أنس من حديث الفضل بن عيسى عن عمه يزيد بن أبان عنه عند الكلاباذي في كتاب
«الإخبار بفوائد الأخبار» يرفعه: «يقولُ اللهُ جلَّ وعزَّ لِمَلَكِ الموتِ بعدَ
فَنَاءِ الخلقِ: مَن بقي؟ فيقول: جبريل وميكال، فيقول: خذ نفس ميكال، فيقع في
صورته التي خلقه الله فيها مثل الطَّود العظيم، ثم يقول: مَن بقي؟ فيقول: جبريل
وملك الموت، فيقول: يا ملك الموت مُت، فيموت ويبقى جبريل، فيأخذُ اللهُ جلَّ وعزَّ
روحَه فيقع على ميكائيل، وإنَّ فَضْلَ خَلْقِهِ عَلَى خَلْقِ مِيْكَالَ كَفَضْلِ
الطُّودِ العظيمِ على الظربِ من الظِّرابِ».
قال محمود بن عمر: ويروى أن صنفًا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان يلفون بهما
أجسادهما، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى، وجناحان مرخيان على
وجوههم حياءً من الله جل وعز.
وفي كلام لعلي بن أبي طالب يصفُ الملائكة: منهم الأمناء على وحيه، ومنهم الحفظة
لعباده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامهم والمارقة من
السماء العليا أعانقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش
أكتافهم.
وعن أبي العالية: الكروبيون سادة الملائكة، منهم جبريل وإسرافيل صلوات الله عليهم
وسلامه، ويقال لجبريل: طاوس الملائكة.
(1/38)
قال
الكَلَابَاذِيُّ سمعت بعض شيوخ المتكلمين يقول: إن جبريل يخلقه الله جل وعز في وقت
نزوله على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنسانًا وبشرًا.
قال الكَلَابَاذِيُّ: وهذا لا يستقيم؛ لأنه لو كان كما قاله لكان قول المشركين:
إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، صدقًا، والله عز وجل يقول: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى} [النجم: 5]، و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]،
فجبريل جبريل وإن كانت الصورة صورة إنسان، إذًا فالصورة لهذا الملك وإن كان الملك
هي ذلك الصورة. روينا عن علي يرفعه: «إنَّ في الجَنَّةِ سُوْقًا مَا فِيْهَا
شِرَاءٌ ولَا بَيْعٌ إِلَّا صورُ الرجالِ والنِّسَاءِ، مَنِ اشْتَهَى صورةً دَخَلَ
فِيْهَا» فأخبر أن الصورة غير التي يدخل فيها.
واختلف في البيت المعمور وفي مكانه:
فقيل: هو البيت الذي بناه آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول ما نزل إلى الأرض،
فرفع إلى السماء في أيام الطوفان، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، والملائكة تسميه
الضراح بالضاد المعجمة؛ لأنه ضُرح عن الأرض إلى السماء، أي أُبْعِدَ، ومنه نيةٌ
ضرح وطرح: بعيدةٌ، وقال أبو الطفيل: سمعت عليًا وسئل عن البيت المعمور فقال: ذاك
الضراح بيت بحيال الكعبة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم
القيامة.
قال محمود بن عمر: ويقال له: الضريح أيضًا، ومن قال: الصراح فهو اللحن الصُّراح.
وعن ابن عباس والحسن: أنه البيت الذي بمكة شرفها الله تعالى معمورٌ بمن يطوف به.
وعن محمد بن عباد بن جعفر: أنه كان يستقبل الكعبة ويقول: وا حبذا بيت ربي ما أحسنه
وأجمله!
هذا والله البيت المعمور.
وقيل: البيت المعمور في السماء الدنيا، وقيل: في الرابعة، وقيل: في السادسة، وقيل:
في السابعة.
وعن جعفر بن محمد عن آبائه: هو تحت العرش.
تقدم طرف منه في أول كتاب الصلاة.
(1/39)
3208
- حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ
أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ
عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ
اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ
عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ
الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ
إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الجَنَّةِ». [خ 3208]
قال الخطيب في كتابه «الفصل للوصل»: رواه أبو عوانة وابن عيينة وعبد الواحد بن
زياد ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح وحماد بن أسامة ويوسف بن خالد وغيرهم عن
الأعمش.
قال: حدثنا زيد، فذكره مطولًا، وكذا رواه عن الأعمش عبد الرحمن بن عبد الله
المسعودي وزائدة بن قدامة وزهير بن معاوية وشريك وعيسى بن يونس وجرير بن عبد
الحميد وعبد الله بن إدريس ومحمد بن عبيد الطنافسي وخلقٌ يطول ذكرهم.
(1/40)
ومن
أول الحديث إلى قوله: (شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) كلام سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، وما بعده إلى آخره كلام ابن مسعود، وقد رواه عبد الرحمن بن حميد
الرؤاسي عن الأعمش، فاقتصر من المتن على المرفوع حسبُ، ورواه بطوله سَلَمَةُ بنُ
كُهَيْلٍ عن زيد بن وهب ففصل كلام ابن مسعود من كلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وهو عند قوله: (واكتبْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيْدًا) ثم قال: قال عبد الله:
«والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة» الحديثَ إلى آخره.
وذكر أبو بكر أحمد بن موسى بن مَرْدَوَيْه وهو في مجالسهِ من حديث بكر بن يحيى بن
زيان، حدثنا يعقوب بن مجاهد عن أبي الطفيل قال: أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري، فذكرت
له ما سمعته من ابن مسعود: الشقيُّ من شقي في بطن أمه، فقال: وما تُنكر من ذلك؟!
سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ
في بَطْنِ أُمِّهِ خَمْسَةً وأربعينَ يومًا، ثم يكون علقةُ مثلَ ذلكَ، ثم يكون
مضغةً مثل ذلك» الحديث.
قوله: (الصَّادِقُ المَصْدُوقُ) معناه: الصادق في قوله الصادق فيما يأتيه من
الوحي.
وقال ابن التين: يريد بالمصدوق أن الله جل وعز صدقه في وعده.
الكلام على هذا الحديث تقدم في كتاب الطهارة.
3209 - وذكر البخاري حديث أبي هريرة: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ العبدَ) الحديث، قال
الطرقي: ذكر البخاري الحب في كتابه ولم يذكر البغض، وهو في رواية غيره: «وَإِذَا
أَبْغَضَ عَبْدًا نَادَى جبريلَ: إني أبغضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قال: فيبغضه
جبريل، ثم ينادي في أهلِ السماءِ: إنَّ اللهَ يبغضُ فلانًا فَأَبْغِضُوهُ
فَيُبْغِضُوْهُ، ثم يوضعُ له البُغْضُ في الأرضِ». [خ 3209]
(1/41)
3210
- حَدَّثَنا ابنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا ابنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، سَمِعَت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ المَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ: وَهُوَ
السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ
الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إِلَى الكُهَّانِ،
فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ». [خ 3210]
تفرد البخاري بهذا السند، وروى نحوه في كتاب الأدب من حديث يحيى بن عروة عن عروة
عن عائشة، وكذا مسلم، وليس ليحيى عن أبيه في الكتب الستة غير هذا، وعلَّقه في صفة
إبليس لعنه الله تعالى فقال: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال،
أنَّ أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة ترفعه: (الملائكةُ سَجَدَتْ في العَنانِ)
الحديث، وهو موصول أيضًا من حديث خالد عند أبي نُعَيْمٍ فقال: حدثنا سليمان، حدثنا
طالب بن شعيب، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد، فذكره، قال أبو
نعيم: ذكره - يعني البخاري - عن الليث بلا رواية، قال: ويقال: إنه سمعه من عبد الله
بن صالح عن الليث فعدل عن ذكره وتسميته.
وفي «الصحيحين» عنها قالت: «سألتْ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ناسٌ
عنِ الكُهَّان فقال: ليس بشيء، فقالوا: يا رسولَ الله إِنَّهُم يُحَدِّثُونَا
أحيانًا بشيء فيكون حقًا! فقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: تلك الكلمةُ منَ
الحقِّ يخطفها الجنيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معها مئة
كذبة»، وفي لفظ: «كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ».
قال الداودي: قوله: (فَيَكْذِبُونَ عَلَيْهَا مئةَ كذبة) يحتمل أنه عَنَى الكاهن
أو السلطان.
قال ابن الجوزي: قوله: (لَيْسَ بِشَيْءٍ) أي: ليس لهم قول بشيء يُعْتَمَدُ عليه
ولا حقيقة له.
(1/42)
وأُخِذَ
من هذا جواز إطلاق هذا اللفظ على ما كان باطلًا، والعرب تقول لمن عمل شيئًا لم
يحكمه: ما عملت شيئًا.
وقوله: (فَيَقُرُّهَا) بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء، ذكرها النووي، وقال أبو
الفرج: بضم الياء، وقَرّ الدجاجة، أي كصوتها إذا قطَّعته، يقال: قرت الدجاجة
تَقَرُّ قَرًّا، فإن ردَّدَتْهُ قيل: قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً، والقُرُّ ترديدك
الكلام في أذن الأطروش حتى يفهم كما يستخرج ما في القارورة شيئًا بعد شيء إذا
فرغت، وعند الإسماعيلي: قَزَّ الزجاجة بالزاي، وكأنه اعتبره باللفظ الذي فيه كما
تقر القارورة، ويكون قر الزجاجة معناه: صوتها إذا فرغ ما فيها، قال
الدَّارَقُطْني: وهو تصحيف من الإسماعيلي، والصواب بالدال.
وعن أبي سليمان: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم
الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم ما في وسعها.
وذكر البخاري في كتاب الطب، باب الكهانة، وذكر فيه حديث المرأتين مِن هُذيل، وقال
فيه: وعن ابن شهاب عن ابن المسيب: أن النبي قضى في الجنين، مرسل رواه الإسماعيلي
من حديث معن عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد مرسلًا، ثم قال: قد أسنده ابن أبي ذئب
ويونس، وأرسله مالك وفُلَيْح.
قال البخاري إثر حديث علي عن هشام: أخبرنا معمر عن الزهري عن يحيى بن عروة عن أبيه
عن عائشة: (سألَ النبيَّ ناسٌ من الكُهَّانِ) الحديث، وقال علي: قال عبد الرزاق:
مرسل. انتهى.
قال الإسماعيلي: بلغني أن عليًا أسنده بعدُ، ورواه أبو نعيم عن سليمان عن إسحاق بن
إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، فذكره مسندًا.
وزعم عياض: أن الكهانة كانت في العرب ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترق من السمع، وهذا القسم بطل
بمبعث نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/43)
والثاني:
أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عليه مما قرب أو بَعُد، وهذا لا
يبعد وجوده، ونفت هذا كلَّه المعتزلةُ وبعض المتكلمين وأحالوهما، ولا استحالة في
ذلك ولا بُعد في وجوده، لكنهم يكذبون ويصدقون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم
عامٌّ.
والثالث: المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله فيه لبعض الناس قوة وشدة ما، لكن الكذب
في هذا [199/ب]
[200/أ] الباب أغلب، وفي «الموعب»: كَهنَ الرجل يكهَن ويكهُن كهانة وكهونًا، وكهُن
كهانة: صار منجمًا، قال الأزهري: الكاهن أيضًا في كلام العرب الذي يقوم بأمر الشخص
ويسعى له في حوائجه، وفي «المحكم»: تكهُّنًا، وتكهينًا الأخيرة نادرة: قضى له
بالغيب، وقوم كهنة وكهان.
وفي «الجامع»: الكاهن: الذي يضرب بالحصى، والمصدر: الكهانة، وكان بعض العرب تسمي
الكاهن طاغوتًا ويسمى كل من أخبر بشيء قبل حدوثه كاهنًا، والمرأة كاهنة.
وقال صاحب «مجمع الغرائب»: الكاهن: هو الذي يدعي معرفة الأشياء المغيبة، فتصديقه
فيما يدعي من علم الغيب قرع باب الكفر نعوذ بالله منه.
قال عياض: ومن هذا الباب: العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب
ومقدمات، يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر، والطرق
والنجوم وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء، وكلها ينطلق عليها
اسم الكهانة.
قال القرطبي: فإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب ليخبروا عنه حرام، وما يأخذون على ذلك
حرام بغير خلاف لأنَّه كحلوان الكاهن المنهي عنه، قاله أبو عمر، ويجب على من ولي
الحسبة أن يقيمهم من الأسواق وينكر عليهم أشد الإنكار، وإن صدق بعضهم في بعض
الأمر، فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة فإن تلك الكلمة إما خطفة جني أو موافقة
قدر؛ ليغتر به بعض الجهال.
والكَِذبة -بفتح الكاف وكسرها وسكون الذال فيهما- قال عياض وأنكر بعضهم الكسر إلا
إذا أراد الحالة [200/ب] أو الهيئة.
(1/44)
قال
ابن الأثير: إنَّما جرى المثل بالكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم بالباطل، فأما
إذا وضع السجع مواضعه فلا ذم، قال ابن الأثير في حديث الهذلية ذم الكهان وذم من
تشبه بهم وولى المرأة ليستحق بسجعه الذي احتج به على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بالباطل شدة العقوبة في الدنيا والآخرة، غير أنه مجبول على الصفح عن
الجاهل وترك الانتقام لنفسه فلم يعاقبه لاعتراضه عليه كما لم يعاقب الذي قال له:
«اعدل».
والأمة مجمعة على «حُلوانِ الكَاهن»، وقال القرطبي: سؤال الكاهن والعراف والمنجم
عما يغيب ليخبروا به حرام وما يأخذون على ذلك حرام من غير خلاف.
3211 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ
حَدَّثَنا ابنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فذكر حديث: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى
كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ ... » الحديث، المذكور في كتاب الجمعة [ح:
929]، وزعم الحياني أن عند أبي ذر من طريق أبي الهيثم وحده: ابن شهاب عن أبي سلمة
والأعرج عن أبي هريرة، والصواب الأول، والحديث به مشهور، وكذا ذكره مسلم فقال في
رواية: أخبرني أبو عبد الله الأغر قال ابن السكن، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن
الزهري عن أبي سلمة وسعيد والأغر فصحَّ بهذا كله أن الحديث حديث الأغر. وحديث
الأعرج المذكور خرجه النسائي في موضعين. [خ 3211]
3212 - حديث عمر في إنشاد حسان الشعر، تقدم في كتاب الصلاة [ح: 453]. [خ 3212]
3214 - وحديث أنس في موكب جبريل يأتي في المغازي إن شاء الله تعالى [ح: 4118]، [خ
3214]
3215 - وحديث الحارث بن هشام تقدم أول الكتاب [ح: 2]. [خ 3215]
3216 - وحديث أبي هريرة من أنفق زوجين تقدم في الجهاد [ح: 2841]. [خ 3216]
(1/45)
3217
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ [201/أ]
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ
عَلَيْكِ السَّلَامَ، فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا أَرَى، تُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ). [خ 3217]
وهذا الحديث لما رواه النسائي عن نوح بن حبيب عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن
عروة عن عائشة قال: هذا خطأ، يعني أن الصواب حديث الزهري عن أبي سلمة، ورواه
الشعبي عن أبي سلمة وليس للشعبي عن أبي سلمة عن عائشة في الصحيح غيره، وقال
الترمذي: وفي الباب عن رجل من بني نمير عن أبيه عن جده؛ روى: «يا عائشُ» مرخمًا
فيجوز في الشين فتحها وضمها، و (يَقْرَأُ عَلَيْكِ) ثلاثي، وفي رواية: «يُقرئك»
-بضم الياء-.
وفيه: استحباب بعث السلام، ويجب على الرسول تبليغه، وبعث سلام الأجنبي إلى
الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة، وأن الذي يبلغه السلام يرد عليه.
قال النووي: الرد واجب على الفور، ويستحب في الردِّ أن يقول: وعليك أو وعليكم
السلام بالواو، فلو قال: عليك السلام أو عليكم السلام أجزأه على الصحيح، وكان
تاركًا للأفضل، وقال بعض أصحابنا: لا يجزيه، قال أبو الفرج: فإن قال قائل: فهلا
واجهها جبريل بالسلام كما واجه مريم، فالجواب من وجهين: أحدهما أنه لما قدر وجود
عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا من أب بعث جبريل ليعلمها كونَه قبل كونِه
لتعلم أنه مكون بالقدرة، فتسكن في زمن الحمل ثم بعث إليها عند الولادة لكونها في
وحدة، فقال: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]
فكان خطاب الملك لها في الحالتين ليسكن انزعاجها.
(1/46)
[الثاني:
أن مريم كانت خالية من زوج، فواجهها] بالخطاب، وأم المؤمنين
احترمت لمكان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كما احترم الرسول
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قصر عمر الذي رآه في المنام خوفًا من الغيرة، وهذا
أبلغ في فضل عائشة؛ لأنه إذا احترمها جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الذي لا
شهوة له حفظًا لقلب زوجها كانت عما قيل عنها من الإفك أبعد، أو يكون خاطب مريم
لأنها على قول أنها نبية، وعائشة لم يذكر عنها ذلك.
3219 - حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ فيأتي إن شاء الله تعالى في فضائل
القرآن العظيم [ح: 4991]. [خ 3219]
3220 - وحديثه في جوده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ َتقدم أيضًا. وتأخير عمر بن
عبد العزيز الصلاة تقدم في أبي هريرة كتاب الصلاة [ح: 521]. [خ 3220]
3222 - وحديث أبي ذر: «من مات من أمتك» تقدم في الاستقراض [ح: 2388] [خ 3222]
3223 - من حديث أبي هريرة الملائكة يتعاقبون تقدم في الصلاة [ح: 555]. [خ 3223]
بَاب إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ فَوَافَقَتْ
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه
3224 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، فذكر حديث النُّمْرُقَةِ الذي تقدم في كتاب البيوع،
وزعم أبو نعيم وأبو علي ليس محمدًا هو ابن سلَام. [خ 3224]
3225 - (حَدَّثَنَا ابنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا سَمِعْتُ أَبَا طَلْحَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا
صُورَةُ تَمَاثِيلَ). [خ 3225]
(1/47)
قال
الدَّارَقُطْني: ورواه أيضًا من حديث بشر بن سعيد أن زيد بن خالد حدثه عن أبي
طلحة؛ رواه البخاري عن أحمد: حدثنا ابن وهب، قال أبو نعيم: أحمد هذا، أحمدُ بن
صالح المصري، وقال غيره: هو أحمد بن عيسى. قال الدَّارَقُطْني وافق معمرًا جماعه،
وخالفهم الأوزاعي فرواه عن بن شهاب عن عبيد الله عن أبي طلحة لم يذكر ابن عباس،
والقول قول من ذكره. ورواه سالم أبو النضر عن عبيد الله نحو رواية الأوزاعي ...
[202/أ]
عن يزيد بن المهلب محمد بن عبد الصمد عن هشام بن اسماعيل عن هقل عن الأوزاعي
كرواية الجماعة، وقال: هذا خطأ، ثم رواه عن محمد بن هاشم عن الوليد عن الأوزاعي عن
الزهري عن عبيد الله، قال حدثني أبو طلحة فذكره، وعند الترمذي صحيحًا عن عبيد الله
قال: دخلت على أبي طلحة أعودُه وعنده سهل بن حُنيف فدعا أبو طلحة إنسانًا ينزع
نمطًا تحته، فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقال فيه النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما قد علمت، قال سهل: أولم يقل: «إِلَّا ما كان رَقْمًا فِي
ثَوْبٍ» قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي.
وعند النسائي: قال عبيد الله: خرجت أنا وعثمان بن حنيف نعود أبا طلحة، وفيه: فقال
له عثمان: أما سمعت يا أبا طلحة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين نهى عن
الصور يقول: «إِلَّا رَقْمًا».
قال أبو سليمان: أصل الرقم الكتابة، رقمت الكتاب أرقمه رقمًا، وقال تعالى:
{كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 9] والصورة غير الرقم، ولعله أراد أن الصورة
المنهي عنها إنما هي ما كان له شخص ماثِلٌ دون ما كان منسوجًا في ثوب، وهذا قد ذهب
إليه قوم، ولكن حديث القاسم، عن عائشة يفسد هذا التأويل [ح: 3224].
(1/48)
وقال
النووي: هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتًا فيه كلب ولا صورة هم الذين يطوفون
بالرحمة والتبرك والاستغفار، بخلاف الحفظة، قال أبو سليمان: إنما لم تدخل في بيت
إذا كان فيه شيء من هذه مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، وأما ما ليس بحرام من
كلب الصيد أو الزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا
يمتنع دخول الملائكة بسببه.
وقال أبو زكريا: الأظهر أنه عام في كلّ كلب وكل صورة [202/ب]
وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، فإن الجِروَ والذي لم يعلم به صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تحت السرير المذكور عند مسلم كان العذر فيه ظاهرًا، ومع هذا
فقد امتنع جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من دخول البيت، وعللّ بالجِروَ، فلو
كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ثم قيل: سبب امتناع الملائكة من دخول البيت الذي منه ذلك لكونها معصية
فاحشة، وكونها مضاهاة لخلق الله جلّ وعز، وفيها ما يعبد من دون الله جلَّ وعز،
وامتناعهم من الدخول في بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات؛ ولأن بعضها يسمى
شيطانًا، والملائكة صلوات الله عليهم ضدٌّ لهم؛ ولقبح رائحة الكلب، والملائكة تكره
الرائحة الكريهة؛ ولأنها منهي عن اتخاذها، فعوقب متَّخذُها بحرمانه دخول الملائكة
بيته وصلاتها فيه واستغفارها له، وتبريكها عليه، ورفعها أذى الشيطان. وقول
البخاري: <حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابنُ وَهْبٍ حدثني
عَمْرٌو عن سالم>، كذا في بعض النسخ، ابن وَهْبٍ حدثني عمرٌو، وزعم أصحاب
الأطراف أنه عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولما رواه أبو نعيم
عن ابن حَمْدان حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أحمد ابن عيسى حدثنا ابن وهب قال:
أخبرني عمر بن محمد.
حديث أبي هريرة تقدم في الصلاة [ح: 796]، وحديث يعلى يأتي إن شاء الله تعالى
(1/49)
3231
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
قَالَ: ما لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ كانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُ يَوْمَ
الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابنِ عَبْدِ كُلَالٍ [203/أ]
فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى
وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ
رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا
جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ،
وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ
بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ الله قد سمع قولَ قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك
ربك لتأمرني بما شئتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ
مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا). [خ
3231]
(1/50)
في
«مغازي موسى بن عقبة» عن بن شهاب: لما مات أبو طالب عمد رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لثَقِيف بالطائف رجاء أن يؤوه، فوجد ثلاثة نفَر وهم سادة ثَقيف
يومئذٍ، وهم إخوة عبد يَاليل بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود ابن عمرو، فعرض عليهم
نفسه وشكى إليهم ما انتهك منه قومه، فردوا عليه أقبح رَدٍّ، وفي «الطبقات» خرج إلى
الطائف في ليالٍ بقين من شوال سنة عشر من النبوة، فأقام به عشرة أيام لا يدع أحدًا
من أشرافهم إلا جاءه وكلمَّه فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم وقالوا: اخرج من
بلدنا وأغروا به سفَهَاءَهم، وفي قَرْن الثعالب دعا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
دعاءه الطويل المشهور، فما استتمَّه حتى أتاه جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقول البخاري: (ابنِ عَبْدِ يَالِيل) فيه نظر من حيث أن الذي في «السير»: عبد
ياليل كما قد عيناه، ويوضحه ما في كتاب «البلاذِري» و «أبي عُبيد» وكتاب
«الجمْهَرة» للكلبي: عبد ياليل بن عمرو بن عُمَير بن عوف بن عقدة بن غَيَرة بن عوف
بن ثقيف، وعند الزجاج في قوله جل وعز {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ [203/ب]
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] المعنى على رجل من رَجُلي القريتين عظيم،
فالرجلان الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، والآخر عبد ياليل بن عمرو بن
عُمير الثقفي من أهل الطائف.
و (قَرْنِ الثَّعالِبِ) هو قَرنُ المنازل مِيقاتُ أهل نجد على من جلس من مكة شرفها
الله تعالى، وأصل القرن كل جبل صغير منقطع من جبل كبير، وقيل: هو على يوم من مكة،
وذكر عياض أنه يقال فيه: قرن، غير مضاف، على يوم وليلة من مكة. قال ورواه بعضهم
بفتح الراء وهو غلط، وعن القابسي من سكن الراء: أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن
فتح الراء: أراد الطريق التي يتفرق منه، فإنه موضع فيه طُرُق متفرقة.
(1/51)
و
(الأخْشَبانِ) -بفتح الهمزة وبخاء وشين معجميتين- جبلان بمكة شرفها الله تعالى؛
أبو قبيس والجبل الذي يقابله، وسُمِّيا أخشبين لصلابتهما وغلظ حجارتهما.
حديث ابن مسعود تقدمت الإشارة إليه أول الاسراء [ح: 4856]، وأما إنكار عائشة رضي
الله عنها للرؤية فلم تذكره رواية إذ لو كان معها فيه رواية لذكرته وإنما اعتمدت
على الاستنباط من الآيات، وهو المشهور من قول ابن مسعود، قال: عياض ومثل قولها عن
أبي هريرة واختلف عنه، وعند اللَّالُكائي بسند لا بأس به عن أبي هريرة قال رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «رأيت ربي جل وعز في أحسن صورة»، وفي تفسير بن
مردويه بسند جيد عن الضحاك وعلقمه عن ابن عباس قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فذكر حديثًا طويلًا، فيه: «فلما أكرمني ربي برؤيته بأن أثبت بصري في قلبي احتدَّ
بصري لرؤية نور العرش ... » الحديث، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جل وعز في
الدنيا: جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وعن ابن عباس أنه صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: رآه بعينه، وروي عن عطاء عنه: رآه بقلبه. انتهى.
وكذا رواه عكرمة عند الترمذي [204/أ]
وقال حسن، وفي صحيح مسلم عن أبي العالية عنه: «رآه بفؤاده مرتين، وذكر ابن إسحاق:
أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس يسأله: هل رأى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ربه جل وعز؟ فقال: نعم. والأشهر عنه: أنه رآه بعينه، روي ذلك عنه من طرق،
وقال: إن الله جل وعز اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخُلة، ومحمدًا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ بالرؤية. وحجته: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} الآية
[النجم: 11 - 13].
قال الماوردي: قيل إن الله قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم،
فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين.
(1/52)
وحكى
أبو الفتح الرازي وأبو الليث السمرُقَندي هذِه الحكاية عن كعب، وروى عبدالله بن
الحارث قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول: إن
محمدًا قد رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إن الله قسم رؤيته
وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم، فكلمه موسى ورآه محمد بقلبه، وروى
شريك عن أبي ذر في تفسير الآية، قال: «رأى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ربه».
وحكى السمرقندي عن محمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ سُئِل: هل رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي، ولم أره بعيني».
وروى مالك بن يُخامِر عن معاذ: عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «رأيت
ربي»، وذكر كلمة.
وحكى عبد الرزاق: أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ربه جل وعز، وكذا ذكره مقاتل، وحكاه عبد في «تفسيره» عن هَوذَة، عن عون
عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم: 11] قال: رآه مرتين بقلبه، وذكره
أيضًا عن أبي صالح، وعن محمد بن كعب: رآه بفؤاده مرتين.
وعن إبراهيم التيمي: رآه بقلبه، ثم قال: حدثني أبي، [204/ب]
عن أبي ذر: رآه بقلبه ولم يره بعينيه.
وفي «تفسير ابن عباس» لابن أبي زياد الشامي: روى أبان، عن أنس، أن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لما انتهيت إلى الحجاب نامت عيناي ونظرت بقلبي، وفؤادي
يقظان لم ينم منذ يومئذٍ»، وحكاه أيضًا جوهر، عن الضحاك وعند الزجاج عن أحمد ابن
حنبل: رآه بقلبه.
(1/53)
وهو
فضل خُصَّ به كما خص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخُلة صلى الله عليهم أجمعين، وعند
اللَّالكائي بسند لا بأس به عن أم الفضل امرأة أبي بن كعب قالت: سمعت رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يذكر أنه: «رأى ربه بعين قلبه». قال عياض: وحكى أبو
عمر الطَّلَمَنْكي هذا عن عكرمة، وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود. عن
داود بن حصن، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة هل رأى محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ ربه؟ قال: نعم، وحكى النقَّاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول
بحديث ابن عباس بعينيه رآه رآه، حتى انقطع نفس أحمد.
وقال أبو عمر قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا
بالأبصار. وعن سعيد بن جبير: لا أقول رآه ولا لم يره، وقد اختلف في تأويل الآية
الكريمة عن ابن عباس وعكرمة والحسن وابن مسعود، وعن ابن عباس ومولاه: رآه بقلبه
وعن الحسن وابن مسعود رأى جبريل، وحكى عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه قال: رآه، وعن
ابن عطاء في قوله {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] قال شرح صدره
للرؤية، وقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه: أنه رآه ببصره وعيني رأسه، وقال
كل آية أوتيها نبيٌّ من الأنبياء فقد أوتي مثلها نبينا صلى الله عليهم أجمعين،
وخُصَّ من بينهم بتفضيل الرؤية، ووقف بعض المشايخ في هذا فقال: ليس عليه دليل واضح
[205/أ]
ولكنه جائز أن يكون. قال أبو الفضل: والحق الذي لا امتراء فيه أن رؤيته جل وعز في
الدنيا جائزة عقلًا وليس في العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها في الدنيا سؤال
موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لها، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا
يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزًا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذي
لا يعلمه إلا من علمه الله جل وعز. وليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها، ولا
امتناعها؛ إذ كل موجود فرؤيته جائزة، غير مستحيلة. انتهى.
(1/54)
روينا
في كتاب اللَّالَكَائي بسند صحيح عن حمَّاد بن سلمة حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن
عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال «رأيت ربي جل وعز»، وروى
الترمذي من حديث الحكم بن أبَان عن عكرمة عنه رأى محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ربه، قال: فقلت: الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:
103] ... ) الحديث، وقال حسن: غريب.
وعند هبة الله الطبري، عن عبد الرحمن بن عايش قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يقول: «رأيت ربي جل وعز»، وقال أبو زكريا روي بسند لا بأس به عن
شعبة عن قتادة عن أنس أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رأى ربه جل
وعز، قال أبو الفضل لا حجة لمن استدل على منعها بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لاختلاف التأويلات في الآية، إذ ليس يقتضي قول من
قال في الدنيا الاستحالة، وقد استدل بعضهم بهذِه الآية نفسها، على جواز الرؤية
وعدم استحالتها على الجملة، وقد قيل: لا تدركه أبصار الكفار وقيل: لا تدركه الأبصار:
لا تحيط به، وهو قول ابن عباس، وقيل: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وإنما يدركه
المبصرون، [205/ب]
وكل هذِه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ولا استحالتها، وكذلك لا حجة لهم بقوله:
{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] لما
قدمناه؛ ولأنها ليست على العموم؛ ولأن من قال: معناها: لن تراني في الدنيا، إنما
هو تأويلٌ أيضًا، فليس فيه نص الامتناع، وإنما جاءت في حق موسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وحيث تتطرق التأويلات، وتتسلط الاحتمالات فليس للقطع إليه سبيل وقوله:
{تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] أي من سؤال ما لم تقدره لي.
(1/55)
وذكر
القاضي أبو بكر أن موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رأى الله جلَّ وعزَّ، فلذلك
صعق، وأن الجبل رأى ربه، فصار دكًّا، قال أبو الفضل استنبطه والله أعلم من قوله:
{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي} [الأعراف: 143] ثم قال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وتجليه للجبل هو ظهوره حتى رآه على
هذا القول.
وقال جعفر بن محمد: شغله بالجبل حتى تجلى، ولولا ذلك لمات صعقًا بلا إفاقة، وقوله
هذا يدل على أن موسى رآه، وقد وقع لبعض المفسرين في الجبل أنه رآه، وبرؤية الجبل
له استدل من قال برؤية نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إذ جعله دليلًا على
الجواز، ولا مرية على الجواز؛ إذ ليس في الآيات نص بالمنع وذكر ابن العربي أن
بعضهم قال في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] لدخول مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فلما
رجع من الحديبية افتتن بعض الناس.
حديث سمُرة: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَجُلَانِ) تقدم في الصلاة [ح: 845]، وحديث أبي
هريرة: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ) يأتي إن شاء الله تعالى في النكاح [ح:
845]، وحديث جابر في فترة الوحي تقدم [ح: 4] وفيه الرُّجْز وزعم عياض أن رآه تضم
وتكسر، ومنهم من قال بالكسر العذاب [206/أ]
وحديث ابن عباس في الإسراء تقدم [ح: 3396].
وقول البخاري: (وقَالَ أَنَسٌ وَأَبُو بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: تَحْرُسُ الْمَلَائِكَةُ الْمَدِينَةَ مِنَ الدَّجَّالِ) يريد
الحديثين المسندين المذكورين في الحج عنده [ح: 1879 و 1881].
بَاب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ
(1/56)
تقدم
حديث: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ يُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ
حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ إليه يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [ح: 1379]، وعند أبي داود بسند
صحيح عن أبي هريرة يرفعه: «لما خلق الله جل وعز الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر
إليها، فذهب فنظر إليها، ولما خلق النار قال اذهب فانظر إليها ... » الحديث، وعند
مسلم من حديث أبي سعيد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اختصمت الجنة
والنار، فقالت الجنة: يا رب ... » الحديث، وعند البخاري عن أبي هريرة قالت النار:
يا رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ... » الحديث
[ح: 537].
وقال البخاري رضي الله عنه: (وقال مجاهد: {سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18]: حَدِيدَةُ
الْجِرْيَةِ)، هذا التعليق رويناه في مسند الطبري، فقال حدثنا ابن بشار حدثنا عبد
الرحمن حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عنه، وفي لفظ: سلسة الْجِرْيَةِ، قال البخاري:
(وقال ابن عباس: {دِهَاقًا} [النبأ: 34] ممتلئًا)، هذا التعليق رواه الطبري عن أبي
كريب حدثنا مروان حدثنا يحيى بن ميسرة عن مسلم بن نَسْطاس قال ابن عباس لغلامه:
اسقني دِهَاقًا، قال: فجاء بها الغلام ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدِّهَاق.
وحدثني محمد بن عبيد المحاربي [206/ب]
حدثنا موسى بن عمير عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {كَأْسًا دِهَاقًا}
[النبأ: 34] قال: ملأى، وفي رواية عمرو بن دينار عنه، وسئل عن قوله: {كَأْسًا
دِهَاقًا} [النبأ: 34]، قال: دراكًا، قال ابن وهب: يريد الذي يتبع بعضه بعضًا.
(1/57)
قال
البخاري: (وقال مجاهد: رَوْحٌ: جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، والرَّيْحَان: الرزق)، قال عبد
بن حميد في تفسيره: حدثنا شبابة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}
[الواقعة: 89]، قال: رزق، وحدثنا أبو نعيم عن عبد السلام بن حرب عن ليث عن مجاهد
قال: الرَّوح: الفرح، والرَّيحان: الرزق، قال البخاري: ({وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}
[الواقعة: 34]: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) انتهى، روى أبو عيسى عن أبي سعيد الخدري:
«عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}
[الواقعة: 34]، قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام»، وقال
حديث حسن غريب، ولما خرجه ابن حبان صححه، قال القرطبي: قال بعض أهل العلم في تفسير
هذا الخبر: الفرش في الدرجات وبين الدرجات كما بين السماء والأرض، وقيل الفرش هنا:
النساء المرتفعات الأقدار في حسنهن وجمالهن والعرب تسمي المرأة فراشًا على
الاستعارة، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الولد للفراش» [ح: 6749]، وذكر ابن
المبارك عن معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي فذكر الحديث طويلًا فيه:
«ويعطى ولي الله جل وعز سريرًا طوله فرسخ في عرض مثل ذلك في غرفة من ياقوتة من
أسفلها إلى أعلاها مائة ذراع، على ذلك السرير من الفرش كقدر خمسين غرفة بعضها فوق
بعض»، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: فذلك قوله جل وعز: {وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] وهي من نور وكذلك السرير».
حديث نافع عن ابن عمر تقدم في الجنائز [ح: 1379]، ورواه مسلم أيضًا من حديث
[207/أ] سالم عن أبيه.
(1/58)
3241 - (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ). [خ 3241]
(1/59)
ولما خرَّجه في النكاح [ح: 5198]: عن عثمان حدثنا الهيثم حدثنا عوف عن أبي رجاء، قال: تابعه أيوب وسَلْمُ عن أبي رجاء، قال أبو مسعود الدمشقي إنما رواه عن أيوب كذلك عبدالوارث، وسائر أصحاب أيوب يقولون أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وقد رواه مسلم عن زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيم وحدثنا إسحاق حدثنا الثقفي عن أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وحدثنا شيبان حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو رجاء وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن ابن أبي عروة سمع أبا رجاء عن ابن عباس، ... فذكره، قال الترمذي: وكلا الإسنادين ليس فيهما مقال، يحتمل أن يكون أبو رجاء سمع منهما جميعًا. وقد روى غير عوف أيضًا هذا الحديث عن أبي رجاء عن عمران، وفي كتاب «الفصل للوصل» رواه أبو داود الطيالسي عن أبي الأشهب وجرير بن حازم ومسلم وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن عمران وابن عباس قالا: قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «نظرت في الجنة ... » الحديث، قال: كذا رواه أبو داود وخلط في جمعه من روايات هؤلاء الخمسة؛ وذلك أن أبا الأشهب وحمَّادًا وصخرًا كانوا يروونه عن أبي رجاء عن ابن عباس وحده، وسَلْم بن زَرِير يرويه عن أبي رجاء عن عمران وحده، وأما جرير فلا نعلم كيف كان يرويه لأنه لم يقع إلينا حديثه إلا من رواية أبي داود هذه والحديث عند أبي رجاء عن ابن عباس وعمران جميعًا إلا أنا لا نعلم أحدًا اجتمعت له الروايتان عن أبي رجاء غير أيوب رواه عن أبي رجاء عن [207/ب] عمران وعن أبي رجاء عن ابن عباس وقد رواه ابن أبي عَروبة ومطير عن أبي رجاء عن ابن عباس، ورواه قتادة وعوف الأعرابي عن أبي رجاء عن عمران انتهى.
(1/60)
فلو
أن البخاري ذكر متابعة لأبي رجاء عن عمران ما في كتاب النسائي من حديث يزيد بن عبد
الله ومطرف بن عبدالله كان حسنًا ولفظه: «أقل ساكني الجنة النساء»، وفي لفظ: «عامة
أهل النار النساء»، وعند البخاري حديث أسامة [ح: 5196]، ولفظه: «قمت على باب
الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجَدِّ مَحبُوسُون»، وفي رواية:
«محتَرسون» -بفتح التاء والراء- اسم مفعول من احتُرِس أي موثق لا يستطيع الفرار.
قال الداودي: أرجو أن يكون هؤلاء أهل التفاخر لأن أفاضل [الصحابة] كانت لهم أموال
ووصفهم الله بأنهم سابقون، رجع إلى تكملة الحديث، «غير أن أصحاب النار قد أمر بهم
إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء»، وعند النسائي حديث
عمرو بن العاص: «أنَّ النبي رأى أغْربَة كثيرة فيها غُراب أعصم أحمر المنقار
والرِّجلين، فقال: لا يدخل الجنة من النساء إلا كعدد هذا الغُراب مع هذه
الغِربان»، وفي «كتاب الإخبار بفوائد الأخبار» لأبي بكر الكَلَابَاذِيبسند جيد عن
عبدالرحمن بن شبل قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن الفساق هم أهل
النار، قالوا: يا رسول الله وما الفساق؟ قال: النساء، قالوا يا رسول الله، ألسن
أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا؟، قال: بلى، ولكن إذا أُعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم
يصبرن»، وروينا في صحيح ابن حبان من حديث حكيم بن حزام يرفعه: «قال للنساء: تصدقن،
فإنكن أكثر أهل النار»، وفي «كتاب النكاح» للفِرْيابي من حديث بقِيَّة عن بَحِير
عن ابن مَعْدان عن كثير بن مرة عن أبي شجرة يرفعه: «إن النار خلقت للسفهاء، وإن
[208/أ]
(1/61)
النساء أسفه السفهاء، إلا صاحبة القسط والسراج»، قال بقِيَّة: هي التي تقوم على رأس زوجها وتُوَضِّئُه، ومن حديث ابن لهيعة ويحيى بن أيوب أن ابن الهاد حدثهما عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر يرفعه: () يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار»، وتقدم حديث أبي سعيد الخدري [ح: 304]، ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا: «مائلات مميلات، رؤوسهن كأسْنِمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجِدْن ريحها، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام»، ومن حديث علي بن يزيد عن القسم عن أبي أمامة يرفعه: () ألا إن النار خلقت للسفهاء، ألا إن النساء هم السفهاء ثلاثًا»، قال ابن المهلب: إنما استحق النساء النار لكفرهن العشير، ألا ترى أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قد فسره بقوله: «لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهر كله لجازت ذلك بالكفران» فغلَّب استيلاء الكفران على دهرها فكأنها مصرَّةٌ على الكفران، والإصرار من أكبر أسباب النار وذلك أن حق زوجها عظيم عليها يجب عليها شكره، والاعتراف بفضله لستره وصيانته لها، وقيامه بمؤونتها، وبذل نفسه في هذا، ومن أجله فضلت الرجال على النساء، وقد أمر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من أسديت إليه نعمة أن يشكرها فكيف نعم الزوج التي لا تنفك المرأة منها دهرها كله، وقد قال بعض العلماء: شكر الإنعام فرض، محتجًّا بقوله جل وعز: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] فقرن بشكره شكر الآباء، قال: وكذلك شكر غيرهم واجب وقد يكون شكر النعمة في نشرها ويجزئ من ذلك الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة. وذكر الحكيم أبو عبدالله وغيره أن الإخبار بكون النساء أكثر أهل النار كان قبل [208/ب]
(1/62)
الشفاعة
فيهن، وإلا فليس في الجنة عزب، ولكل رجل زوجتان، وقال أبو عبد الله القرطبي: قال
علماؤنا: إنما النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل
زينة الدنيا لنقصان عقولهن فيضعفن عن عمل الآخرة والتأهب لها لميلهن إلى الدنيا
والتزيُّن بها ولها ثم هن مع ذلك أقوى الأسباب التي تصرف بها الرجال عن الأخرى،
لما لهم فيهن من الهوى، وأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن
سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى
الآخرة وأعمالها من المتقين، قال علي بن أبي طالب: أيها الناس لا تعطوا النساء
أمرًا، ولا تدعوهن يدبرن أمر عسير، فإنهن إنْ تُركن وما يردن أفسدن الملك وعصين
المالك، وجدناهن لا دين لهن في خلواتهن، ولا ورع لهن عند شهواتهن، اللذة بهن
يسيرة، والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات، وأما طوالحهن فعاهرات، وأما
المعصومات فهن المعدومات، فيهن ثلاث خصال: من يهود: يتظلمن وهن ظالمات، ويحلفن وهن
كاذبات، ويتمنعن وهن راغبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا على حذرٍ من
خيارهن.
وعند الترمذي عن أبي سعيد: «يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة
عام» وقال: حسن غريب، وعن أبي هريرة: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة
عام، نصف يوم» وصححه.
وعن عمر مثله بزيادة: «يا رسول الله، وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة عام، قيل: فكم
السنة من شهر؟ قال: خمسمائة شهر. قيل: فكم اليوم؟ قال: خمسمائة مما تعدون»، ذكره
ابن قتيبة في «عيون الأخبار».
وعند الترمذي عن جابر: «يدخل فقراء المسلمين [209/أ]
(1/63)
قبل
الأغنياء بأربعين خريفًا» وصححه، وخرجه أيضًا عن أنس واستغربه. وعند مسلم: «يسبقون
الأغنياءَ يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا»، قال القرطبي اختلاف هذه
الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفو الأحوال وكذلك الأغنياء، ووجه الجمع أن يقال:
إن سُبَّاق الفقراء المهاجرين يسبقون سُبَّاق الأغنياء منهم بأربعين خريفًا، وغير
سباق الأغنياء بخمسمائة عام.
وقد قيل: إن حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وجابر يعم جميع فقراء المسلمين، فيدخل
الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي
هريرة وأبي الدرداء، وفي كتاب «البعث والنشور» للبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو
بسند لا بأس به مرفوعًا: «سبق المهاجرون الناس بأربعين خريفًا، يتنعمون فيها،
والناس محبوسون بالحساب، ثم تكون الزمرة الثانية مائة خريف». وفي حديث سعيد بن
عامر بن حِذْيَم يرفعُه: «يجمعُ اللهُ النَّاس للحسابِ، فيجيءُ فقراءُ المسلمين
فيَذِفُون كما يَذِفُ الحمامُ، فيقال لهم: قفوا للحساب، فيقولون: والله ما عندنا
من حساب، ولا تركنا شيئًا، فيقول لهم: صدقوا. فيفتح لهم أبواب الجنة، فيدخلونها
قبل الناس بسبعين عامًا».
وقال أبو الفرج لما كان الفقيرُ فاقدًا للمال الذي يتسبب به إلى المعاصي، ويحصل به
البطر والشبع والجهل واللهو الذي يقرب إلى النار، وكان هذا الأغلب على النساء
فلذلك قربن من النار، فيدخلونها قبل الناس بسبعين عامًا، فإن قيل: إذا كان هذا فضل
الفقر فلم استعاذ منه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فالجواب: أنه إنما
استعاذ من [فقر النفس] والصواب أن يقال إن الفقر مصيبة من مصائب [209/ب] الدنيا
والغنى نعيم من نعيمها، كالمرض والعافية، فالمرض فيه ثواب ولا يمنع سؤال العافية،
قال القشيري في الرسالة: وسئل أبو علي الدقاق: أي الوصفين أفضل: الغنى أو الفقر؟
فقال: الغنى لأنه وصف الحق، والفقر وصف الخَلْقِ.
(1/64)
قال
أبو عبد الله: الغني المتعلق البال بالمال الحريص عليه هو الفقير، وعادمه الذي
يقول ليس لي رغبة فيه إنما هي ضرورة العيش، هو الغني.
قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى
النفس»، وقد بقيت هنا درجة ثالثة وهي الكفاف، التي سألها سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بقوله: «اللَّهمَّ اجعل رزق آل محمد قوتًا» وفي رواية:
«كفافًا»؛ خرَّجه مسلم، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال وأسنى المقامات
والأعمال، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى
مذموم. وعند ابن ماجه عن أنس يرفعه: «ما من غني ولا فقير إلا ودَّ يوم القيامة أنه
أُوتى من الدنيا قوتًا»؛ فالكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، وخير الأمور
أوساطها، وهي حالة سليمة من آفات الغنى المطمع، وآفات الفقر المدقع التي كان يتعوذ
منهما النبي.
3242 - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنا اللَّيْثُ قَالَ
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ
عِنْدَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذْ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ
رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ،
فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ،
فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ
اللهِ؟). [خ 3242]
وعنده أيضًا عن بريدة دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بلالًا فقال:
[210/أ]
(1/65)
«يا
بلال بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، ودخلت
البارحة الجنة سمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا
القصر؟ قالوا: لرجل من العرب. قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش.
قلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد. فقلت: أنا محمد، لمن هذا؟
قالوا: لعمر».
وعند الترمذي من حديث أنس صحيحًا قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «دخلت الجنة
فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لشاب من قريش. فظننت أني أنا هو،
فقلت: من هو؟ قالوا: عمر»
زعم المزي أنه من أفراد الترمذي، وأغفل كونه ناسيًا في سنن النسائي في مناقب عمر.
قال أبو عيسى: معنى هذا: أني رأيت في المنام، هكذا روي في بعض الحديث.
وعند أحمد بسند جيد عن مصعب بن سعد عن معاذ قال: إن كان عمر لمن أهل الجنة إن رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان ما رأى في نومه أو يقظته فهو حق، وإنه قال:
«بينا أنا في الجنة إذ رأيت فيها دارًا، فقلت: لمن هذِه؟ فقيل: لعمر».
قال أبو سليمان: إنما هو: (رأيت امرأة شوهاء)، وإنما أسقط الكاتب منه بعض حروفه،
فصار (يتوضأ) لالتباس ذلك في الخط؛ لأنه لا عمل في الجنة. قال ابن التِّين: ذُكر
عن الحسن أنه قال تشبه أن الوضوء موصل إلى هذا القصر.
وقال القرطبي: الرواية الصحيحة: (تَتَوضَّأ) وإنما ابن قتيبة فقال مكان
(تَتَوضَّأ) (شَوْهَاء).
قال ابن الأعرابي: وهي: الحسنة والقبيحة ضد، ووضوء هذِه إنما هو لتزداد حسنًا
ونورًا لا أنها تزيل وسخًا ولا قذرًا؛ إذ الجنة منزهة عن ذلك.
قال ابن بطال [210/ب]:
فيه الحكم لكل رجل مما يعلم من خلقه، ألا ترى أنه لم يدخل القصر لغيرة عمر مع علمه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه لا يغار عليه؛ لأنه أبو المؤمنين، وكل ما نال
بنوه المؤمنون من خير فبسببه وعلى يديه، لكنه أراد أن يأتي بما يعلم أنه يوافق
عمر.
(1/66)
وقد
قال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل الجنة فإنه يدخلها؛ لأن ذلك بِشَارة لما قدم من
خير أو يقدمه.
قال الكرماني: وأما نساؤها فهي أجور، وأعمال بر على قدر جمالهن.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعبر: من رأى أنه يتوضأ فإنه وسيلة إلى
سلطان، وهو للخائف أمان.
قال ابن التين: وفيه فضل الغيرة، وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورًا، ويحتمل
3243 - (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنا هَمَّامٌ سَمِعْتُ أَبَا
عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي موسى عن أبيه أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: في الجنةِ خَيْمَةٌ من دُرَّة
مُجَوَّفَة طُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ
مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِين أَهْلٌ لَا يَرَاهُم الْآخَرُونَ). [خ 3243]
(وقَالَ أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ:
سِتُّونَ مِيلًا).
التعليق: عن أبي الصمد واسمه عبد العزيز بن عبد الصمد، رواه البخاري في تفسير سورة
الرحمن عن محمد بن مثنى عنه به [ح: 4879]، والتعليق عن الحارث بن عبيد رواه مسلم
في صحيحه عن سعيد بن منصور عنه.
(1/67)
وينظر
في رواية البخاري حديث همام حيث قال: «ثلاثونَ ميلًا» [ح: 3243]، والذي في مسلم عن
أبي بكر بن شيبة عن يزيد بن هارون وعاصم بن علي، وعند مسلم: «طولها ستون ميلًا»
وفي رواية: «عرضها»، قال شارحوه: لا معارضة بينهما، لأن عرضها يريد مسافة أرضها،
وطولها في السماء لا في العلو، متساويان [211/أ] والْخَيْمَةُ: بيت مربع من بيوت
الأعراب، قال أبو زياد الكلابي يزيد بن عبد الله بن الحر في كتابه: المسمى بالبيت
وما فيه للأعراب خيمتان: وأما أحدهما فيكون من صوف وربما كانت من شعر وربما كانت
من صوف وشعر مخلطان، وربما كانت من أوبار الإبل خالصًا، وهي تسمى المظَلَّة،
وجمعها المظالُّ، وهذه المظالُّ التي يظعنون بها في البلاد ويحملونها حيث ما
أرادوا، والخيمة الأخرى هي التي يتجمعون على المياه، وهي من الشجر والخشب وأضخم
المظالِّ التي تكون على ستة عشر عمودًا، ولها أربع طرائق في كل طريقة أربعة أعمدة
والطريقة نسجه عرضها شبر، وهي طول البيت عرضًا، فإذا عملت، بسطت على الأرض ثم
خيطت، تلك الطريق في بطن البيت ثم يرفع البيت فيبنى، وفي رواية: «من لؤلؤة
ومجوفة»، كذا الرواية، قال عياض: وعند السمرقندي: بالباء الموحدة وهي المثقوبة
التي قطع داخلها.
قال ابن التين: قال ابن عباس: الخيمة: درة مجوفة فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف
مصراع من ذهب، وفي «نوادر الترمذي» بلغنا في الرواية: «أن سحابة مطرت من العرش
فخلق منها الحور، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار، سعتها: أربعون ميلًا
وليس لها باب، حتى إذا دخل ولي الله بالخيمة انصدعت عن باب؛ ليعلم الولي أن أبصار
المخلوقين من الملائكة والخدم لم يأخذوا».
وعند ابن المبارك: أنبأنا همَّام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعن أبي
الدرداء: الخيمة: لؤلؤة واحدة لها سبعون بابًا كلها دُرّ.
(1/68)
قال
القرطبي: ومن هذا الحديث يعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة
أكثر من نوع رجال بني آدم [ ... ] البخاري لحديث أبي هريرة: (أَعْدَدْتُ
لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ) يدل على [211/ب]
وجود الجنة؛ لأن الإعداد غالبًا لا يكون إلا لشيء حاصل، ثم أعاد ذكره في تفسير
السجدة بزيادة: «ذخرًا، بَلْه ما أُطلِعتُم عليه» [ح: 4780]، ثم قال: قال أبو
معاوية: عن الأعمش، عن أبي صالح: قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: «قُرَّات أعين»، وهو
تعليق مسند في «صحيح مسلم».
قال أبو الفرج: إن الله جل وعز وعد الصالحين من جنس ما يعرفونه من مطعم ومشرب
ومنكح وشبهه، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه، وهو قوله: «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وقال القرطبي: ذخرًا هو بذال معجمة مضمومة،
أي: مدخرًا، وهو مصدر، يقال: ذَخَرْتُ الشيءَ أَذْخُرُه ذُخْرًا، واذَّخَرْتُهُ
أَذْخَرُهُ اذِّخَارًا بالإدغام، ووقع في طريق الفارسي: ذكرًا بالكاف، ولبعضهم:
ذخر. بغير تنوين وليسا بشيءٍ.
(بَلِهَ) أي: سوى، وهي من أسماء الأفعال، قال أبو الفرج: المعنى: أن ما اطلعتم
عليه محقر بالإضافة إلى ما لم تطلعوا عليه، وإنما ذكر ما يعرفونه لشيئين؛ أحدهما:
لأنسهم بما يعرفون، والثاني: لوعدهم بما يعرفون اشتاقوا إلى ما لم يعرفوا, ولطلبوا
ما يعرفون فوعدهم بهما، وذهب بعض المتكلمين إلى انحصار الأجناس، وأنه لا موجود
يخرج عما وجد في هذا العالم. انتهى. وكأنه غير جيد فينظر، في الفهرست: له من
الكتب: «كتاب النوادر. كتاب الفرق. وكتاب الابل. وكتاب خلق الإنسان».
(1/69)
3245
- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حدثنا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ
صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا
وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ،
وأَمْشَاطُهُمْ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُم الْأَلُوَّةُ،
وَرَشْحُهُم الْمِسْكُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ
سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ
وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْب رجلٍ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ جلَّ وعزَّ بُكْرَةً
وَعَشِيًّا). [خ 3245]
وفي حديث أبي الزناد عن الأعرج: (وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ [212/أ]
كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إضاءةً)، وفيه: (لا يَسقُمُون ووقود مجامِرهِم الألُوَّة،
قَالَ أَبُو الْيَمَانِ: يَعْنِي الْعُودَ)، وفي رواية: «إنما هو عرَقٌ يجْري من
أعراضهم مثل المِسْك»، وفي رواية: «هم بعد ذلك منازل أخلاقهم على خلق رجلٍ واحد
على طول أبيهم»، وفي رواية: «على صورة أبيهم ستون ذراعًا في السماء»، قال مسلم:
ابن أبي شيبة يرويه بضم الخاء واللام، وأبو كريب يقوله بفتح الخاء وسكون اللام
انتهى. يرجح الضم قوله: «لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تبَاغُضَ» ويرجح الفتح،
قوله: «على صورة أبيهم» و «على طوله».
(1/70)
وعند
الترمذي عن ابن مسعود: «إن المرأة من أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين
حلة حتى يرى مخها، وذلك أن الله جل وعز يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ (58)} [الرحمن: 58]»، قال أبو عيسى وقد روي موقوفًا، وفي حديث شهر
بن حوشب، عن أبي هريرة: «أهل الجنة جردٌ مردٌ كُحْلٌ لا يفنى شبابهم ولا تبلى
ثيابهم» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وعن معاذ: «يدخل أهل الجنة الجنة جردًا
مردًا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين».
و قال: غريب، وروي عن قتادة مرسلًا، وعن أبي سعيد: «من مات من أهل الجنة من صغير
أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها، وكذلك أهل النار» وقال:
حديث غريب، وعنه: «إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنان
وسبعون زوجة»، وقال: حديث غريب، ومثله عن أبي أمامة في مسند الدارمي، وعن المقدام
بن معدي كرب: «ويزوج الشهيد ثنتين وسبعين زوجة من الحور»، وفي «الأوسط» لأبي
القاسم الطبراني: حدثنا بكر بن سهل عن ابن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن
القعقاع، عن أبي صالح عن أبي هريرة يرفعه [212/ب] وذكر أهل الجنة: «مجامرهم اللؤلؤ
وأزواجهم الحور»، قال وحدثنا مقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا عدي بن الفضيل
عن الجُريري عن أبي نضر عن عقيل بن شُمير عن أبي هريرة مرفوعًا: «يدخل فقراء أمتي
قبل أغنيائهم بنصف يوم؛ خمسمائة عام، قال: ويدخلون جميعًا على صورة آدم صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قلت: يا رسول الله، وما كانت صورته؟ قال: كان اثنا عشر
ذراعًا طولًا في السماء، وستًا عرضًا، قلت: يا رسول الله بأي ذراع؟ قال: الذراع
كطول الرجل الطويل منكم» قال: لم يروه عن الجُريري إلا عدي تفرد به أسد بن موسى.
(1/71)
وفي
كتاب «البعث والنشور» للبيهقي من حديث الجريري ولفظه: «على خلق آدم ثمانية عشر
ذراعًا في سبعة، قال شمير: وما ذاك الذراع؟ قال: كأطولكم رجلًا»، وبعضهم يقول:
شُتير -بالتاء- بن نهار، وقال البيهقي: ورواية: «ستين ذراعًا أصح» انتهى. ويمكن أن
نخرج قوله على وجه صحيح، وذلك أنا نجعل طول الرجل خمسة أذرع بذراعنا اليوم، فيكون
ستين ذراعًا، وعلى رواية الثمانية عشر يكون بالنسبة إلى طول الشخص وقصره، وعند
البيهقي بسند لا بأس به من حديث المقدام مرفوعًا: «ما من أحدٍ يموت سقطًا ولا
هرمًا ولا غيره إلا بعث ابن ثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم
وصورة يوسف وقلب أيوب صلى الله عليهم وسلم»، وأما الحور فأصناف صغار وكبار على ما
اشتهته أنفس أهل الجنة، قال أبو عبد الله القرطبي، روي أن سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وصف حوراء رآها ليلة الإسراء: «كأن جبينها الهلال، طولها ألف
وثلاثون ذراعًا، في رأسها مائة ضفيرة، ما بين الضفيرة والضفيرة [أ/213]
سبعون ألف ذؤابة. وفي رواية ابن عباس: «الحوراء تلبس سبعون ألف حلة مثل شقائق
النعمان، إذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من
المسك لكل ذؤابة وصيفة ترفع ذيلها». وروي: أن الآدميات مع هذا كله أفضل منهن
بسبعين ألف ضعف.
قوله في الحديث: (لَيْلَة البَدْرِ): يريد ليلة أربع عشرة، وسميت بذلك؛ لأن القمر
يبادر طلوعه غروب الشمس، وقيل: لامتلاء القمر وحسنه وكماله، ومنه قولهم: عين بدرة،
إذا كانت ممتلئة جيدة. قال امرؤ القيس:
وعينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ شقَّتْ مآقِيهِما مِنْ أُخُرْ
وإنما لا يبصقون وشبهه؛ لأن أغذيتهم في الجنة في غاية اللطافة والاعتدال ليست بذي
فضلة تستقذر، بل تستطاب وتستلذ.
(1/72)
والمجامر
والمباخر والأَلوَّة: فارسي معرب؛ قال ابن التين بفتح الهمزة وضمها، وقيل: بكسرها،
وتخفف وتشدد، وعند الهروي؛ قال بعضهم: لوَّه، وليَّه، وهو الند، فإن قيل: أي حاجة
لهم في البخور والامتشاط؛ لعدم تلبد شعرهم وطيب ريحهم؟ فيجاب: بأن نعيم أهل الجنة،
وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، وكذا أكلهم ليس عن جوع ولا شربهم عن ظمأ، إنما هي
لذات متوالية ونعم متتابعة قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
تَعْرَى وأنَّك لا تظمأ فيها ولا تضحى} [طه: 118]. والحكمة في ذلك أن الله جل وعز
نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم عليه ما لا يعلمه إلا
الله جل وعز، قال محي الدين: مذهب أهل السنة وعامة المسلمين [213/ب]
أن أهل الجنة يأكلون منها، ويشربون ويتنعمون بذلك وبغيره من ملاذها تنعمًا دائمًا
لا نفاد له.
وقوله: (زَوْجَتَانِ) كذا هو في الروايات بالتاء، وهو لغة متكررة في الأحاديث
وكلام العرب، والأشهر حذفها، ولقد كان الأصمعي ينكر دخول التاء، فذكر له قول ذي
الرُّمة:
أذو زوجة في المصر أم ذو قرابة فأنت لها بالبصرة العام ثاويا
فقال: إن ذا الرُّمَّة طالما أكل الفجل في دكان البقالين، فقيل له فقد قال الفرزدق
همام بن غالب:
وإِنَّ الذي يَسْعَى ليُفْسِدَ زَوْجَتِي كسَاعٍ إِلى أُسْدِ الشَّرَى
يَسْتَبِيلُها
فلم يحر جوابًا. قال أبو حاتم: وقد قرأنا عليه قبل هذا لأفصح العرب وهو أبو ذؤيب:
تبكي بناتي شجوهن وزوجتي والطامعون إلي ثم تصدعوا
ولم ينكره، وأنشد أبو حاتم:
زَوْجة أَشْمَطَ مَرْهوبٍ بَوادِرُه قد صار في رأْسه التَّخْويصُ والقَزَعُ
وقال آخر: من منزلي قد أخرجتني زوجتي، وقال آخر:
يا صاحِ بَلِّغ ذَوِي الزَّوْجاتِ كُلَّهُمُ أَنْ ليس وصْلٌ إِذا استرخت عُرا
الذَّنَبِ
(1/73)
وقوله:
(ويُسَبِّحُونَ الله بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي: قدرهما، قال القرطبي: وهو ليس عن
تكليف وإلزام؛ لأن الجنة ليست بمحل ذلك، وإنما هو إلهام كما هو في الرواية الأخرى:
«يُلهَمُون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفَس»، وذلك أن تنفس الإنسان لابُدَّ
له منه ولا كلفة عليه ولا مشقة [214/أ]
في فعله، وسر ذلك أن قلوبهم تنورت بالمعرفة وأبصارهم بالرؤية، ومن أحب شيئًا أكثر
من ذكره.
وقوله: (وَالَّذِينَ يلونهم كأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً) قال القرطبي: معناه أن
أبدان أهل الجنة متفاوتة بحسب درجاتهم.
قال البخاري: وقال مجاهد: الإبكار: أول الفجر والعشيُّ ميل الشمس، هذا التعليق
ذكره الطبري عن محمد بن عمرو حدثنا أبو علقم، حدثنا عيسى، وحدثنا مثنى، حدثنا أبو
حذيفة، حدثنا شبل: قالا: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال أبو جعفر: الإبكار:
مصدر من قول القائل أبكر فلان في حاجته يبكر إبكارًا، وذلك [6] إذا خرج فيها من
بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى فذلك إبكار، يقال منه: قد أبكر فلان وبكر يبكر
بكورًا، قال ابن أبي ربيعة:
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِرُ ... غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ
ومن البكور قول جرير: ألا بكرت سلمى فجدَّ بكورها وشق العصا بعد اجتماع أميرها
ويقال من ذلك بكر النحل يبكر بكورًا، وأبكر، مثل إبكارًا، والباكورة من الفواكه:
أولها إدراكًا، والعشي من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق.
(1/74)
3247 - (حَدَّثَنَا الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: لَيَدْخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ، عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) [214/ب] هذا الحديث من أفراد البخاري، وعند الإسماعيلي: <وجُوهُهُمْ عَلَى ضُوء القَمَرِ> وعنده أيضًا: <سَبْعُونَ أَلْفًا، أو سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ بغير حساب>، وعند الحميدي: <سَبْعُونَ أَلْفًا، وسَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، سماطين آخذ بعضهم ببعض>، وقال ابن التين: هو شكٌّ من الراوي، وفي رواية: «هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، وهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب» [ح: 6541]. وعند مسلم: عن عمران بن الحصين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب»، وفيه: «فقال عكاشة: يا رسول ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم ... »
(1/75)
الحديث، وأما قول أبي عبدالله الحسين ابن خالويه في كتاب «ليس»، وعكاشة صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ والعامة يخففونه، وإنما هو مشدد، وذلك أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يجعله معه في الجنة، فدعا له، فقام آخر، فسأله، فقال: «سبقك بها عُكَّاشة»، فغير جيد، بينا ذلك في كتابنا «الميس إلى كتاب ليس» والصواب ما أسلفناه من عند مسلم وغيره، وعند الترمذي عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا، وثلاث حَثَيَات من حَثَيَات ربي جلَّ وعزَّ» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وعند البزار من حديث أنس بلفظ: «مع كل واحد من السبعين ألفًا، سبعون ألفًا». وعند الحكيم الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن الله جل وعز أعطاني سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عمر: فهلا استزدته؟ قال: قد استزدته فأعطاني مع كل واحد من السبعين الألف سبعون ألفًا قال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته؟ قال: قد استزدته فأعطاني هكذا». [خ 3247] قال أبو وهب راويه عن هشام، وفتح يديه قال هشام: وهذا من الله لا يدري ما عدده. وعند البيهقي في «البعث والنشور» من حديث عتبة بن عبد السلمي يرفعه: «إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، ويشفع كل ألف لسبعين ألفًا، ثم يحثي له بكفه ثلاث حثيات، فكبر عمر، وقال: إن السبعين الألف الأولين شفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر». وروينا في «الحلية» من حديث قتادة عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «وعدني ربي أن يُدخل من أمتي الجنة مائة ألف، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو استزدته، قال: وهكذا، وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك.
(1/76)
قالوا: يا رسول الله، زدنا. فقال عمر: إن الله قادر أن يدخل الخلق كلهم الجنة بحثية واحدة، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: صدق عمر»، قال: هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس تفرد به عن [216/ب] قتادة أبو هلال محمد بن سليم الراسبي وهو ثقة. وروينا في كتاب «الشفاعة» للقاضي إسماعيل عن أحمد بن منصور حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أنسٍ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف فقال أبو بكر: زدنا، فقال: وهكذا، فقال عمر: حسبك يا أبا بكر، فقال: دعني يا عمر، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا؟ قال عمر: إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بحفنة واحدة، فقال النبي: صدق عمر». وحدثنا ابن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بكير بن عمير، عن أبيه يرفعه: «إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي ثلاثمائة ألف، قال عمير: يا رسول الله زدنا، قال: وهكذا بيده، فقال عمر بن الخطاب: حسبك يا عمير». [ ... ] ابن مثنى، هكذا حدثنا معاذ من كتابه [ ... ] من مكة، أبا بكر بن أنس عن أبي بكير بن عمير عن أبيه وحدثنا حجاج حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن أبي يزيد الحربي عن عمرو بن عمير يرفعه: «وعدني الله أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفًا بغير حساب قالوا: من هم؟ قال: الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون، وإني سألته أن يزيدني، قال: وإن لك بكل رجل من السبعين ألفًا سبعون ألفًا»، فقلت: إذًا لا يكملوا ذلك فقال: أكملهم من الأعراب. ثم ساق من حديث حميد، عن أنس مرفوعًا: «يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا»، قالوا: يا رسول الله زدنا، قال: «لكل واحد سبعون ألفًا»، قالوا: يا رسول الله زدنا. قال: «لكل واحد سبعون ألفًا»، قالوا: يا رسول الله زدنا، فملأ كفيه من الرمل، قال: «وعدد هذا»، فقالوا: زدنا.
(1/77)
فقال أبو بكر وعمر: أبعد الله من دخل النار بعد هذا. قال الحكيم وعن نافع أن أم قيس حدثته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خرج آخذًا بيدها حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد فقال: «يبعث من هذِه سبعون ألفًا يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب، فقام رجل فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام آخر فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عُكَّاشة»، قال الترمذي: هذا من مقبرة واحدة، فما ظنك بجميع مقابر أمته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وذكر ابن خالويه في كتاب «ليس» أن سيدنا إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: يحشر من بانقيا سبعون ألف شهيد. وروينا في «تاريخ الرقة» للقشيري: حدثني الميموني، حدثنا أبي، سمعت عمي، عن عمرو بن ميمون، وكان بالكوفة، بلغني أنه يحشر من ظهرها سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب، فأحببت أن أموت بها، فمات ودفناه بها. وقال [217/أ] أبو بكر الكلاباذي: حدثنا أحمد بن سهل، حدثنا علي بن موسى القمي، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن مصعب القَرْقَساني، حدثنا الحكم بن عطية عن أبي سنان عن عبد العزيز اليمامي، عن عائشة، قالت: «فقدت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذات ليلة، فاتبعته فإذا هو في مشرُبة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قضى صلاته قال: من هذِه؟، قلت: عائشة، فقال: هل رأيت الأنوار؟، قلت: نعم.
(1/78)
قال: إنَّ آتٍ أتاني من ربي جلَّ وعزَّ فبشرني أن الله جلَّ وعزَّ يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثاني آتٍ من ربي فبشرني أن الله جل وعز يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثالث آتٍ من ربي فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثالث آت من ربي جل وعز فبشرني أن الله جل وعز يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفًا المضاعفة سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، فقلت: يا رب، لا تبلغ هذا أمتي. قال: يُكمَّلون لك من الأعراب ممن لا يصوم ولا يصلي»، قال الكلاباذي: اختلف الناس في الأمة من هم؟ فقال قوم: أهل الملة، وقال آخرون: كل مبعوث إليه ولزمته الحجة بالدعوة، ويجوز أن تكون الأمة كل مبعوث إليه، ولكن تختلف أحوالهم، فمنهم من بعث إليه ودعي فلم يجب كأهل الأديان من أهل الكتاب وسائر المشركين، فهؤلاء لا يدخلون الجنة أبدًا، ومنهم من دعي فأجاب ولم يتبع من جهة استعمال ما لزمه بالإجابة، فهو مؤمن بإجابته إلى ما دعي إليه من التوحيد والرسالة، وإن لم يستعمل ما أمر به تشاغلًا عنه وخلاعة وفجورًا، فهؤلاء من أمة الدعوة والإجابة، وليسوا من أمة الاتباع، ومنهم من أجاب إلى ما دعي واستعمل ما أُمر به، فهذا من أمة الدعوة والإجابة [217/ب] والاتباع، فيجوز أن يكون هؤلاء الأعراب من أمة محمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من طريق الإجابة له إيمانًا بالله ورسوله وبما جاء به ولم يستعملوا ما جاء به، فهؤلاء ليسوا من أمته على معنى الاتباع؛ لأنهم لم يتبعوه ولم يسلكوا طريقه.
(1/79)
فمعنى: «يكمَّلون لك من الأعراب» أي: من آمن بك ولم يتبعك استعمالًا لما جئت به؛ لأن قوله: «لا تبلغ هذا أمتي» وقوله: «يكملون لك من الأعراب» يشير إلى أن هؤلاء الأعراب ليسوا من أمته، فيجوز أن يكون ذلك على معنى ما قلناه. ومعنى قوله: «لا تبلُغُ هَذَا أُمَّتي»: يعني من اتبعني وآمن بي، فكأنه يقول: لا يبلغ هذا العدد من اتبعني استعمالًا لما جئت به، وهذا كالحديث الذي حدثنا الحسين بن علي العطار، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد شك الأعمش، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اشهدوا ألا إنه إلا الله وأني رسول الله، من لقي الله بها غير شاك لم يحجب عن الجنة»، وذكر الشيخ أبو العباس أحمد بن القسطلاني في «كتاب جمع فيه أخبار مشايخ لقيهم»: سمعت الشيخ أبا الربيع: كان الشيخ أبو الحكم يتكلم يومًا في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] واستطرد إلى حديث الشفاعة الذي يقول منه: «وأعطيت هكذا وهكذا يمينًا وشمالًا ووراءً عن يمينه وشماله، وحثا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن يمينه وشماله وورائه، فقال أبو بكر: يا رسول الله، يكفينا، فقال عمر: يا أبا بكر، دع النبي يبشرنا، فقال أبو بكر: يا عمر، إنما نحن حثية من حثيات ربنا، قال: فكان أبو بكر أنبه الرجلين؛ لأنه علم أنه إحراج [6] فخاف التطويل؛ فقال: يكفينا».
(1/80)
قال
الشيخ أبو الحكم: وأقول أنا: ما استثناها إلا لعليمة تقتضيها لم يطلع عليها اللوح
ولا القلم، يعني: الاستثناء في [218/أ] 3248 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ
حَدَّثَنا أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ جُبَّةُ سُنْدُسٍ وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ
مِنْهَا فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا). [خ 3248]
(قال: وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ
أَهْدَى للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
هذا التعليق رواه الإسماعيلي مسندًا، فقال: رواه سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لبسها، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، قال الإسماعيلي:
وسعيد أثبت في قتادة وأضبط من شيبان، لا سيما إذا رواه عنه الثقات، وذكروا عنه
الخبر، وهو أشبه؛ لأنه لا ينهى عنه وهو يلبسه إلا أن يبين أنه مخصوص به، ثم ذكر
سنده إلى يزيد ابن زريع عن سعيد، حدثنا أنس: «أن أكيدر أهدى لرسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جبة من سندس قبل أن ينهى عن لبس الحرير، فلبسها ... »
الحديث. وفي رواية: «وذلك قبل أن يُحرَّمَ الحرير»، وفي حديث البراء عند البخاري:
(أُتيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بثوب من حرير ... ) الحديث [ح: 3249].
3250 - وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ تقدم في الجهاد [ح: 2892]. [خ 3250]
3251 - وكذا حديث أنس. [خ 3251]
(1/81)
3253
- وحدثه عبدالرحمن بن أبي عميرة عن أبي هريرة وفيه: (وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ
فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ)، وقد ذكر
الطرْقي أن هذا من زيادة ابن أبي عَميرة في الحديث انتهى. وهذا مما يزاد على
الخطيب في كتابه. وعند ابن المبارك عن ابن أبي خالد، عن زياد مولى بني مخزوم، سمع
أبا هريرة يقول: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلِّها مائة عام»، فبلغ ذلك
كعبًا، فقال: صدق والذي أنزل الفرقان على لسان محمد، لو أن [218/ب] رجلًا ركب
حقَّة أو جذْعَة، ثم سار في أصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرمًا، إن الله
تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصلها، وفي
لفظ: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين»، أو قال: «مائة سنة»، وهي:
شجرة الخلد. [خ 3253]
وعند الترمذي عن أسماء سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وذكر سدرة المنتهى
قال: «يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب»، شكيحيى،
وقال: حسن صحيح، وعند أبي عمر بسند صحيح عن عتبة بن عبد السلمي يرفعه: «شجرة طوبى
تشبه الجوزة، قال رجل: يا رسول الله ما عظم أصلها؟ قال: لو رحلت جذعة ما أحطت
بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا»، وعند ابن وهب من حديث شهر بن حوشب، عن أبي أمامة
قال: «طوبى شجرة في الجنة ليس فيها دار إلا وفيها غصن منها, ولا طعم حسن ولا ثمرة
إلا وهو فيها»، قال القرطبي: معنى ظلها: نعيمها، وراحتها، من قولهم: عز ظليل، وقيل
معنى ظلها: ذراها وناحيتها وكنفها، كما يقال: أنا في ظلك أي في كنفك، وإنما أحوج
هذا التأويل لأن الظل المتعارف عندنا إنما هو وقاية حر الشمس وأذاها وليس في الجنة
شمس، وإنما هي أنوار متوالية، لا حر فيها ولا قر، بل لذات متوالية ونعم متتابعة.
3255 - حديث البراء تقدم في الجنائز [ح: 1382]. [خ 3255]
(1/82)
3256
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ
الْجَنَّةِ ليَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ
الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابر في أفق السماء)، وفي لفظ: <الْغَابِرَ فِي
الْأُفُقِ بين الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ>،
قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ [219/أ] الْأَنْبِيَاءِ لَا
يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ
آمَنُوا بِاللهِ جلَّ وعزَّ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ). [خ 3256]
قال أبو عبد الله: محمد بن يحيى هذا حديث محفوظ غريب من رواية مالك، ورواه فليح،
عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ولست أدفع حديث فليح أن يكون عطاء قد حفظه عنهما، وعند الثعلبي زيادة من
حديث أبي سعيد: «وأن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما»، وعند مسلم حديث سهل بن سعد مثله،
زاد الحكيم أبو عبد الله عن صالح بن محمد حدثنا سليمان بن عمر عن أبي حازم عن سهل
بن سعد يرفعه: «في قوله جل وعز: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:
75]، قال: الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء، أو درة بيضاء، ليس فيها فصم
ولا وصل، وإن أهل الجنة ليتراءون ... » الحديث، وفيه: «وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما».
(1/83)
قال: وحدثنا صالح بن عبدالله وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن ابن مسعود يرفعه: «المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حُسنهم لأهل الجنة، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا»، وعند الترمذي عن علي يرفعه: () إن في الجنة لغرفًا يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام»، وخرجه أيضًا صاحب «الحلية» أيضًا من حديث جابر، وعند البيهقي في كتاب: «البعث والنشور» من حديث إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا قرة بن حبيب بن فرقد عن الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة، سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة: 72] قال: [219/ب] «قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء، في كل بيتٍ سريرٌ، على كل سرير سبعون فراشًا، على كل فراش زوجة من الحور، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونًا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة ... » الحديث، وهو يوضح لك أن الغرف مختلفة في العلو والصفة، وذلك بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال.
(1/84)
وقوله:
(الْغَابِرَ): يروى بالياء، اسم فاعل من غار، وروي: «الغارِب» بتقديم الراء
والمعنى واحد، وروي: (الغَابِر) -بباء موحدة- ومعناه: الذاهب أو الباقي؛ لأن غَبَر
من الأضداد، يريد أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه يبعد عن الأبصار فيظهر صغيرًا
لبعده، وقد بينه بقوله: (بين المَشْرِقِ أو الْمَغْرِبِ) وروي: «العازب» -بعين
مهملة وزاي- ومعناه: البعيد، وروي: «العَايِر» ذكره ابن الحذاء، قال أبو زكريا:
عامة نسخ مسلم: «من الأفق»، وقال القاضي: لفظه: «مِن» هنا لابتداء الغاية، وفي
البخاري: (فِي الأفُقِ)، قال: وقال بعضهم: هو الصواب، قال القرطبي: لم يروَ في
مسلم إلا بـ «مِن»، ورواه البخاري (فِي) وهي أوضح، قال ابن التين: إنما تغور
الطوالع في المغرب خاصة فكيف ذكر المشرق. و (الأفقِ): ناحية السماء، وهو واحد
الآفاق.
و (الدُّريَّ): فيه لغات، الأول وهو الأكثر ضم الدال، وتشديد الياء بغير همز، قال
الكسائي: شبه بالدُّرِّ. الثاني: بضم الدال مهموز ممدود. الثالث: بكسر الدال مهموز
ممدود، قال عياض وغيره: من همزه أخذه من درا؛ أي دفع لاندفاعه وخروجه عند طلوعه،
ومن لم يهمز نسبه كما قال الكسائي وشبه الكوكب بالدُّرِّ لكونه أرفع من باقي
النجوم كما أن الدر [220/أ] أرفع الجواهر.
(1/85)
قوله:
(بَلَى)، قال القرطبي: كذا وقع هذا الحرف، بلى التي أصلها: حرف جواب وتصديق، وليس
هذا موضعها لأنهم لم يستفهموا وإنما أخبروا أن تلك المنازل للأنبياء صلوات الله عليهم
وسلامه لا لغيرهم، فجواب هذا يقتضي أن يكون (بَل) التي هي للإضراب عن الأول،
وإيجاب المعنى للثاني فكأنه تسومح فيها، فوضعت (بَلَى) موضع (بَل). و (رِجَالٌ)
مرفوع بالابتداء المحذوف، تقديره هم رجال، وعند أبي ذر <بل>، وفيه أيضًا
تَوسُّع أي: تلك المنازل منازل رجال (آمَنُوا بِاللهِ)، أي: حق إيمانه
(وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ)، أي: حق تصديقهم، وإلَّا فكل من يدخل الجنة آمن
بالله، وصدق رسله. انتهى. لقائل أن يقول: هذه الغُرَف لأمة محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ جميعهم، والذين ينظرونهم من أسفل هم بقية الأمم، قال الداودي: يعني
أنهم يبلغون هذه المنازل التي وصفت، وأن منازل الأنبياء فوق ذلك.
(باب صِفَةِ أَبوَابِ الجَنَّةِ)
(وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الجَنَّةِ)، هذا التعليق ذكره البخاري مسندًا عن أبي هريرة وقد
تقدم في الصيام [ح: 1897]، قال البخاري: (فيه عُبادة، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ).
حديث عبادة وهو ابن الصامت هذا رويناه في معجم أبي القاسم من طريق أبي سلام عن أبي
أمامة عنه ولفظه: «وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله
به الهم والغم».
3257 - وذكر البخاري حديث سهل بن سعد: (فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ)، وقد
تقدم في الصيام [ح: 1896] كم باب للجنة أدخلناها الله تعالى في خير وعافية آمين
[220/ب] وعند أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش في كتابه «فضائل
عاشوراء» في حديث مرفوع عن ابن عباس: «أن لله جل وعز ثمانِ جِنَان ... » الحديث.
[خ 3257]
(1/86)
3257
- وذكر البخاري حديث سهل بن سعد: (فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ)، وقد تقدم
في الصيام [ح: 1896] كم باب للجنة أدخلناها الله تعالى في خير وعافية آمين [220/ب]
وعند أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش في كتابه «فضائل عاشوراء» في
حديث مرفوع عن ابن عباس: «أن لله جل وعز ثمانِ جِنَان ... » الحديث. [خ 3257]
بَاب صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ
(وَقَالَ عِكْرِمَةُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ}: [الأنبياء: 98] حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ)
هذا التعليق ذكره ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن
عبدالملك بن أبجر، سمعت عكرمة. (وَقَال ابنُ عَبَّاسٍ: سِرَاطُ الجَحِيمِ}
[الصافات: 23]: سَوَاءُ الجَحِيمِ)، قال الطبري: حدثنا علي، حدثنا أبو صالح، حدثني
معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس: «في قوله في سواء الجحيم: يقول: في وسط الجحيم»،
قال وبه عن ابن عباس: «قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:
23]، يقول: وجهوهم»، فينظر في الذي علقه البخاري أتداخل عليه التفسيران أم لا؟.
وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي: ثور عن خالد بن معدان، عن معاذ: () سُئل
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: من أين يجاء بجهنم؟ قال: يجاء بها يوم
القيامة من الأرض السابعة لها سبعون ألف زمام ... » الحديث.
قال: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] تُوقَدُ بِهِم النَّارُ).
هذا التعليق رواه عبد عن روح، عن شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به.
3258 - 3259 - 3260 - الأحاديث التي بعده تقدم ذكرها في كتاب الصلاة [ح: 535 و 538
و 537]. [خ 3258 - 3259 - 3260]
(1/87)
3261
- (حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنا
هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ ابنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ،
وأَخَذَتْنِي الحُمَّى، فَقَالَ: أَبْرِدْهَا عَنْكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ
فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ. شَكَّ هَمَّامٌ). انتهى، روينا
في كتاب «الطب» لأبي نعيم الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن علي بن حسن، حدثنا أبو
شعيب الحراني، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام فذكره من غير شك ولا تردد وكذا هو
[221/أ]
في صحيح الرجال، ورواه أبو نعيم أيضًا من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان به
ولم يشك. ومن حديث أبي عبيدة بن حذيفة عن عمته فاطمة قالت: «عدتُّ رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقد حُمَّ، فأمر بسقاء، فعلق على شجرة، ثم اضجع تحته
فجعل يقطر الماء على فؤاده، فقلت: ادع الله يكشف عنك، قال: إنَّ أشد الناس بلاء
الأنبياء ثم الذين يلونهم». [خ 3261]
وعن طارق بن شهاب سمعت أنسًا به، يقول: «قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: ائتيني في وجه الصبح بماءٍ أصبه عليَّ، لعلي أجد خُفًّا، فأخرج إلى
الصلاة في الأصل: «أمن»، ولكن في الطب النبوي، 2/ 575 - 576 (606) كما أثبتت.».
3263 - 3262 - وفي كتاب البخاري عن عائشة يرفعه: (الحُمَّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ،
فَأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ)، وفي حديث رافع بن خديج: (الحُمَّى مِن فَوْرِ
جَهَنَّمَ). [خ 3263 - 3262]
وفي لفظ: «مِن فَوْحِ جَهَنَّمَ» عند البخاري [ح: 5726].
(1/88)
3264
- وفي حديث ابن عمر: «فَأطفِئُوهَا بالماءِ، قَالَ نافعٌ: وكانَ عبدُالله يقول:
اكْشِفْ عنِّي الرِّجْز» [ح: 5723]، وفي حديث أسماء: «كانَ رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يأمرنا أن نبرُدَها بالماء، وكانت إذا أُتيت بالمرأة قد حُمَّت أخذت
الماء فصبته بينها وبين جنبها» [ح: 5724]، قال أبو عمر: من فعل هذا وكان معه يقين
صادق رجوت له الشفاء، وفي خبر الأنصاري حدثنا إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن، عن
سمُرة أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «الحمى قطعة من النار فأبردوها
عنكم بالماء البارد»، «و كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا حُمَّ دعا
بقُربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل»، وصححه الحاكم، وعند ابن ماجه من طريق
الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: «الحمى كير من كير جهنم، فنحُّوها عنكم
بالماء البارد»، وعند الطحاوي بسند جيد عن أنس يرفعه: «إذا حُمَّ أحدكم [221/ب]
فليسُنَّ عليه الماء البارد من السَّحر ثلاثًا» وصححه الحاكم، وعند قاسم بن أصبغ
بسند لا بأس به عن أم خالد بنت سعيد: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يأمرنا إذا حُمَّ الزبير أن نَبرُد له الماء، ثم نصبه عليه». [خ 3264]
قوله: (فَابرُدُوهَا) -بهمزة وصل وراء مضمومة- هو الصواب من قولهم: برد الماء
حرارة جوفي مبردها، ذكره ثعلب، وذكر ابن التياني أن في «مختصر الجمهرة»: بردت
الشيء برَّدته -بالتشديد- وجاء في الشعر أبردته: صيرته باردًا، وفي «الكتاب
الواعي»: زعم بعض أهل العربية أنك تقول: بردت الماء من الإبراد وبردته من الإسخان،
قال: وهو من الأضداد، وزعم ابن سِيْده في «المخصص» أن هذا القول قاله قُطْرب ورُد
عليه، وقال عياض: يقال أيضًا بهمزة قطع وراء مكسورة، قال الجوهري: وهي لغة رديئة،
قال ابن التين: هو بخلاف: «أبْرِدُوا عَنِ الصَّلاة» [ح: 533]؛ لأن معنى ذاك:
ادخلوا في وقت الإبراد مثل أظلم: دخل في الظلام.
(1/89)
وقوله: (فَأطفِئُوهَا): هو مهموز رباعي، قال ابن العربي: فإن قيل: فنحن نجد علماء الطب يمنعون اغتسال المحموم، ويقولون لا يجوز مقابلة الأشياء بضدها بغتة، والنبي لا يقول إلا حقًّا، وقد ذكر عن بعض من ينسب إلى العلم أنه حُمَّ فاغتسل، فاختنقت الحرارة في بدنه، فزاد مرضه، وأخرجه ذلك إلى التكذيب بالحديث، والجواب أن النبي إنما خاطب بهذا قومًا كانوا يعتادون مثل هذا في تلك الأرض، قال القرطبي: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بقوله: استعمال المحموم الاغتسال بالماء خطٌر مقربٌ من الهلاك؛ [222/أ] لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة لداخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف، قال وجوابه: أن هذا صدر عن مرتاب في صدق نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فيقال له: تفَهَّم مراده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من هذا الكلام، فإنه لم ينص على كيفية تبريد الحمى بالماء، وإنما أرشد إلى تبريدها به مطلقًا، فإن أظهر الوجود أو صناعة الطب أن غمس المحموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو الذي قصده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع، فيبحث عن ذلك الوجه، وتجرب الوجوه التي لا ضرر فيها، فإنه سيظهر نفعه قطعًا، قال: وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل، فإنه وإن كان قد أمره أن يغتسل مطلقًا، فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده بل بعضه، وإذا تقرر هذا: فلا يبعد أن مقصوده أن يرش على بعض جسد المحموم، أو يفعل كما ذكرنا عن أسماء، فيكون من باب النشرة الجائزة، قال: ولئن سلمنا أنه أراد جميع جسد المحموم، فيجاب بأنه يحتمل أن يريد بذلك بعد إقلاع الحمى عنه، وفي وقت مخصوص وبعدد مخصوص، فيكون ذلك من باب الخواص التي اطلع عليها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كما روي أن رجلًا شكى إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الحمى، فقال: «اغتسل ثلًاثا قبل طلوع الشمس، وقل: بسم الله اذهبي يا أم
(1/90)
ملدم،
فإن لم تذهب فاغتسل سبعًا» انتهى. كأن الشيخ لم ير ما أسلفناه في حديث سمرة وفاطمة
وما يأتي في حديث ثوبان قال: وقد يكون ذلك من باب الطب، فإن الأطباء سلموا أن
الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة حتى يعالجوه وبسقي الثلج،
ويغسل أطرافه [222/ب]
بالماء البارد، فعلى هذا لا يبعد أن يكون هذا المقصود بالحديث؛ لأجل الحميات
المتولدة عن البلغم، وذكر أبو سليمان بن الأنباري كان يقول: معناه: تصدقوا بالماء
عن المريض، يشفيه الله جل وعز؛ لما روي أن: «أفضل الصدقة سقي الماء». انتهى.
(1/91)
لقائل أن يقول: الخطاب لقوم معتادين مثل هذا في مثل تلك البلاد، وقد علم أنهم يستشفون بأشياء لا توافق غيرهم، ولو استشهد بما روي: «داووا مرضاكم بالصدقة» لكان أقرب إلى الصواب، ومن المعلوم أن الطب منه قياسي كما ذهب إليه اليونانيون، ومنه تجريبي وهو طريق العرب ومن جانسهم، ومنه إلهام وشبهة، ومنه توقيفي، وأما ابن حبَّان فذهب في ذلك إلى الإبراد بماء زمزم لا غيره. وحديث أسماء وسمرة وفاطمة يرد قوله؛ لأن هذا إنما كان بالمدينة، ولا زمزم هناك، والصحابة أعرف بمقصوده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقد روى الترمذي حديثًا استغربه؛ لأن في سنده رجلًا اسمه سعيد غير منسوب، فلم يعرفه، فعرفه البخاري وابن حبان لما ذكره في «كتاب الثقات» وسميا أباه زرعة، فصح سنده بهذا عن ثوبان، يرد ما ذكره القرطبي، ويبين أنه أراد غسل الجسد كله أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إذا أصاب أحدكم الحمى، وهي قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار، وليستقبل جريته ويقول: بسم الله، اللَّهمَّ اشف عبدك وصَدِّق رسولك، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد [223/أ] تجاوز تسعًا بإذن الله جلَّ وعزَّ»، ورؤي عبادة بن الصامت يبكي على سور بيت المقدس الشرقي، فقيل: ما يبكيك؟ قال: من هنا أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه رأى جهنم، وفي لفظ: «هذا وادي جهنم»، وفي لفظ: من هنا حدثنا أنه رأى ملكًا يُقَلِّبُ جمرًا كالقِطْفِ وسنده في «فضائل القدس» لأبي بكر الواسطي لا بأس به، ويأتي لهذا تكملة في الطب.
(1/92)
3265
- (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: (نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ
سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَتْ
لَكَافِيَةً، قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا،
كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا). [خ 3265]
عند ابن ماجه عن أنس يرفعه: «ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، ولولا أنها
أطفيت بالماء مرتين ما انتفعتم بها، وإنها لتدعو الله جل وعز أن لا يعيدها فيها»،
وذكره ابن عيينة في «جامعه» من حديث أبي هريرة بنحوه، وعن ابن عباس فيما ذكره ابن
عبد البر: «هذِه النار قد ضرب بها البحر سبع مرات، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد»،
وعن ابن مسعود: «ضُربَ بها البحر عشر مرات»، و «سُئل ابن عباس أيضًا عن نار
الدنيا: مم خلقت؟ قال: من نار جهنم، غير أنها طُفئت بالماء سبعين مرة، ولولا ذلك
ما قُرِبت؛ لأنها من نار جهنم».
وعند الترمذي عن أبي سعيد يرفعه: «ناركم هذِه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم لكل
جزء منها حرها»، قال القرطبي: يعني أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي
يوقدها الآدميون، لكانت جزءًا من أجزاء جهنم، المذكورة ببابه: لو جمع حطب [223/ب]
الدنيا وأوقد كله حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من
سبعين جزءًا أشد منه.
(1/93)
وقولهم: (إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً) (إِنْ) في هذا الموضع مخففة من الثقيلة عند البصريين، وهذه اللام هي المفرقة بين: (إنْ) النافية والمخففة من الثقيلة، وهي عند الكوفيين بمعنى مَا، و (اللام) بمعنى إلا، تقديره عندهم: ما كانت إلا كافية، وعند البصريين: إنها كانت كافية، فأجابهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بأنها كما (فُضِّلَتْ عَلَيهَا) في المقدار والعدد بـ (تِسْعَة وسِتِّينَ جُزءًا)، فضلت عليها في الحر بتسعة وستين ضعفًا. روى ابن المبارك، عن معمر، عن محمد، عن ابن المنكدر قال: لما خلقت النار فزعت الملائكة عليهم الصلاة والسلام وطارت أفئدتهم، فلما خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سكن ذلك عنهم. وقال ميمون بن مهران: لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة فلم يبق في السموات السبع ملك إلاَّ خرَّ على وجهه، فقال لهم الربُّ: ارفعوا رءوسكم، أما علمتم أني خلقتكم للطاعة، وهذِه خلقتها لأهل المعصية؟ فقالوا: ربنا لا نأمنها حتى نرى أهلها، فذلك قوله جل وعز: {هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57].
(1/94)
وعند
الترمذي عن عائشة رضي الله عنها صحيحًا: «سألت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عن قوله جَلَّ عزَّ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
[الزمر: 67] قلت: فأين الناس يومئذٍ؟ قال: على جسر جهنم»، وعن عبد الله بن عمرو
يرفعه: «إنَّ تحت البحر نارًا»، قال عبد الله: البحر طبق جهنم. ذكره أبو عمر
وضعفه، وفي «تفسير ابن النقيب»: في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} [إبراهيم:
48] تجعل الأرض جهنم، وتجعل السموات الجنة. وعند الترمذي: «أُوقِد على النارِ ألف
سنة حتى ابيضَّت [224/أ] ثم أُوقِد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة».
زاد ابن المبارك: «وألف سنة حتى احمرَّت»، وعن سليمان: لا يفنى لهيبها ولا جمرها،
ثم قرأ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}
وفي «البعث والنشور» بسند فيه رجل غير مسمى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى قال النبي:
«البحر هو جهنم»، وسماه أبو عاصم في رواية محمد بن حيي، ومن حديث العرزمي عن سلمة
عن أبي في الأصل: إضافة: «و»، وليست موجودة في الآية الكريمة.
الزعراء، قال عبد الله: الجنة في السماء السابعة، والنار في الأرض السابعة.
3266 - حديث يعلى: يأتي في التفسير [ح: 4819]. [خ 3266]
(1/95)
3267 - (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ بن عبدالله، حَدَّثَنا سُفْيَانُ حدثنا الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ: لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. قال البخاري: رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ). [خ 3267]
(1/96)
هذا التعليق رواه البخاري في الفتن عن بشر بن خالد عن غندر، ورواه عن الأعمش أيضًا عند مسلم: أبو معاوية وجرير، قال المهلب: الرجل المبهم هنا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأراد أن يكلمه في شأن أخيه لأمه؛ الوليد بن عقبة، لما شُهِدَ عليه بما شُهِدَ، فقيل لأسامة ذلك [224/ب] لكونه كان من خواص عثمان، وفي نسخة: <لا أكلمه إلا بسمعكم>. وفي أخرى: <إلا سمعكم>، قال محي الدين: وكله بمعنى أتظنون أني لا أكلمه إلا وأنتم تسمعون، قال ابن بطال: فقال: قد كلمته فيما بيني وبينه، وقوله: (إِنِّي لَأُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ) يعني: المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ، فيكون بابًا من القيام على أئمة المسلمين، فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفريق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير، وفيه: الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سرًّا، وتبليغهم قول الناس فيهم؛ ليكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن، فإن لم يمكن الوعظ سرًّا فليفعله علانية؛ لئلا يضيع الحق كما روى طارق بن شهاب، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد بسند حسن، قال الطبري: معناه: إذا أمن على نفسه من قتل وشبهه، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قِبَل له به.
(1/97)
روي ذلك عن ابن مسعود وحذيفة، وهو مذهب أسامة. وروي عن مطرِّف أنه قال: والله لم يكن لي دين حين أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة فيقتلني، إن ديني إذًا لضَيِّق. وقال آخرون: الواجب على من رأى منكرًا من ذي سلطان أن ينكره علانية، وكيف أمكنه. روي ذلك عن عمر وأُبي بن كعب، احتجا بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» انتهى، الاستدلال بهذا على العلانية فيه نظرٌ، قال: احتجا أيضًا بقوله: «إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تُودِّعَ منهم» [225/أ] ذكره البزار من طريق منقطعة، وقال آخرون: الواجب أن ينكر بقلبه، لحديث أم سلمة مرفوعًا: «يستعمل عليكم أمراء بعدي تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالو: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلَّوا».
(1/98)
وأقتاب بطنه: يريد أمعاؤه، واحدها: قِتب -وقيل: قَتِيب- قال ابن التين: قافه مكسورة، وهي مؤنثة، تصغيرها: قتيبة، وعن الهروي: القتب: ما يجري من البطن، يعني: استدار، وهي الحوايا والمصارين؛ أي: تنصب أمعاؤه من جوفه، ويخرج من دبره بسرعة، ومنه دلق السيف واندلق: إذا خرج من غير أن يُسَل، وعند مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: «يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»، وعند ابن وهب، عن زيد بن أسلم، عن علي مرفوعًا: «فبينما هم يجرونها إذ شردت عليهم شردة، فلولا أنهم أدركوها لأحرقت من في الجمع»، وفي «كتاب الغزالي»: «يؤتى بها تمشي على أربع قوائم، تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف حلْقة، لو جمع حديد الدنيا ما عدل منها حلْقة واحدة، على كل حلقة سبعون ألف زباني، فإذا انفلتت لم يقدر أحد على إمساكها لعظم شأنها، فيجثوا الناس على الركب، يقول كل واحد منهم: نفسي نفسي، فيتقدم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بأمر الله، فيأخذ بخطامها ويقول لها: ارجعي مدحورة إلى خلفك حتى يأتيك أفواجك، فتقول: خل سبيلي فإنك حرام عليَّ، فينادي مناد: اسمعي وأطيعي له، ثم تجذب، وتجعل شمال العرش وينجذب أهل الموقف [225/ب] بجذبتها فيخف وجلهم، فهو قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهناك ينصب الميزان».
(1/99)
وفي
حديث إبراهيم بن هدبة، عن أنس يرفعه، فذكر حديثًا فيه: «يقول الله لها تكلمي،
فتقول: وعزتك لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وعبد غيرك»، وفي حديث عبد الغني بن سعيد،
عن أبي سعيد الخدري: «أقبلت النار يركب بعضها بعضًا وخزنتها يكفونها، وهي تقول:
وعزة ربي، ليخلَّيَّن بيني وبين أزواجي، أو لأغشين الناس، فيقولون: مَن أزواجك؟
فتقول: كل متكبر جبار»، وعند الترمذي غريب: عن ابن عمر يرفعه: «لجهنم سبعة أبواب،
باب منها لمن سل السيفَ على أمتي». وفي «كتاب القرطبي»: «بين الباب والباب خمسمائة
عام، الأول اسمه جهنم، الثاني لظى، الثالث سقر، الرابع الحطمة، الخامس الجحيم،
السادس السعير، السابع الهاوية، على كل باب سبعون ألف جبل، في كل جبل سبعون ألف
شعب، في كل شعب سبعون ألف شق، في كل شق سبعون ألف واد، في كل واد سبعون ألف قصر،
في كل قصر سبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف منقار، لكل
منقار سبعون ألف قُلة من سمٍّ، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء، فيطير سرادق
من عن يمين الثقلين وآخر عن شمالهم، وأمامهم وخلفهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك
جثوا على ركبهم».
بَاب صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ
(1/100)
قال أبو جعفر محمد بن جرير: كان الله جل وعز قد حسَّن خلقه، وشرفه، وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض، وجعله مع ذلك من خُزَّان الجنة، فاستكبر على ربه، وادعا الربوبية، ودعا من كان [225/أ] تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله شيطانًا رجيمًا، وشوَّه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه، وطرده عن سماواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن شيعته وأتباعه في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله من غضبه، ثم ذكر من حديث حجاج عن ابن جريج: قال ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلةً، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض. وعن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة وشريك عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها. وعن ابن صالح، عن ابن عباس، ومرة عن عبد الله وغيرهما من الصحابة: إنما سمي قبيلة الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وقال ابن جريج: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] لم يقل هذا إلا إبليس، وفيه نزلت هذه الآية، وكذا قاله قتادة. وعن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم، وكان اسمه الحارث، وخلقت الملائكة كلهم من النور، غير هذا الحي، ومارج النار: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. وأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا، فبعث الله جل وعز إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقوهم بجزائر البحر وأطراف الجبال، فلما فعل ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحد.
(1/101)
فأطلع
الله على ذلك من قبله، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، وقال الربيع بن
أنس: إن الله جل وعز خلق الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن [226/ب] يوم الخميس،
وذكر ابن مسعود وغيره أنه لما ملَّكَه سماء الدنيا وقع في صدره كِبْر، وقال: ما
أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة، وعن ابن عباس: كان اسمه عزازيل، وكان
من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، وفي كتاب «ليس» لابن خالويه: إبليس يكنى
أبا الكُردوس، ويقال: أبو مرة، ومن أسمائه أيضًا العِلب، والسفيه، والحارث، وأبلس
من رحمة الله تعالى أي: يَئِس، والإبلاس أيضًا: الانكسار والحزن. يقال: أبلس فلان:
إذا سكت عما قال، قال الراجز:
يا صاح هل تعرف رسْمًا مكرسًا قال: نعم أعرفه، وأبلِسًا،
وفي «تفسير» الماوردي: هو شخص روحاني، خلق من نار السموم، وهو أبو الشياطين، وقد
ركَّب فيهم الشهوات. وعن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس،
وكان من الجن الذين طردتهم الملائكة، وكان صغيرًا فتعبد مع الملائكة، فلما أمروا
بالسجود لآدم أبى هو من ذلك، قال أبو جعفر: وقيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن
الأرض كان فيها قبل آدم الجن، فبعث الله جل وعز إبليس قاضيًا بينهم فلم يزل يقضي
بينهم بالحق ألف سنة حتى سمي حكمًا، فسماه الله جل وعز به، وأوحى إليه أسمه، فعند
ذلك دخله الكِبْر فتعظم وألقى بين الذي كان بعثه إليهم حكمًا البأسَ والعداوةَ،
فاقتتلوا في الأرض ألفي سنة حتى إن خيولهم كانت تخوض في دمائهم وذلك قوله جل وعز:
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15] فبعث الله عند ذلك إليهم نارًا
فأحرقتهم، فلما رأى اللعين ما نزل بقومه عرج إلى السماء مجتهدًا في العبادة، حتى
خلق آدم. وفي «تفسير الجوزي»: [227/أ]
(1/102)
قسم
إبليس جنده فريقين، فبعث فريقًا منهم إلى الإنس، وفريقًا إلى الجن، وكلهم أعداء
لرسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفي «كتاب الديباج» للخُتلي عن مجاهد:
كان إبليس على سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مكتوب في الرفيع الأعلى أن
الله جل وعز سيجعل في الأرض خليفة، وأنه ستكون دماء وأحداثًا، فوجده إبليس وقرأه
دون الملائكة، فلما ذكر الله أمر آدم للملائكة أخبرهم إبليس بما رأى، وأسر في نفسه
أنه لا يسجد له أبدًا، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فيهل مَن يُفسِدُ فيها ... }
الآية [البقرة: 30]. وفي «تفسير الماوردي»: هو روحاني، وهو أبو الشياطين، وفيهم
شهوة مركبة مشتق من الإبلاس، وهو الإياس من الخير.
قال البخاري: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُقْذَفُونَ} [سبأ: 53] يُرْمَوْنَ)، هذا
التعليق ذكره أبو جعفر عن الحارث؛ قال حدثني الحسن، حدثنا ورْقاء، عن ابن أبي
نَجِيح، عن مجاهد به.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {مَدْحُورًا} [الأعراف: 19] مَطْرُودًا)؛ قال
أبو جعفر: الدحور: مصدر من قولك: دحرته، أدحره، دحرًا ودحورًا، والدَّحر: الدفع
والإبعاد، يقال منه، ادحر عنك الشيء؛ أي: ادفعه عنك وأبعده، وفي «تفسير عبد بن
حميد» عن قتادة: دحورًا، قال: قذفًا في النار.
3268 - حديث عائشة في السحر تقدم الكلام عليه في كتاب الوقف [ح: 3175]، وذكره في
هذا الباب للعلم بأن السحر من تعليم الشياطين. [خ 3268]
3269 - 3270 وحديث: (يَعقِدُ الشَّيطَانُ). وحديث: (رَجُلٌ نَام). [خ 3269 - 3270]
3272 - وحديث (إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ)، قال في أوله: (حَدَّثَنَا
مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ)، قال أبو نعيم وأبو علي هو ابن سلام. [خ 3272]
3274 - وحديث: (إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيءٌ). [خ 3274]
(1/103)
3284
- 3285 - 3291 - وحديث [227/ب] (صَلَّى صَلاةً)، وحديث (إِذَا نُودِيَ
بِالصَّلاةِ)، وحديث (الالتفات): تقدم ذكرها في كتاب الصلاة [ح: 461 و 608 و 751].
[خ 3284 - 3285 - 3291]
3295 - وحديث (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ)، وحديث (إذا أتى أحدكم أهْلَه):
تقدما في الطهارة، وحديث (وكَّلَني بِحفْظِ زَكَاة الفِطْر) تقدم في الوكالة [ح:
2311]، وحديث (إذَا دَخَلَ رمَضَانُ) تقدم في الصوم [ح: 1899]، وحديث (لَا
تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُم) يأتي في الاستئذان إن شاء الله تعالى [ح:
6293]، وحديث (آتِنَا غَدَاءَنا): تقدم [ح: 74]، وحديث صفية: تقدم في الصوم [ح:
2035]، وحديث (عمار): لا يحتاج إل في الأصل: «بحفض».
ى كلام لظهور معناه، وحديث (حذيفة): يأتي في المغازي. [خ 3295]
3276 - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ
ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: يَأْتِي
الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى
يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ،
وَلْيَنْتَهِ). [خ 3276]
(1/104)
وخرجه
أيضًا في الاعتصام عن أنس [ح: 7296]، وعند مسلم: «لا يزال الناس يسألون حتى
يقولوا: هذا خلْقُ الله، فمن خلق الله؟»، وفي رواية: «فليقل آمنت بالله»، وعند أبي
داود: «فإذا قالوا ذلك، فيقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن
له كفوًا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعِذ بالله من الشيطان»، وقال
الخطابي: وفي رواية محمد بن سيرين عنه زيادة لم يذكرها أبو عبدالله، لا يُستغنَى
عنها في بيان معنى الحديث حدثناها ابن السماك، حدثنا عبدالملك بن محمد الرَّقَاشي،
حدثنا عامر العقدي، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا يزال الناس يسألون حتى يقولوا: هذا
الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟»، قال أبو هريرة: فقد سُئِلَت عنها مرتين، وحدثنا
ابن السماك [228/أ]
أخبرنا محمد بن سليمان الواسطي، حدثنا مُعَلَّى بن أسد حدثنا وهيب عن أيوب عن محمد
عن أبي هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا يزال الناس يسألون
عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟»، فبينما أبو هريرة ذات يوم
آخذ بيد رجل وهو يقول: صدق الله ورسوله، قال أبو هريرة: لقد سألني عنها رجلان وهذا
الثالث، قال أبو سليمان: وجه هذا الحديث: ترك التفكير فيما يخطر في القلب من وساوس
الشيطان، والامتناع عن قبولها، والكف عن مجاراته في ذلك، وحسم المادة في ذلك
بالإعراض عنه والاستعاذة بذكر الله جل وعز، ولو أذن صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
في مراجعته والرد عليه لكان الأمر على كل موحد سهلًا؛ وذلك أن جوابه متلقى من
سؤاله، وذلك أنه إذا قال ما تقدم، فقد نقض بأول كلامه آخره؛ لأنه يلزم منه أن
يقال: ومن خلق ذلك الشيء، ولامتدَّ القول في ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول بما لا
يتناهى فاسد، فسقط السؤال من أصله.
(1/105)
3280 - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ قَالَ جُنْحُ اللَّيْلِ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ جَلَّ وعَزّ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ وَلَوْ أن تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا)، هذا الحديث خرَّجه الستة، وعند أبي عيسى: «فإن الشيطان لا يفتح غُلقًا، ولا يحِلُّ وكاءً، ولا يكشف آنية، وإن الفويسقة تضرم على الناس [228/ب]
(1/106)
بيتهم»، وفي حديث ابن عمر عند البخاري: «لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون» [ح: 6293]، قال ابن العربي: هذا من القدرة التي لا يؤمن بها إلا من وحد الله؛ وذلك أن الشيطان يتصرف في الأمور الغريبة ويتولج في المسام الخفية، فيعجزه الذكر عن حل الغَلَق وشبهه، وفي رواية: «فإن النار عدوٌ». قوله: (جُنْحُ) قال ابن سيدَهْ: جنح الليل يجنح جنوحًا: أقبل، وجُنْحُه: جَانِبُه، وقيل: قطعة منه نحو النصف، وعند القاضي: (إذا اسْتَجنَحَ) أو قال (جُنْحُ) كذا لكافتهم، وعند النسفي وأبي هيثم والحموي: (إذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيلِ)، ويقال معنى (جُنْحُ): مال، وعند ابن التين: (جُنْحُ اللَّيلِ) أول ما يظلم، وقوله: (فَكُفُّوا).
(1/107)
وفي
رواية: «فاكفتوا صبيانكم»: أي: ضموهم إليكم واقبضوهم، وكل شيء ضممته فقد كفته،
ومعناه: امنعوهم من الخروج في ذلك الوقت، وقال أبو الفرج: إنما خيف على الصبيان؛
لأن النجاسة التي يلوذ بها الشيطان موجودة معهم، الثاني: الذكر الذي يستعصم به
معدوم عندهم، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، فإذا ذهبت
اشتغل كل منهم بما اكتسب، ومضى إلى ما قدر له التشاغل به، وفي رواية: «لا ترسلوا
فَواشِيكُم وصبيانكم إذا غابت الشمس»، والفَواشِي: كل شيء منتشر من المال، كالإبل
والبقر وسائر البهائم وغيرها، جمع فاشية؛ لأنها تَفشُوا، أي: تنتشر، قال ابن
الأعرابي: أفشى وأمشى وأوشى بمعنى واحد، إذا كثرت مواشيه، قال ابن العربي:
الشياطين تستعين بالظلمة، وتكره النور، وتتشاءم به؛ لأن الله تعالى أظلم قلوبها،
وفي رواية: «فإذا ذهب فَحْمَة العشاء» -بسكون الحاء المهملة وفتح الفاء- شدة
[229/أ] سوادها وظلمتها، وزعم بعضهم أنه أراد أول ظلامها، ويقال للظلمة التي بين
صلاتي المغرب والعشاء: فَحْمَة، والتي بين العشاء والفجر: عَسْعَسَة، قوله:
(أَغْلِقْ بَابَكَ): رباعي، والباب مغلق ولا يقال مغلوق، قال أَبو الأسود الدؤلي
يصف نفسه بالفصاحة: [خ 3280]
ولا أَقولُ لقِدْرِ القوم قد غَلِيَتْ ولا أَقولُ لباب الدَّار مَغْلوقُ
(1/108)
وفي رواية: «أجِيفُوا»: وهو بمعنى الأول، «تَضْرِم»: أي تلهب وتحرق، يقال: ضرِمت النار: -بكسر الراء- وتضرَّمت، واضطرمت، وأضرمتها أنا وضرَّمتها تشدد للمبالغة، وهو عام يدخل فيه نار السِّراج وغيره. فأما القناديل المُعلَّقة فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأكثر بالإطفاء وإن أمن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها؛ لانتفاء العلة، وذكر ابن العربي: أن سبب قوله هذا أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلى على خمرة فجرت الفتيلة الفأرة. فأحرقت من الخمرة قدر الدرهم؛ (فقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ... ) الحديث. والإيكاء: الشَّد، والوِكَاء: اسم ما يشد به فم القُرْبة، وهو ممدود مهموز، فلذلك يجب أن يكون رباعيًا، وتخمير الإِنَاء: تغطيته، و (تَعرُضُ) -بضم الراء وكسرها- يقال: عَرَضت الشيء أعرِضه -بكسر الراء- قول الأكثرين، والأصمعيُّ يضمه وكذلك يعقوب، في رواية: «عودًا»، وذلك عند عدم ما يجد ما يغطيه به، وهو مطلق في الآنية التي فيها شراب أو طعام. روى الأعمش، عن أبي صالح وأبي سفيان، عن جابر قال: جاء أبو حُمَيد بِقدَح لبن من النَّقِيع، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ألَا خَمَّرْتَه» [ح: 5605]، وفيه فوائد: الأول: صيانته من الشيطان ومن [229/ب]
(1/109)
الوَبَاء
الذي ينزل في ليلة من السنة، كما جاء في الحديث عند أبي داود: «إن في السنة ليلة،
-وفي رواية: يومًا- ينزل وباء فلا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاء أو بشيء ليس عليه
وِكَاء إلا نزل فيه ذلك الوباء»، قال الليث بن سعد: والأعاجم يتقون ذلك في كانون
الأول، وفيه أيضًا صيانته من النجاسات و غيرها من الحشرات والهوامِّ، وقد قال أبو
حُمَيد: «إنما أُمِرنا بالأسقية أن تُوكَأ ليلًا وبالأبواب أن تُغلَق ليلًا»، قال
محي الدين: وهذا التخصيص ليس في لفظ الحديث ما يدل عليه، والمختار عند الأصوليين
وهو مذهب الشافعي: أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة ولا يلزم
غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره، وأما إذا كان في ظاهر الحديث ما يخالفه فإن
كان مجملًا رُجع إلى تأويله ويجب الحمل عليه؛ لأنه إذا كان مُجملًا لا يحل له
حملُه على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عندنا، والأمر
بتغطية الإناء عام فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي بل يتمسك بالعموم. انتهى.
وفيه نظر من حيث أن أبا حُميد قال: «إنما أمرنا»، وهذا رواية لا تفسير، قال محي
الدين: رواية أبي حُميد، والرواية الأخرى: «وأنه يَنزلُ في يوم من السنة وباءً»،
لا منافاة بينهما، إذ ليس في أحدهما نفيٌ للآخر، فهما ثابتان، قال القرطبي: جميع
أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، لقولهتعالى: {وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وليس على الإيجاب وغايته أن يكون من باب
النَدْب، بل قد جعله كثير من الأصوليين قسمًا منفردًا بنفسه عن الوجوب والنَدْب،
وينبغي للمرء امتثال أمره صلى الله عليه [230/أ] وسلم فمن امتثل سلِم من الضرر
بحول الله وقوته، فمتى -والعياذ بالله- خالف إن كان عِنادًا خُلد فاعله في النار،
وإن كان عن خطأ أو غلط فلا يحرم شرب ما في الإناء أو أكله.
(1/110)
3282
- (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ
ثَابِتٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، وأَحَدُهُمَا احْمَرَّ
وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ؛
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ كذا وكذا، فَقَالَ: وَهَلْ
بِي جُنُونٌ). [خ 3282]
قال ابن بطَّال: الاستعاذة من الشيطان تذهب الغضب، وذلك أن الشيطان هو الذي يزين
للإنسان الغضب، وكل ما لا تحمد عاقبته، فالاستعاذة بالله من أقوى السلاح على دفع
كيده، وقد قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديث أبي ذرٍّ: «إذا غضبَ أحدكم وهو
قائم فليجْلِس، فإن ذهب عنه، وإلا فليضَّجِع». وفي حديث عطية قال صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تُطفَئ النار
بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وعن أبي الدرداء: أقرب ما يكون العبد من غضب
الله جل وعز إذا غضب. وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. وفي
بعض الكتب: قال الله تعالى: «ابنَ آدم اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ».
وفي كتاب «الترغيب» للجوزي عن معاوية بن قُرَّة، قال: قال إبليس: أنا جمرة في جوف
ابن آدم إذا غضب حمَّيتُه، وإذا رضي منَّيتُه.
(1/111)
ولما
قال عثمان [230/أ] بن أبي العاصي: «يا رسول الله، أوصني قال: لا تغضب، فأعاد عليه
فقال: لا تغضب»، قال عثمان: فنظرت فإذا رأس كل شر الغضب، وقال الحسن: ابن آدم كلما
غضبت وثبت أوشك أن تثب وثبة تقع منها في النار. و (الأَوْدَاجُ): جمع ودَج، وإنما
هما ودَجَان، وهما العِرقان اللذان يقطعهما الذابح، وذكرهما بلفظ الجمع كقوله جل
وعز: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْشَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أو لأن كل قطعة من الودَج
تسمى ودَجًا كما جاء في الحديث: «أَزَجُّ الحواجِب».
وقول الرجل: (أَبِي جُنُون؟) يحمل على أنه كان من جُفاة العرب، أو ممن لم يتفقه في
الدين أو من المنافقين. ذكره عبد العظيم.
3286 - وذكر حديث: الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ
يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى
ابنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي
الْحِجَابِ)، وفي موضع آخر: من حديث خِلَاس عنه: «كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه
غير عيسى بن مريم وأمه، حين ولدا، جعل الله دون طعنته حجابًا فأصاب الحجاب، ولم
يصبهما»، وفي لفظ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ
حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا
مَرْيَمَ وَابْنَهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ:
{إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل
عمران: 36] [ح: 4548]. [خ 3286]
قال القرطبي: يشعر الشيطان بالتمكُّن والتسلُّط، فمنعهما الله منه ببركة دعوة
أمِّها حنة بنت فاقود امرأة عمران بن حاثان حين قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
(1/112)
وذكر
عبد الرزاق في «تفسيره» شيئًا ينظر فيه؛ وهو أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس، سمع
وهْب بن منبه يقول: لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحَت [231/أ]
الأصنام منكسة. فقال: هذا حادث، مكانكم. وطار -لعنه الله- حتى بلغ خافقي الأرض فلم
يجد شيئًا، ثم جاء البحار فلم يقدر على شيء، ثم طار فوجد عيسى قد ولد عند مزود
حمار، وإذا الملائكة قد حَفت به، فرجع إليهم؛ فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، وما
حملت أنثى ولا وضعت قط إلا وأنا بحضرتها إلا هذِه، فأيِسُوا من أن تعبد الأصنام
بهذِه البلدة.
وفي «تفسير» عبد عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا
أنها قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} [آل عمران: 36] إذن لم يكن
لها ذرية. قال محيي الدين: هذه فضيلة ظاهرة لسيدنا عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وأمه، و أشار القاضي إلى أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه
يشاركونه في ذلك، ولما ذكر القرطبي قول قتادة: لما أراد أن يطعن جعل بينهما حجاب
فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لهما منه شيء. قال: قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك
لبطلت الخصوصية، ولا يلزم من نخسه إضلال الممسوس وإغواؤه، فإن ذلك ظن فاسد فكم
تعرَّض الشيطان لخواصِّ الأولياء بأنواع الإغواء والفساد ومع ذلك فعصمهم الله
بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وزعم أبو
الفرج أن (الحِجَاب) المذكور هنا: المشيمة.
(1/113)
3288
- قال البخاري: (وَقَال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلالٍ، عن أَبي الأَسْوَدِ ... ) فذكر حديث نزول الملائكة في
العَنَان، المتقدم في بدء الخلق [ح: 3210]، عن سعيد بن أبي مريم عن الليث عن عبيد
الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود، وحديث الليث عن خالد رواه أبو نُعيم [231/ب] عن
سليمان، حدثنا بجالة بن سعيد حدثنا عبدالله بن صالح حدثنا الليث، حدثني خالد عن
سعيد به، قال أبو نعيم ذكره أبو عبدالله بلا رواية، ويقال أن سماعه من عبدالله بن
صالح عن الليث فعدل عن ذكره وتسميته. [خ 3288]
3292 - وذكر حديث أبي قتادة: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالحُلُمُ
مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ
عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لَا
تَضُرُّهُ)، وفي مسلم: «إذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدِّث بها إلا من يحب، وإن رأى
ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها
أحدًا فإنها لا تضره»، وعند النسائي: «إذا رَأَى أحدُكم الشيءَ يعجبُه فليعرِضْهُ
على ذي رأي ناصحٍ، فليُؤَوِّل خيرًا وليقل خيرًا». وخرجه البخاري أيضًا من حديث
أبي سعيد الخدري بنحوه [ح: 7045]، ومسلم من حديث جابر بلفظ: «إذا رأى أحدكم الرؤيا
يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثًا، وليتحول
عن جنبه الذي كان عليه». قال أبو الفرج: (الرُّؤْيَا والحُلْمُ) بمعنى واحد، لأن
(الحُلْم) ما يراه الإنسان في نومه، غير أن صاحب الشرع صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خص الخير باسم (الرُّؤْيَا)، والشر باسم (الحُلْم)، ولام «الحُلْم) ساكنة
ومضمومة. انتهى. [خ 3292]
أنشد صاحب «الباهر»:
أرؤيا ما رأيت أم أحلام؟
ويروى: أحق ما رأيت؟
(1/114)
قال
القرطبي: وهو مصدر حَلَمت -بفتحتين- ويُجمع على أحلام في القِلة، والكثير حُلُوم،
وإنما جمع وإن كان مصدرًا لاختلاف أنواعه، وهو في الأصل عبارة عما يراه الرائي في
منامه حسنًا كان أو مكروهًا، وإضافته إلى الله جل وعز [232/أ]
إضافة اختصاص وإكرام؛ لسلامتها من التخليط وطهارتها عن حضور الشيطان؛ لكونها
مكروهة. وقيل: لأنها لا توافق الشيطان ويستحسنها لما فيها من شَغل بال المسلم لا
أن الشيطان يفعل شيئًا، ولا خالق إلا الله.
وقوله: (فَإِذَا حَلَمَ) -هو بفتح اللام- وقوله: (فَلْيَبْصُقْ) يريد: زجرًا
للشيطان بذلك كرمي الجِمار، قال الطبري: كما تتفل عند الشيء القذر تراه؛ ولا شيء
أقذر من الشيطان. وذكر الشِّمال؛ لأن العرب عندها أن تأتِّي الشر كله من قبل
الشمال، ولذلك سمتها الشُّؤمى، وكانوا يتشائمون مما جاء من قبلها من الطير. وأيضًا
فليس فيها كبير عمل ولا بطش ولا أكل ولا شرب. انتهى.
لقائل أن يقول: الشيطان تسليطه على قلب ابن آدم إنما هو من جهة الشمال، ولهذا
شواهد في الحديث كثيرة، فيكون التفلُ عليه حقيقة.
قال القرطبي: الرؤيا الثانية: هي التي تكون عن حديث النفس وشهواتها، ولا التفات
إليها، وكذلك الثالثة: فإنها تحزين وتهويل وتخويف يدخله الشيطان على الإنسان؛
ليشوش عليه في اليقظة.
وقد يجتمع هذان الشيئان، أعني: هموم النفس والتياث الشيطان، وهذا النوع هو المأمور
بالاستعاذة منه؛ لأنه من تخيلاته، فإذا فعل المأمور به صادقًا أذهب الله عنه ما
أصابه من ذلك، وتحوله إلى الجانب الآخر؛ ليكمل استيقاظه وينقطععن ذلك الم في
الأصل: «فليؤل»، والمثبت من النسائي.
في الاصل: «يقع»، والظاهر أن الصواب ما أثبت، والله أعلم.
نام المكروه، والله تعالى أعلم، وسيأتي له تكملة في الرؤيا [ح: 6984].
(1/115)
3294
- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ عن [232/ب] أَبيه: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ
وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ
قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ:
أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ
اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، قَالَ
عُمَرُ: أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ
عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا
إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ). [خ 3294]
في هذا السند أربعة تابعيون، بعضهم عن بعض؛ صالح بن كيسان فمن بعده.
ورواه النسائي فنزل نزولًا كثيرًا، رواه عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب
بن الليث عن أبيه عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن إبراهيم بن سعد عن صالح.
(1/116)
قوله:
(يَسْتَكْثِرْنَهُ): يعني: يطلبن كثيرًا من كلامه وجوابه، ويحتمل أنهن يسكثرنه من
العطاء، بيَّن ذلك ابن التِّين فقال في بعض الروايات: «أنَّهُنَّ يُرِدْنَ
النَّفَقَة»، وعُلوُّ أصواتهن يحمل على أنه قبل النهي عن رفع الصوت، أو يحتمل أنهن
لاجتماعهن حصل لغط من كلامهن أو يكون فيهن من هي جَهِيرة الصوت؛ كنعيم النحام أو
يحمل على أنهن لما علمن عفوه وصفحه تسمَّحن في رفع الصوت.
والفَظَاظَة والغِلَظ: بمعنى، وهي عبارة عن شدة الخُلُق وخشونة الجانب، و (أَفَظُّ
وَأَغْلَظُ) ليسا للمفاضلة، بل بمعنى فظٌّ غليظ. وقيل: يصح حملها على المفاضلة،
وأن القدر الذي بينهما في النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو ما كان من إغلاظه
على الكفار والمنافقين قال [233/أ] تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. وفيه: فضيلة لين الجانب والرِّفْق، والفَجُّ:
الطريق الواسع، وقيل: هو الطريق بين الجبلين. قال عياض: يحتمل أنه ضرب مثلًا لبعد
الشيطان وأعوانه عن عمر، وأنه لا سبيل لهم عليه.
بَاب ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ لِقَوْلِهِ جل وعزَّ {يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... } الآية [الأنعام: 130]
(1/117)
قال
الثعلبي: قرأ الأعرج وابن أبي إسحاق: {تَأتِكُم} -بالتاء- الباقون: بالياء،
واختُلف في الجن هل أرسل إليهم رسول أم لا؟ فقال عبيد بن سليمان: سُئِلَ الضحاك عن
الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فقال: ألم
تسمع قول الله جَلَّ وعَزَّ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] يعني: رسلًا من الإنس ورسلًا من الجن،
وقال الكلبي: كانت الرسل قبل مبعث سيدنا رسول الله يبعثون إلى الجن والإنس جميعًا،
وقال مجاهد: الرسل من الإنس والنُّذُر من الجن، ثم قرأ: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]؛ يعني أن الجن يستمعون دينهم من الرسل، ويبلغونه إلى
سائر الجن، وهم النُّذُر، كالذين استمعوا القرآن فبلغوه قومهم، فهم رسل إلى قومهم.
وقال أهل المعاني: لم يكن من الجن رسول، وإنما الرسل من الإنس خاصة، وهذا كقوله:
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من
الملح دون العذب. وذكر علي بن حمزة في كتاب «التنبيهات»: أن المرجان يخرج أيضًا من
العذب، فينظر. وفي «تفسير القرآن العظيم» لقوام السنة: إسماعيل بن محمد بن الفضل
الجوزي: قال قوم: في الجن رسل، مستدلين بالآية الكريمة، وقال [233/ب]
أكثر أهل العلم: الرسل من الإنس، ومن أولئك النُّذُر، وقيل: إن من الجن شياطين ومن
الإنس شياطين، فإذا عَيِيَ شيطان الجن من المؤمنين استعان بشيطان الإنس عليه.
يؤيده هذا ما رواه أبو ذر قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يا أبا
ذر، هل تعوَّذْت بالله من شياطين الإنس والجن؟ قلت: وهل للإنس شياطين؟ قال: نعم،
وهي شر من شياطين الجن».
وأما مقاتل بن سليمان فلم يذكر في «تفسيره» غير ما في الآية الكريمة، وفي «تفسير»
الضحاك الكبير: أرسل إلى الجن نبيٌ اسمه يوسف.
(1/118)
وفي
مسند البزار في: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بُعثتُ إلى الجن
والإنس». وقال الزَّجَّاج: قوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]؛ لأن الجماعة
تعقل وتخاطب، فالرسل هم بعض من يعقل. واختلف في مؤمنهم: هل يدخل الجنة أم لا؟
فالشافعي وغيره ذهبوا إلى أنهم يدخلون الجنة، استدلالًا بقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] بعد ذكره الجن والإنس، وبقوله تعالى:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وبقوله تعالى: {لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] قالوا: فلو لم يدخلوا
الجنة لما قال هذا. وأما أبو حنيفة: فعنه روايتان: الأولى: أنه تردَّد، وقال: لا
أدري أين مصيرهم. الثانية: قال: يصيرون يوم القيامة ترابًا؛ لقوله عزَّ وجلَّ:
{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].
قال القرطبي: قال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنو الجن في رُبض
ورياض جانب الجنة وليسوا فيها. واختلف فيهم أيأكلون حقيقة أم لا؟ فزعم بعضهم أنهم
يأكلون ويغتذون بالشم. ويرد هذا ما في الحديث: «يصير العظم كأوفر ما كان لحمًا
وشحمًا، وكذلك الروث لدوابهم»،، ولا يصير كذلك إلا للآكل حقيقة، وهو المرجح عند
[234/أ] جماعة العلماء. ومنهم من قال: هم طائفتان: طائفة تشم، وطائفة تأكل.
قال البخاري: (قَال مُجَاهِدٌ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا}
[الصافات: 158]، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ جلَّ
وعزَّ، وَأُمَّهَاتُهُنَّ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ).
(1/119)
هذا
التعليق رواه محمد بن جرير عن محمد بن عمرو حدثنا أبو عاصم حدثنا عيسى بن جريج عنه
بزيادة: «فقال أبو بكر: من أمهاتهن؟ فقالوا: بنات سرَوَات الجن، يحسبون أنهم خلقوا
مما خلق منه إبليس»، وفي «تفسير عبد بن حميد»: الجِنَّة بطن من بطون الملائكة؛
رواه عن رَوح عن شبل عن ابن أبي نَجيح عنه، وفي «تفسير الطبري»: وعن قتادة: قالت
اليهود لعنهم الله: إن الله جَلَّ و عَزَّ تزوج إلى الجن فخرج منها الملائكة.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}
[الصافات: 158] زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى وإبليس إخوان، رواه عن محمد بن
سعد: حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه عنه.
3296 - حديث أبي سعيد تقدم في الأذان [ح: 609]. [خ 3296]
بَاب
لم يذكر فيه إلا قَوْله جَلَّ وَعَزَّ {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ} الآية [الأحقاف: 29].
قرأت على الإمام مجد الدين إبراهيم بن علي بن أبي طالب عن الحافظ المنذري عن
الإمام صدر الدين البكري، قال: كتب إلينا الحافظ أبو يزيد السُّهَيلي، وأنبأنا به
عاليًا: ابن عجلان عن ابن السراج عنه، قال: قوله جل وعز: {وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] يقال: هم جن نَصِيبِينَ، ويروى: جن
الجَزيرة.
(1/120)
وروى
ابن أبي الدنيا أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال في هذا الحديث، وذكر فيه
جن نَصِيبِينَ، فقال: «رفعت إليَّ حتى رأيتها فدعوت الله جل وعز أن يكثر مطرها
[234/ب] وينضر شجرها ويعذب نهرها»، ويقال: كانوا سبعة وكانوا يهود فأسلموا، ولذلك
قال: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] وهم: سامر، وماصر، وميشا،
وماشي، والأحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم: عمرو بن جابر؛ ذكره ابن سلام
في «تفسيره» عن ابن مسعود، ومنهم: زوبعة؛ ذكره ابن أبي الدنيا. ومنهم: سِرف. وفي
«تفسير عبد»: كانوا من نينوى، وافوه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بنخلة، وقيل:
بشِعب الحُجون.
بَاب قَوْلِ اللهِ جل وعز: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]
قال المسعودي: ما كان له نفس، ويقال: إن في البحر ستمائة أمة وفي البر أربعمائة،
وأول ما يهلك منها الجراد. وذكر أن عمر بن الخطاب أبطأ عليه الجراد سنة من السنين
فخاف الساعة، فأرسل البُرُد في الآفاق حتى أتى بشيء منه فسكن جأشه.
قال البخاري: (قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا)،
ذكر الطبري في «تفسيره»: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج عن أبي بكر بن
عبدالله عن شهْر بن حوشب عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ} [الأعراف: 107]. يقول مبين: له خلق حية.
قال البخاري: (يُقَالُ الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي
وَالْأَسَاوِد)
قال ابن خَالوَيهِ: ليس في كلام العرب اسم الحيات وصفاتها، إلا ما أذكره:
(1/121)
الحبوت،
المصِن، المَسلت، الشجاع، الأرقم، ابن فترة، الأسود، أسود شالخ، الجارية،
الطريفانة، الأفعى، الأفعو، الأفعوان، والحُضاب، والأبتر، والأعيرج، والأصلة،
والصَّل، والدساس، والمرعامة، والمرعافة، والجاث، والجِنَّان، والجأنُ -بالهمز-
والثعبان، والشيطان، والنكار، والأيْم، والأيِّم [235/أ]،والأين، والأيِّن،
والحباب، والجريش، والحريس، والأصم، والقصيري، وقصيري، وقصري، قبال، والعثمان،
والرقطا، والخنفس، والحُرف، والجراف، والجِعْب، وذو الطرتين، وذو الطفنين، والحصب،
والقرة، والعربدُّ، والأرقش، والجرشُب، والخُرْشُب، والمروس، والأصيلة، والخرسا،
والخشاش، والنضناض، والنهديَّة، والجرارة، والطلْع، والطِل، وابنة الجَبل،
والعرفج، والصُميلة، والفاعوس، والدَّودَمِسْ، والعِوار، والطوط، والغُريرا،
والرتلاء، والريلا، والعرمل، والصميل، والمَرسِن، والطِلع، والهَدْعَل، والدُّحة،
والدُحلَّة، والنَّحة، والعمَّة، والكلثور، والداخس، والسهبلة، والرقشاء.
وذكر الجاحظ أيضًا أن الحياتِ أنواع، فمنها: المكللة الرأس طولها شبران إلى ثلاثة
ورأسها حاد، وعيناها حمراوان، ولونها إلى سواد وصفرة، تحرق كل ما ينساب عليهاـ ولا
ينبت حول جحرها شيء، وإن حاذى جُحْرها طائر سقط، ولا يحس بها حيوان إلا هرب، فإن
قَرَّب منها خدِر ولم يتحرك، وتقتل بضفيرها، ومن وقع عليه نظرها مات، ومن نهشته
ذاب بدنه وانتفخ وسال صديدًا، ومات في الحال، ومات كل من قرب من ذلك الميت من
الحيوان، فإن مسها بعصا هلك بواسطة العصا، ولقد قيل: إن رجلًا طعنها برمح فمات هو
ودابته.
قال رحمه الله: وهذا الجنس كثير ببلاد الترك، وإنما تقتل من بُعد بسم ينفصل من عين
(1/122)
3297
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ
أخبرنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أبيه أَنَّه سَمِعَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
(اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ،
فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيسْقِطَانِ الْحَبَلَ). [خ 3297]
3298 - وفيه: قال أبو لبابة: (نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ البُيُوتِ، وَهِيَ
العَوَامِرُ). [خ 3298]
3299 - (وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ
زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ). [خ 3299]
هذا التعليق عن عبد الرزاق؛ رواه مسلم في صحيحه عن عبد بن حميد عنه.
قال البخاري: (وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَابنُ عُيَيْنَةَ وَالزُّبَيْدِيُّ).
يونس حديثه عند مسلم، وكذا ابن عيينة وَالزُّبَيْدِيُّ.
قال البخاري: (وَقَالَ صَالِحٌ وَابنُ أَبِي حَفْصَةَ وَابنُ مُجَمِّعٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ: رَآنِي أَبُو أمامة وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ).
حديث صالح خرجه مسلم، وعند الترمذي: «يلتمسان البصر ويُسقطان الحبل»، وقال ابن
المبارك: إنما يكره من قتل الحيات الحية التي تكون دقيقة كأنها فضة، ولا تلتوي في
مشيها. وعند أبي داود من حديث عائشة: «اقتلوا الجِنَّان كلَّهن، فمن تركهن خيفة
ثأرهن فليس مني». وعن أبي هريرة: ما سالمناهن منذ حاربناهن.
و (الْحَيَّاتُ) جمع حية يقع على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء؛ لأنه واحد
كدجاجة. وقد روي عن العرب: رأيت حيًّا على حيًّة. أي: ذكرًا على أنثى.
قال قائل: فإذا رأيت في البيت حية ليست بتراء، ولا بذي طفيتين فقتلها، وقد جاء
النهي عن قتل جِنَّان البيوت، أفآثَم؟
(1/123)
فالجواب:
إن قتل جِنَّان البيوت لا يجوز إلا بعد الإيذان [236/ب] بالقتل، ماعدا الأبتر
والطفيتين، فإنهما يقتلان من غير إيذان، وقد دل على إيذان باقي الحيَّات: حديث أبي
سعيد من عند مسلم: «إن لهذِه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئًا فحرجوا عليه
ثلاثًا، فإن ذهب، وإلا فاقتلوه؛ فإنه كافر».
والمراد بـ: (الْعَوَامِرُ) الجن، يقال للجن عوامر البيت وعُمَّار، والمراد: طول
لبثهن في البيوت، مأخوذ من العُمر، وهو طول البقاء. والتحريج: هو أن يقول لها: أنت
في حرج؛ أي: في ضيق إن عدت إلينا. فأما في الصحاري والأودية فيقتل من غير إيذان؛
لعموم قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ... »،
فذكر منهن الحية. وفي لفظ: «من تركهن مخافة شرهن فليس منا».
وقال القرطبي: الأمر بقتلهما من باب الإرشاد إلى دفع المضرَّة المخوفة من الحيات
فما كان منهما متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، كما أرشد إليه: (اقْتُلُوا
الحَيَّاتِ، وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ) خصهما بالذكر مع
دخولهما ونبه على أن ذلك بسبب عظم ضررهما. وقد بيَّن ابن عباس سبب العدَاوة بيننا
وبين الحية.
فذكر الطبري من حديث أبي صالح عن ابن عباس وغيره، ومن حديث سلمة عن ابن إسحاق، عن
ليث، عن طاوس عنه؛ أن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أيها يحمله حتى يدخل
الجنة فكل الدواب أبى ذلك، حتى كلم الحية فقال لها: أمنعك من بني آدم وأنت في
ذمتي، إن أنت أدخلتني الجنة. فأدخلته. قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، اخفروا
ذمة عدو الله.
و (ذُو الطُّفْيَتَيْنِ) ضرب من الحيات، في ظهره خطان أبيضان، وبهما عُبر عنه بـ:
(ذِي الطُّفْيَتَيْنِ)، والطُّفية -بضم الطاء- أصلها: خوص المقل، فشبه الخط الذي
على ظهر هذه الحية به، وربما قيل لهذه الحية: طُفية، على معنى ذات طفية، وقد
[237/أ]
(1/124)
يسمى
الشيء باسم ما يجاوره. قال عياض: هما نقطتان. قال الخليل: (ذُو الطُّفْيَتَيْنِ)،
حيَّة خبيثة. وأما (الأَبْتَرَ) فذكر النَّضر بن شميل: أنه صنف أزرق مقطوع الذنب،
ولا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. وقيل: (الأَبْتَر) الأفعى يفر من كل
أحد، ولا يراه أحد إلا مات. فيما ذكره أبو الفرج.
قال ابن التين: هي من شرار الحيات، وعن الداودي: هي التي تكون قدر شبر أو أكثر
شيئًا، وقلما تكون في البيوت.
وفي لفظ: «لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طُفْيتين»؛ وظاهره يقتضي أنهما واحد،
وأكثر الروايات، كما سبق من التفرقة، وإنما أمر بقتلهما لأن الجن لا يتمثل بهما،
على هذا أدخل البخاري حديث ابن عمر في هذا الباب، و (الجِنَّان) الحيات الطوال
البيض. وقلما تضر، فلذلك أمسك عن قتلها. وقال ابن فارس: حية صغيرة، و «يلتَمِسان»،
ويروى: (يلتَمعَان، ويخْطِفان البَصَر)
قال القرطبي: أي يخطفانه، وظاهره أن هذين النوعين، لها من الخاصية ما ذكره صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنهما، وهو غير بعيد.
(1/125)
3300 - حديث أبي سعيد: تقدم [ح: 19]، وقد تقدم ذكر الحباب في كتاب الحج. [خ 3300] 3301 - وقوله في حديث أبي هريرة: (رَأْسُ الكُفْرِ نحوَ المَشْرِقِ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الخَيْلِ وَالابِلِ، وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الغَنَمِ). وفي حديث أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: (أَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا، أَلَا إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ)؛ يريد أن رأس الكفر كان في عهده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين قال ذلك. وأن خروج الدجال من المشرق أيضًا من قرية تسمى رُسقاباد [237/ب] فيما ذكره الطبراني، وهو فيما بيَّن ذلك منشأ الفتن العظمية. و (الفَخْرُ) الافتخار وعد المآثر القديمة تعظمًا. و (الخُيَلاءُ) الكبر، واحتقار الناس؛ قال جلَّ وعزَّ: {واللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]. [خ 3301] و (الوَبَرِ) وإن كان من الإبل دون الخيل، فلا يمتنع أن يكون وصفهم به؛ لكونهم جامعين بينهما، وكأنه إخبار عن أكثر حال أهل الغنم وأهل الإبل. و (الفَدَّادُونَ) -بتشديد الدال- جمع فداد، قال أبو عبيدة: هم المكثرون من الإبل، وهم جفاة وأهل خيلاء، وهو الذي يملك من المائتين إلى الألف. وقال أبو العباس: هم الجمَّالون، والبقَّارون، والحمَّارون، والرِّعيان. وقال الأصمعي: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم وأموالهم ومواشيهم. قال: والفديد: الصوت الشديد.
(1/126)
وقال أبو عمرو الشيباني: هو بالتخفيف جمع فدَّاد بالتشديد، وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها، حكاه أبو عبيد وأنكر عليه، وعلى هذا المراد بذلك أصحابها، بحذف مضاف؛ قال القرطبي: أما الحديث فليس فيه إلا رواية التشديد وهو الصحيح على ما قاله الأصمعي وغيره، قال ابن التين: إنما ذم ذلك وكرهه؛ لأنه يشغل عن الدين ويلهي عن الآخرة فتكون معها قساوة القلب. و (السَّكِينَة) السكون والطمأنينة والوقار والتواضع بخلاف ما ذكره في (الفَدَّادِينَ)، قال ابن خالويه: وهو مصدر سكن سكينة، وليس في المصادر له شبيه. إلا قولهم: عليه ضريبة. وقد رددنا هذا القول في كتابنا المسمى بـ «الميس إلى كتاب ليس» بأن أبا علي الفارسي قال في كتاب «الحجة»، وذكر قوله: شبيه هذا كثير جدًّا مثل النذير والنكير وغدير الحي، ولا اعتداد بالهاء.3302 - وقال القرطبي: قيل إن هذه الإشارة [238/أ] صدرت عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو بتبوك، وبينه وبين اليمن مكة والمدينة، يؤيد هذا قوله في حديث جابر: «والإيمان في أهل الحجاز»، فعلى هذا يكون المراد بأهل (اليَمَن) أهل المدينة، ومن عند يَلَمْلَم إلى أوائل اليمن. وقيل: كان بالمدينة؛ ويؤيده أن كونه بالمدينة، كان غالب أحواله، وعلى هذا فتكون الإشارة إلى سُبَّاق أهل اليمن أو إلى القبائل اليمنية الذين وفدوا على أبي بكر بفتح الشام وأوائل العراق، وإليه الإشارة بقوله: «إني لأجدُ نَفَس الرحمن من قبل اليمن»، وزعم الحكيم الترمذي أن هذا إشارة إلى أويس القرني. [خ 3302]
(1/127)
قال
النووي: فـ: (أشَارَ إلى نَاحِيةِ اليَمَن) وهو يريد مكة والمدينة، ونسبهما إلى
اليمن؛ لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا الركن اليماني، وهو بمكة، شرفها
الله تعالى لكونه إلى ناحية اليمن. وقيل: أراد مكة، فإنه يقال: إن مكة من تِهامة،
وتِهامة من أرض اليمن، وقيل: المراد بذلك: الأحبار؛ لأنهم يمانيون الأصل، فنسب
الإيمان إليهم، لكونهم أنصاره؛ قاله أبو عبيد.
قال ابن الصلاح: لو جمع أبو عُبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث كما جمعها مسلم وغيره
وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولما تركوا الظاهر، ولقضوا بأن المراد اليمن
وأهله على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك، إذ من ألفاظه: «أتاكم أهل اليمن»، والأنصار
من جملة المخاطبين بذلك. فهم إذًا غيرهم، وكذا قوله: «جاء أهل اليمن»، وإنما جاء
حينئذٍ غير الأنصار، ثم إنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وصفهم بما يقضي بكمال
إيمانهم، ورتب عليه: «الإيمان يَمَانٍ»، فكان ذلك إشارة للإيمان إلى من أتاه من
أهل [238/ب] اليمن لا إلى المدينة ومكة شرفهما الله تعالى، ولا مانع من إجراء
الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة؛ لأن من اتصف بشيء، وقوي إيمانه به،
وتأكد اضطلاعه به، نسب ذلك الشيء إليه؛ إشعارًا بتميزه به فكذا حال أهل اليمن
حينئذٍ في الإيمان، وحال الوافدين منه في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وفي أعقابه موته؛ كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني وشبههما، ممن سلم
قلبه وقوي إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك؛ إشعارًا بكمال إيمانهم من غير
أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم؛ فلا منافاة بينه وبين قوله: «الإيمان في أهل
الحجاز»، ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذٍ لا كل أهل اليمن في كل زمان، فإن
اللفظ لا يقتضيه، وهذا هو الحق في ذلك.
(1/128)
وقوله:
(الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ القُلُوبِ) زعم السُّهَيلي أنهما لمسمى واحد كقوله:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: 86] والبثُّ: هو الحزن.
قال القرطبي: يحتمل أن يقال: (الْقَسْوَةَ) يراد بها أن تلك القلوب لا تلين ولا
تخشع لموعظة، وغلظها؛ لعدم فهمها، وقوله: (في رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) هو بدل من
(الفَدَّادِينَ) أي: القسوة في ربيعة ومضر الفدادين.
و (قرْنَا الشَّيطَانِ) جانبا رأسه، وقيل: هما جمْعَاه اللذان يغو بهما الناس.
وقيل: شيعتاه من الكفار. والمراد بذلك: اختصاص المشرق بمزيد تسلط من الشيطان ومن
الكفر. قال الخطابي: ضرب المثل بقرن لشيطان فيما لا يحمد من الأمور، وقيل: المراد
به ما ظهر بالعراق من الفتن كوقعة الجمل وصفين والخوارج، فإن أصل ذلك ومنبعه
بالعراق ومشرق نجد، وهي مساكن ربيعة ومضر، [239/أ]
إذ ذاك.
(1/129)
3303
- وقوله في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ
فَاسْألوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ
نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأى
شَيْطَانًا»، وعند ابن حبان في صحيحه: من حديث زيد بن أرقم مرفوعًا: «لا تسبوا
الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة»، وعند البزار: «صرخ ديك قريبًا من سيدنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال رجل: اللَّهمَّ العنه، فقال النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: مه، كلا إنه يدعو إلى الصلاة»، وفي كتاب «الترغيب والترهيب» لأبي
موسى الأصبهاني من حديث مُعمَّر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع: حدثني أبي، عن
أبيه أبي رافع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا ينهق الحمار
حتى يرى شيطانًا، أو يتمثل له شيطان، فإذا كان كذلك فاذكروا الله تعالى، وصلوا
عليَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»، و (الدِّيَكَة) جمع دِيَك -بكسر الدال وفتح
الياء- على وزن قردة، قال ابن سيده: وهو ذَكَر الدجاج، وقوله: وزقه الديك بصوت
زقًا، إنما أنث على إرادة الدجاجة؛ لأن الديك دجاجة أيضًا، والجمع القليل: أدياك،
والكثير: ديوك وديكة. وأرض مداكة: كثيرة الديكة، وعن الداودي: وقد يسمى الديك
دجاجة. [خ 3303]
أنشد المبرد:
[وليلةً بتُّ] بالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَني ... صَوْتُ الدَّجاجِ وضَرْبٌ
بالنَّواقيس.
وقال أبو نواس:
اسقني والليل داجِ قبل أصوات الدجاجِ
قال: والدجاجة تقع على الذكر والأنثى، قال القرطبي: في الحديث دلالة؛ لأن الله جل
وعز خلق للديك إدراكًا كما خلق للحمير، ويفيد [239/ب]
(1/130)
وأن
كل نوع من الملائكة والشياطين موجودان، وهذا معلوم في الشرع قطعًا، والمنكر لشيء
منهما كافر، قال: وكأنه إنما أمر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالدعاء عند صراخ
الديكة لِتؤمِّنَ الملائكة على ذلك، وتستغفر له وتشهد له بالتضرع والإخلاص،
فتتوافق الدعوتان فتقع الإجابة، قال عياض: وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين،
والتعوذ عند نهيق ال في الأصل: «الدجاجة».
كذا في الأصل، ووجدت لجرير البيت نفسه، وطرفه: «لَمَّا تَذَكَّرْت».
حمار؛ لأن الشيطان إذا حضر يُخاف شره، فيتعوذ منه، وذكر البخاري هنا:
3304 - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حدثنَا ابنُ جُرَيْجٍ) حديث:
(إذَا كَانَ جُنح الَّلَيلِ) المذكور قريبًا في صفة إبليس، ولم يذكره المزي تبعًا
لخلف وأبي مسعود، إنما ذكروه في صفة إبليس [ح: 3280]، وهو ثابت هنا كما تراه فيما
رأيت من نسخ كتاب البخاري، ثم زعموا أن البخاري رواه في الأشربة [ح: 5623] عن
إسحاق بن منصور عن روح، وهو كما تراه غير منسوب، ولما رواه أبو نعيم هنا عن أبي
أحمد: حدثنا ابن شيرويه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح. وقال
الجيَّاني: قال البخاري في باب ذكر الجن وتفسير البقرة [ح: 4505] والرقاق [ح:
6472] حدثنا إسحاق، حدثنا روح، ولم أجد إسحاق هذا منسوبًا عند أحد من شيوخنا في
شيء من هذه المواضع، وقد حدث البخاري في تفسير سورة الأحزاب [ح: 4799] وسورة (ص)
[ح: 4808] عن إسحاق بن إبراهيم عن روح، وحدث أيضًا في الصلاة في موضعين [ح: 1115 و
1221]، وفي الأشربة [ح: 5623] وغير موضع [ح: 6134] عن إسحاق بن منصور عن روح
فينظر. [خ 3304]
(1/131)
3305
- (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ
مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
يُدْرَى مَا فَعَلَتْ، وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَار [240/أ] إِذَا وُضِعَ
لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ
شَرِبَتْ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ كَعْبًا، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فقَالَ لِي: مِرَارًا؟
فَقُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟)، عند مسلم: «الفأرة مسخ، وآية ذلك أنه يوضع
بين يديها لبن الغنم، فتشربه ... » الحديث، والظاهر أنه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال هذا، ولا ثم أعلم بعد بما رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وذكر عنده صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ القِردة والخنازير أهن مَسْخ؟ فقال: «إن الله تعالى لم يجعل
لمسخ نسلًا ولا عقبًا»، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك. وقول ابن قتيبة رحمه
الله تعالى: أنا أظن أن القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت، إلا أن يصح
حديث أم حبيبة يعني به حديث ابن مسعود، فغير جيد لأنَّا أسلفناه من عند مسلم، وسبب
امتناع المسخ من شرب لبن الإبل؛ لأن لحومها وألبانها حرمت علي بني إسرائيل دون
الغنم، وقوله: (أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ): هو بهمزة استفهام، وهو استفهام إنكار
معناه: ما لي علم ولا عندي شيء إلا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولا
أنقل من التوراة. [خ 3305]
3306 - 3307 - حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها وأم شريك ذكر في الحج [ح: 1931]. [خ
3306 - 3307]
(1/132)
3308
- 3309 - 3310 - وحديث ذي الطُّفْيَتَيْنِ عن عائشة وابن عمر تقدما قريبًا [ح:
3297]، وقوله: (سِلْخَ حَيَّةٍ) قال ابن التين: ضُبط في بعض الروايات -بنصب السين-
وفي بعضها بالكسر وهو أولى لأنه اسم. بَابٌ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ تقدمت
أحاديثه في الحج وغيره [ح: 1826]. [خ 3308 - 3309 - 3310]
3317 - وقوله في حديث ابن مسعود: (عن يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ: كُنَّا مَعَ النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فِي [240/ب]
(1/133)
غَارٍ
فَنَزَلَتْ: {وَالْمُرْسَلَاتِ} [المرسلات: 1] فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا رطبةً
مِنْ فِيهِ، إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا،
فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ في جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا)، ثم قال: (قَالَ:
حَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ) التعليق عن حفص ذكره البخاري مسندًا عن ولده عمر عنه، والتعليق
عن أبي معاوية، فرواه مسلم عن يحيى بن يحيى وأبي بكر وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم
كلهم عنه، قال ابن مسعود: «نزلت {وَالْمُرْسَلَاتِ} [المرسلات: 1] على سيدنا رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليلة الجن، ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار
بمنى، فنزلَت»، وقوله: «رطْبةً»: أي مستطابة سهلة كالثمرة الرطبة السهلة الجَنى،
وقيل معنى: (نَتَلَقَّاهَا) لنسمعها منه لأول نزولها كالشيء الرطب في أول أحواله،
والأول أوقع بسببها، ويدل عليه قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الخوارج:
«يقرؤون القرآن رطْبًا لا يجاوز حناجرهم»، أي يستطيبون تلاوته ولا يفهمون معانيه،
وقوله: (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ) أي: قتلكم إياها؛ فإنه شر بالنسبة إليها، وإن كان
خيرًا بالنسبة إلينا، وفيه دليل: على صحة قول من قال باستصحاب الحال في أصل الضرر
في نوع الحيات. [خ 3317]
(بَاب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ)
(1/134)
3320
- (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ
حَدَّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ،
فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى [241/أ] جَنَاحَيْهِ
دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً). [خ 3320]
وفي «كتاب الطب» لأبي نعيم الحافظ من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن أبي
سلمة حدثني أبو سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إذا وقع الذباب
في الطعام فامقلوه، فإن في أحد جناحيه سمًا، وفي الآخر شفاء، وإنه يقدم السمَّ،
ويؤخر الشفاء»، وعند الدَّارَقُطْني من حديث سعيد بن المسيب عن سلمان نحوه. الشراب
هنا: يدخل فيه كل المائعات، قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ}
[النحل: 69] والجناح حقيقة للطائر، ويستعار للآدمي يقال جناح الآدمي؛ قال:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].
(1/135)
وقوله: (في إحدى جناحيه داء وفي الآخَر شِفَاءً) دليل لمن يجوز العطف على عاملين، وهو رأي الأخفش والكوفيين، فعلى هذا يقر الجر (والآخرِ)، ونصب (شِفَاء)، فعطف (الآخَرِ) على (أحَدِ) وعطف (شِفَاء) على (دَاء)، والعامل في (أحَدِ) حرف الجر الذي هو (فِي)، العامل في (دَاء): (إِنَّ)، فقد شركت الواو في العطف على العاملين اللذين هما (فِي) و (إِنَّ). وسيبويه لا يجيز ذلك، يؤيد قوله ما وقع في رواية (وفِي الآخَرِ شِفاءٌ) بإعادة حرف الجر، وقد أجازوا في المثل: ما كل سوداء تمرةً ولا بيضاء شحمة، فتمرة بالنصب على إعمال ما، ولا بيضاء شحمة بالرفع فيهما على الاستئناف، فإن كان روي في الحديث: «والآخَرُ شِفَاءٌ» -بالرفع فيهما- فهو على هذا الوجه، ويخرج به عن العطف على عاملين، ولكنه يحتاج إلى حذف مضاف في قوله: «وَالآخر شِفَاءً»؛ أي: ذو شفاء. وأيضًا ففي اللفظ مجاز وهو كون الداء في إحدى الجناحين.
(1/136)
واختلف
العلماء فيما له نفس إذا مات في ماء قليل أو مائع؛ كالذباب والعقرب والنمل [241/ب]
والخنفساء والزنبور، هل ينجس الماء؟ قال ابن المنذر: أجمعوا أنه لا ينجس بوقوع
الذباب فيه، واستدلوا بهذا الحديث انتهى. عند الشافعي قولان: الأول: ينجس، قال
شيخنا القشيري: وهو القياس، قال: واختلفت الشافعيون في القولين، هل يجريان في
نجاسة هذا النوع من الحيوان في نفسه أم لا؟ فمنهم من قال: نعم، ومنهم من أبى ذلك،
والمذهب أنها تنجس بالموت قولًا واحدًا، وإنما الخلاف في نجاسة ما وقع فيه من
المائعات لعموم البلوى، ولتعذر الاحتراز، واستدل بهذا الحديث على عدم نجاسة ما لا
نفس له سائلة بالموت، وطريقه أن يقال: لو نجس بالموت وهو قول أبي حنيفة، وقاسوا
على هذا البقُّ والزنبور والنمل والبعوض والقراد والجراد والعقرب والخنفساء
والصراصير والجعلان وحمار قبان ونبات وردان والنحل والبراغيث والنحل، وأما الشافعي
فعمدته أنها تتنجس بالموت، واختلف في روث السمك والجراد وما ليس له نفس سائلة، هل
هو نجس أم لا؟ وفي الحديث أمر مجزوم به، وإن لم يكن اللفظ دالًّا عليه بنفسه، وهو
أن الأمر بالغمس إنما هو لمقابلة الداء بالدواء، أو على رواية من روى: «وفي الآخر
دواء» يؤخذ منه أمرٌ آخر، وهو أن الأمر بالغمس ما يقتضي نفع الدواء من الداء؛ لأنه
لو لم يكن كذلك لما صح التعليل، ولو لم يذهبه لما كان في الأمر به.
فائدة: وإذا أردنا النظر في إلحاق غير الذباب به في حكم الغمس، فذلك يتوقف على
أمرين: أحدهما: أن نثبت العلة فيما نريد إلحاقه به، وهذا متعذر لا يرشد الطب إليه،
وإنما يدرك بنور النبوة، الثاني: [242/أ]
(1/137)
أن
يكون غمسه فيه مما يقيد في ذلك الداء، وهو أيضًا لا يعلم، ويؤخذ من الحديث إباحة
التداوي؛ لأن الغمس إذهاب ضرر الداء، فكان أصلًا في التداوي، ويحتمل أن يكون الداء
ما يعرض في أنفس المترفهين من التكبر عن أكله، حتى ربما كان سببًا لترك ذلك الطعام
وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع، وهذا مجاز، والحقيقة
أنه أمر يتعلق بالأمراض وبرئها. وقال ابن الجوزي: تعجب قوم من اجتماع داء ودواء في
شيء واحد، وليس ذلك بعجيب؛ فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها؛
والحية القاتل سمها يُدخلون لحمها في الترياق؛ والذباب يُدخلونه في أدوية العين
يسحقونه مع الإثمد؛ ليقوي البصر، ويأمرون بستر وجه الذي يعضه الكلب من الذباب، ويقولون:
إن وقع بصره عليه تعجل هلاكه.
وقال ابن بحر الجاحظ: عمر الذباب أربعون يومًا وهو في النار، وليس تعذيبًا له،
وإنما ليعذب به أهل النار، بوقوعه عليهم، فإنه لا شيء أضر على المكلوم من وقوعه
على كلمه، وفي «المنتهى» لأبي المعاني: الذُب -بالضم- الذباب، وجمع الذُّباب:
ذِبان، ولا يقال: ذِبَّانة، والجمع القليل: أذِبة، كغُراب وأغربة وغربان. قال
الشاعر:
ضرَّابةٌ بالمشفَر الأذبَّةُ
وقال هلال العسكري: الذباب واحد، والجمع: ذبان، والعامة تقول: ذبانة للواحد،
والذُبان للجمع، وهو خطأ. وفي «كتاب» أبي حاتم السجستاني: يقول: هذا ذباب للواحد
وذبابان في التثنية، ولا يقال: [242/ب]
(1/138)
ذُبانة
ولا ذِبانة. وفي «المحكم»: لا يقال ذبانة، إلا أن أبا عبيدة رواه عن الأحمر:
ذبابة، والصواب: ذبابٌ وهو واحد، وفي التنزيل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا} [الحج: 73] فسروه بالواحد، وحكى سيبويْهِ عن العرب: ذب في جمع ذباب. وفي
«الجامع» لأبي محمد عبدالله بن أحمد المالقي النباتي: ذباب الناس يتولد من الزبل،
وإن أخذ الذباب الكثير فقطعت رؤوسها، ويحك بجسدها الشعيرة التي تكون في الأجفان
حكًّا شديدًا، فإنه يبرئه. وإن سحق الذباب بصفرة البيض سحقًا ناعمًا، وضمدت به
العين التي فيها اللحم الأحمر من داخل؛ فإنه يسكن من ساعته، وإن حك بالذباب في
موضع داء الثعلب حكًّا شديدًا فإنه برؤه، وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن وجعه.
قال الخطابي: قال بعض من لا خلاق له: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحيه؟ وكيف
تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم الداء وتؤخر الدواء؟ وما أداها إلى ذلك؟ قال أبو
سليمان: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل؛ وذلك أن عامة الحيوان جمع فيها من الحرارة
والبرودة والرطوبة واليبوسة في أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، لولا تأليف الله
جل وعز لها. انتهى.
هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه بقراط فمن بعده، حتى قال الرئيس أبو علي في
«أرجوزته» المطولة التي اختصر منها القانون محتجًا لهذا ورادًا على من خالفه:
أما الطبيعتان والأركان يقوم من مزاجها الأبدان
وقول بقراط بها صحيح ماء ونار وثرى وريح
دليله في ذا بأن الجسما ... إذا ثوى عاد إليه رغما [243/أ]
ولو يكون الركن منها واحدًا .... لم تر بالآلام حيًّا فاسدًا
قال رحمه الله: ويقال لهذا الجاهل إن الذي ألهم النحلة وشبهها من الدواب إلى بناء
البيوت وادخار القوت، هو الملهم للذباب ما تراه في الكتاب.
3321 - حديث أبي هريرة ذكر معناه في الطهارة. [خ 3321]
3322 - وحديث أبي طلحة تقدم قريبًا [ح: 3225]. [خ 3322]
(1/139)
3323
- وذكر البخاري من حديث ابن عمر: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلاَبِ). [خ 3323]
3324 - وفي حديث أبي هريرة: (مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا نقَص مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ
يَوْمٍ قِيرَاطٌ إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ). [خ 3324]
3325 - وفي حديث السائب بن يزيد عن سفيان بن أبي زهير الشَّنَئِي: (مَنِ اقْتَنَى
كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِن عَمَلِهِ كُلَّ
يَوْمٍ قِيرَاطٌ، قال السَّائِبُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ إِي وَرَبِّ هذه القبلة)، وعند الترمذي
مصححًا: «من اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بضارٍ ولا كَلْبِ مَاشِيَةٍ نَقَصَ من أجره
كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ»، رواه من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر وعنده أيضًا
مصححًا من حديث الحسن عن عبد الله بن مُغفَّل: «لولا أن الكلاب أمةٌ من الأمم
لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم»، قال ويروى في بعض الحديث: «أن الكلب
الأسود البهيم شيطان»، والبهيم: الذي لا يكون فيه شيء من البياض، وقد كره بعض أهل
العلم صيد الكلب الأسود البهيم، وعند مسلم: «أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم
وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم»، وعن جابر: «أمرنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله،
ثم نهى [243/ب] صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن قتلها، ولولا أن الكلاب أمة من
الأمم لأمرت بقتلها»، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين اللتين بحاجبه». [خ
3325]
(1/140)
قرئ على الإمام أبي النون عن أبي المكارم بن الحسن بن منصور أخبرنا الحافظ زين الدين أبو بكر، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن علي أخبرنا أبو الطاهر الكاتب أخبرنا أبو الشيخ حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا إسحاق بن محمد القروي حدثنا الحكم بن طهير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لخالد بن الوليد: «انطلق فلا تدع بالمدينة كلبًا إلا قتلته، فانطلق فلم يدع كلبًا بها إلا قتله إلا كلبًا لعجوز في أقصى المدينة في مكان وحش، فخبرت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما تركناه لموضع العجوز يحرسها، قال: ارجع فاقتله، قال: فرجعنا فقتلناه، ثم قال: لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم، فإنه شيطان»، دخول الحديث الكلاب في هذا الموضع لما يأتي عن ابن عباس وغيره أنهم من الجن، والترجمة كلها في ذكر الجن.
(1/141)
قال
القرطبي: حديث ابن عمر هنا روي مطلقًا، وفي رواية عبد الله بن دينار عنه: «إلا كلب
صيد، وكلب غنم أو ماشية»، فيجب على هذا رد مطلق إحدى الروايتين إلى المقيد، فإن
القصة واحدة، وما كان كذلك وجب ذلك فيه بالإجماع، وإلى الأخذ بهذا الحديث ذهب مالك
وأصحابه وكثير من العلماء، فقالوا بقتل الكلاب إلا ما استثني منها، ولم يرو بقتل
ما عدا المستثنين منسوخًا، بل محكمًا، وقال أبو زكريا: أجمع العلماء على قتل الكلب
الكلِب والعقور واختلفوا [244/أ] في قتل ما لا ضرر فيه فقال إمام الحرمين: أمر
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أولًا بقتلها كلها، ثم نسخ ذلك، ونهى عن قتلها،
إلا البهيم، ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها سوى
الأسود، لحديث ابن مغفل، وقال أبو عمر: البهيم شيطان أي بعيد عن المنافع، قريب من
المضرة، وهذه أمور لا تدرك بنظر، ولا يوصل إليها بقياس، وإنما ينتهى إلى ما جاء
عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقد روي عن ابن عباس: «أن الكلاب من الجن، وهي
ضَعَفَة الجن، فإذا غشيتكم عند طعامكم، فألقوا إليها الشيء فإن لها أنفسًا». يعني:
أعينَا، وفي لفظ: «السود منها جن والمبقع منها جن»، قال صاحب «العين»: الحن: حي من
الجن منهم الكلاب البهم، وفي «الباهر»: الحن: -بالكسر- ضرب من الجن. قال ابن
الأعرابي: هم سفلة الجن وضعفاؤهم. وأنشد:
مختلف نجواهم حن وجن
(1/142)
قال
ابن عديس: يقال كلب جني، قاله أبو عمر، وروي عن الحسن وإبراهيم أنهما يكرهان صيد
الكلب الأسود البهيم؛ قال النووي: وإليه ذهب أحمد وبعض أصحابنا قالوا: ولا يحل
الصيد إذا قتله، وقال الشافعي ومالك وجماهير العلماء: يحل صيد الأسود كغيره، وليس
المراد بالحديث إخراج الأسود عن جنس الكلاب، ولهذا لو ولغ في الإناء وجب غسله كما
يغسل من الكلب الأبيض. قال أبو عمر: الذي نختاره: ألا يقتل منها شيء إذا لم يضر؛
لنهيه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يتخذ بشيء فيه روح غرضًا؛ ولحديث الذي سقى
الكلب؛ ولقوله: «في كل كبد حرَّى أجر»، وترك قتلها في كل الأمصار وفيها العلماء،
ومن لا يسامح في شيء من المنكر والمعاصي الظاهرة. وما علمت [244/ب]
فقيها من فقهاء المسلمين جعل اتخاذ الكلاب جرحة، ولا رد قاض شهادة متخذها، قال أبو
زكريا: مذهبنا إنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة، ويجوز اتخاذها للصيد والزرع
والماشية، وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لتصريح
الأحاديث بالنهي إلا ما استثنى، وأصحهما: يجوز، قياسًا على المستثنى عملًا بالعلة
المفهومة من الأحاديث، وهي الحاجة.
(1/143)
وهل يجوز اقتناء الجرو وتربيته للصيد أو للزرع أو للماشية؟ فيه وجهان: أصحهما: جوازه، قال أبو عمر: في الأمر بقتل الكلاب دلالة على أنها لا تؤكل، ألا ترى إلى الذي جاء عن عمر وعثمان في ذبح الحمام وقيل الكلاب، وفي هذا دليل على اقتراف حكم ما يؤكل وما لا يؤكل؛ لأنه ما جاز ذبحه وأكله لم يجز الأمر بقتله، قال: وأما قول من ذهب إلى قتل الأسود منها، فإنه شيطان، فلا حجة فيه؛ لأن الله جل وعز قد سمَّى من غلب عليه الشر من الإنس والجن شيطانًا، ولم يجب بذلك قتله، وقد جاء في الحديث المرفوع: «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رأى رجلًا يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانه»، وليس في ذلك ما يدل على أنه كان مَسخًا من الجن، ولا أن الحمامة مسخت من الجن، ولا أن ذلك واجب قتله، قال ابن العربي: نهى عن اقتنائها إلا لحراسة أو كسب، حتى لو كان مع الرجل شاة واحدة، لجاز له اتخاذ كلب يحرسها، روى ذلك الترمذي عن عطاء مقطوعًا، ولما ذكر حديث الذي سقى الكلب، قال: هذا يحتمل أن يكون قاله قبل النهي عن قتلها، ويحتمل أن يكون بعد، فإن كان الأول: فليس [245/أ]
(1/144)
بناسخ
له لوجهين: أحدهما: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أمر بقتل الكلاب، لم
يأمر إلا بقتل كلاب المدينة، لا بقتل كلاب البوادي، وهو الذي نسخ، وكلاب البوادي
لم يرد فيها قتل ولا نسخ، وظاهر الحديث يدل عليه. الثاني: لو وجب قتله لوجب سقيه،
ولا يجمع عليه حر العطش والموت، كما يفعل بالكافر والعاصي، فكيف بالكلب الذي لم
يعص، وفي الحديث الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أمر بقتل يهود
شكوا العطش، فقال: «لا تجمعوا عليهم حرَّ السيف والعطش» فسقوا، ثم قتلوا، قال ابن
التين: وفي حديث قتلها دلالة على أن قاتلها مأجور، ولا قيمة عليه، وإنما الجمع بين
قوله: «ينقص من أجره قيراطان»، وفي حديث أبي هريرة وسفيان: «قيراط»، فيحتمل أنه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما ذكر القيراط لم ينته الناس، فزاد في التغليط، أو
أن يكون راجعًا لكثرة الأذى من الكلب وفلته، وقال أبو عمر: أو يحمل على اختلاف
المواضع، فالقيراطان بالمدينة خاصة لزيادة فضلها، والقيراط في غيرها، أو أن يكون
القيراطين في المدن والقيراط في البوادي، وجاء في بعض الروايات: «نقص من أجره
قيراطان»، وهو صحيح؛ لأن نقص جاء لازمًا ومتعديًا، قال أبو زكريا: قال الروياني:
اختلفوا في المراد بما ينقص منه، فقيل: ينقص مما مضى من عمله، وقيل من مستقبله،
قال: واختلفوا في محل نقص القيراط، فقيل: ينقص قيراط من عمل النهار، وقيراط من عمل
الليل، وقيل: قيراط من عمل الفرض، وقيراط من عمل النفل، قال القرطبي: أقرب ما قيل
في ذلك قولان: أحدهما: أن جميع ما عمله من عمل ينقص لمن اتخذ ما نهي عنه [245/ب]
من الكلاب بإزاء كل يوم يمسكه جزآن من أجر ذلك العمل، وقيل: من عمل ذلك اليوم الذي
يمسكه فيه.
الثاني: أن يحط من عمله عملان أو من عمل يوم إمساكه عقوبة له على ما اقتحم من
النهي.
(1/145)
والقِيرَاط:
أصل لمقدار معلوم عند الله تعالى لكن جرى العرف في بلاد يعرف فيها القيراط؛ بأنه
جزء من أربعة وعشرين جزءًا ولم يكن هذا العرف عند العرب غالبًا، قال أبو زكريا
سفيان بن أبي زهير الشنائي: -بشين معجمة مفتوحة، ثم نون مثلها، وهمزة مكسورة- في
بعض النسخ المقيدة بالواو، وهو صحيح على إرادة التسهيل، ورواه بعضهم: شُنوي -بضم
الشين على إرادة الأصل-.
باب خَلْقِ آدَمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَذُرِّيَّتِهِ
في كتاب «الاشتقاق» لأبي جعفر النحاس، قيل: إنه اسم سرياني، وقيل: هو أفعل من
الأدمة، وقيل: أخذ من لفظ الأديم؛ لأنه خُلِقَ من أديم الأرض، قاله ابن عباس، وقال
قطرب: لو كان من أديم الأرض لكان على وزن فاعل، وكانت الهمزة أصلية، ولم يكن يمنعه
من الصرف مانع، وإنما هو على وزن أفعل من الأدمة، ولذلك جاء غير مجري، قال أبو
جعفر: وهذا القول ليس بشيء؛ لأنه لا يمتنع أن يكون من الأديم، ويكون على وزن أفعل،
تدخل الهمزة الزائدة على الهمزة الأصلية، كما تدخل على همزة الأدمة، فإن الأدمة
همزة أصلية؛ ولذلك أول الأديم همزة أصلية، فلا يمتنع أن يبنى منه أفعل، فيكون غير
مجرى كما يقال: رجل أعين، وعند الأنباري: يجوز أن يكون أفعل من أَدَمتُ بين
الشيئين إذا خلطت بينهما، وكان ماء وطينًا. فخلطا جميعًا، وفي «تفسير» محمد بن
جرير: أولى الأشياء فيه [246/أ]
(1/146)
أن يكون فعلًا ماضيًا. وقال النضر بن شميل: سمي آدم لبياضه، وروينا وعن ابن بري فيما «كتب على المعرب» لأبي منصور الجواليقي: آدم: اسم عربي؛ لقول ابن عباس: خلق من أديم الأرض، ولولا ذلك لاحتمل أن يكون مثل آزر أعجميًّا، وبكون وزنه أفعل أو فاعل مثل: فالخ. ويكون امتناع صرفه للعجمة والتعريف إذا جعل وزنه فاعل، وهو بالعبراني: آدام -بتفخيم الألف- على وزن خاتام، في «الوشاح» لابن دريد: خلق آدم مختونًا وكذا نبينا وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وسليمان وشعيب ويحيى وهود وصالح صلى الله عليهم أجمعين، زاد أبو الفرج في الكتاب «المنتظم»: وزكريا وبني أهل الرس صلى الله عليهما وسلم، وفي «تاريخ الطبري»: من حديث أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: «أمر الرب جل وعز بتربة آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فرفعت، فخلق آدم من طين لازب، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين كانوا في السموات اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس»، وفي حديث سعيد بن جبير عنه: «بعث رب العزة جل وعز إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم، ومن ثم سمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، ومن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينًا؟!» أي: هذِه الطينة أنا جئتُ بها، رواه عن ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عنه، زاد الخُتّلي في «الديباج»: فقال له الله: ألم تعوذني منك الأرض؟ قال: بلى. قال: لأخلقن خلقًا يسوؤك منها». وروينا في «تاريخ ابن عساكر» قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أهل الجنة ليس لهم كنى إلا آدم، فإنه يكنى أبا محمد»، وعن كعب: ليس أحد في الجنة له لحية إلا هو، وقيل: موسى. ذكره الطبري، وقيل: هارون [246/ب]
(1/147)
ومن
حديث أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة الهمداني،
عن ابن مسعود. وعن أناس من الصحابة قالوا: أرسل الله جل وعز جبريل؛ ليأتيه بطين
منها فعاذت بالله أن ينقصها، فرجع. وكذا قالت لميكال بعده، فأرسل ملك الموت، فلما
عاذت قال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم
يأخذ من مكان واحد، وفي حديث حبَّة [عن] علي: خلق آدم من أديم الأرض، ومن حديث عوف
الأعرابي، بسند صحيح عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «إن الله جل وعز خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من قبضة
قبضها من جميع الأرض»، وعن سلمان بسند جيد: خمر الله طينة آدم أربعين يومًا ثم
جمعه بيده، وعن ابن إسحاق: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن
ينفخ فيه الروح.
قال ابن فورك: كان خلقه على الصورة التي كان عليها من غير أن كان ذلك حادثًا أو
شيئًا منه عن توليد عنصر أو تأثير طبع أو فلك أو ليل أو نهار إبطالًا لقول
الطبائعيين: إن بعض ما كان عليه آدم من صورته وهيئته لم يخلقه الله، وإنما كان ذلك
من فعل الطبع أو تأثير الفلك، فنبه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بقوله: «إن الله
خلق آدم على صورته على ما كان فيه لم يشاركه في خلقه أحد»، واستفدنا بذلك بطلان
قول من قال بتوليد الطبع وإيجابه، وتأثير الفلك وتغييره، وخص آدم بالذكر بينها على
أن من شاركه من المخلوقات في معناه، هذه طريقة للعرب في التفهيم، بذكر أعلى ما في
الباب للدلالة على الأدنى، فإذا علم ذلك في آدم، علم أن سائر التصويرات من أولاده
وغيرهم حكمهم ذلك، وعند ابن منده من حديث جويبر عن الضحاك، [247/أ]
(1/148)
عن
ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق آدم من طين بيده، وخلق الطين من الزبدة،
والزبدة من الموج، والموج من البحر، والبحر من الظلمة، والظلمة من النور، والنور
من الحر، والحر من الآية، والآية من المصورة، والمصورة من الياقوتة، والياقوتة من
الكن، والكن من لا شيء.
ومن حديث أبي صالح، عن ابن عباس ومرة، عن عبد الله: خلق الله آدم بيده؛ لكي لا
يتكبر إبليس عنه، فجعله بشرًا أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة
ففزعوا منه، وكان أشدهم منه فزعًا إبليس، ويقول: لأمرٍ ما خلقت، لئن سلطت عليه
لأهلكنه. قال ابن منده: وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نحوه، وفي لفظ
عن ابن عباس: أربعين سنة طينًا، وأربعين صلصالًا، وأربعين من حمأ مسنون، وتم خلقه
بعد مائة وعشرين سنة، وقال ابن مسعود: بعد مائة وستين سنة. وعن ابن عباس: مكث أربعين
ليلة جسدًا مُلقًى، وعن ابن سلام: خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل.
قال البخاري: (قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] إِلَّا
عَلَيْهَا حَافِظٌ)
هذا التعليق رواه محمد بن جرير عن محمد بن سعد، حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه
عن ابن عباس: قوله جل وعز: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:
4]، قال: كل نفس لما عليها حافظ: حفظةٌ يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن
آدم قُبضت إلى ربك جلَّ وعزَّ، وفي «تفسير» ابن عباس جمع ابن أبي زياد لما عليها
حافظ يداه ورجلاه وملكاه اللذان يحفظان عليه عمله، قال أبو جعفر: اختلفت القراء في
قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر وحمزة: {لمَّا} -بالتشديد- وذكر الحسن أنه قرأه كذلك،
يقول: إلا عليها حافظ، وكذا كل شيء بالقرآن بالتثقيل، وقرأه أبو عمرو ونافع
بالتخفيف، بمعنى: إن كل [247/ب]
(1/149)
نفس
لعليها حافظ، وعلى أن اللام جواب (إنْ) و (مَا) التي بعدها صلة، وإن كان كذلك لم
يكن مشددًا، والقراءة التي من اختار غيرها في ذلك بالتخفيف؛ لأن ذلك هو الكلام
المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة أهل المعرفة بكلام العرب أن يكون
معروفًا من كلام العرب، غير أن الفراء كان يقول لا يعرف جهة التثقيل في ذلك، قال:
ونرى أنها لغة في هذيل، يجعلون (إلا) مع (إن) المخففة (لما)، ولا يجاوزون ذلك كأنه
قال: ما كل نفس إلا عليها حافظ، فإن كان صحيحًا ما ذكر الفراء من أنها لغة هذيل،
فالقراءة بها جائزة صحيحة، وإن كان الاختيار أيضًا إذا صح ذلك عندنا بالقراءة
الأخرى وهي التخفيف؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، ولا ينبغي أن نترك الأعرف
إلى الأنكر، وروينا في كتاب «المعاني» لأبي زكريا يحيى بن زياد قرأه العوام
{لمَّا} بالتشديد، وخففها بعضهم، وذكر الماوردي في «تفسيره»: أن الشجرة التي نُهي
عنها آدم هي البر، وقيل السن، وقيل الكافور، وقيل الكرم، وقيل العلم: وهو علم كل
شيء، وقيل: علم ما لا يُعلم، وقيل: شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة.
قال البخاري: (وقَالَ مُجَاهِدٌ {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8]
النُّطْفَةُ فِي الْإِحْلِيلِ).
هذا التعليق رواه أبو جعفر من طرق منها: عن نصر الوشاء، حدثنا أبو قطن عمرو بن
الهيثم عن ورقا عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن أبي بكر عن مجاهد، ولفظ ليث عنه
على أن يرد الماء في الإحليل، وعن الضحاك: أي إن شئت رددته كما خلقته من ماء، وفي
رواية: «إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الصبي إلى النطفة»، وقال ابن زيد:
يعني أنه على حبس ذلك الماء لقادر، وعن قتادة معناه: أن الله تبارك وتعالى لقادر
على بعثه وإعادته، قال أبو جعفر: وأولى الأحوال [6] بالصواب قول من قال: معناه أن
الله تعالى على رد [248/أ]
(1/150)
الإنسان
المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حيًّا كهيئته قبل مماته لقادر، وفي «تفسير» عبد
عن علي قال: أن يرده نطفة في صلب أبيه.
قال البخاري: (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ {فَتَلَقَّى آدَمُ} [البقرة: 37] فَهُوَ
قَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23])
3326 - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ، طُولُهُ
سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فهي تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ
ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ
وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ إلَى الْآنَ).
[خ 3326]
وقد أسلفنا قدر الذراع في باب صفة الجنة، وذكر القرطبي: إن الله جل وعز يعيد أهل
الجنة إلى خلقة أصلهم الذي هو آدم، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله عليه في الجنة،
وكان طوله فيها ستين ذراعًا في الارتفاع من ذراع نفسه، قال: ويحتمل أن يكون هذا
الذراع مقدرًا بأذرعتنا المتعارفة عندنا، وقال أبو زكريا: خُلق آدم في أول نشأته
على صورته التي كان عليها في الأرض، وتوفي عنها وهي ستون ذراعًا، ولم ينتقل
أطوارًا كذريته، كانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير، وكأنهما تبعا
ابن فورك في هذا، لكنه قال كلامًا جيدًا خيرًا مما قالاه وهو: صورة آدم صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كهذه الصورة إبطالًا لقول من زعم أنها كانت على هيئة أخرى
كما في بعض الروايات من ذكر طوله، وذلك مما لا يوثق به؛ إذ ليس [248/ب]
(1/151)
في
ذلك خبر صحيح، وإنما المعوَّل في مثله على كعب، أو وهب من حديث التورية ولا يعتد
بشيء من ذلك، ولم يثبت من جهة أخرى أنه كان على خلاف هذِه الخلقة، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث أن الطبري روى من حديث سوار، حدثنا ختن عطاء عن عطاء بن أبي رباح،
قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، يسمع كلام
أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله ذلك في دعائها،
فخفضه الله إلى الأرض، وكذا قاله قتادة وأبو صالح عن ابن عباس وأبو يحيى القتات عن
مجاهد عن ابن عباس، فهذه الآثار ليس فيها عن كعب ووهب شيء والله أعلم.
وقوله: وفي كتاب «العرش» تأليف ابن أبي شيبة: حدثنا القاسم بن خليفة، حدثنا عمرو
بن محمد، حدثنا طلحة بن عمر الحضرمي عن ابن عباس به.
(اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ): فيه دلالة على تأكيد السلام، وأنه مما شرع،
ثم لم ينسخ، وجعل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إفشاءه سببًا
للمحبة الدينية ودخول الجنة العلية، وهذا يشهد لمن قال بوجوبه، وهو أحد القولين
للعلماء ذكره القرطبي.
وفيه: أن الوارد على جلوس يسلم عليهم، والأفضل أن يقول: السلام بالألف واللام، قال
أبو زكريا: فلو قال: سلام عليكم كفاه، ورد السلام يستحب أن يكون بزيادة على
الابتداء، وأنه يجوز في الرد أن تقول: السلام عليكم، ولا يشترط أن يقول: وعليكم
السلام، وسيأتي له زيادة في الاستئذان [ح: 6227].
3328 - حديث أم سليم تقدم في الطهارة [ح: 130]. [خ 3328]
(1/152)
3329
- وقول ابن سلام: (إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا
نَبِيٌّ؛ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، قال: وَمَا أَوَّلُ
طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فقال: زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ»، قال:
وَمِنْ [249/أ] أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ
شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ، فقال: «إِذَا غَشِيَ الَّرجُلُ الْمَرْأَةَ
فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَت كَانَ الشَّبَهُ
لَهَا، فقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ... » الحديث. [خ 3329]
وفي لفظ: «أخبرني جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ عبدالله: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ»، وعند البيهقي في «الدلائل»: «سأله عن السواد الذي في القمر»،
بدل: (أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟) وفيه: «لما قالت اليهود ما قالوا في ابن سلام قال
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أجزنا الشهادة الأولى، وأما هذِه فلا».
وعند مسلم أن يهوديًا قال: يا رسول الله أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسموات؟ فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول
الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟
قال: زيادة كبد نون، قال: فما غداؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان
يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين منها تسمى سلسبيلًا، وسأله عن
الولد ... » فذكر الحديث. وفيه: «سألني هذا عن الذي سألني، وما أعلم منه شيئًا حتى
أتاني الله به». وعند البيهقي من حديث أبي ظبيان عن أصحابه من الصحابة: «أما نطفة
الرجل فبيضاء غليظة، منها العظام والعصب، وأما نطفة المرأة، فحمراء رقيقة، منها
اللحم والدم، فقال: أشهد أنك رسول الله».
(1/153)
وعند
البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مسندًا: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً فيَكَفَؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا
يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ،
وإدامهم بالامٌ ونون، قالوا: ما هذا؟ قال: ثور وحوت يأكل من زيادة كبده سبعون
ألفًا» [ح: 6520]، وعن أبي هريرة مرفوعًا: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ
طَرَائِقَ رَاغِبِينَ ورَاهِبِينَ وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ
بَقِيَّتَهُم النَّارُ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ
قَالُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ
أَمْسَوْا».
ولما ذكر عياض قول قتادة: الحشر الثاني: نار تحشرهم من [249/ب]
المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف
منهم، قال: هذا في الدنيا قبل قيام الساعة، وهو آخر أشراطها، كما ورد عند مسلم،
وفيه: «وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن، ترحل الناس»، وفي رواية: «تطرد الناس إلى
محشرهم»، وفي حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ بأرض الحجاز»، ويدل على
أنها قبل القيامة قوله: «تقيل معهم حيث قالوا»، وفي لفظ: «فإذا سمعتم بها فاخرجوا
إلى الشام».
(1/154)
ولما
ذكر الحَلِيمي في «المنهاج» حديث: «يحشر الناس على ثلاث طرائق»، قال: هذا في
الآخرة، والثلاث طرائق إشارة إلى الأبرار والمخلصين والكفار، فالأبرار: على
النجائب، والمخلصون: على الأبعرة، والكفار: يبعث الله جل وعز إليهم ملائكة يقيض
لهم نارًا تسوقهم»، قال: وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي: «تحشر الناس ثلاثة
أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم»، وفيه: «أما أنهم يتقون بوجوههم كل
حدب وشوك»، وعند الغزالي: «قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس؟ قال: اثنان على
بعير، وخمسة على بعير، وعشرة على بعير»، وعند النسائي عن أبي ذر: «يحشرون ثلاثة
أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوج يمشون
ويسعون»، وعند ابن الجوزي من حديث الضحاك عن ابن عباس: «إذا اجتمع أهل الجنة تحت
شجرة طوبى، أرسل الله جل وعز إليهم الحوت الذي قرار الأرض عليه، والثور الذي تحت
الأرضين، فينطح الثور الحوت بقرنيه فيزكيه لأهل
الجنة، فيأكلونه فيجدون فيه ريح كل طيب، وطعم كل ثمرة»، وقال كعب: «يقول الله جل
وعز لأهل الجنة إن لكل ضيف جزورًا، وإني أجزَرُكُم اليومَ ... » الحديثَ، قال:
فكأنهم أعلموا أن الدنيا ذهبت وذهب ما كان يحملها فلا رجوع إليها، وهذه الدار هي
دار الإقامة، وسيأتي لهذا تتمة في كتاب الرقاق.
3330 – (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، نَحْوَهُ، يَعْنِي: لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ
اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا). [خ 3330]
قال القرطبي: (خَنَز) بفتح النون في الماضي، وقد تكسر. انتهى كلامه، وفيه نظر؛ لما
ذكره ابن سيده: خَنِزَ اللحم والتمر والجوز خُنُوزًا فهو خَنِز وخَنَز فَسَدَ،
الفتح عن يعقوب.
(1/155)
قال
القرطبي: كان المن والسلوى يسقط على بني إسرائيل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس،
فيؤخذ منه بقدر ما يغني ذلك اليوم إلا يوم الجمعة فإنهم يأخذون له وللسبت، فإن
قعدوا به إلى أكثر من ذلك فسد ما ادخروا، فكان ادخارهم فسادًا للأطعمة عليهم وعلى
غيرهم. انتهى.
يخدش في هذا ما رويناه في كتاب «الحلية» عن وهب بن منبه: وجدت في بعض الكتب عن
الله جل وعز: لولا أني كتب النتن على الميت لحبَسَه أهلُه في بيوتهم، ولولا أني
كتبت الفساد على الطعام لخزَنَته الأغنياء عن الفقراء.
و (حَوَّاء) -بالمد- قال ابن عباس: سُميت بذلك؛ لأنها أمُّ كل حيٍّ، وقيل: لأنها
خُلقت من ضلع آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ القصرى الأيسر، وهو حي قبل دخوله
الجنة، وقيل: في الجنة.
ومعنى (خُلقَت) أي: أُخرجت كخروج النخلة من النواة، قال: ويحتمل أن يكون قصد بهذا
المثل، أي: فهي كالضلع، يوضحه قوله في حديث أبي هريرة: «لن تستقيم لك على طريقةٍ،
فإن استمتعتَ بها استمتعتَ وبها عَوَج، فإن ذهبتَ تُقيمُها كسرتَها وكسرُها
طلاقُها».
والعَوَج بالفتح في الأجسام المحسوسة، وبالكسر في المعاني، وقال ثعلب: هو عند
العرب بكسر العين في كل ما لا يُحاط به، وبفتح العين في كل ما يُتحصَّل، فيقال: في
الأرض عَوج، وفي الدين عَوج؛ لأن هؤلاء يتسعان ولا يُدركان، وفي العصا عِوج، وفي
السِّن عِوج؛ لأنهما يُحاط بهما ويُبلغ كُنههما.
3331 - وقوله: (استَوصُوا بالنِّسَاء) قال أبو الفرج: يحتمل وجهين، أحدهما: أن
يكون معناه: أوصوا بهن، وقد جاء استفعل بمعنى افعل، قال جل وعز:
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة: 186]، وقال: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا}
[الشورى: 26]، قال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيبُ [خ 3331]
(1/156)
قال:
والثاني: أن يكون استفعل على أصله وهو طلب الفعل، فيكون معناه: اطلبوا الوصية من
المريض بالنساء؛ لأن عائد المريض يستحب له أن يحثَّ المريض على الوصية، وإنما خَص
النساء بالذكر لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن. قال القرطبي: يعني اقبلوا
وصيتي فيهن واعملوا بها، واصبروا عليهن وارفقوا بهن وأحسنوا إليهن.
3332 - حديث عبد الله تقدم في باب ذكر الملائكة [ح: 3208]. [خ 3332]
3333 - وحديث أنس تقدم في الطهارة [ح: 318]. [خ 3333]
(1/157)
3335 - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابنِ مَسعُودٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ) [خ 3335] (الكِفل) -بكسر الكاف- النصيب والجُزء، وعن الخليل: الكفل من الأجر والإثم هو الضعف. وقوله: (أولُ مَن سَنَّ القَتْل) جارٍ في الخير والشر كما في الصحيح: «مَن سَنَّ في الإسلام سُنة حسنة كان له أجرها وأجر 212 من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سَن في الإسلام سُنًّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وهذا والله أعلم ما لم يتب ذلك الفاعل الأول من تلك المعصية؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وابن آدم المذكور هنا هو قابيل؛ إذ قتل أخاه هابيل لما تنازعا في تزويج إقليميا، وقصتهما مشهورة. انتهى. قال الطبري: وأهل العلم يختلفون في اسم القاتل، فبعضهم يقول: هو قين بن آدم، وبعضهم يقول: هو قَاينُ بن آدم، وبعضهم يقول: هو قابيل. واختلفوا أيضًا في سبب قتله هابيلَ، فقال عبد الله بن عمرو: إن الله جل وعز أمر ابني آدم أن يقربا قربانًا، وأن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه، وصاحب الحرث قرَّب شرَّ حرثه، فتقبل الله قربان الأول. وقال ابن عباس: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا: لو قربنا قربانًا، فقرَّبا، فتُقبل من أحدهما. وقال الحسن: لم يكن الرجلان اللذان قال الله جل وعز فيهما: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة: 27] كانا من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول من مات.
(1/158)
قال أبو جعفر: وذُكر أن في التوراة أن هابيل قُتل وله عشرون سنة، وأن أخاه الذي قتله كان ابن خمس وعشرين سنة. وفي «تفسير الثعلبي» قال معاوية بن عمار: «سألت الصادقَ: أكان آدم يزوِّج ابنتَه من ابنه؟ فقال: معاذ الله! وإنما هو لما أهبط إلى الأرض ولدت حواء بنتًا فسمتها عناقًا، وهي أول مَن بغى على وجه الأرض، فسلط الله عليها مَن قبلها فولدت له على إثرها قابيل، فلما أدرك أظهر الله له جنية يقال لها: جمانة، وأوحى الله إليه زوِّجها منه، فعتب قابيل على أبيه وقال: أنا أسنُّ منه وكنت أحقَّ بها، فقال: يا بني إن الله أوحى إليَّ بذلك، فقرّبا قربانًا ... » الحديثَ. قال ابن عباس: فقتله عند نود. وقال غيره: عند عقبة حرا. وقيل: عند المسجد الأعظم بالبصرة. وقال ابن عباس: من قال: إن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال شعرًا فقد كذب على الله وعلى رسوله، إن الأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء نبيُّنا فمَن قبله صلى الله عليهم أجمعين. وقال السُّهَيلي: تفسير هابيل هبة الله، فلما قتل وولد شيث سمَّاه بذلك، ومعناه: عطية الله بدلًا من الهبة. وفي «تاريخ ابن واصل» الذي على السنين: ذكر بعض المؤرخين أن المقتول قابيل بن آدم، واشتق اسمه من قبول قربانه. (بَابٌ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)
(1/159)
3336 – (قَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا). [خ 3336] قال الإسماعيلي: أخبرني عبد الله بن صالح، حدثنا محمد بن إسماعيل وليس بالبخاري، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد به. وأما حديث يحيى بن أيوب فإن أبا يعلى حدثنا إملاءً من أصله العتيق، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني يحيى بن سعيد عن عمرة قالت: كان بمكة امرأة مزَّاحة ونزلت على امرأة مثلها، فبلغ ذلك عائشة فقالت: صدق حِبي، سمعته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «الأرواح جنود مجنَّدة» الحديث، وفي «اعتلال القلوب»: أن المزاحة كانت بمكة، وأنها لما قدمت من المدينة نزلت على امرأة مثلها مزاحة، فذكرت ذلك عائشة للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: «سبحان الله! الأرواح جنود مجندة ... » الحديث. قال الإسماعيلي: أبو صالح ليس من شرط الكتاب، ويحيى بن أيوب المصري أيضًا هو عنده ممن لا يخرجه في هذا الكتاب في الرواية إلا استشهادًا، ثم جاء بهذا الحديث وهما راوياه مرسلًا بلا خبر صار أقوى منه إذ لو ذكرهما، وبنحوه ذكره أبو نعيم ثم قال: كلتا الروايتين ذكرهما مرسلًا بلا رواية، وأراه كان عنده عن أبي صالح عن الليث، فكف عن ذكره.
(1/160)
ورواه مسلم في «صحيحه» من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقال ابن منده في كتاب «الأرواح»: رواه إسحاق الفروي عن علي اللَّهَبي، عن الزهري عن عروة عن عائشة بزيادات، ورواه أبو هلال المصري عن الزهري عن عروة، ورواه أيضًا من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن بُرْقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة، قال: رواه جماعة عن جعفر منهم المعافى وعمر بن أيوب، ومن حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ومن حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاوِر عن عكرمة عن الحارث بن عميرة عن سلمان، ومن حديث محمد بن أبي المهاجر عن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود، ومن حديث أبي هاشم الزماني عن زاذان عن ابن عمر، ومن حديث عبد الرحمن بن مغراء عن أزهر بن عبد الله الأزدي، عن ابن عجلان عن سالم عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، ومن حديث درّاج عن عيسى بن مالك عن ابن عمرو. قال الخطابي: هذا تأول على وجهين، أحدهما: أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير أو الشر والصلاح أو الفساد، فإن كلَّ أحد يحنُّ إلى شكله. انتهى، قد أسلفنا هذا بيِّنًا في الحديث، فلا حاجة إلى التخرُّص، قال: والوجه الآخر: أنه إخبار عن رد الخلق في حال العبد على ما روي في الأخبار: «أن الله جل وعز خلق الأرواح قبل الأجسام، فكانت تلتقي فتشامُّ كما تشامُّ الخيل، فلما التبست بالأجسام تعارَفَت بالذكر الأول، فصار كلٌّ منهما إنما يعرف وينكر على ما سبق له من العهد القديم».وقال بعضهم: (جُنودٌ مجَنَّدَة) أي: أجناس مجنَّسة، وقيل: جموع مجمَّعة، وهذا التعارف لأمر جعله الله جل وعز فيها وجبلها عليه، وأشبه ما فيه أن يكون تعارفها موافقة صفاتها التي خلقت عليها وتشابهها في شيمها التي خلقت بها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسادها، قال ابن الجوزي: فمن وافق قسيمه أَلِفه، ومن باعده نافره وخالفه، وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض؛ فإنها كانت موجودة قبل الأجسام.
(1/161)
يؤيده «أن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر».قال القرطبي: يستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح يفتش عن الموجب لتلك النفرة فإنه ينكشف له، فيتعين عليه أن يسعى في إزالة ذلك حتى يتخلص من ذلك الوصف المذموم، وكذلك القول فيما إذا وجد من نفسه ميلًا لمن فيه شر وشبهه. وشاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلف بين الأشخاص، والشكل يألف شكله. ولما نزل علي بن أبي طالب الكوفة قال: يا أهل الكوفة، قد علمنا خَيِّركم من شريركم، فقالوا: بم ذلك؟ قال: كان معنا ناس من الأخيار فنزلوا عند ناس فعلمنا أنهم من الأخيار، وكان معنا ناس من الأشرار فنزلوا عند ناس فعلمنا أنهم من الأشرار. وكان كما قال رضي الله عنه. عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتديبَابُ قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25] ذكر أبو الفرج الأموي في «تاريخه» أنه ورد في بعض الأحاديث، أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «كان اسم نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يشكر، ولكثرة بكائه أوحى الله جل وعز إليه: كم تنوح؟ فسُمي نوحًا»، وزعم أبو القاسم السُّهَيلي: أن اسمه كان عبد الغفار، وسُمي نوحًا لكثرة نوحه. وفي «تاريخ الطبري» عن ابن عباس: كان بين نوح وإدريس صلى الله عليهما وسلم ألف سنة. وعن الحكم: كان بين نوح وآدم صلى الله عليهما وسلم ثماني مئة سنة. قال الثعلبي: أرسله الله جل وعز إلى ولد قابيل ومَن معهم من ولد شيث وله خمسون سنة، ولما أُمر باتخاذ السفينة قيل له: اغرس الساج فغرسه حتى أتى عليه أربعون سنة، فلما أدركَ صنع السفينة ثمانين ذراعًا، وعرضها خمسين ذراعًا، وسمكها في السماء ثلاثون، والذراع إلى المنكب. وعن ابن عامر: طولها ستمئة ذراع وستون ذراعًا، وعرضها ثلاث مائة وثلاثون ذراعًا، وسمكها ثلاثة وثلاثين ذراعًا.
(1/162)
وعن
وهب: كان نجارًا إلى الأدمة ما هو رقيق الوجه، في رأسه طول، عظيم العينين، غليظ
الفصوص، دقيق الساقين، طويل اللحية عريضها. وأرسل الطوفان على قومه في سنة ست مئة
من عمره، ولبث في السفينة مئة وخمسون يومًا. وفي «الوشاح»: أسماء كنائن نوح، اسم
امرأة سام محْلَث مَرْبُوا، وامرأة حام أزَيْف نسا، وامرأة يافث زَدْ قَتْ
نَبَّتْ. وفي «الترمذي» محسَّنًا من حديث سمرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال: «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم».- قال البخاري:
(قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {بَادِيَ الرَّأي} [هود: 27] ما ظهر لنا). هذا التعليق رواه
ابن أبي حاتم عن العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني محمد بن شعيب، أخبرني عثمان بن
عطاء عن أبيه به.- قال البخاري: (قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {أَقْلعِي} [هود: 44]
أَمسكي). رواه أيضًا عن أبيه، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي
طلحة عنه.- قال البخاري: (وَقَالَ مُجاهِدٌ: {الْجُودِيِّ} [هود: 44] جَبَلٌ
بِالجَزيرَةِ). رواه أيضًا عن حجاج بن حمزة، حدثنا شبابة، حدثنا ورقاء عن ابن أبي
نجيح عنه بلفظ: الجوديُّ جبلٌ بالجزيرة، تشاممت الجبالُ يوم الغرق وتطاولت، وتواضع
هو لله جل وعز فلم يغرق، فأرست عليه سفينة نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وسيأتي ذكره في التفسير مطولًا [ح: 4680].3337 - 3338 - حديث الدجال تقدم في
الجنائز [ح: 1377] [خ 3337 - 3338]
3339 - وحديث الشهادة يأتي في التفسير [ح: 4487]. [خ 3339]
(1/163)
3340
- وقول ابن التين في حديث الشفاعة: (فَرُفِعَ إِلَيْه الذِّرَاعُ) الصواب: رفعت
إليه، إلا أنه جائز في المؤنث الذي لا فرج له التأنيث والتذكير، والذراع مؤنثة،
ولذلك قال: (كَانَتْ تُعْجِبُهُ). قال: وهذا على ما في بعض النسخ بضم (الذِّرَاعُ)
ونصبها بيِّنٌ يكون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو رافعها، ويقرأ: (فَرُفِعَ) بنصب
الراء. انتهى، قد تقدم أن اللغويين جميعهم على تأنيث (الذِّرَاعُ) وتذكيره إلا
سيبويه فإنه لا يرى فيه إلا التأنيث، فلا حاجة إلى القاعدة التي ذكرها؛ لأن مثل
هذا لا يكون في المسموع، وقوله:: (وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ). قال عياض: محبته لها
لنضجها وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها وحلاوة مذاقها وبُعدها عن مواضع الأذى. وقد
روى الترمذي عن عائشة قالت: «ما كان الذراعُ أحبَّ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غِبًّا،
فكانت تعجل إليه؛ لأنها أسرعها نضجًا». [خ 3340]
وقوله: (فَنَهَس) أكثر الرواة رووها بالمهملة، وفي رواية ابن ماهان: بالمعجمة،
وكلاهما صحيح بمعنى: أخذ بأطراف أسنانه بالمهملة، وأما المعجمة فبالأضراس.
(1/164)
وقوله:
«أَنَا سَيِّدُ النَّاس» يريد الذي يفوق قومه ويُفزع إليه في الشدائد. قال عياض:
وخص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها وتسليم جميعهم له، ولكون آدم وجميع ولده تحت
لوائه، فإن قيل: كيف يجمع بين هذا وقوله: «لا تفضلوني على يونس»؟ قيل: لعل هذا كان
قبل إعلامه بسيادة ولد آدم، والفضائل لا تنسخ إجماعًا، فتعينت القبلية ولله الحمد،
وزعم بعضهم أنه نهى عن تفضيله عليه لأمور، منها أن التفضيل لشخص يقتضي تنقيص
الآخر، كأنه قال: قولوا ما قيل لكم ولا تخيروا برأيكم، وليس المراد أنكم لا
تعتقدوا تفضيل شخص على شخص، فقد قال جل وعز: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ومنها أن يفضل عليه في صبره ومعاناة
قومه، فإن نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فضل الأنبياء صلوات الله عليهم
وسلامه بموهبة من الله، ومنها أن يكون دل الناس على التواضع، أو يقال: إن السيادة
التقدُّم، فكأنه أشار بتقدمه في القيامة بالشفاعة على الخلق ولم يتعرض لذكر فضل.
قال عياض: منع التفضيل في حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء فيها على حد واحد؛ إذ
هي شيء واحد لا تفاضل، وإنما التفاضل بزيادة الأحوال والكرامات والرتب والألطاف.
وقال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن
تكون آياته ومعجزاته أبهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأطهر، أو يكون في ذاته أفضل
وأظهر.
وفي «يونس» ست لغات: ضم النون وفتحها وكسرها مع الهمز وتركه، والفصيح ضمها بغير
همز. و «متَّى» أبوه بتشديد التاء الثانية.
وفي «الوشاح» لابن دريد: أم يونس عربية واسمها قوشه بنت البرك بن سلمان بن نمارة
بن لخم.
(1/165)
وفي
«أبي داود» من حديث عبد الله بن جعفر: «ما ينبغي أن يقول: أن خير من يونس» والضمير
في «أنا» هل هو عائد إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أو إلى
القائل؟ أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المتعبدين في عبادة أو علم، فإنه لو بلغ
من الفضائل ما بلغ لم يبلغ درجة من درجات النبوة.
وقوله: «يَنفذهُم البَصر» بفتح الياء وبذال معجمة هو الأكثر، وروي بضم الياء، قال
أبو عبيد: معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم. انتهى، وهو غير جيد؛ لأن
الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والصواب قول من قال: بصر الناظر من
الخلق. وعن أبي حاتم: إنما هو بدال مهملة، أي: يبلغ أولهم وآخرهم. قال ابن الأثير:
والصحيح فتح الياء وإعجام الذال.
وقوله: (أَلَا تَرى ما بلغنا) بفتح الغين هو الصحيح المختار؛ لأنه تقدم (مَا قَدْ
بَلَغَكُمْ)، ولو كان بسكون الغين لقال: بلغهم، وضبطه بعض المتأخرين بالسكون وله
وجه.
وقوله: «ثلاث كذبات»، وعند مسلم رابعًا هو قوله للكوكب. قال القرطبي: وإنما لم
يعدها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مع أولئك؛ لأنه قالها حين الطفولية، قال: وهذا
ليس بشيء؛ لأن الله جل وعز خص الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه بسلامة الفطرة
والحماية عن الجهل بالله تعالى من أول نشأتهم وإلى تناهي أمرهم. وقيل: إنه قال ذلك
لقومه على جهة الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ لهم والإنكار عليهم، وحذفت همزة
الاستفهام اتساعًا. وقيل: إنه قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه تنبيهًا على أن
ما يتغير لا يصلح للربوبية. قال ابن الأنباري: معناه قلت قولًا يشبه الكذب في ظاهر
القول وهو صدق عند البحث، وذلك أن الكذب لا يجوز على الأنبياء بحال، واستعير هنا
ذكر الكذب؛ لأنه بصورته، فسماه كذبًا مجازًا.
(1/166)
وقوله:
«{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]» أي: سأسقم كقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30]
أي: ستموت، قال القرطبي: ويحتمل أنه يريد سقيم الحجة عن الخروج معكم؛ إذ لا يصح
ذلك حجة على جوازه، فاعتذر عما دعوه إليه حتى يخلو بالأصنام فيكسرها. قال النووي:
سقيم بما قدر عليَّ من الموت. وقيل: كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت، ولو كان الذي
قاله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا تورية فيه لكان جائزًا في دفع الظالمين، فقد
اتفق العلماء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانًا مخيفًا ليقتله، أو يطلب وديعة
لإنسان ليأخذها غصبًا، أو سأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه، وهو كذب جائز بل
واجب.
وفي حديث آخر عند البخاري: «ثنتين في ذات الله، وواحدة في شأن سارة» قال بعضهم:
شأن سارة هو أيضًا في ذات الله؛ لأنها سبب دفع كافر عن مواقعة فاحشة، وصيانة
لفراشه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء: 63] قال الكسائي: يقف عند قوله: {بَلْ
فَعَلَهُ} ويقول: فعله مَن فعله. وقال ابن قتيبة: معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله
كبيرهم.
وقوله للجبار المجوسي: «أختي» ومن مذهبُهم أن الأخت إذا كانت زوجة كان أخوها الذي
هو زوجها أحق بها من غيره. قال
بعضهم: كان من مذهب الجبار أن من له زوجة لا يجوز أن تتزوج إلا أن يُقتَل الزوج
فاتقاه سيدنا إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بهذا القول، وقد تقدم زيادة
لهذا القول في كتاب البيوع.
و «المصراع» -بكسر الميم- جانب الباب، وفي رواية: «كما بين مكة وحمير»، وفي أخرى:
«كما بين مكة وبصرى»، وفي أخرى: «كما بين مكة وهجر» وهي ألفاظ متقاربة بالنسبة إلى
أول البلد وآخرها.
(1/167)
وقولهم
لنوح: «أنت أول نبي أرسل إلى أهل الأرض» يخدش فيه ما ذكره الطبري في «تاريخه»: زعم
بعضهم أن الله جل وعز ابتعث إدريس صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى جميع أهل الأرض
في زمانه، وجمع له علم الماضين، وأن الله زاده مع ذلك ثلاثين صحيفة، قال: وذلك قول
الله جل وعز: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19]، قال: يعني بالصحف الأولى الصحفَ التي أنزلت على ابني
آدم شيث وإدريس صلى الله عليهم وسلم، ولا يخدش هذان القولان في رسالة نبينا
العامَّة إلى الجن والإنس.
قال عياض: وذكر ابن عباس: أنه إذا دخل أهل النار النارَ وأهل الجنة الجنة فتبقى
آخر زمرة من الجنة وآخر زمرة من النار، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة: ما نفعكم
إيمانكم، فيدعون ربهم ويضجون، فيسمعهم أهل الجنة، فيسألون آدم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وغيره بعده في الشفاعة لهم، فكلٌّ يعتذر حتى يأتوا محمدًا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فيشفع لهم، فذلك المقام المحمود. ونحوه أيضًا عن ابن مسعود ومجاهد،
وذكره علي بن الحسين عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وذكر الغزالي: أن بين
إتيانهم من آدم إلى نوح ألف سنة، وكذا بين كل نبي حتى يأتوا نبينا صلى الله عليه
وعليهم أجمعين، قال: والرسل يوم القيامة على منابر، والعلماء العاملون على كراسي،
وهؤلاء هم الذين يطلبون من آدم فمن بعده الشفاعة.
وقال ابن بَرَّجان في كتاب «الإرشاد»: يليهم رؤساءأهل المحشر طلب من يشفع لهم، وهم
رؤساء أتباع الرسل.
(1/168)
وأما
الحديث الذي رواه أبو الزعراء عن ابن مسعود: «يشفع نبيكم رابع أربعة: جبريل ثم
إبراهيم ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم» صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعليهم أجمعين،
فذكر البخاري: أن أبا الزعراء لا يتابع عليه، والمشهور والمعروف: أن نبينا صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول شافع. انتهى، يحمل على تقدير الصحة على شفاعة من
الشفاعات عن الشفاعة العظمى.
وقوله في حديث ابن مسعود: (إنَّ رسُولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَرأَ:
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] مثل قراءة العامَّة) بيَّنه أبو داود فقال:
بضم الميم وفتح الدال وكسر الكاف، وقال الفراء في «المعاني»: المعنى مذتكر، وإذا
قلت مفتعل فيما أوله ذال صارت الذال وتاء الافتعال دالًا مشددة، قال: وبعض من أسد
يقولون: {مُذَّكرْ} فيقلبون الدال فتصير ذالًا مشددة، وحدثني الكسائي عن إسرائيل
والعرزمي عن أبي إسحاق عن الأسود قال: قلنا لعبد الله: {فَهَلْ مِن مُدَّكِر} أو
{مُذَّكر}؟ فقال: أقرأني رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ {مُدَّكر}
–بالدال-.
(1/169)
(بَابُ {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} [الصافات: 124]) قال محمد بن إسحاق بن يسار: هو إلياس بن بتسي بن فيحاص بن العيْزار بن هارون بن عمران صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وقال بعض أهل العلم: بعثه الله إلى بني إسرائيل بعد مَهلك عزقيل. وقال وهب: إن الله لما قضى حَزقِيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله جل وعز إليهم حتى نصبوا الأوثان وعبدوها، فبعث الله إليهم إلياس رسولًا، وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل اسمه آحاب وله امرأة اسمها أَزَبل، وكان يسمع منه ويصدقه، وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يقال له: بعل.
(1/170)
قال ابن إسحاق: وسمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله تعالى وهم لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من ذلك الملك، ثم إنه قال يومًا لإلياس صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلًا، والله ما أرى فلانًا وفلانًا - فعدد ملوكًا مثله من ملوك بني إسرائيل متفرقين بالشام يعبدون الأوثان - إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ملوكًا ما ينقص دنياهم، فيزعمون أن إلياس استرجع ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه من عبادة الأوثان، فقال إلياس: اللَّهمَّ إن بني إسرائيل قد أَبَوا إلا الكفر، فذُكر لي أنه أوحي إليه: إنا جعلنا أمرَ أرزاقهم بيدك حتى تكون أنت الذي تأذن لهم في ذلك، فقال إلياس: اللَّهمَّ أمسك عنهم القطر، فحُبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت المواشي والهوام والشجر، ولما دعا عليهم استخفى شفقًا على نفسه منهم، فكان حيثما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبر في مكان قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فيطلبوه ويلقى أهلُ ذلك المنزل منهم شرًّا، ثم إنه استأذن الله جل وعز في الدعاء لهم فأذن له، فجاءهم وقال: إن كنتم تحبون أن الذي أدعوكم إليه هو الحق وأنكم على باطل، فأخرجوا أوثانكم وما تعبدون واجأروا إليهم، فإن استجابوا لكم فهو كما تقولون، وإن هي لم تفعل عَلِمتُم أنكم على باطل فنزعتم عما أنتم عليه، ودعوتُ الله ففرَّج عنكم ما أنتم فيه، قالوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم، فعرفوا ما هم عليه من الضلالة، ثم سألوا إلياسًا الدعاء فدعا، قال: فمطِرُوا لساعتهم فحيت بلادهم، فلم ينزعَوا ولم يَرْجِعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فدعا الله أن يقبضه، فكساه الله الريش وألبسَه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فكان إنسيًا ملكيًا أرضيًا سمائيًا يطير مع الملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.
(1/171)
وذكر الحاكم حديثًا صحح إسناده عن أنس: أنه اجتمع مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في بعض السفرات. وإنما ابن الجوزي مخالف في الصحة.- قال البخاري: (يُذكَرُ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ وَابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِليَاسَ هُوَ إِدريسُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).التعليق عن ابن مسعود رواه عبد بن حُميد في «تفسيره» بسند صحيح فقال: حدثنا نعيم، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عُبيدة بن ربيعة، عن عبد الله به. والتعليق عن ابن عباس ذكره جويبر عن الضحاك عنه.
(1/172)
قال أبو جعفر واختلفت القراءة في {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فقرأه عامة قرَّاء مكة شرفها الله تعالى والبصرة والكوفة {إِلْ يَاسِينَ} -بكسر الألف- وكان بعضهم يقول: هو اسم إلياس، ويقول: إنه كان يسمى باسمين: إلياس وإلياسين مثل إبراهيم وإبراهام، ويستشهد بأن جميع ما في السورة من قوله: {سَلَامٌ} إنما هو سلام على النبي الذي ذكر دون إله، فكذلك {إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] إنما هو سلام على إلياس دون إله، وكان بعض أهل العربية يقول: إلياس اسم عِبراني، والألف واللام منه، ويقول: لو جعلتهعربيًا من الألسن فجعله إفعالًا من الإخراج والإدخال جري، ويقول: قال {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فجعله بالنون، والعجمي من الأسماء قد يفعل به العرب هذا، وهي في بني أسد، تقول: هذا إسماعين قد جاء، وسائر العرب باللام، قال: وإن شئت ذهبت بـ {إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] إلى أن تجعله جمعًا، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه كما تقول لقوم رئيسُهم المهلب: جاءكم المهالبة والمهلبون، فيكون بمنزلة قولهم: الأشعريين والسعديين بالتخفيف وشبهه، قال الشاعر: أنا ابن سعد سيد السعدينقال: وعامة قراء المدينة {إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] بقطع {إِلْ} من {يَاسِينَ}، وعن بعضهم أنه كان يقرأ {اليَاسَ} بترك الهمز في ألف {اليَاسَ}، ويجعل الألف واللام داخلتين على ياسين للتعريف، ويقول: إنما كان اسمه ياسين أُدخلت عليه ألف ولام. وقال السُّدي: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] قال: {إليَاسَ}، وفي قراءة عبد الله بن سلام {عَلَى إدْرَاسِين} لأن عبد الله كان يقول: إلياس هو إدريس، دلالة واضحة على خطأ من قال: عنى بذلك سلام على آل محمد، وفساد قراءة من قرأ {وإنالياس} بوصل النون من {إِنَّ} بـ {إِليَاسَ}.
(1/173)
ذِكْرُ إدْريِسَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَواسمه حنوخَ، ويقال: أخنَخ، ويقال: أهنخ، ويقال: أحنوخ -بحاء مهملة وبعد النون والواو خاء معجمة- كذا ضبطه أبو الخطاب في «مرج البحرين»، وذكر ابن قتيبة عن وهب: أنه كان طوالًا ضخم البطن والصدر، قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، وكانت إحدى أذنيه أكبر من الأخرى، وكانت في جسده نكتة بيضاء من غير برَص، وكان رقيق الصوت والنطق قريب الخطو، واستجاب له ألفا إنسان ممن كان يدعوه، فلما رفعه الله اختلفوا بعده وأحدثوا الأحداث، ورُفع وهو ابن ثلاث مئة سنة وخمسة وستون سنة. وفي «تاريخ الطبري» عن ابن عباس: كان بين نوح وإدريس صلى الله عليهما وسلم ألف سنة. قال أبو جعفر: وكان أول بني آدم أعطي النبوة فيما زعم ابن إسحاق، وخط بالقلم بعد آدم وقد مضى من عمر آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ست مئة سنة واثنتان وعشرون سنة، وأنزلت عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خاط الثياب، وكان قبله يلبسون الجلود، وأول من سبى ولد قابيل واسترقَّ منهم، ودعا حنوخ قومه وأمرهم بطاعة الله جل وعز فلم يقبلوا منه. وذكر عن أبي ذر مرفوعًا بسند صحيح: «أربعة من الرسل سِريانيون: آدم وشيث وخنوخ، وهو أول من خط بالقلم ... » الحديث. وفي «مصنف ابن أبي شيبة» عن عكرمة قال: سألت كعبًا عن رفع إدريس، فقال: كان عبدًا تقيًا يُرفع له من العمل الصالح ما يُرفع لأهل الأرض في زمانه، قال: فعجب الملَك الذي كان يصعد بعمله فقال: رب ائذن لي أزوره، فلما جاءه قال: يا إدريس أبشر، فإنه يرفع لك من العمل ما يرفع لأهل الأرض، فسأله أن يشفع له عند ملك الموت في تأخير أجله ليزداد عبادة، فقال الملك: إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، قال: قد علمت ولكنه أطيب لنفسي، فصعد به الملك وسأل ملك الموت في أمره، فنظر في كتاب معه فقال: والله ما بقي من أجل إدريس شيء، فمات مكانه.
(1/174)
انتهى، وفيه نظر من حيث إن في زمانه كان آدم وشيث صلى الله عليهم أجمعين، ووقع في نسخة: «ما لا يُرفع لأهل الأرض» وهذا له وجه؛ لاحتمال أنه حفظ أذكارًا لم يذكرها غيره، أو يكون الرفع المذكور من عمله بعد وفاتهما، فإنه لم يرفع في زمنهما، إنما رفع بعد وفاتهما بمدة طويلة. وقال بعضهم: ذكره ربنا جل وعز فقال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، وصح: أنه في السماء الرابعة، وغيره من الأنبياء أرفع مكانًا منه، قال: ويجاب بأنه لم يرفع إلى السماء مَن هو حيٌّ غيره. انتهى، وهو غير جيد؛ لأن الله وصف مكانه بالعلو، وهو كذلك من غير شك، ولم يذكر أنه أعلا من كل أحد، وقوله: لم يرفع إلى السماء حيٌّ غيره غير جيد؛ لأن عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رفع إلى السماء وهو حيٌّ إلى الأن لم يمت. وسُمي إدريس لكثرة درسه الصحف التي أنزلت عليه وعلى أبويه صلى الله عليهم، قال ابن العربي: ليس إدريس جدًا لنوح صلى الله عليهما وسلم ولا لنبينا، ويستشهد بحديث الإسراء؛ إذ قال له: (مَرْحَبًا بالأخِ الصَّالح) ولم يقل: الابن كما قاله إبراهيم وآدم صلى الله عليهم أجمعين. انتهى كلامه وفيه نظر في موضعين، الأول: لقائل أن يقول: لعله خاطبه بالأخوة تلطفًا وتأدبًا، وهو أخ وإن كان أبًا، فالأبناء إخوة وكذلك المؤمنون. الثاني: وجداننا عن الشيخ أبي العباس أحمد بن منصور المالكي قال: ذكر لي الشيخ القدوة المرسي أنه صحت له طريق أنه خاطبه فيها بالابن الصالح كمخاطبة أبويه صلى الله عليهم وسلم، تقدم طرف منه أول الصلاة [ح: 349].3342 - حديث أبي ذر تقدم في الإسراء وغيره [ح: 3887].
(1/175)
[خ 3342] (بَابُ قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]) هود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال ابن هشام: اسمه عابره، ويقال: عَيْبر بن أرفخشد، ويقال: أنفخشد، ويقال: الفشخد بن سامبن نوح صلى الله عليهم وسلم، وفي «تفسير عبد بن حميد» عن قتادة: كانت عاد أحياء باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال ابن قتيبة: هود هو ابن عبد الله بن رباح بن يحاود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكان أشبه ولد آدم بآدم صلى الله عليهما خلا يوسف، وكانت عاد ثلاثة عشر قبيلة ينزلون الرمل، وبلادهم أخصب بلاد، وديارهم بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار وعمان إلى حضرموت إلى اليمن، فلما سخط الله عليهم جعلها مفاوز وغيطانًا، فلما هلكوا لحق هود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بمكة حتى توفي بها.- قال البخاري: (فِيهِ عَطَاءٌ وَسُلَيمَانُ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ). يريد بحديث عطاء ما تقدم عنده مسندًا في كتاب الخلق [ح: 3206]، ويريد بحديث سليمان بن يسار ما ذكره أيضًا في سورة الأحقاف مسندًا [ح: 4829].- قال البخاري: (قَالَ ابنُ عُيَينَةَ: عَتَتْ عَلَى الخُزَّانِ). هذا التعليق ذكره ابن عيينة في «تفسيره» بالسند الذي أسلفناه عنه.3343 - حديث ابن عباس: (نُصِرتُ بالصَّبا) تقدم في الاستسقاء [ح: 1035]. [خ 3343]
(1/176)
3344 - قالَ البُخاريُّ: (وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ: الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا! قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاتِئُ الجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللهَ إِذَا عَصَيْتُ؟! أَيَأْمَنُنِي اللهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي؟!» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ - أَظُنُّهُ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ- قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا، قَوْمًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ». [خ 3344] كذا هو في روايتنا في غير ما نسخة، وقال ابن كثير: وزعم أصحاب الأطراف أن البخاري رواه هنا وفي سورة براءة عن محمد بن كثير [ح: 4667]، وكذا ذكره أبو نعيم في «مستخرجه»، ورواه البخاري أيضًا في موضع آخر عن قبيصة عن الثوري [ح: 7432]، وفي آخر عن قتيبة عن عبد الواحد بن زياد عن عمارة بن القعقاع عن عبد الرحمن بن أبي نعم [ح: 4351]، وفي «الأوسط» من حديث عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص: «يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مُروق السهم من الرمية، يقتلهم علي بن أبي طالب».
(1/177)
قوله: (بِذُهَيبَة) قال ابن التين: أُنِّث على نية القطعة من الذهب، وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات، وقال غيره: هي تصغير ذهب، والمؤنث الثلاثي إذا صُغر ألحق في تصغيره الهاء كقويسة وشميسة. قال ابن الأثير: وقيل: هي تصغير على اللفظ، وفي رواية: «بذَهَبَة» -بفتح الذال-.وفي الصحيح: أن الذي سأل قتله خالدٌ من غير تردد، وفي روايةٍ عمرُ، وكأنه ليس بينهما تعارض؛ إذ يحتمل أن كلًا منهما سأل. و (الأقرعُ بنُ حَابِس) اسمه فراس فيما ذكره ابن دريد، ومن خط منصور بن عثمان الخابوري: الصواب حصين. وقال أبو يوسف في كتابه «لطائف المعارف»: كان أصمَّ مع قرَعه وعوره. وفي «الكامل»: كان في صدر الإسلام سيد خِندف، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس. وقال المرزباني: هو أول من حرَّم القمار، وكان يحكم في كل موسم، ولما ذكره الكلبي في كتاب «أئمة العرب» قال: كان آخر من قضى من تميم وعليه قام الإسلام. وفي كتاب «العرجان» لعمرو بن بحر: ومن أشراف العُرجان الأقرعُ بن حابس أحد الفرسان الأشراف، ساير سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرجعَه من فتح مكة شرفها الله تعالى. وقال أبو عبيدة: هو أول من جار في الجاهلية؛ لأنه نفر جريرًا على الفرافصة حين وجده أقرب إلى مضر، وكان سنوطًا أعرج الرجل اليسرى، قتل باليرموك سنة ثلاث عشرة مع عشرة من بنيه. وذكر أبو عبيدة في كتابه «أنساب العجم»: أن المُكَعِيَر الضبي أدخل جماعة في المجوسية منهم الأقرع. وقال ابن دريد: استعمله عبد الله بن عامر بن كُرَيز على جيش أنفذه إلى خراسان، فأصيب بالجوزجان.
(1/178)
و (عُيَينَةُ) اسمه حذيفة بن حصن بن حذيفة بن بدر، ولقب (عُيَينَةُ)؛ لأنه طعن في عينه فشترت، وكنيته أبو مالك، أسلم قبل الفتح، وارتد مع طليحة بن خويلد وقاتل معه، وكان من الجرارين يقود عشرة آلاف، وتزوج عثمان بابنته، وهو عريق في الرئاسة، ابنه وابن ابنه وهو وأبوه وجد أبيه كلهم جرار ربع وهو المقول فيه: الأحمق المطاع. و (عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ): هو ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، كان من أشراف قومه حليمًا عاقلًا، ولم يكن فيه ذاك الكرم، فتنافر هو وعامر بن الطفيل، فنفر عليه عامر، وفيه يقول الأعشى: علقم ما أنت لعامر النافض الأوتار والواتروهي من الشعر الذي نهى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن روايته، ارتد لما رجع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من الطائف ولحق بالشام، ثم أسلم أمام أبي بكر وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران فمات بها. و (زَيدَ الخَيرِ) هكذا سماه النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان يعرف بزيد الخيل؛ لأنه لم يكن في العرب أكثر من خيله، قال أبو عبيد البكري في «فصل المقال»: كانت له ستة أفراس، يكنى أبا مكنف، وكان له شعر وخطابة وشجاعة وكرم ولَسَن، وكان بينه وبين كعب بن زهير مهاجاة، توفي لما انصرف من عند النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالحمى، وقيل: توفي آخر خلافة عمر بن الخطاب، يدل على ذلك ما ذكره الواقدي من ثلاثة في بني حنيفة هو وعدي بن حاتم، وفي «الردة» لوَثِيمةَ أرسله النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو وعدي بن حاتم على صدقات أسد وطيِّئ.
(1/179)
وفي كتاب أبي الفرج: قال أبو عمرو: كان لثعلب رئيس يقال له: الجرار امتنع من الإسلام، فيقال: إن النبي بعث إليه زيدًا فقتله زيد، وذكر أيضًا أنه لما احتضر قال: والله لا أقاتل مسلمًا حتى ألقى الله عز وجل، وتوفي بالحرم يقال له فرده، ولما جيء براحلته إلى زوجته وفيها كتاب النبي وكانت على الشرك أضرمتها بالنار، فيقال: إن النبي لما بلغه ذلك قال بؤسًا لبني نبهان، وكان زيد لما دخل على النبي طرح له متكأ فأعظم أن يتكئ أن يرى النبي فرده، فأعاده عليه ثلاثًا، وعلمه دعوات كان يدعو بها فيعرف بها الإجابة ويستسقي فيُسقى، وقال: يا رسول الله، أعطني ظهر فارس أغير بهم على الروم، فقال: أي رجل أنت، ولكن أنت الكلبة تقتلك، فلم يلبث بعدانصرافه إلا قليلًا حتى حم فمات، وكان في الجاهلية أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته ثم أعتقه. وفي «الوشاح» لابن دريد: كان زيد إذا ركب خطت رجلاه الأرض، وكذا أبو زبيد الطائي وعدي بن حاتم ومالك الأشتر وعامر بن الطفيل وعيينة بن حصن وقيس بن سلمة بنشراحيل وقيس بن سعد بن عبادة، وكان زيد لا يدخل مكة إلا معتمًا من خيفة النساء عليه، وكذا قيس بن سلمة بن شراحيل وامرئ القيس بن حجر وذو الكلاع الحميري وجرير بن عبد الله وسبيع الطهوي وأعيفر اليربوعي وحنظلة بن فاتك الأسدي وقيس بن حسان بن مرثد والزبرقان بن بدر. وقوله: (غَائِرُ العَينَينِ) يعني ضد الجاحظ، و (المُشْرِفُ الوَجْنةَ) يعني ناتئ الوجنتين مرتفعهما، وأصله من الشرف وهو العلو، والوَجْنة: -بفتح الواو وضمها وكسرها- ذكره يعقوب، ويقال: أجْنة، قال ابن جني: أراها على البدل، وهي أعلى الخد، وقيل: لحم الخد، وفي «كتاب ثابت»: الوجنتان ما فوق الخدين والمدمع إذا وضعت يدك وجدت حجم العظم تحتها وحجمه نتوؤه. وقال أبو حاتم: هو ما نتأ من لحم الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف. وعن ابن الأعرابي: وهي الوجنة، وفي «الباهر»: ووجنة -بفتح الجيم وكسرها- عن كراع.
(1/180)
و (كَثُّ اللِّحْيَة) أي: كثرة شعرها. وقوله: (مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا) أي: من أصله ونسله وعقبه، وحكى عياض أن بعض رواة مسلم ضبطه بالمعجمتين وبالمهملتين كأنه يستغربه، وليس كذلك بل هو صواب من فعله، فإن ابن سيده قال في حرف الضاد من «المحكم»: الضِّئضِئ والضُّؤْضُؤ الأصل والمعدن، وقيل: هو كثرة النسل، وقال في المهملة: والصيصي والصئصئ كلاهما الأصلُ عن يعقوب، قال: والهمز أعرف، قال ابن الأثير: وحكى بعضهم ضِيضِين بوزن قنديل. وفي «الطبقات»: «قال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عُدل فيها، أو ما أُريد بها وجه الله»، وهو من تميم يقال له: ذو الخويصرة، واسمه حرقوص بن زهير. وفي «الكامل» للمبرد: «لما أتي بالذُّهَيبَة قسمها أرباعًا، وفيه: بينما هو يقسم غنائم خيبر، ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية»، وفيه: «فقام إليه رجل مضطرب الخلق أسود فقال: لقد رأيت قسمة ما أريد فيها وجه الله، فغضب حتى رئي الغضب في وجهه، فقال عمر: ألا أقتله يا رسول الله؟ قال: «إنه يكون لهذا ولأصحابه بناء» ورأيت بخط أبي الفتح ابن سيد الناس رحمه الله تعالى: أخبر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه لا يدخل النار من شهد بدرًا ولا الحديبية حاشا رجلًا معروفًا منهم قيل: هو حرقوص السعدي. وعند الثعلبي بسند جيد: «بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقسم غنائم هوازن جاءه ذو الخُويصرة التميمي أصل الخوارج فقال: اعدل ... » الحديث. وزعم ابن أعثم وغيره من المؤرخين أن حرقوصًا يلقب ذا الثدية، وفيه يقول ابن عمه مالك بن الوضاح الشاري: إني لبائع ما يفنى بباقيه ولا أريد لذي الهيجاء تربيصاوأسأل الله بيع النفس محتسبًا حتى أوافق في الفردوس حرقوصاوالزبرقان ومرداسًا وإخوته إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصاوسماه أبو داود نافعًا، قال السُّهَيلي: وهو أصح، وقد استدللنا على ترجيح الأول في كتابنا «الزهر الباسم في سير أبي القاسم» صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بأمور منها ما تقدم.
(1/181)
قال السُّهَيلي: وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أنه أعطاهم من خمس الخمس، وهذا مردود؛ لأن خمس الخمس ملك له صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلا كلام لأحدٍ فيه. الثاني: أنه أعطاهم من رأس الغنيمة، وأن ذلك مخصوص به صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لقوله جل وعز: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، وهذا القول مردود؛ لأن هذه الآية منسوخة، غير أن بعض العلماء احتج لهذا القول؛ لأن الأنصار انهزموا يوم حنين، فأيد الله رسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأمده بالملائكة، فلم يرجعوا حتى كان الفتح، رد الله جل وعز أمر الغنائم إلى رسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من أجل ذلك، فلم يعطهم منها شيئًا وقال لهم: «أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى رحالكم!؟» فطيَّب نفوسهم بذلك بعدما فعل ما أُمر به. الثالث: وهو الذي اختاره أبو عبيد: أن إعطاءهم كان من الخمس لا من خمس الخمس ولا من رأس الغنيمة، وأنه جائز للإمام أن يصرف عن الأصناف المذكورة في آية الخمر حيث يرى أن فيه مصلحة للمسلمين. انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث إن هذا الذهب ليس من غنائم حنين ولا خيبر في شيء ولا من الخمس؛ لأنه فرقها كلها كما في الحديث، والله تعالى أعلم. و (الحَنجَرة) رأس الغلصمة حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق، والجمع الحناجر، قال عياض: يعني لا تفقه قلوبهم ولا ينتفعون بما يتلون منه ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم، وقيل: معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل. وقوله: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) وفي رواية: «من الإسلام» أي: يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ من الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق بالسهم من دمه شيء، وبهذا سميت طائفة الخوارج المراق، و (الرَّمِيَّة): الصيد المرمي فعيلة بمعنى مفعولة.
(1/182)
قال الخطابي: (الدِّين) هنا الطاعة، أي: يمرقون من طاعة الإمام، قال المازري: وقد اختلف العلماء في تكفير الخوارج، وقال القرطبي: حكم بتكفيرهم جماعة من أئمتنا وتوقف في تكفيرهم كثير من العلماء. قال الخطابي: فإن قيل: أليس قد قال: (لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ)؟ وكيف ولم يدع خالدًا أن يقتله وقد أدركه؟ قيل: إنما أراد إدراك زمن خروجهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واعترضوا الناس بالسيف، ولم تكن هذه المعاني مجتمعة إذ ذاك فيوجد الشرط الذي علق به الحكم، وإنما أنذر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن سيكون ذلك في الزمان المستقبل، وقد كان كما قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وقوله: (قَتْلَ عَادٍ) وفي رواية: «ثمود» ووجه الجمع: أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال هذا على عادته ثلاث مرار، وفي إحدى المرات ذكر ما لم يذكره قبل، أو يكون قالهما في مجلسين، فحفظ أحد الرواة شيئًا لم يحفظه الآخر، يريد قتلهم قتلًا عامًّا بحيث لا يبقي منهم أحدًا في وقت واحد كما فعل بهاتين القبيلتين حيث أهلك كل واحد منهم في وقت واحد، واستدل على كفرهم بهذا؛ لأن عادًا قتلوا على الكفر، وستأتي له تكملة في قتل المرتدين [ح: 6930].3345 - حديث ابن مسعود تقدم قريبًا [ح: 3341]. [خ 3345]
(1/183)
(بَابُ قَولِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83]) روينا في «كتاب ابن مردويه» بسند حسن من حديث عبيد الله بن موسى، حدثنا بسام الصيرفي عن أبي الطفيل، قال: سأل ابن اللواء علي بن أبي طالب: أرأيت ذا القرنين، أنبيًا كان أم ملكًا؟ فقال: لا نبيًا كان ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا، أحب الله فأحبه ونصح لله فنصحه، ضُرب على قرنه الأيمن فمات، فبعثه الله جل وعز، ثم ضرب على قرنه الأيسر فمات، وفيكم مثله. ومن حديثه أيضًا عن عبيدة بن حميد، حدثنا عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: سُئِلَ علي عن ذي القرنين مَن هو؟ فقال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسمل يقول: «هو عبد ناصَحَ اللهَ فنصحه».ومن حديث عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة يرفعه: «ما أدري ذو القرنين نبيًا كان أم لا» ولما خرجه الحاكم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة. ومن حديث جابر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: كان ذو القرنين نبيًا. ومن حديث سفيان عن الفضل بن عطية عن عبد الله بن عبيد بن عمير: أن ذا القرنين حج ماشيًا، فسمع به إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فتلقاه. ومن حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذو القرنين اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد. وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: قيل لعلي: كيف بلغ ذو القرنين المشرق والمغرب؟ قال: سخِّر له السحاب وبسط له النور ومدَّ له الأسباب. وفي كتاب «السحاب» لعبد الملك بن هشام: ذو القرنين اسمه الصعب بن ذي مراثد. قال ابن هشام: حدثنا بذلك أسد بن موسى عن أبي إدريس، عن وهب عن ابن عباس أنه سُئل: ممن كان ذو القرنين؟ فقال: من حِميَر، وهو الصعب بن ذي مراثد، وهو الذي مكن الله تعالى له وآتاه من كل شيء سببًا، وبنى السدعلى يأجوج ومأجوج، قيل: فالإسكندر الرومي؟ قال: كان رجلًا صالحًا.
(1/184)
وقال كعب الأحبار: الصحيح عندنا من علوم أحبارنا وأسلافنا أنه من حِميَر، وأنه الصعب بن ذي مراثد، والإسكندر رجل من بني يونان من ولد عِيصُو بن إسحاق صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورجاله أدركوا المسيح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، منهم أرسطاطاليس ودانيال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وفي رواية وهب عن ابن عباس: أنشدني نافع بن الأزرق لأبي كرز أسعد يذكر بيت الله ويذكر جده الصعب ذا القرنين: بيت له يوفي الحجيج نذورهم ... ويودعون طوافه للموعدوأقام ذو القرنين فيه حجه ... خوفًا يطوف من اللظى المتوقدإذا لم يزل من كان جدي مسلمًا ... ملكًا متى تره المقاول يسجدطاف المشارق والمغارب ... عالمًا يبغي علومًا من كريم مرسَّدويرى مغار الشمس عند غروبها ... في عين ذي حلب وناط قرمدفلقد أذل الصعب صعب زمانه ... وأناط عنوًا عزه بالفرقدحكم الأمور وأحكمت آياته ... يجري إلى أجل له وبموعدوقال امرئ القيس حجر من أبيات يذكره: وأنشبها المخالب كل ملك مع الصعب الذي نقب الجبالاهمام طحطح الآفاق مشيًا وقاد إلى مشارقها الرعالاوسد بحيث ترقى الشمس سدًا ليأجوج ومأجوج الجبالاوقال قس بن ساعدة الإيادي: أودى أبو كرب وعمرو قبله وأباد ملك دبيَّة الصباحوأباد أفرنيقيس بعد مقامه بالمغرب المستغرب الفياحوالصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا بالحنو بين ملاعب الأرياحوقال الربيع بن صبع الفزاري وكان معمَّرًا: رأيت قرونًا من قرون تقدمت فلم يبق إلا ذكرها حين ولتألا أين ذو القرنين أين جموعه لقد كثرت أسبابه ثم قلتوقال أيضًا:
(1/185)
سد ركن ما أدرك المرء تبعا ويغتالني ما اغتال أنسر لقمانوألوى بذي القرنين بعد بلوغه مطالع قرن الشمس بالإنس والجانوقال: أين بنو هود النبي وأين من شمر عن راحتيه وابتكراوالصعب لما علت أرومته وحان ريب الزمان واذكرالم يدفع الموت بالجنود ولا رد أسباب علمه القدراوقال أيضًا: هلا ذكرت له العرنجح حميرا ملك الملوك على القليب مقيماوالصعب ذا القرنين عُمِّر ملكه ألفين أمسى بعد ذاك رميماوقفت به أسبابه حتى رأى وجه الزمان بما يسُؤْه شتيماوقال أيضًا: ألم تعلموا ما حاول الصعب مرة وما صبح الساعي وآل دراجفهل بعد ذي القرنين ملك مخلد وهل بعد ذي الملكين يوم فلاحتريش له الأطيار عند غدوه وتجمح إن أوما لها برواحوقال طرَفَة بن العبد: وللصعب أسباب تجل خطوبها أقام زمانًا ثم قامت مطالبهيسير بوجه الحتف والعيس جمعه ويمضي على وجه البلاد كتائبهوقال أوس بن حجر السعدي: حنانيك يا أوس بن حجر فإنه سيبعد من جاري الأمور ويهلكويجري الليالي بانتقاص وفرقة وإن سُئِلَ الصعب لا بد يسلكقال عبد الملك بن هشام في كتاب «التيجان»: لما ولي الصعب ذو القرنين تجبر تجبرًا عظيمًا حتى إنه لم يكن في التبابعة أشد تجبرًا منه ولا أعظم سلطانًا ولا أشد سطوة، وكان له عرش من ذهب مصمت مرصع بالدر والياقوت، وكان يلبس ثيابًا منسوجة بالذهب منظومة بالدر والياقوت، وكان عظيم الحجاب، فبينا هو ذات ليلة رأى رؤيا عظيمة وقومًا تخطفهم النيران، فسأل فقالوا: هؤلاء الجبارون، ثم رأى الجنة وما أعد الله فيها لأوليائه، وقيل له: يا صعب اخلع رداء الكِبْر وتواضع، فلما أصبح تواضع وبرز للناس، وأمر بالعرش فهُتك ونُهب، ثم رأى الليلة الثانية كأنه نُصب له سلم إلى السماء فرقي إلى السماء ومعه سيف صلت فعلقه بالثريا، ثم أخذ القمر بيده اليسرى والشمس بيده اليمنى، ثم سار وتبعه الدراري والنجوم ونزل بهما إلى الأرض، فلم يزل يمشي بهما والنجوم تتبعه، فلما كان في الليلة الثالثة رأى كأنه
(1/186)
جاع جوعًا شديدًا فصارت له الأرض غداء، فأقبل عليها يأكلها جبلًا جبلًا وأرضًا أرضًا حتى أتى عليها كلها، ثم عطش عطشًا شديدًا فأقبل على البحار يشربها بحرًا بحرًا حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على البحر المحيط يشربه، فلما أمعن فيه رأى طينًا وحمأة سوداء فلم يسغ له فتركه، ورأى في الليلة الرابعة كأن الإنس والجن أتوه من الأرض كلها، وكذلك البهائم والأنعام، وأقبلت الرياح فاستدارت فوقه، فأرسل أممًا من الجن والإنس مع ريح الصبا إلى المغرب، وأممًا من الجن والإنس مع الدبور إلى يمين الأرض، وأمر البهائم والأنعام فذهبت بهم الأرياح في كل وجه، ثم أمر الهوام فذهبت في سبيل من مضى، فلما أصبح أرسل إلى أهل مشورته فقص عليهم ما رأى، فقالوا: اجمع العلماء بهذا الأمر، فجمعهم فقالوا: لم تدرك عقولنا هذه الرؤيا، فقال له شيخ منهم: ليس على وجه الأرض من يفسر تأويل رؤياك إلا نبي ببيت المقدس، فأمر بالجنود فجُمعت وجعل على مقدمته ألف ألف فارس، فلما انتهى إلى البيت الحرام طاف به حافيًا راجلًا، ثم سار إلى القدس يسأل عن النبي الذي وصف له، فلما رآه سأله عن اسمه فقال: الخضر بن خضرون بن عموم بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق، فقال له الصعب: أيوحى إليك؟ قال: نعم يا ذا القرنين، فقال: ما هذا الذي دعوتني به؟ قال: أنت صاحب قرني الشمس، فكان أول من سماه بذلك، وأخبره بمنامه فقال: تملك الأرض ومَن عليها والبحر المحيط تبلغ منه غاية حتى يأتيك شيء لا تستطيعه فترجع، والإنس والجن ينقلهم من مكان إلى مكان، والأنعام والبهائم تسخر لك والرياح كذلك تصرف ضرها عن أي بلد شئت، وتصرفها إلى أي بلد شئت، وتجاوز مغرب الشمس، فانهض بأمر الله، فإن الله جل وعز يعينك، وسار معه الخضر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فطاف الأرض كلها، وعمل السد وعرضُه خمسة آلاف ذراع وطوله ألف ذراع، وبنى جسرًا إلى أرمينية مسيرة سبعة أشهر.
(1/187)
وعن وهب: لما نزل الصعب حنو ثم أقر من أرض العراق مرض ثمانية أيام، فلما مات غاب الخضر فلم يظهر بعده إلا لموسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال النعمان بن الأسود يرثيه من أبيات: وجاوزت العقيق من أرض نجد إلى العنوان والنحل الدوانهناك الصعب ذو القرنين ثاوٍ ببطن تنوفه الحنو بن عانألم تر أن حنو الرمل أمسى لملك الدهر والدنيا معانوقال اليحموم بن زيد بن غالب بن السائب بن عمرو بن زيد بن عملاق بن الحارث ذي مراثد يرثي ذا القرنين: اسمع ذا القرنين لما علا على العلا بالبناة الشاملةفيا لها من كرية لم تكن مصروفة عنه ولا حائلةوأصبح السعد دليلًا بها صبَّحه من هذه النازلةلم يدفع الموت الذي جاءه بسكسك العز ولا عاملةسألوا عن الدنيا كمثل الدبا ونفسه من بينهم سائلةوقال أعشى بن قيس بن ثعلبة أبو نصير: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا بالحنو في جدث أميم مقيمقال ابن هشام: فلما مات بعد تعميره ألفي سنة فيما ذكره قس بن ساعدة ولي مكانه ابنه أبرهة الوضاح، وكان سماه باسم إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وقال السُّهَيلي: كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا. وذكر ابن إسحاق: أن اسمه مرزبا بن مرذبة -بذال مفتوحة- وقيل: اسمه هرمس، وقيل: هرديس، وقيل: أفريدون بن أثفيان. وفي «المحبَّر في ذكر ملوك الحيرة»: الصعب بن قرين هو ذو القرنين. وفي «تفسير مقاتل»: اسم ذي القرنين قيصر. وفي «مقامات التنزيل» لأبي العباس: روى العنقزيعن أسباط عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: «أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: «ومن هو؟» قالوا: ذو القرنين ... ) الحديث.
(1/188)
وفي «غرر الكتاب»: اسمه الإسكندريس، وهو من بني عيصو، وقيل له ذو القرنين؛ لأنه ملك قرني الدنيا الشرق والغرب، وقيل: كانت له ذُؤَابتان، وقيل: كان لتاجه قرنان، وقيل: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: كان في رأسه ما يشبه القرنين. وفي كتاب «فضائل القدس» لأبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الواسطي الخطيب: كان ذو القرنين أوسع أهل الأرض عدلًا، وكان آخر الملوك الخيرين، ومات ببيت المقدس، وزعم أهل العلم أنه بدومة الجندل رجع إليها من القدس، ولم يكن له بالقدس كثير عمر، وكان عدد ما سار في البلاد منذ يوم بعثه الله إلى أن قبض خمس مئة عام، وذكر حديثًا مرفوعًا من حديث إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده: «كان الفيلسوف من أهل الملك تزوج امرأة من غسان، وكانت على دين الروم، فولدت ذا القرنين فسماه أبوه الإسكندر»، وإنما نسب إلى الروم؛ لأن أباه خلفه صغيرًا في حجر أمه يتيمًا، فلذلك جُهِل أبوه ونسبوه إلى أمه. وفي «الوشاح» لأبي دريد: ذو القرنين اسمه الصعب بن الهمال.- قال البخاري: (يُقَالُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ الجبلين، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: النُّحَاسُ).هذان التعليقان ذكرهما جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. ذِكر يأجوجَ ومأجوجَ. قال ابن مردويه في «تفسيره»: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا أبي حدثنا عمي، حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس، عن أبي سعيد الخدري قال: نبي الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -وذكر يأجوج ومأجوج- «لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل».ومن حديث محمد بن يزيد، حدثنا مجالد عن أبي الرضي عن أبي سعيد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يخرج مأجوج ومأجوج فيقتلون الناس ويهلكوهم إلا بقية يلحقون بالجبال، ثم يبعث الله عليهم النَّغْف فيخرج في كواهلهم فيموتون أجمعون، وتأكل مواشي الناس جيفهم كما يأكل الحشيش أو الخضر».
(1/189)
بسند جيد صحيح عن حذيفة، سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن يأجوج ومأجوج: «أمة، كل أمة أربع مئة ألف أمة، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه كلهم قد حملوا السلاح، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير ولا إنسان إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم, تكون مقدمتهم بالشام وساقتهم بموضع كذا وكذا -يعني المشرق- فيشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية».ومن حديث مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بعثني الله ليلة أسري بي إلى يأجوج ومأجوج، فدعوتهم إلى دين الله جل وعز فأبوا أن يجيبوني، فهم في النار مع من عصى من ولد آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وولد إبليس».ومن حديث النعمان بن سالم عن ابن عمرو بن أوس عن جده، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا».وعن عبد الله بن عمرو بسند صحيح: «الإنس عشرة أجزاء، تسعة أجزاء يأجوج ومأجوج، وسائر الناس جزء واحد».ومن كتاب «الفتن» لنعيم بن حماد: حدثنا ابن وهب عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إن يأجوج ومأجوج حين يخرجون يمرُّ أولهم ببحيرة طبرية فيشربوها، ثم يأتي آخرهم عليها فيقولون: كأنه كان هنا مرة ماء».وعند ابن بطال عن ابن عباس: الأرض ستة أجزاء، فخمسة أجزاء ليأجوج ومأجوج، وجزء لسائر الخلق.
(1/190)
وفي «التيجان» لابن هشام في كلام للخضر مع ذي القرنين: وستلقى قومًا يرون أن أهل الأرض عبيد لهم، وأنهم شركاء الله جل وعز في خلقه، وهم يأجوج ومأجوج، فلما بلغ أطراف جزائر البحر المحيط لقي بها أممًا من يأجوج ومأجوج يقال لهم: الأحرار، وهم قوم سود الوجوه زرق الأعين طوال الوجوه والأنف، وجوههم وجوه الخنازير، يختفون بالنهار من حر الشمس ويظهرون في الليل، فدعاهم ذو القرنين إلى الله تعالى فآمنوا، ثم لحج في أرضهم فأنابت منهم أمة يقال لهم: بنو عجلان بن يافث إلى الله، فتركهم في جزيرة أرمينية إلى ناحية جابرص، فسموا الترك لأن ذا القرنين تركهم، ثم بلغ جزائر الأرض الزوراء التي تزاور عنها الشمس، فوجد عندها قومًا صغار الأعين صغار الوجوه مشعرة، وجوههم كوجوه القرود، ولا يظهرون في النهار. وفي «تفسير الضحاك» عن معاذ وواثلة بن الأسقع، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف كالنخل طولًا، وصنف طول كل واحد منهم أربعة أذرع في عرض أربعة أذرع يفترش إحدى أذنيه ويتجلل بالأخرى، وصنف في غاية القصر، لهم أرزاق غير أرزاقكم ومعايش غير معايشكم بمنزلة البهائم يتشاورون فيما بينهم، خلق لا حاجة لله فيهم».وعند ابن أبي شيبة عن عمرو بن العاصي: «منهم من طوله شبر، ومنهم من طوله شبران وثلاثة».وعن عطية بن حسان: هم أمتان، في كل أمة أربعمائة ألف أمة ليس منها أمة تشبه الأخرى. وقال الأوزاعي عن ابن عباس فيما ذكره علي بن معبد: الأرض ستة أجزاء، خمسة فيها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وعند القرطبي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يأجوج أمة لها أربع مئة أمير، وكذلك مأجوج، صنف منهم طوله مئة وعشرون ذراعًا».
(1/191)
قال القرطبي ويروى: «أنهم يأكلون جميع حشرات الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح من الطير وغيره، وليس لله خلق ينمى نماءهم في العام الواحد، يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب، ومنهم من له قرن وذنب وأنياب بارزة يأكلون اللحوم نيئة».وفي كتاب «القصد والأمم» لابن عبد البر: هم أمم لا يقدر أحد على استقصاء ذكرهم لكثرتهم، ومقدار الربع العامر من الأرض مئة وعشرون سنة، وإن تسعين منها ليأجوج ومأجوج، وهم أربعون أمة مختلفو الخلق والقدود، في كل أمة ملك ولغة، منهم من مشيه وثب، وبعضهم يغير على بعض، ومنهم من لا يتكلم إلا تمتمة، ومنهم مشوهون، وفيهم شدة وبأس، وأكثر طعامهم الصيد، وربما أكل بعضهم بعضًا. وذكر الباجي عن عبد الرحمن بن ثابت قال: الأرض خمس مئة عام، منها ثلاث مئة بحورٌ، ومئة وتسعون ليأجوج ومأجوج، وسبع للحبشة، وثلاث لسائر الناس. وعن علي بن أبي طالب: غطاء أحدهم بستون بها وجلده تسعون. وذكر عياض: أن يأجوج ومأجوج رجل، ابنا يافث بن نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مشتقان من تأجج النار وهي حرارتها، سموا بذلك لكثرتهم وشدتهم، وهذا على قراءة من همزه، وقيل: من الإجاج وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل: هما اسمان أعجميان غير مشتقين. انتهىوأما قول من قال: إن سيدنا آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ احتلم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك، فباطل لا أصل له؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون. وفي «المنتهى» في اللغة من همزها جعل وزن يأجوج يفعولًا من أجيج النار أو الظليم أو غيره ومأجوج مفعولًا، ومن لم يهمزها جعلهما عجميين. قال الأخفش: من همزهما جعل الهمزة أصلية، ومن لا يهمز جعل الألِفَين زائدتين بجعل يأجوج فاعولًا من يججت ومأجوج فاعولًا من مججت الشيء من فمي، والأول أشبه بالواجب، فكأنهم سموا بذلك لاختلاف أصواتهم، فشبهوا بأجيج النار، وهما غير منصرفين؛ لأنهما اسمان لقبيلتين.
(1/192)