الرحيق المختوم وورد
الأحد، 22 أبريل 2018 .
3.الرحيق المختوم
3
بيانات الكتاب
الكتاب: الرحيق المختوم. لفضيلة الشيخ صفي الدين المباركفوري. الناشر:
دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة - مصر.
رقم الطبعة: الطبعة السابعة عشرة.
تاريخ الطبعة: 1426هـ- 2005م.
[ملحوظة]: سيتم - بإذن الله - إدراج الهوامش والحواشي، وثبت بالمصادر
والمراجع فيما بعد. نسألكم الدعاء بغفران الذنوب، وتفريج الكروب.
[تنبيه]: تم وضع رقم الصفحة في بداية كل صفحة؛ قطعًا للشك، وتيسيرًا على
الباحثين.
إضافةً إلى ذلك وُضِع للصفحات البيضاء الفارغة رقم، وكذلك الخرائط، كما
هو في طبعة (دار الوفاء) التي اعتمدتُ عليها.
ص283 أشتكها.
هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع
واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بن أنيس،
وفيه: أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه، وأتوا مَنْهَرًا
من عيونهم فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا
رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد الله بن عتيك حتى قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم. كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5هـ.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة أخذ يوجه حملات تأديبية
إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة القاهرة.
سرية محمد بن مسلمة:
وكانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية
ثلاثين راكبًا. تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض
نجد، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6هـ إلى
بطن بني بكر بن كلاب. فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا
المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان
قد خرج متنكرًا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب، فأخذه
المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: (ما ذا عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا
دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ماشئت، فتركه، ثم
مرّ به مرة أخري؛ فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً، ثم مر مرة ثالثة
فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلام السابق: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه، فذهب إلى نخل
قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله، ما كان على وجه الأرض وجه
أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان على وجه الأرض دين
أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد
العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش
قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم،
ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش،
وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي
إليه حمل الطعام، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غزوة بني لَحْيَان:
بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز
إلى حدود مكة. والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يري
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما
تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن
الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في
ربيع الأول أو جمادي الأولي سنة 6هـ في مائتين من أصحابه، واستخلف على المدينة ابن
أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد
بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو
لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث
السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم
لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة. وكانت غيبته عنها أربع عشرة ليلة.
متابعة البعوث والسرايا:
ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا، وهاك
صورة مصغرة منها:
1 ـ سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ. خرج عكاشة في
أربعين رجلاً إلى الغمْر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير
ساقوها إلى المدينة.
2 ـ سرية محمد بن مَسْلَمَة إلى ذي القَصَّة في ربيع الأول أو الآخر سنة
6هـ. خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى ذي القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم
ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحًا.
3 ـ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6هـ، وقد
بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه أربعون
رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا عليهم،
فأعجزوهم هربًا في الجبال، وأصابوا رجلاً واحدًا فأسلم، وغنموا نَعَما وشاء.
4 ـ سرية زيد بن حارثة إلى الجَمُوم في ربيع الآخر سنة 6هـ ـ والجموم ماء
لبني سليم في مَرِّ الظَّهْرَان ـ خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَيْنَة يقال
لها: حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسري، فلما قفل
زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها.
5 ـ سرية زيد إلى العِيص في جمادي الأولى سنة 6هـ في سبعين ومائة راكب،
وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ردَّ أموال العير عليه ففعلت، وأشار رسول الله صلى الله
عليه وسلم على الناس بردِّ الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل
والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم
وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين
ونيف، كما ثبت في الحديث الصحيح ردها بالنكاح الأول؛ لأن آية تحريم المسلمات على
الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد، أو
رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معني، كما أنه ليس بصحيح سندًا. والعجب ممن يتمسكون
بهذا الحديث الضعيف فإنهم يقولون: إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل
الفتح. ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون: إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان، وقد بسطنا
الكلام شيئًا في تعليقنا على بلوغ المرام. وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذا الحادث
وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا
الضعيف.
6 ـ سرية زيد أيضًا إلى الطَّرِف أو الطَّرِق في جمادي الآخر سنة 6هـ. خرج
زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى
الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيرًا، وغاب أربع ليال.
7 ـ سرية زيد أيضًا إلى وادي القري في رجب سنة 6هـ. خرج زيد في اثني عشر
رجلاً إلى وادي القري؛ لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي
القري؛ فقتلوا تسعة، وأفلتت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة.
8 ـ سرية الخَبَط ـ تذكر هذه السرية في رجب سنة 8هـ، ولكن السياق يدل على
أنها كانت قبل الحديبية ـ قال جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة
راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيرًا لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا
الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث
جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقي إلينا البحر دابة يقال لها: العَنْبَر، فأكلنا
منه نصف شهر، وادَّهَنَّا منه حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعًا
من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا
من لحمة وَشَائِق، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا
له ذلك، فقال: (هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمة شيء تطعمونا؟) فأرسلنا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم منه.
وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لأن
المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية.
غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع (في شعبان سنة 5 أو 6هـ)
وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف من حيث الوجهة
العسكرية، إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمع الإسلامي،
وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي
صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولاً، ثم نذكر تلك
الوقائع. كانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي، وسنة ست على قول
ابن إسحاق. وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي
ضِرَار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي
ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد
لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه
لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها،
واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَة بن عبد الله
الليثي، وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عينًا؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقي
المسلمون عليه القبض وقتلوه.
ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقتله عينه، خافوا خوفًا شديدًا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهي رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المُرَيْسِيع ـ بالضم فالفتح مصغرًا، اسم لماء من
مياههم في ناحية قُدَيْد إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتال. وَصَفَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن
عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل
واحد، فكانت النصرة وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه
وسلم النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل
من الأنصار ظنًا منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: هو
وَهْم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبي ذراريهم
وأموالهم، كما في الصحيح أغار رسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون،
وذكر الحديث. انتهي. وكان من جملة السبي: جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد
القوم، وقعت في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فأدي عنها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتزوجها، فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد
أسلموا، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما
الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن
أبي وأصحابه، نري أن نورد أولاً شيئًا من أفعالهم في المجتمع الإسلامي.
دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق:
قدمنا مرارًا أن عبد الله بن أبي كان يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين،
ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَنَقًا شديدًا؛ لأن الأوس والخزرج
كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوه إذ دخل فيهم
الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي
استلبه ملكه. وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام،
وبعد أن تظاهر به. ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن
عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال: لا
تُغَبِّرُوا علينا. ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن،
قال: اجلس في بيتك، ولا تؤذنا في مجالسنا. وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما
تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في
تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهين كلمة الإسلام. وكان يوإلى أعداءه، وقد تدخل في أمر
بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين
المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضي في صفوفهم بما مضي. وكان من شدة مكر هذا
المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس،
فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب. وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في
يوم الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان
يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست
لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطي رقاب الناس، وهو يقول: والله لكأنما قلت
بُجْرًا أن قمت أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد... فقال: ويلك، ارجع
يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وكانت
له اتصالات ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ
لَنَنصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11]. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة
القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة
الأحزاب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} إلى قوله: {يَحْسَبُونَ
الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم
بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم
مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 12: 20]. بيد أن جميع أعداء الإسلام من
اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيدًا أن سبب غلبة الإسلام ليس هو
التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل
التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن
منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المثل الأعلى ـ إلى
حد الإعجاز ـ لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن
القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا
حربًا دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول
صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة. ولما كان المنافقون هم
الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال
بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين. تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى
رأسهم ابن أبي. وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب
أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني
على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون
ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج
بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟
الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنَّاه ـ فالزواج بها من أكبر
الكبائر، حسب تقاليد العرب. وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصًا
وأساطير، قالوا: إن محمدًا رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حبًا، وعلقت بقلبه،
وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشرًا بقيت
آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثرًا قويًا
في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ
عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1]. وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة
لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد
كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه
بالصبر؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم مرة بعد أخري حسب قوله تعالى: {أَوَلاَ
يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
دور المنافقين في غزوة بني المصطلق:
ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى:
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ
خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فقد وجدوا متنفسين للتنفس
بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى
الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها:
1 ـ قول المنافقين: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل":
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيمًا على
المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه
الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا
معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن
أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد
فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول:
سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم،
وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن
أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر:
مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل
أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس،
فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة
منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال:
(زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله،
تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به،
فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك
استلبته ملكًا.
ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك
حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَسَّ الأرض فوقعوا نيامًا.
فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث. أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر
جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به،
فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم
يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في
بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا}
إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (المنافقون: 1- 8)، فأرسل
إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليَّ، ثم قال: (إن الله قد صدقك).
وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحًا من
الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستلَّ سيفه، فلما جاء
ابن أبي قال له: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم
أذن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن
أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه.
2ـ حديث الإفك:
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها: أن عائشة رضي الله عنها كانت
قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت
تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة
لحاجتها، ففقدت عقدًا لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي
فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا
الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم
يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها، وأيضًا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم
ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحدًا أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة
إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت
أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه
كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل: إنا
لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان صفوان قد عَرَس في
أخريات الجيش؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب،
فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه
إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة،
فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن
أبي متنفسًا، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك،
ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما
قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا
يتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي
رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحًا لا تصريحًا، وأشار عليه أسامة
وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء. فقام على المنبر يستعذر من عبد الله
ابن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد
الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان،
فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة فلما
رجعت مرضت شهرًا، وهي لا تعلم عن حديث الإفك شيئًا، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول
الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع
أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها،
فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية
الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويومًا، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى
ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال:
(أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن
كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى
الله تاب الله عليه). وحينئذ قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم
يدريا ما يقولان. فقالت: والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في
أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني
بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما
أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)،
فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي
أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ
جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} [النور: 11: 20]. العشر الآيات. ثم
تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها:
قومي إليه. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله
عليه وسلم: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك
هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ
مِّنكُمْ...} العشر الآيات [النور: 11: 20]. وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن
أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث
عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره؛ إما لأن الحدود تخفيف
لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها
قتله.
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو
المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحًا لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن
إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه
ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "كيف ترى يا عمر؟ أما والله
لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته".
قال عمر: قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
البعوث والسرايا بعد غزوة المُرَيْسِيع
1 ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدَوْمَة الجَنْدَل، في
شعبان سنة 6هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وعممه بيده، وأوصاه
بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: (إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم)، فمكث عبد الرحمن بن عوف
ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تُمَاضِر بنت
الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم.
2 ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، في شعبان سنة 6هـ.
وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعًا يريدون أن يمدوا اليهود.
فبعث إليهم عليًا في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عينًا لهم،
فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل
العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة،
وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم.
3 ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري، في رمضان سنة
6هـ. كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق. قال سَلَمَة بن الأكْوَع: وخرجت معه حتى إذا
صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة
وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين
الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة، عليها قَشْعٌ من أدِيم،
معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها،
فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أم قِرْفَة، فبعث
بها إلى مكة، وفدي بها أسري من المسلمين هناك. وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال
النبي صلى الله عليه وسلم، وجهزت ثلاثين فارسًا من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها،
وقتل الثلاثون.
4 ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العُرَنِيِّين، في شوال سنة 6هـ، وذلك
أن رهطًا من عُكَل وعُرَينَة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المراعي، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها
وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل،
وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزًا الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على
العرنيين: (اللّهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مَسَك)، فعمي الله
عليهم السبيل فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسَمُلَتْ أعينهم، جزاء وقصاصًا بما
فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا، وحديثهم في الصحيح عن أنس. ويذكر أهل
السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضَّمْرِي مع سلمة بن أبي سلمة، في شوال سنة
6هـ. أنه ذهب إلى مكة لاغتيال أبي سفيان؛ لأن أبا سفيان كان أرسل أعرابيًا لاغتيال
النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن المبعوثين لم ينجحا في الاغتيال، لاهذا، ولا
ذاك. ويذكرون أن عَمْرًا قتل في الطريق ثلاثة رجال، ويقولون: إن عمرا أخذ جثة
الشهيد خُبَيْب في هذا السفر، والمعروف أن خبيبًا استشهد بعد الرَّجِيع بأيام أو
أشهر، ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة 4هـ، فلا أدري هل اختلط السفران على أهل
السير، أو كان الأمران في سفر واحد في السنة الرابعة، وقد أنكر العلامة
المنصورفوري أن تكون هذه السرية سرية حرب أو مناوشة. والله أعلم. هذه هي السرايا
والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم يجر في واحدة منها قتال مرير، وإنما وقعت
فيما وقعت مصادمة خفيفة، فليست هذه البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات
تأديبية؛ لإرهاب الأعراب والأعداء الذين لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في
الظروف أن مجري الأيام كان قد أخذ في التطور بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام
كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يكن بقي لهم أمل في نجاح كسر الدعوة
الإسلامية وخَضْد شوكتها، إلا أن هذا التطور ظهر جليًا بصلح الحديبية، فلم تكن
الهدنة إلا الاعتراف بقوة الإسلام، والتسجيل على بقائها في ربوع الجزيرة العربية.
عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة 6هـ
سبب عمرة الحديبية:
ولما تطورت الظروف في الجزيزة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت
طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات
لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه
المشركون منذ ستة أعوام. أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو
بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا،
وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم
ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر.
استنفار المسلمين:
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من
الأعراب، أما هو فغسل ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينة ابن أم
مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي. وخرج منها يوم الاثنين غرة ذي القعدة سنة 6هـ، ومعه
زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا
سلاح المسافر: السيوف في القُرُب.
المسلمون يتحركون إلى مكة:
وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه،
وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عينًا له من خزاعة يخبره عن
قريش، حتى إذا كان قريبًا من عُسْفَان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد
جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعًا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم
فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم
تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر: الله ورسوله
أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت
قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فروحوا)،
فراحوا.
محاولة قريش صد المسلمين عن البيت:
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم عقدت مجلسًا
استشاريًّا قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشًا نازلة بذي طُوَي،
وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق
الرئيسي الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم
يتراءى الجيشان. ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال: لقد
كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ
وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة
خالدًا.
تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي:
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم
ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من
أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم مارًا بالتنعيم، تركه إلى
اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض
نذيرًا لقريش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت
راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ، فقالوا: خلأت القصواء،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها
حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا
أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية، على ثَمَد قليل
الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضًا، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما
زال يجيش لهم بالري حتى صدروا.
بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش:
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي
في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل
تُهَامَة، فقال: إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ
المطَافِيل، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت
بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل
فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده
لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره). قال بديل:
سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشًا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل،
وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه
بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش
مِكْرَز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما
جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم.
رسل قريش: ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة:
دعوني آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)،
فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء
أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري أن
يصدوا، وجري بينه وبين قريش كلام أحفظه. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض
عليكم خطة رُشْد فاقبلوها، ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله
عليه وسلم نحوًا من قوله لبديل.
فقال له عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من
العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أرى وجوهًا، وإني أرى
أوباشًا من الناس، خليقًا أن يفروا ويدعوك. قال له أبو بكر: امصص بَظْر اللات،
أنحن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت
عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ
بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه
المِغْفَرُ، فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل
السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه،
وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي عُذَر، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك؟
وكان المغيرة صَحِبَ قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منه في شيء)
(وكان المغيرة ابن أخي عروة). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتعظيمهم له، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على
قيصر وكسري والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد
محمدًا، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده،
وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا
أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ
فاقبلوها.
هو الذي كف أيديهم عنكم:
ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في
الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى
معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثًا تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا
القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا
التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعًا.
ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل
الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم
بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24].
عثمان بن عفان سفيرًا إلى قريش:
وحينئذٍ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيرًا يؤكد لدى
قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً:
يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان
بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال:
أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارًا، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي
رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر
دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى
مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد
بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء
مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا
العرض، وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان:
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع
الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال
الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
بلغته الإشاعة: (لا نبرح حتى نناجز القوم)، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه
يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي،
وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعة جاء
عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّ بن
قَيْس. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا
بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18].
إبرام الصلح وبنوده:
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح،
وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه
دخلها علينا عنوة أبدًا، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه عليه السلام قال: (قد سهل
لكم أمركم)، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم
اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه:
1- الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام
القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثًا، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب،
ولا يتعرض لهم بأيِّ نوع من أنواع التعرض.
2- وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش
وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءًا من ذلك الفريق،
فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق.
4- من أتى محمدًا من قريش من غير إذن وليه ـ أي هاربًا منهم ـ رده عليهم،
ومن جاء قريشًا ممن مع محمد ـ أي هاربًا منه ـ لم يرد عليه، ثم دعا عليًّا ليكتب
الكتاب، فأملى عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن
فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللّهم.
= فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم أملى: (هذا ما صالح عليه محمد
رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك،
ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال: (إني رسول الله وإن كذبتموني). وأمر عليًّا أن
يكتب: محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه
صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، كما
قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيدًا لذلك الحلف القديم ـ
ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
رد أبي جندل:
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد
خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك
عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد). فقال:
فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبدًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي).
قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: (بلى فافعل)،
قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره؛ ليرده إلى
المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين
يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل،
اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجا، إنا قد عقدنا
بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم). فوثب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل،
فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت
أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: (قوموا
فانحروا)، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام
فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟
اخرج، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم
يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك
قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا، وكانوا
نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً
كان لأبي جهل، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثًا بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل الله
فدية الأذي لمن حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعب بن عُجْرَة.
الإباء عن رد المهاجرات:
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في
الحديبية، فرفض طلبهم هذا؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند
هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا)، فلم تدخل
النساء في العقد رأسًا. وأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، حتى بلغ {بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله
تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ
بِاللَّهِ شَيْئًا} إلخ [الممتحنة: 12]، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها: (قد بايعتك)، ثم لم يكن يردهن.
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين
كانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخرى صفوان بن أمية.
ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة:
هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح
عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال
شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يومًا ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين
الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في
جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشًا لا تقدر
على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشًا نسيت صدارتها الدنيوية
وزعامتها الدينية، وأنها لا تهمُّها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة
العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشًا، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع
من أنواع التدخل. أليس هذا فشلاً ذريعًا بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبينًا بالنسبة
إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن
أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس،
أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون
من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29]. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من
القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في
الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحًا كبيرًا في
الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش
الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف.
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا
بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ} [التوبة: 13]، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن
تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين
يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على
فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره. أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد
الحرام، فهو أيضًا فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشًا سوي أنها نجحت في الصد لذلك
العام الواحد فقط. أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة
فقط، وهي ما في البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جدًا، ليس فيها شيء يضر
بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلمًا لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة
الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهرًا أو باطنًا، فإذا ارتد فلا حاجة
إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله).
وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله
واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام
شيئًا؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا
ومخرجًا). والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في
الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم
الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من
الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ. وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من
فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه
وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط.
حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم:
هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين
كآبة وحزن شديد.
الأولى: أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم
يطف به؟
الثانية: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار
دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعر
المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح.
ولعل أعظمهم حزنًا كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: (بلى). قال: أليس قتلانا
في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلى). قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما
يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: (يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو
ناصري ولن يضيعني أبدًا). قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال:
(بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟) قال: لا. قال:
(فإنك آتيه ومطوف به). ثم انطلق عمر متغيظا فأتى أبا بكر، فقال له كما قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. ثم نزلت:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا...} إلخ [سورة الفتح: 1]، فأرسل رسول الله
إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: (نعم).
فطابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على ما فرط منه ندمًا شديدًا، قال عمر: فعملت لذلك
أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي
تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرًا.
انحلت أزمة المستضعفين:
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت
رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليف لقريش،
فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة،
فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأري سيفك هذا
يا فلان جيدًا، فاستله الآخر فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم
جَرَّبْتُ. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد. وفر الآخر
حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:
(لقد رأى هذا ذعرًا)، فلما انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتِل صاحبي،
وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد
رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه،
مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي
سِيفَ البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش
رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله ما يسمعون بعير
خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل
النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة.
إسلام أبطال من قريش:
وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد
وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مكة قد ألقت
إلينا أفلاذ كبدها).
المرحلة الثانية: طور جديد
إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد
كانت قريش أقوى قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب
إلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوى جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة ـ قريش
وغَطَفَان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية، وزعيمتهم في ربوع جزيرة العرب
انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نرى
لغطفان استفزازًا كبيرًا بعد هذه الهدنة، وجُلّ ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء
اليهود. أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر،
وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول
المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر
الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح
هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر. ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت
المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في
هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري؛ ولذلك نري أن نقسم هذه
المرحلة إلى قسمين:
1ـ النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء.
2ـ النشاط العسكري. وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول
موضوع مكاتبة الملوك والأمراء؛ إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعًا، بل ذلك هو
الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن،
والقلاقل والاضطرابات.
مكاتبة الملوك والأمراء
في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك
قيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ
النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة، نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هكذا. واختار
من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة
المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من
الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام. وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه.
1ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:
وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه
وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة.
وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص
الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر
حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر
هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ: (وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا ومعه نفر من
المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر). وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا
كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي،
وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا
ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم
تسلم،{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك).
وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله (باريس) نص كتاب
قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط
ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهدًا بليغًا، واستعان في ذلك كثيرًا باكتشافات
العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول
الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن
مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه
ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على
طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني
أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع
الهدى).
وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله
عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في
الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد
البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك
وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ...} إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم
الأصحمة صريحًا، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص
الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو
السبب في ترك الاسم. وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية
التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذي
أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد
موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحًا، والعلم عند الله.
ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي،
ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب
إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام
عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسي
لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقًا(3)، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد
قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن
عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين"(4).
__________
(3) التُّفروق: قِمَع التمرة.
(4) زاد المعاد 3/ 61.
== وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرًا ومن
معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي
صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر. وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد
تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة الغائب، ولما مات
وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا آخر، ولا يدري
هل أسلم أم لا؟.
2 ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بن مَتَّى الملقب
بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية:
"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم
القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم،
وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط،{يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ
نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة. فلما دخل
حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال
الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن
هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه
النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى
القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قومًا فهم أمته، فالحق
عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا
نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود
فيه. ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت
معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صلى الله
عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له،
ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام
عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن
نبيًا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما
مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك). ولم يزد على هذا
ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية، واتخذ
النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم. وأما سيرين
فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري.
3ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام
على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة،
لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس
عليك). واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم
البحرين، ولا ندري هل بعث به عظيم البحرين رجلاً من رجالاته، أم بعث عبد الله
السهمي، وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من
رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مزق الله
ملكه)، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى بَاذَان عامله على اليمن: ابعث إلى هذا
الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فاختار باذان رجلين ممن
عنده، أحدهما: قهرمانه بانويه، وكان حاسبًا كاتبًا بكتاب فارس. وثانيهما: خرخسرو
من الفرس، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما
إلى كسري، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن
شاهنشاه [ملك الملوك] كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه
بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولاً توعده فيه، فأمرهما النبي صلى الله عليه
وسلم أن يلاقياه غدًا.
وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن
لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله،
وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولي سنة سبع،
وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك. فقالا: هل تدري
ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك. قال: (نعم
أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى ! وينتهي إلى منتهي
الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من
الأبناء)، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب
بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه: انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي
إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سببًا في إسلام باذان ومن معه من أهل
فارس باليمن.
4ـ الكتاب إلى قيصر ملك الروم: روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب
الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم،
سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن
عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران: 64]. واختار
لحمل هذا الكتاب دَحْيَة بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه
إلى قيصر، وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل
إليه في ركب من قريش، كانوا تجارًا بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه
وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي
يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه مني،
وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل،
فإن كذبني فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبًا لكذبت عليه. ثم
قال: أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب،
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه
من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال:
أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن
يدخل فيه: قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال:
فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ـ قال: ولم تمكنني
كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة ـ قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف
كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: (اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا
ما يقول آباؤكم)،
ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه،
فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم
هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي
بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. فقلت: فلو كان من
آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم
تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب
على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن
ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم
ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطه
لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا
يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة
الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي
هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه
لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقرأ، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا
فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه
ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام. هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على
قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى
الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحِسْمَى في الطريق لقيه ناس من جُذَام،
فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن
يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي، وهي
وراء وادي القرى، في خمسمائة رجل، فشنَّ زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلاً
ذريعًا، واستاق نَعَمهم ونساءهم، فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف،
والسبي مائة من النساء والصبيان. وكان بين النبي
صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رِفَاعة الجذامي أحد
زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم هو
ورجال من قومه، ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى الله عليه وسلم
احتجاجه، وأمر برد الغنائم والسبي. وعامة أهل
المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتاب إلى قيصر
كان بعد الحديبية؛ ولذا قال ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك.
5ـ الكتاب إلى المنذر بن سَاوِي:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتابًا
يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل
البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود،
فأحدث إلى في ذلك أمرك).
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام
عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما
بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطيع رسلي
ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا،
وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب،
فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك. ومن أقام على يهودية أو مجوسية
فعليه الجزية).
6 ـ الكتاب إلى هَوْذَة بن على صاحب اليمامة: وكتب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى هوذة بن على صاحب اليمامة: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله
إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف
والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك).
واختار لحمل هذا الكتاب سَلِيط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة
بهذا الكتاب مختومًا أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه ردًا دون رد، وكتب
إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني،
فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر. فقدم
بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم
كتابه فقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه). فلما انصرف
رسول الله من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبي، يقتل بعدي)، فقال قائل: يا رسول
الله، من يقتله؟ فقال: (أنت وأصحابك)، فكان كذلك؟.
7 ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق:
كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد
رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني
أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك). واختار لحمل هذا الكتاب
شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال: [من ينزع ملكي
مني؟ أنا سائر إليه]، ولم يسلم. واستأذن قيصر في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فثناه عن عزمه، فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة، ورده بالحسنى.
8 ـ الكتاب إلى ملك عُمَان: وكتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا إلى ملك
عمان جَيْفَر وأخيه عبد ابني الجُلَنْدَي، ونصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي،
سلام على من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًا ويحق القول على
الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما [أن تقرا بالإسلام] فإن
ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما). واختار لحمل هذا
الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها
عمدت إلى عبد ـ وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقًا ـ فقلت: إني رسول رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك
إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا شريك له،
وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد
قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه
وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله
للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا. فسألني أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي،
وأخبرته أن النجاشي قد أسلم. قال: وكيف صنع قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه. قال:
والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا
عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت، وما
نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت: بلي، قال:
فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجًا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى
الله عليه وسلم، قال: لا والله لو سألني درهما واحدًا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله،
فقال له اليَنَّاق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجًا، ويدين بدين غيرك دينًا
محدثًا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا الضن
بملكي لصنعت كما صنع. قال: انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك. قال عبد:
فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهي عن معصيته،
ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهي عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن
عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني
عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من
أن يدعه ويصير ذنبًا. قلت: إنه إن أسلم مَلَّكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما
الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال، حتى
انتهيت إلى الإبل. قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعي الشجر وترد
المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أري قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون
لهذا. قال: فمكثت ببابه أيامًا، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني
يومًا فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأبوا أن
يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففض
خاتمه، وقرأ حتى انتهي إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت
أخاه أرق منه، قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين،
وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على
غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بقي
غيرك في هذه الحَرجَة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك،
فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا،
وارجع إلى غدًا. فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يَضِنَّ
بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبي أن يأذن لي. فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته
أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف
العرب إن ملكت رجلاً ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت
قتالاً ليس كقتال من لاقي. قلت: أنا خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه
فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إليَّ، فأجاب
إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين
الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني. وسياق هذه القصة
تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيرًا عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان
بعد الفتح.
وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك
الأرض، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر، ولكن شغل فكره هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم
باسمه ودينه.
(0/313)
ص314 النشاط العسكري بعد صلح الحديبية
غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد:
هذه الغزوة حركة مطاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في
لِقَاحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد الحديبية، وقبل خيبر. ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر
بثلاث، وروي ذلك مسلم مسندًا من حديث سلمة ابن الأكوع. وذكر الجمهور من أهل
المغازي أنها كانت قبل الحديبية، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي. وخلاصة
الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم بظهره مع غلامه رَبَاح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن
الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح، خذ هذا
الفرس فأبلغه أبا طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمت على أكَمَة،
واستتقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم
بالنبل وأرتجز، أقول:
[خُذْها] أنا ابنُ الأكْوَع ... واليومُ يومُ الرُّضَّع
فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر،
ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة،
فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر
من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا يستخفون، ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه آرامًا من
الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. حتى أتوا متضايقًا من
ثَنِيَّةٍ، فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قَرْن، فصعد إلى منهم أربعة في الجبل،
قلت: هل تعرفونني؟ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته، ولا يطلبني
فيدركني، فرجعوا. فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتخللون الشجر، فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة، وعلى أثره المقداد بن
الأسود، فالتقي عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله،
وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله، وولي القوم مدبرين،
فتبعتهم أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه
(0/314)
ص315 ماء يقال له: ذو قَرَد، ليشربوا منه، وهم عطاش، فأجليتهم عنه، فما
ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء، فقلت: يا رسول
الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح، وأخذت
بأعناق القوم، فقال: (يا بن الأكوع. ملكت فأسجح)، ثم قال: (إنهم ليقرون الآن في
غطفان). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير
رجالتنا سلمة). وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفني
وراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة. استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو.
(0/315)
ص316 غزوة خيبر ووادي القُرى (في المحرم سنة 7هـ)
كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بُعد ثمانين ميلاً من
المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة.
سبب الغزوة:
ولما اطمأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوي أجنحة الأحزاب
الثلاثة، وهو قريش، وأمن منه تمامًا بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين
الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة،
ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه.
ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات
وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا. أما كون خيبر بهذه الصفة،
فلا ننسي أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على
الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع
الإسلامي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الأحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم
يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة
لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة،
وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم،
ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في
القيام بهذا الواجب؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة
للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم
يوم الحساب.
الخروج إلى خيبر:
قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من
الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. قال المفسرون: إن
خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني صلح
الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر.
عدد الجيش الإسلامي:
ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم قائلاً: {سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ
كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الفتح: 15].
(0/316)
ص317 فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا
يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة.
واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق: نُمَيْلَة بن
عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين. وبعد خروجه صلى الله عليه وسلم قدم أبو
هريرة المدينة مسلمًا، فوافي سباع بن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي
سباعا فزوده، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم المسلمين فأشركوه
وأصحابه في سهمانهم.
اتصال المنافقين باليهود:
وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي
إلى يهود خيبر: إن محمدًا قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا منه
فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل، لا سلاح معهم إلا قليل،
فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان
يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم
نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين.
الطريق إلى خيبر:
وسلك رسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر ـ بالكسر،
وقيل:
بالتحريك ـ ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له: الرجيع، وكان بينه
وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما
كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حسًا ولغطًا، فظنوا أن المسلمين أغاروا على
أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر. ثم
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم
أحدهما: حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي
جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام، كما يحول بينهم وبين
غطفان. قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى انتهي
إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى
المقصد، فأمر أن يسمها له واحدًا واحدًا. قال: اسم واحد منها حزن، فأبي النبي صلى
الله عليه وسلم من سلوكه، قال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضًا، وقال: اسم الآخر
حاطب، فامتنع منه أيضًا، قال حسيل: فما بقي إلا واحد. قال عمر: ما اسمه؟ قال:
مَرْحَب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه.
بعض ما وقع في الطريق:
1ـ عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر
فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان
عامر رجلاً شاعرًا ـ فنزل يحدو
(0/317)
ص318 بالقوم، يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فاغفر فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنا ... وَثبِّت الأقدام إن لاقينا
وألْقِينْ سكينة علينا ... إنا إذا صِيحَ بنا أبينا
وبالصياح عَوَّلُوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هذا السائق). قالوا: عامر بن
الأكوع، قال: (يرحمه الله): قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به.
وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد،
وقد وقع ذلك في حرب خيبر.
2ـ وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دعا
بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى
المغرب، فمضمض، ومضمض الناس، ثم صلي ولم يتوضأ، ثم صلي العشاء.
3ـ ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال: (قفوا)، فوقف الجيش، فقال: (اللهم
رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما
أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما
فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا، باسم الله).
الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر:
وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من
خيبر، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي قومًا بليل لم
يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر
بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد،
والله محمد والخَمِيس، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء
صباح المنذرين).
حصون خيبر:
وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون:
1 ـ حصن ناعم. 2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ.
3 ـ حصن قلعة الزبير. 4 ـ حصن أبيّ.
(0/318)
ص319
5 ـ حصن النِّزَار. والحصون الثلاثة الأولي منها كانت تقع في منطقة يقال
لها: (النطاة)، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ. أما الشطر
الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط:
1ـ حصن القَمُوص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير).
2ـ حصن الوَطِيح.
3ـ حصن السُّلالم.
وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ
إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول
منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال.
معسكر الجيش الإسلامي:
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاه
حُبَاب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي
في الحرب؟ قال: (بل هو الرأي) فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن
نَطَاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم،
وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين
النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه
معسكرًا، قال صلى الله عليه وسلم: (الرأي ما أشرت)، ثم تحول إلى مكان آخر.
التهيؤ للقتال وبشارة الفتح:
ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل: بل بعد عدة محاولات ومحاربات ـ قال النبي
صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله، [يفتح الله على يديه]) فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقالوا: يا رسول
الله، هو يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه)، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه
وسلم في عينيه، ودعا له، فبرئ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول
الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: (انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم
إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك
رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم).
بدء المعركة وفتح حصن ناعم:
أما اليهود فإنهم لما رأوا الجيش وفروا إلى مدينتهم تحصنوا في حصونهم،
وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال.
(0/319)
ص320 وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم. وكان خط
الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل
اليهودي الذي كان يعد بالألف. خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا
الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم
ملكهم مرحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سلمة بن الأكوع:
فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب ... شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب
فبرز له عمي عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مُغَامِر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له،
وكان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين
ركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن له لأجرين ـ وجمع بين
إصبعيه ـ إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مَشَي بها مِثْلَه).
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخري وجعل يرتجز بقوله: قد
علمت خيبر أني مرحب... إلخ، فبرز له على بن أبي طالب. قال سلمة ابن الأكوع: فقال عليّ:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ ... كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ
أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ
فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من
أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو
مرحب، وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل
ابني، قال: (بل ابنك يقتله)، فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل
فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله
(0/320)
ص321 مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن
هذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من
مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن
ناعم.
فتح حصن الصعب بن معاذ:
وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام
المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار
ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن
دعوة خاصة. روي ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: (اللهم إنك قد
عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم
حصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا). فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن
الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه.
ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا
الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، ثم
فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات
والدبابات. ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان
رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذلك نهي عن لحوم الحمر الإنسية.
فتح قلعة الزبير:
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة
الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته
وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة
أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن
لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم
فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا
أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فتح قلعة أبيّ:
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض
المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد
قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو
دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء. وقد أسرع أبو دجانة بعد
قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش
(0/321)
ص322 الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من
القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول.
فتح حصن النَّزَار:
كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن
المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذا السبيل،
ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع
الأربعة السابقة. وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم
بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه.
أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم
قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعندما استعصى حصن
النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق،
ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه،
ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم
يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا
الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر
الأول من خيبر، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة
أخري إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى
الشطر الثاني من بلدة خيبر.
فتح الشطر الثاني من خيبر:
ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، تحول
إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير،
وحصن الوَطِيح والسُّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن
هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها
الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من
سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام.
أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد
المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال،
وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال.
ومهما كان، فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ
الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا
يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق،
فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح.
(0/322)
ص323 المفاوضة:
وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل
فأكلمك؟ قال: (نعم)، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم
من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي
الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا)، فصالحوه على ذلك، وبعد
هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر.
قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:
وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مَسْكًا
فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن
إسحاق: وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكِنَانة
الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجل
من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لكنانة: (أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال: نعم، فأمر بالخربة،
فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبي أن يؤديه. فدفعه إلى الزبير،
وقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه،
ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن
مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار
فمات ـ. وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي
الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة. وسبي رسول الله صلى
الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت
عروسًا حديثة عهد بالدخول.
قسمة الغنائم:
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا
محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون
حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم.
وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة
(0/323)
ص324 آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين
النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد
المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور
المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل
الحديبية من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل
فرس سهمان، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم
واحد. ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى
فتحنا خيبر، وما رواه عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر،
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار
منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل.
قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين:
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم
الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسي: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من
قومي، ركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرًا وأصحابه
عنده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا
معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر،
فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب
سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه
وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال: (والله ما أدري
بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر). وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم
النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلاً، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم،
وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك.
الزواج بصفية:
ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق
لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية
من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا نبي الله،
(0/324)
ص325 أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك،
قال: (ادعوه بها). فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذ
جارية من السبي غيرها)، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت،
فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة
حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها
بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها.
ورأى بوجهها خضرة، فقال: (ما هذا؟) قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن
القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على
زوجي، فلطم وجهي. فقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة.
أمر الشاة المسمومة:
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب
بنت الحارث، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم، شاة مَصْلِيَّةً، وقد سألت أي عضو أحب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت
سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول
الذراع، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه
مسموم)، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟) قالت: قلت: إن كان ملكًا
استرحت منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها. وكان معه بِشْر بن البراء بن
مَعْرُور، أخذ منها أكلة فأساغها، فمات منها. واختلفت الروايات في التجاوز عن
المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا.
قتلى الفريقين في معارك خيبر:
وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من
قريش وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار.
ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 18 رجلاً.
وذكر العلامة المنصورفوري 19 رجلاً، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 23
اسمًا، واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة
المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنه قتل في بدر. أما قتلى
اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً.
(0/325)
ص326 فَدَك:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن
مسعود إلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف
الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من
فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
وادي القُرَى:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القري،
وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم
يهود بالرمي، وهم على تعبئة، فقتل مِدْعَم ـ عَبْدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا، والذي نفسي
بيده، إن الشَّمْلَة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل
عليه نارًا)، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشِرَاك
أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (شراك من نار أو شراكان من نار). ثم
عَبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصَفَّهم، ودفع لواءه إلى سعد
بن عبادة، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حُنَيْف، وراية إلى
عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن
العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله
عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى
الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلى
الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح
حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم، وأصابوا أثاثا
ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام. وقسم
على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (كما عامل
أهل خيبر).
تَيْمَاء:
ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَي، لم
يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح، فقبل ذلك
منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم. وكتب لهم بذلك كتابا وهاك
نصه: هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء
ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد، وكتب خالد بن سعيد.
(0/326)
ص327 العودة إلى المدينة:
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة، وفي الطريق
أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا
الله) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون
أصَمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا). وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى الله
عليه وسلم ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال: (اكلأ لنا الليل)،
فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس، وأول
من استيقظ بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي، وتقدم، ثم
صلي الفجر بالناس، وقيل: إن هذه القصة في غير هذا السفر. وبعد النظر في
تفصيل معارك خيبر، يبدو أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم كان في أواخر صفر أو في
ربيع الأول سنة 7هـ.
سرية أبَان بن سعيد:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاء
المدينة تماما بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا، بينما الأعراب ضاربة
حولها، تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة؛ ولذلك أرسل سرية
إلى نجد لإرهاب الأعراب تحت قيادة أبان بن سعيد، بينما كان هو إلى خيبر، وقد رجع
أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه، فوافي النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر،
وقد افتتحها.
والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ، وقد ورد ذكرها في البخاري.
قال ابن حجر: لم أعرف حال هذه السرية.
(0/327)
ص328 بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة
غزوة ذات الرِّقَاع:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر جناحين قويين من أجنحة
الأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة
الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة
وأخري. ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون
والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير
عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب
والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخري. ولفرض الشوكة ـ أو
لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة ـ قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون
هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن حضور أبي موسي الأشعري وأبي هريرة رضي الله
عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع
الأول سنة 7هـ. وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان، فأسرع بالخروج
إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن
عفان رضي الله عنهما، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له: نخل، على
بعد يومين من المدينة، ولقي جمعًا من غطفان، فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضًا ولم يكن
بينهم قتال، إلا أنه صلي بهم يومئذ صلاة الخوف. وفي رواية البخاري: وأقيمت الصلاة
فصلي بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلي بالطائفة الأخري ركعتين، وكان للنبي صلى الله
عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان. وفي البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنهم قال: خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت
قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع، لما كنا نعصب
الخرق على أرجلنا. وفيه عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع،
فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله
عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء رجل من المشركين:
(0/328)
ص329 فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: (لا). قال: فمن يمنعك
مني؟ قال: (الله). قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا،
فإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اخترط سيفي
وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا. فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها
هو ذا جالس)، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أبي عوانة:
فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (من يمنعك مني؟)
قال: كن خير آخذ، قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قال الأعرابي:
أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلَّى سبيله، فجاء إلى
قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. وفي رواية البخاري: قال مسدد عن أبي عوانة عن
أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَث ابن الحارث. قال ابن حجر: ووقع
عند الواقدي في سبب هذه القصة: أن اسم الأعرابي دُعْثُور، وأنه أسلم، لكن ظاهر
كلامه أنهما قصتان في غزوتين. والله أعلم. وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من
المشركين، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،
فجاء ليلاً، وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رَبِيئة للمسلمين من
العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عبادًا، وهو قائم يصلي، بسهم فنزعه،
ولم يبطل صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه،
فقال: سبحان الله ! هلا نبهتني، فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. كان لهذه
الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا
بعدالغزوة نري أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل
استكانت شيئًا فشيئًا حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نري عدة قبائل من هذه الأعراب
تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حُنَيْنًا، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها
المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة
التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد
ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه
الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة؛ لأن الظروف في داخل البلاد
كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين. وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى شوال سنة 7هـ. وبعث في خلال ذلك عدة سرايا. وهاك بعض
تفصيلها:
1ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد، في صفر أو
ربيع الأول سنة
(0/329)
ص330 7هـ. كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه
السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وطاردهم
جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين
الفريقين. ونجح المسلمون في بقية الانسحاب.
2ـ سرية حِسْمَى، في جمادي الثانية سنة 7هـ، وقد مضي ذكرها في مكاتبة
الملوك.
3ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة، في شعبان سنة 7هـ، ومعه ثلاثون رجلاً. كانوا يسيرون
الليل ويستخفون في النهار، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم
يلق أحدًا، فانصرف راجعًا إلى المدينة.
4ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك، في شعبان سنة
7هـ في ثلاثين رجلاً. خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند
الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعًا إلا بشير، فإنه
ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة.
5ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي، في رمضان سنة 7هـ إلى بني عُوَال وبني
عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة، في مائة وثلاثين
رجلاً، فهجموا عليهم جميعًا، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء، وفي هذه
السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال: لا إله إلا الله،
فلما قدموا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كبر عليه وقال: (أقتلته بعد ما قال:
لا إله إلا الله؟) فقال: إنما قالها متعوذًا قال: (فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق
هو أم كاذب؟).
6ـ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر، في شوال سنة 7هـ في ثلاثين راكبًا.
وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيرًا في
ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر، فلما
كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضي إلى قتل أسير وأصحابه
الثلاثين. ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر.
7ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار [بالفتح، أرض لغطفان، وقيل: لفَزَارَة
وعُذْرَة]، في شوال سنة 7هـ في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا
للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير
هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأسلما.
8 ـ سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة
السابعة قبل عمرة القضاء، وملخصها: أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير
إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين. فبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب
الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية،
(0/330)
ص331 وصاحباه في ناحية أخرى، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة
العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم
يتكلم، فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما
كان من القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم(1).
__________
(1) زاد المعاد 2/149، 150، وابن هشام 2/629، 630 وعنده: ابن أبي حدرد. وانظر لتفصيل هذه
السرايا: رحمة للعالمين 2/229- 231، وزاد المعاد 2/148- 150،
وتلقيح فهوم أهل الأثر مع حواشيها ص31، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي
ص322- 324.
(0/331)
ص332 عمرة القضاء
قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هَلَّ ذو القعدة
أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا
من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوي النساء والصبيان. اهـ.
واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق
ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة،
ولبي، ولبي المسلمون معه، وخرج مستعدًا بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش
غدر، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها: الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح،
وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب: السيوف في
القُرُب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدخول راكبًا على ناقته
القَصْواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم
يلبون. وخرج المشركون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا
المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمي يثرب، فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين.
ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك
ليري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمني، ويضعوا
طرفي الرداء على اليسرى.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على
الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن
بمِحْجَنِه، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم يرتجز متوشحًا بالسيف:
خَلُّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلُّوا فَكُلّ الْخَيْرِ
فِي رَسُولِهِ
قَدْ أَنْزَلَ الرّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ ... فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى
رَسُولِهِ
يَا رَبّ إنّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ ... إنّي رَأَيْتُ الْحَقّ فِي
قَبُولِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتَلِ فِي سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ
عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ
عَنْ خَلِيلِهِ
وفي حديث أنس فقال عمر: يابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (خَلِّ عنه يا
عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل). ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء
(0/332)
ص333 الذين زعمتم أن الحمَّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. ولما
فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند
المروة، قال: (هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر)، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك
فعل المسلمون، ثم بعث ناسًا إلى يَأْجُج، ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون
فيقضون نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثًا، فلما أصبح
من اليوم الرابع أتوا عليًا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضي
الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها. ولما أراد الخروج
من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادى، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها على
وجعفر وزيد، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر؛ لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه
العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة،
فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما خرج من مكة
خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبني بها بسرف. وسميت هذه العمرة بعمرة
القضاء؛ إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحُدَيْبِيَة، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة ـ
أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه المحققون، وهذه العمرة
تسمي بأربعة أسماء: القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح.
وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع من هذه العمرة عدة
سرايا، وهي كما يلي:
1ـ سرية ابن أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7هـ في خمسين رجلاً. بعثه رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْم؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة
لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالاً شديدًا. جرح فيه أبو العوجاء، وأسر رجلان من
العدو.
2ـ سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفَدَك، في صفر سنة
8هـ. بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلي.
3ـ سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8هـ. كانت بنو قُضَاعَة قد حشدت
جموعًا كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب
بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم
يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إلا رجل واحد، فقد ارْتُثَّ من بين
القتلى.
4ـ سرية ذات عِرْق إلى بني هوازن، في ربيع الأول سنة 8هـ. كانت بنو هوازن
قد أمدت الأعداء مرة بعد أخري فأرسل إليها شُجَاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين
رجلاً، فاستاقوا نَعَما من العدو، ولم يلقوا كيدًا.
(0/333)
ص334 معركة مؤتة
وهذه المعركة أكبر لقاء مُثْخِن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصاري، وقعت
في جمادي الأولي سنة 8هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926 م. ومؤتة (بالضم فالسكون)
هي قرية بأدني بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
سبب المعركة:
وسبب هذه المعركة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير
الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَى. فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان
عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطًا، ثم قدمه، فضرب
عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة
الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز
إليهم جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في
غزوة الأحزاب.
أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال:
(إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه
إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى
الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: (اغزوا بسم الله،
في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا
امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا
تهدموا بناء).
توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة:
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد الله بن رواحة ـ
فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِن
مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71]،
(0/334)
ص335 فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله
بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزَّبَدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جَدَثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيعًا لهم حتى بلغ
ثنية الوداع، فوقف وودّعهم.
تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة:
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان، من أرض الشام،
مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض
البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء
وبَلِي مائة ألف.
المجلس الاستشاري بمَعَان:
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم ـ الذي
بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل
فحسب، على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون،
وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن
يأمرنا بأمره فنمضي له. ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلاً:
يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس
بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا،
فإنما هي إحدي الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيرًا استقر الرأي على ما دعا
إليه عبد الله بن رواحة.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو:
وحينئذ بعد أن قضي الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض
العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها: [شَارِف] ثم دنا
العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبئوا للقتال، فجعلوا على
ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.
بداية القتال، وتناوب القواد:
وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل
يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن
إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
(0/335)
ص336 أخذ الراية زيد بن حارثة ـ حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ
وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال
الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعًا. وحينئذ أخذ
الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال
اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم
يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قتل. يقال: إن
روميًا ضربه ضربةً قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما
حيث يشاء؛ ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. روى البخاري عن نافع؛ أن
ابن عمر أخبره: أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة،
ليس منها شيء في دبره، يعني ظهره. وفي رواية أخري قال ابن عمر: كنت فيهم في تلك
الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلي، ووجدنا ما في جسده بضعًا
وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع زيادة: [فوجدنا ذلك فيما أقبل من
جسده]. ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة، أخذ الراية عبد الله
بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، حتى حاد
حيدة ثم قال:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ ... كَارِهَةً أو لتُطَاوِعنَّه
إنْ أَجْلَبَ النّاسُ وَشَدّوا الرّنّهْ ... مَا لِي أَرَاكِ
تَكْرَهِينَ الْجَنّهْ
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد
لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه من يده، ثم
أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
الراية إلى سيف من سيوف الله:
وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال: يا معشر
المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على
خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريرًا، فقد روي البخاري عن خالد بن
الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية.
وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية.
(0/336)
ص337 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة ـ مخبرًا بالوحي،
قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر
فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف
الله، حتى فتح الله عليهم).
نهاية المعركة:
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين، كان مستغربًا جدًا أن
ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي
ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم
فيه. واختلفت الروايات كثيرًا فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيرًا. ويظهر بعد النظر
في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار،
في أول يوم من القتال. وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب
الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة.
فقد كان يعرف جيدًا أن الإفلات من براثنهم صعب جدًا لو انكشف المسلمون، وقام
الرومان بالمطاردة. فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل
مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا:
جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد ـ بعد أن تراءي الجيشان، وتناوشا ساعة ـ يتأخر
بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنًا منهم أن
المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز
العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز
سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
قتلى الفريقين:
واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد
قتلاهم، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم.
أثر المعركة:
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها
لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة
والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معني
جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ
ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم
الرجوع عن الغزو
(0/337)
ص338 من غير أن تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان
يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون
من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقًّا. ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا
تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم
وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها. وكانت هذه المعركة بداية اللقاء
الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيدًا لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال
المسلمين الأراضي البعيدة النائية.
سرية ذات السَّلاسِل:
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية ـ التي
تقطن مشارف الشام ـ في معركة مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس
الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سببًا
للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تتحشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخري.
واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص؛ لأن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي. فبعثه
إليهم في جمادي الآخرة سنة 8هـ على إثر معركة مؤتة؛ ليستألفهم، ويقال: بل نقلت
الاستخبارات أن جمعًا من قُضَاعَة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة،
فبعثه إليه، ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معًا. وعقد رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة
المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسًا، وأمره أن يستعين بمن مر به من بَلِي
وعُذْرَةَ وبَلْقَيْنِ. فسار الليل وَكمَنَ النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم
جمعًا كثيرًا، فبعث رافع بن مَكِيثٍ الجُهَنِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواء، وبعث له سراة
المهاجرين والأنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعًا
ولا يختلفا. فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت على=
مددًا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطئ بلاد
قُضَاعَة، فدوخها حتى أتي= أقصي بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعًا، فحمل عليهم
المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدًا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وذات
السلاسل [بضم السين الأولي وفتحها: لغتان] بقعة وراء وادي القُرَى، بينها وبين
المدينة عشرة أيام. وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض جُذَام يقال له: السلسل، فسُمِّي
ذات السلاسل.
(0/338)
ص339 سرية أبي قتادة إلى خضرة:
كانت هذه السرية في شعبان سنة 8هـ؛ وذلك لأن بني غَطَفَان كانوا يتحشدون
في خَضِرَة ـ وهي أرض مُحَارِب بنَجْد ـ فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً، فقتل منهم، وسَبَي وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
(0/339)
ص340 غزوة فتح مكة
قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده
وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار
والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عِزِّه على مناكب
الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجًا
ا.هـ.
سبب الغزوة:
قدمنا في وقعة الحديبية أن بندًا من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب
أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد
قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءًا من ذلك
الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق. وحسب
هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في
عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت بين القبيلتين عداوة
وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر
ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن
معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8هـ، فأغاروا على خزاعة
ليلاً، وهم على ماء يقال له: [الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا،
وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى
حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا
بني بكر، أصيبوا ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولًى
لهم يقال له: رافع. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَنا وحلف أَبِيه الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ... ثُمَّةَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ
نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَبدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ
يَأْتُوا مَدَدَا
(0/340)
ص341
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ
يَسْمُو صُعُدَا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ
يَجْرِي مُزْبِدًا
إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَك
الْمُوَكّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو
أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا ... هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ
هُجَّدًا
وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم عرضت له
سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب). ثم خرج بُدَيْل بن
وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدرًا محضًا ونقضًا صريحًا
للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت
بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلسًا استشاريًا، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً
لها ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله
قريش إزاء غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في
المدة). وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو
راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى
الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو
ما جئت محمدًا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء
المدينة لقد علف بها النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها
النوي، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على
ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه،
فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم
خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى
أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتي
عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء
(0/341)
ص242 فدخل على عليِّ بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحمًا، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن
كما جئت خائبًا، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل
لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت:
والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع
وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال:
والله ما أعلم لك شيئًا يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم
الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنيًا عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني
لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين
الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت
محمدًا فكلمته، فوالله ما رد على شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرًا،
ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت عليًا فوجدته ألين القوم، قد
أشار على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئًا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟
قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا:
ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء:
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ
قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل
عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما
هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح
الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا، وارتجز: يا رب إني ناشد
محمدًا... الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان،
وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه
سائر إلى مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها).
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية
رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي
المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8هـ؛ ليظن الظان أنه
صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه
السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها
(0/342)
ص343 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى
لحقته. وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشًا،
فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من
السماء بما صنع حاطب، فبعث عليًا والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد
الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى
قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنزلوها، وقالوا:
معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئًا. فقال لها علي: أحلف
بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو
لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب
منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب
بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا، فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ
على يا رسول الله. والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا
بدلت، ولكني كنت امرأ مُلْصَقًا في قريش؛ لست من أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة
وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له قرابات يحمونهم، فأحببت إذ
فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول
الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذَرَفَتْ عينا عمر، وقال: الله ورسوله
أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين
وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة:
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة متجهًا إلى مكة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلف على
المدينة أبا رُهْم الغفاري. ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس
بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا، ثم لما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد
الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت
له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك.
(0/343)
ص344 وقال عليٌّ لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه
وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ
تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]،
فإنه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، فأنشده أبو سفيان أبياتًا منها:
لَعَمْرُك إنّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاَّتِ
خَيْلَ مُحَمّد
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي
حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَدَلّنِي ... عَلَى اللّهِ مَنْ
طَرّدْتُ كُلّ مُطَرَّدِ
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل
مُطَرَّد؟).
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان:
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى
بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم واصل
سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران،
فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب
رضي الله عنه.
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحدًا يخبر قريشًا
ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمَّى الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو
سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون
الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان
يقول: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا. قال: يقول بديل: هذه
والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه
نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال:
أبا
(0/344)
ص345 الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك؟ فداك
أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز
هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع
صاحباه. قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟
فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى،
فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن
منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ
البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل
عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول
الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت:
والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر،
فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله
لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك
كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به)،
فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك
يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما
أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئًا
بعد. قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)، قال: بأبي أنت وأمي،
ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء. فقال له العباس:
ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك،
فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله، إن
أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا. قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة:
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8هـ ـ
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا
سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت
القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ
سليم، فيقول: مإلى= ولِسُلَيْم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟
فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت
(0/345)
ص346 القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال:
مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها
المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله ! يا
عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار،
قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح
مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيمًا. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم
إذن. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم
الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليوم أذل الله قريشًا. فلما حاذي رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد؟ قال:
(وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا
رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشًا) ثم أرسل إلى
سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل:
بل دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي:
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس:
النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته:
يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو
آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحَمِيت الدسم
الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم. قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من
أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك
الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو
آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشًا لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء،
فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش
وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة
ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك
سلاحًا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أري؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما
يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لي عِلَّه ... هذا سلاح كامل وألَّه
وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة.
(0/346)
ص247 الجيش الإسلامي بذي طُوَى:
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا
للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
بيانات الكتاب
الكتاب: الرحيق المختوم.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
المؤلف: فضيلة الشيخ صفي الدين المباركفوري.
الناشر: دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع - المنصورة - مصر.
رقم الطبعة: الطبعة السابعة عشرة.
تاريخ الطبعة: 1426هـ- 2005م.
[ملحوظة]: سيتم - بإذن الله - إدراج الهوامش والحواشي، وثبت بالمصادر
والمراجع فيما بعد. نسألكم الدعاء بغفران الذنوب، وتفريج الكروب.
[تنبيه]: تم وضع رقم الصفحة في بداية كل صفحة؛ قطعًا للشك، وتيسيرًا على
الباحثين.
إضافةً إلى ذلك وُضِع للصفحات البيضاء الفارغة رقم، وكذلك الخرائط، كما
هو في طبعة (دار الوفاء) التي اعتمدتُ عليها.
ص283 أشتكها.
هذه رواية البخاري، وعند ابن إسحاق أن جميع النفر دخلوا على أبي رافع
واشتركوا في قتله، وأن الذي تحامل عليه بالسيف حتى قتله هو عبد الله بن أنيس،
وفيه: أنهم لما قتلوه ليلاً، وانكسرت ساق عبد الله بن عتيك حملوه، وأتوا مَنْهَرًا
من عيونهم فدخلوا فيه، وأوقد اليهود النيران واشتدوا في كل وجه، حتى إذا يئسوا
رجعوا إلى صاحبهم، وأنهم حين رجعوا احتملوا عبد الله بن عتيك حتى قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم. كان مبعث هذه السرية في ذي القعدة أو ذي الحجة سنة 5هـ.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحزاب وقريظة أخذ يوجه حملات تأديبية
إلى القبائل والأعراب، الذين لم يكونوا يستكينون للأمن والسلام إلا بالقوة القاهرة.
سرية محمد بن مسلمة:
وكانت أول سرية بعد الفراغ من الأحزاب وقريظة، وكان عدد قوات هذه السرية
ثلاثين راكبًا. تحركت هذه السرية إلى القرطاء بناحية ضَرِيَّة بالبَكَرات من أرض
نجد، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، تحركت لعشر ليال خلون من المحرم سنة 6هـ إلى
بطن بني بكر بن كلاب. فلما أغارت عليهم هربوا، فاستاق المسلمون نعما وشاء، وقدموا
المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعهم ثُمَامَة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، كان
قد خرج متنكرًا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم بأمر مسيلمة الكذاب، فأخذه
المسلمون، فلما جاءوا به ربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: (ما ذا عندك يا ثمامة؟) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا
دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تعط منه ماشئت، فتركه، ثم
مرّ به مرة أخري؛ فقال له مثل ذلك، فرد عليه كما رد عليه أولاً، ثم مر مرة ثالثة
فقال ـ بعد ما دار بينهما الكلام السابق: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه، فذهب إلى نخل
قريب من المسجد فاغتسل، ثم جاءه فأسلم، وقال: والله، ما كان على وجه الأرض وجه
أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى، والله ما كان على وجه الأرض دين
أبغض إلى من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد
العمرة، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم على قريش
قالوا: صبأت يا ثمامة، قال: لا والله، ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم،
ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وكانت يمامة ريف مكة، فانصرف إلى بلاده، ومنع الحمل إلى مكة، حتى جهدت قريش،
وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي
إليه حمل الطعام، ففعل
(0/283)
ص284 رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غزوة بني لَحْيَان:
بنو لحيان هم الذين كانوا قد غدروا بعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالرَّجِيع، وتسببوا في إعدامهم، ولكن لما كانت ديارهم متوغلة في الحجاز
إلى حدود مكة. والتارات الشديدة قائمة بين المسلمين وقريش والأعراب، لم يكن يري
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوغل في البلاد بمقربة من العدو الأكبر، فلما
تخاذلت الأحزاب، واستوهنت عزائمهم، واستكانوا للظروف الراهنة إلى حد ما، رأي أن
الوقت قد آن لأن يأخذ من بني لحيان ثأر أصحابه المقتولين بالرجيع، فخرج إليهم في
ربيع الأول أو جمادي الأولي سنة 6هـ في مائتين من
أصحابه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وأظهر أنه يريد الشام، ثم أسرع السير
حتى انتهي إلى بطن غُرَان ـ واد بين أمَجَ وعُسْفَان ـ حيث كان مصاب أصحابه، فترحم
عليهم ودعا لهم، وسمعت به بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على
أحد، فأقام يومين بأرضهم، وبعث السرايا، فلم يقدروا عليهم، فسار إلى عسفان، فبعث
عشرة فوارس إلى كُرَاع الغَمِيم لتسمع به قريش، ثم رجع إلى المدينة. وكانت غيبته
عنها أربع عشرة ليلة.
متابعة البعوث والسرايا:
ثم تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إرسال البعوث والسرايا، وهاك
صورة مصغرة منها:
1 ـ سرية عُكَّاشَة بن مِحْصَن إلى الغَمْر في ربيع الأول أو الآخر سنة 6هـ. خرج عكاشة في
أربعين رجلاً إلى الغمْر، ماء لبني أسد، ففر القوم، وأصاب المسلمون مائتي بعير
ساقوها إلى المدينة.
2 ـ سرية محمد بن مَسْلَمَة إلى ذي القَصَّة في ربيع الأول أو الآخر سنة
6هـ. خرج ابن مسلمة في عشرة رجال إلى ذي القصة في ديار بني ثعلبة، فكمن القوم لهم
ـ وهم مائة ـ فلما ناموا قتلوهم إلا ابن مسلمة فإنه أفلت منهم جريحًا.
3 ـ سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة 6هـ، وقد
بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على إثر مقتل أصحاب محمد بن مسلمة، فخرج ومعه
أربعون رجلاً إلى مصارعهم، فساروا ليلتهم مشاة، ووافوا بني ثعلبة مع الصبح فأغاروا
عليهم، فأعجزوهم هربًا في الجبال، وأصابوا رجلاً واحدًا فأسلم، وغنموا نَعَما وشاء.
4 ـ سرية زيد بن حارثة إلى الجَمُوم في ربيع الآخر سنة 6هـ ـ والجموم ماء
لبني سليم في مَرِّ الظَّهْرَان ـ خرج إليهم زيد فأصاب امرأة من مُزَيْنَة يقال
لها: حليمة، فدلتهم على محلة من بني سليم أصابوا فيها نعما وشاء وأسري، فلما قفل
زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزينية نفسها وزوجها.
5 ـ سرية زيد إلى العِيص في جمادي الأولى سنة 6هـ في سبعين ومائة راكب،
(0/284)
ص285 وفيها أخذت أموال عير لقريش كان قائدها أبو العاص خَتَن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وأفلت أبو العاص، فأتى زينب فاستجار بها، وسألها أن تطلب من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ أموال العير عليه ففعلت، وأشار رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الناس بردِّ الأموال من غير أن يكرههم، فردوا الكثير والقليل
والكبير والصغير حتى رجع أبو العاص إلى مكة، وأدى الودائع إلى أهلها، ثم أسلم
وهاجر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول بعد ثلاث سنين
ونيف، كما ثبت في الحديث الصحيح ردها بالنكاح الأول؛ لأن آية تحريم المسلمات على
الكفار لم تكن نزلت إذ ذاك، وأما ما ورد من الحديث من أنه رد عليه بنكاح جديد، أو
رد عليه بعد ست سنين فلا يصح معني، كما أنه ليس بصحيح سندًا. والعجب ممن يتمسكون
بهذا الحديث الضعيف فإنهم يقولون: إن أبا العاص أسلم في أواخر سنة ثمان قبيل
الفتح. ثم يناقضون أنفسهم، فيقولون: إن زينب ماتت في أوائل سنة ثمان، وقد بسطنا
الكلام شيئًا في تعليقنا على بلوغ المرام. وجنح موسي بن عقبة إلى أن هذا الحادث
وقع في سنة 7هـ من قبل أبي بصير وأصحابه، ولكن ذلك لا يطابق الحديث الصحيح ولا
الضعيف.
6 ـ سرية زيد أيضًا إلى الطَّرِف أو الطَّرِق في جمادي الآخر سنة 6هـ. خرج
زيد في خمسة عشر رجلاً إلى بني ثعلبة فهربت الأعراب، وخافوا أن يكون رسول الله صلى
الله عليه وسلم سار إليهم، فأصاب من نَعَمِهِم عشرين بعيرًا، وغاب أربع ليال.
7 ـ سرية زيد أيضًا إلى وادي القري في رجب سنة 6هـ. خرج زيد في اثني عشر
رجلاً إلى وادي القري؛ لاستكشاف حركات العدو إن كانت هناك، فهجم عليهم سكان وادي
القري؛ فقتلوا تسعة، وأفلتت ثلاثة فيهم زيد بن حارثة.
8 ـ سرية الخَبَط ـ تذكر هذه السرية في رجب سنة 8هـ، ولكن السياق يدل على
أنها كانت قبل الحديبية ـ قال جابر: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة
راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عيرًا لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا
الخبط، فسمي جيش الخبط، فنحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث
جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقي إلينا البحر دابة يقال لها: العَنْبَر، فأكلنا
منه نصف شهر، وادَّهَنَّا منه حتى ثابت منه أجسامنا، وصلحت، وأخذ أبو عبيدة ضلعًا
من أضلاعه، فنظر إلى أطول رجل في الجيش وأطول جمل، فحمل عليه، ومر تحته، وتزودنا
من لحمة وَشَائِق، فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا
له ذلك، فقال: (هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمة شيء تطعمونا؟) فأرسلنا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
وإنما قلنا: إن سياق هذه السرية يدل على أنها كانت قبل الحديبية؛ لأن
المسلمين لم يكونوا يتعرضون لعير قريش بعد صلح الحديبية.
(0/285)
ص286 غزوة بني المُصطلق أو غزوة المريسيع (في شعبان سنة 5 أو 6هـ)
وهذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الذيل، عريضة الأطراف من حيث الوجهة
العسكرية، إلا أنها وقعت فيها وقائع أحدثت البلبلة والاضطراب في المجتمع الإسلامي،
وتمخضت عن افتضاح المنافقين، والتشريعات التعزيرية التي أعطت المجتمع الإسلامي
صورة خاصة من النبل والكرامة وطهارة النفوس. ونسرد الغزوة أولاً، ثم نذكر تلك
الوقائع. كانت هذه الغزوة في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي، وسنة ست على قول
ابن إسحاق. وسببها أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي
ضِرَار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فبعث بُرَيْدَة بن الحصيب الأسلمي لتحقيق الخبر، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي
ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. وبعد أن تأكد
لديه صلى الله عليه وسلم صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وكان خروجه
لليلتين خلتا من شعبان، وخرج معه جماعة من المنافقين لم يخرجوا في غزاة قبلها،
واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نُمَيْلَة بن عبد الله
الليثي، وكان الحارث بن أبي ضرار قد وجه عينًا؛ ليأتيه بخبر الجيش الإسلامي، فألقي
المسلمون عليه القبض وقتلوه.
ولما بلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقتله عينه، خافوا خوفًا شديدًا وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهي رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى المُرَيْسِيع ـ بالضم فالفتح مصغرًا، اسم لماء من
مياههم في ناحية قُدَيْد إلى الساحل ـ فتهيأوا للقتال. وَصَفَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم أصحابه، وراية المهاجرين مع أبي بكر الصديق، وراية الأنصار مع سعد بن
عبادة، فتراموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا حملة رجل
واحد، فكانت النصرة
(0/286)
ص287 وانهزم المشركون، وقتل من قتل، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم
النساء والذراري والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد، قتله رجل من
الأنصار ظنًا منه أنه من العدو. كذا قال أهل المغازي والسير، قال ابن القيم: هو
وَهْم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء فسبي ذراريهم
وأموالهم، كما في الصحيح أغار رسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون،
وذكر الحديث. انتهي. وكان من جملة السبي: جُوَيْرِيَة بنت الحارث سيد القوم، وقعت
في سهم ثابت ابن قيس، فكاتبها، فأدي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها،
فأعتق المسلمون بسبب هذا التزويج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا، وقالوا:
أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الوقائع التي حدثت في هذه الغزوة، فلأجل
أن مبعثها كان هو رأس النفاق عبد الله بن أبي وأصحابه، نري أن نورد أولاً شيئًا من
أفعالهم في المجتمع الإسلامي.
دور المنافقين قبل غزوة بني المصطلق:
قدمنا مرارًا أن عبد الله بن أبي كان يَحْنَقُ على الإسلام والمسلمين،
ولاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم حَنَقًا شديدًا؛ لأن الأوس والخزرج
كانوا قد اتفقوا على سيادته، وكانوا ينظمون له الخَرَزَ ليتوجوه إذ دخل فيهم
الإسلام، فصرفهم عن ابن أبي، فكان يري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي
استلبه ملكه. وقد ظهر حنقه هذا وتحرقه منذ بداية الهجرة قبل أن يتظاهر بالإسلام،
وبعد أن تظاهر به. ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حمار ليعود سعد بن
عبادة، فمر بمجلس فيه عبد الله بن أبي فخَمَّرَ ابن أبي أنفه، وقال: لا
تُغَبِّرُوا علينا. ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المجلس القرآن،
قال: اجلس في بيتك، ولا تؤذنا في مجالسنا. وهذا قبل أن يتظاهر بالإسلام، ولما
تظاهر به بعد بدر لم يزل إلا عدوًا لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يكن يفكر إلا في
تشتيت المجتمع الإسلامي وتوهين كلمة الإسلام. وكان يوإلى أعداءه، وقد تدخل في أمر
بني قينقاع كما ذكرنا، وكذلك جاء في غزوة أحد من الشر والغدر والتفريق بين
المسلمين، وإثارة الارتباك والفوضي في صفوفهم بما مضي. وكان من شدة مكر هذا
المنافق وخداعه بالمؤمنين أنه كان بعد التظاهر بالإسلام، يقوم كل جمعة حين يجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس،
فيقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب. وكان من وقاحة هذا المنافق أنه قام في
يوم الجمعة التي بعد أحد ـ مع ما ارتكبه من الشر والغدر الشنيع ـ قام ليقول ما كان
يقوله من قبل، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست
لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت،
(0/287)
ص288 فخرج يتخطي رقاب الناس، وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجْرًا أن قمت
أشدد أمره، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد... فقال: ويلك، ارجع يستغفر لك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وكانت له اتصالات
ببني النضير يؤامر معهم ضد المسلمين حتى قال لهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ
لَنَنصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11]. وكذلك فعل هو وأصحابه في غزوة الأحزاب من إثارة
القلق والاضطراب وإلقاء الرعب والدهشة في قلوب المؤمنين ما قصه الله تعالى في سورة
الأحزاب: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} إلى قوله: {يَحْسَبُونَ
الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم
بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم
مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 12: 20]. بيد أن جميع أعداء الإسلام من
اليهود والمنافقين والمشركين كانوا يعرفون جيدًا أن سبب غلبة الإسلام ليس هو
التفوق المادي وكثرة السلاح والجيوش والعدد، وإنما السبب هي القيم والأخلاق والمثل
التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي وكل من يمت بصلة إلى هذا الدين، وكانوا يعرفون أن
منبع هذا الفيض إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المثل الأعلى ـ إلى
حد الإعجاز ـ لهذه القيم، كما عرفوا بعد إدارة دفة الحروب طيلة خمس سنين، أن
القضاء على هذا الدين وأهله لا يمكن عن طريق استخدام السلاح، فقرروا أن يشنوا
حربًا دعائية واسعة ضد الدين من ناحية الأخلاق والتقاليد، وأن يجعلوا شخصية الرسول
صلى الله عليه وسلم أول هدف لهذه الدعاية الكاذبة الخاطئة. ولما كان المنافقون هم
الطابور الخامس في صفوف المسلمين، ولكونهم سكان المدينة، كان يمكن لهم الاتصال
بالمسلمين واستفزاز مشاعرهم كل حين. تحمل فريضة الدعاية هؤلاء المنافقون، وعلى
رأسهم ابن أبي. وقد ظهرت خطتهم هذه جلية حينما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأم المؤمنين زينب بنت جحش، بعد أن طلقها زيد بن حارثة، فقد كان من تقاليد العرب
أنهم كانوا يعتبرون المتبني مثل الابن الصلبي، فكانوا يعتقدون حرمة حليلة المتبني
على الرجل الذي تبناه، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب وجد المنافقون
ثُلْمَتَيْن ـ حسب زعمهم ـ لإثارة المشاغب ضد النبي صلى الله عليه وسلم.
الأولى: أن زوجته هذه كانت زوجة خامسة، والقرآن لم يكن أذن في الزواج
بأكثر من أربع نسوة، فكيف صح له هذا الزواج؟
الثانية: أن زينب كانت زوجة ابنه ـ مُتَبَنَّاه ـ فالزواج بها من أكبر
الكبائر، حسب تقاليد العرب. وأكثروا من الدعاية في هذا السبيل، واختلقوا قصصًا
وأساطير، قالوا: إن محمدًا رآها بغتة، فتأثر بحسنها وشغفته حبًا، وعلقت بقلبه،
وعلم بذلك ابنه زيد فخلي سبيلها لمحمد، وقد نشروا هذه الدعاية المختلقة نشرًا بقيت
آثاره في كتب التفسير والحديث إلى هذا الزمان، وقد أثرت تلك الدعاية أثرًا قويًا
في صفوف الضعفاء حتى نزل القرآن بالآيات البينات فيها شفاء لما في الصدور، وينبئ
عن سعة نشر هذه الدعاية أن الله استفتح سورة الأحزاب بقوله:
(0/288)
ص289 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}
[الأحزاب: 1]. وهذه إشارات عابرة، وصور مصغرة لما اقترفه المنافقون قبل غزوة بني
المصطلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكابد كل ذلك بالصبر واللين والتلطف، وكان
عامة المسلمين يحترزون عن شرهم، أو يتحملونه بالصبر؛ إذ كانوا قد عرفوهم بافتضاحهم
مرة بعد أخري حسب قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ
عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ}
[التوبة: 126].
دور المنافقين في غزوة بني المصطلق:
ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى:
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ
خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فقد وجدوا متنفسين للتنفس
بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى
الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها:
1 ـ قول المنافقين: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل":
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيمًا على
المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه
الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا
معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن
أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد
فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول:
سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها
الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم،
وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فأخبر زيد بن
أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر:
مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل
أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس،
فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة
منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال:
(زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله،
تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به،
فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك
استلبته ملكًا.
ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك
حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَسَّ الأرض فوقعوا نيامًا.
فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث. أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر
جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله
(0/289)
ص290 ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول
الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال
زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ
الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ
عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (المنافقون: 1- 8)، فأرسل إليَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقرأها عليَّ، ثم قال: (إن الله قد صدقك). وكان ابن هذا المنافق ـ
وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحًا من الصحابة الأخيار، فتبرأ من
أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستلَّ سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا
تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت
الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد
الله ابن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله
أحمل إليك رأسه.
2ـ حديث الإفك:
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها: أن عائشة رضي الله عنها كانت
قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت
تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة
لحاجتها، ففقدت عقدًا لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي
فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا
الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا
اللحم الذي كان يثقلها، وأيضًا فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا
خفته، ولو كان الذي حمله واحدًا أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى
منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم
سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه كما
يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل: إنا لله
وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان صفوان قد عَرَس في
أخريات الجيش؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب،
فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه
إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة،
فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن
أبي متنفسًا، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك،
ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما
قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا
يتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي
رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ
(0/290)
ص291 غيرها، تلويحًا لا تصريحًا، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا
يلتفت إلى كلام الأعداء. فقام على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي، فأظهر أسيد
بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن
أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت. أما عائشة فلما رجعت مرضت شهرًا، وهي لا تعلم عن
حديث الإفك شيئًا، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف
الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً،
فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها
الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتأتي أبويها وتستيقن
الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويومًا،
لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال: (أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني
عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله
وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه). وحينئذ
قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان. فقالت: والله
لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني
بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله
يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي
يوسف، قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى
مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)،
فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي
أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ
عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} [النور: 11: 20]. العشر الآيات. ثم
تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها:
قومي إليه. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله
عليه وسلم: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله. والذي أنزله الله بشأن الإفك
هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} العشر
الآيات [النور: 11: 20]. وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة،
وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد
الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره؛ إما لأن الحدود تخفيف لأهلها،
وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله.
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو
المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحًا لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن
إسحاق:
(0/291)
ص292 وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه
ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "كيف ترى يا عمر؟ أما
والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته".
قال عمر: قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
(0/292)
ص293 البعوث والسرايا بعد غزوة المُرَيْسِيع
1 ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدَوْمَة الجَنْدَل، في
شعبان سنة 6هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وعممه بيده، وأوصاه
بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: (إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم)، فمكث عبد الرحمن بن عوف
ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تُمَاضِر بنت
الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم.
2 ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، في شعبان سنة 6هـ.
وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعًا يريدون أن يمدوا اليهود.
فبعث إليهم عليًا في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عينًا لهم،
فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل
العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة،
وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم.
3 ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري، في رمضان سنة
6هـ. كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق. قال سَلَمَة بن الأكْوَع: وخرجت معه حتى إذا
صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة
وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين
الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة، عليها قَشْعٌ من أدِيم،
معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها،
فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أم قِرْفَة، فبعث بها
إلى مكة، وفدي بها أسري من المسلمين هناك. وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال
النبي صلى الله عليه وسلم، وجهزت ثلاثين فارسًا من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها،
وقتل الثلاثون.
4 ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العُرَنِيِّين، في شوال سنة 6هـ، وذلك
أن رهطًا من عُكَل وعُرَينَة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المراعي، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها
وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل،
وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزًا الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على
العرنيين: (اللّهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم
(0/293)
ص294 أضيق من مَسَك)، فعمي الله عليهم السبيل فأدركوا، فقطعت أيديهم
وأرجلهم، وسَمُلَتْ أعينهم، جزاء وقصاصًا بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى
ماتوا، وحديثهم في الصحيح عن أنس. ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية
الضَّمْرِي مع سلمة بن أبي سلمة، في شوال سنة 6هـ. أنه ذهب إلى مكة لاغتيال أبي
سفيان؛ لأن أبا سفيان كان أرسل أعرابيًا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن
المبعوثين لم ينجحا في الاغتيال، لاهذا، ولا ذاك. ويذكرون أن
عَمْرًا قتل في الطريق ثلاثة رجال، ويقولون: إن عمرا أخذ جثة الشهيد خُبَيْب في
هذا السفر، والمعروف أن خبيبًا استشهد بعد الرَّجِيع بأيام أو أشهر، ووقعة الرجيع
كانت في صفر سنة 4هـ، فلا أدري هل اختلط السفران على أهل السير، أو كان الأمران في
سفر واحد في السنة الرابعة، وقد أنكر العلامة المنصورفوري أن تكون هذه السرية سرية
حرب أو مناوشة. والله أعلم. هذه هي السرايا والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم
يجر في واحدة منها قتال مرير، وإنما وقعت فيما وقعت مصادمة خفيفة، فليست هذه
البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات تأديبية؛ لإرهاب الأعراب والأعداء الذين
لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجري الأيام كان قد أخذ في التطور
بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يكن
بقي لهم أمل في نجاح كسر الدعوة الإسلامية وخَضْد شوكتها، إلا أن هذا التطور ظهر
جليًا بصلح الحديبية، فلم تكن الهدنة إلا الاعتراف بقوة الإسلام، والتسجيل على
بقائها في ربوع الجزيرة العربية.
عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة 6هـ
سبب عمرة الحديبية:
ولما تطورت الظروف في الجزيزة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت
طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات
لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه
المشركون منذ ستة أعوام. أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو
بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا،
وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم
ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر.
استنفار المسلمين:
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من
الأعراب، أما هو فغسل ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينة ابن أم
مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي.
(0/294)
ص295 وخرج منها يوم الاثنين غرة ذي القعدة سنة 6هـ، ومعه زوجته أم سلمة،
في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر:
السيوف في القُرُب.
المسلمون يتحركون إلى مكة:
وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه،
وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عينًا له من خزاعة يخبره عن
قريش، حتى إذا كان قريبًا من عُسْفَان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد
جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعًا، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم
فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم
تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر:
الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين
البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فروحوا)، فراحوا.
محاولة قريش صد المسلمين عن البيت:
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم عقدت مجلسًا
استشاريًّا قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشًا نازلة بذي طُوَي،
وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق
الرئيسي الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم
يتراءى الجيشان. ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال: لقد
كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ
وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة
خالدًا.
تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي:
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم
ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من
أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم مارًا بالتنعيم، تركه إلى
اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض
نذيرًا لقريش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت
راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ، فقالوا: خلأت القصواء،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك
(0/295)
ص296 لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني
خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل
بأقصي الحديبية، على ثَمَد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضًا، فلم يلبث أن
نزحوه. فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته، ثم
أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا.
بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش:
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي
في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل
تُهَامَة، فقال: إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ
المطَافِيل، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت
بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل
فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده
لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره). قال بديل:
سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشًا، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل،
وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه
بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش
مِكْرَز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما
جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم.
رسل قريش:
ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة: دعوني آته. فقالوا:
ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله
القوم يلبون، فلما رأي ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت،
فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري أن يصدوا، وجري بينه
وبين قريش كلام أحفظه. فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم
خطة رُشْد فاقبلوها، ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم نحوًا من قوله لبديل.
فقال له عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من
العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أرى وجوهًا، وإني أرى أوباشًا
من الناس، خليقًا أن يفروا ويدعوك. قال له أبو بكر: امصص بَظْر اللات، أنحن نفر
عنه؟ قال: من ذا؟
(0/296)
ص297 قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم
أجْزِكَ بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته،
والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ،
فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر
يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة،
فقال: أي عُذَر، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك؟ وكان المغيرة صَحِبَ قومًا في
الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما
الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منه في شيء) (وكان المغيرة ابن
أخي عروة). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له،
فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسري
والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن
تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم
ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده،
وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها.
هو الذي كف أيديهم عنكم:
ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في
الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى
معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثًا تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا
القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا
التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعًا.
ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، وفي ذلك أنزل
الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم
بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24].
عثمان بن عفان سفيرًا إلى قريش:
وحينئذٍ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيرًا يؤكد لدى
قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً:
يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان
بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال:
أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمارًا، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي
رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر
دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فانطلق عثمان حتى
مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد
بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء
مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا
العرض، وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(0/297)
ص298 إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان:
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع
الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال
الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
بلغته الإشاعة: (لا نبرح حتى نناجز القوم)، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه
يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي،
وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعة جاء
عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّ بن
قَيْس. أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا
بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18].
إبرام الصلح وبنوده:
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح،
وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه
دخلها علينا عنوة أبدًا، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه عليه السلام قال: (قد سهل
لكم أمركم)، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم
اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه:
1- الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام
القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثًا، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب،
ولا يتعرض لهم بأيِّ نوع من أنواع التعرض.
2- وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش
وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءًا من ذلك الفريق،
فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق.
4- من أتى محمدًا من قريش من غير إذن وليه ـ أي هاربًا منهم ـ رده عليهم،
ومن جاء قريشًا ممن مع محمد ـ أي هاربًا منه ـ لم يرد عليه، ثم دعا عليًّا ليكتب
الكتاب، فأملى عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن
فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللّهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك، ثم أملى: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله
ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال: (إني رسول
(0/298)
ص299 الله وإن كذبتموني). وأمر عليًّا أن يكتب: محمد بن عبد الله، ويمحو
لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم
تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان
دخولهم في هذا العهد تأكيدًا لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
رد أبي جندل:
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد
خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك
عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد). فقال:
فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبدًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي).
قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: (بلى فافعل)، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا
جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى
صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجًا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، وأعطيناهم على
ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم). فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي
جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم
دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن
الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: (قوموا فانحروا)،
فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم
سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم
أحدًا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى
فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل
بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة،
والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل، كان في
أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
للمحلقين ثلاثًا بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذي لمن
حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعب بن عُجْرَة.
الإباء عن رد المهاجرات:
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في
الحديبية،
(0/299)
ص300 فرفض طلبهم هذا؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا
البند هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا)، فلم تدخل النساء في العقد
رأسًا. وأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
[الممتحنة: 10] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى: {إِذَا
جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}
إلخ [الممتحنة: 12]، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها: (قد بايعتك)، ثم لم يكن يردهن.
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين
كانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخرى صفوان بن أمية.
ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة:
هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح
عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهدف استئصال
شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يومًا ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين
الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في
جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشًا لا تقدر
على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشًا نسيت صدارتها الدنيوية
وزعامتها الدينية، وأنها لا تهمُّها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة
العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشًا، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع
من أنواع التدخل. أليس هذا فشلاً ذريعًا بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبينًا بالنسبة
إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن
أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس،
أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون
من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29]. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من
القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في
الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحًا كبيرًا في
الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش
الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف.
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا
بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ} [التوبة: 13]، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن
تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين
يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على
فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره.
(0/300)
ص301 أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضًا فشل
لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشًا سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط.
أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في
البند الرابع، ولكن تلك الخلة تافهة جدًا، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن
المسلم ما دام مسلمًا لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا
ارتد عن الإسلام ظاهرًا أو باطنًا، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من
المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقوله: (إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله). وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم
يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين
حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئًا؟ وهذا الذي أشار إليه النبي
بقوله: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا). والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ،
وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم
وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم
اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ. وما سمح به النبي
صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا
دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل
هذا الشرط.
حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم:
هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين
كآبة وحزن شديد.
الأولى: أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم
يطف به؟
الثانية: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار
دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعر
المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح.
ولعل أعظمهم حزنًا كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: (بلى). قال: أليس قتلانا
في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلى). قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع
ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: (يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو
ناصري ولن يضيعني أبدًا). قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال:
(بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟) قال: لا. قال:
(فإنك آتيه ومطوف به). ثم انطلق عمر متغيظا فأتى أبا بكر، فقال له كما قال لرسول
الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو
(0/301)
ص302 بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد:
فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق. ثم نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا
لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا...} إلخ [سورة الفتح: 1]، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه
إياه. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: (نعم). فطابت نفسه ورجع. ثم ندم عمر على
ما فرط منه ندمًا شديدًا، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي
وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرًا.
انحلت أزمة المستضعفين:
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت
رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليف لقريش،
فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة،
فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأري سيفك هذا
يا فلان جيدًا، فاستله الآخر فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم
جَرَّبْتُ. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد. وفر الآخر
حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:
(لقد رأى هذا ذعرًا)، فلما انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتِل صاحبي،
وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد
رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه،
مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي
سِيفَ البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش
رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله ما يسمعون بعير
خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل
النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة.
إسلام أبطال من قريش:
وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد
وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مكة قد ألقت
إلينا أفلاذ كبدها).
(0/302)
ص303 المرحلة الثانية: طور جديد
إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد
كانت قريش أقوى قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب
إلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوى جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة ـ قريش
وغَطَفَان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية، وزعيمتهم في ربوع جزيرة العرب
انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نرى
لغطفان استفزازًا كبيرًا بعد هذه الهدنة، وجُلّ ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء
اليهود. أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر،
وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة،
وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة
بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن
الحرب الفاصلة على هذا الوكر. ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت
المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في
هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري؛ ولذلك نري أن نقسم هذه
المرحلة إلى قسمين:
1ـ النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء.
2ـ النشاط العسكري. وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول
موضوع مكاتبة الملوك والأمراء؛ إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعًا، بل ذلك هو
الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن،
والقلاقل والاضطرابات.
(0/303)
ص304 مكاتبة الملوك والأمراء
في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك
قيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم
خاتمًا من فضة، نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة
أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هكذا. واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة
وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه
وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام.
وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه.
1ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:
وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه
وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة.
وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص
الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر
حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر
هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ: (وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا ومعه نفر من
المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر). وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا
كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي،
وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا
ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم
تسلم،{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ
فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك).
وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله (باريس) نص كتاب
قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط
ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهدًا بليغًا، واستعان في ذلك كثيرًا باكتشافات
العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا:
__________
(0/304)
ص305 (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم
الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن
مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه
ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على
طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني
أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع
الهدى).
وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله
عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في
الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد
البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك
وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: {يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ...} إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد
ورد فيه اسم الأصحمة صريحًا، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب
عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته،
ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم. وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي
الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه
جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى
الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص
صريحًا، والعلم عند الله. ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم
على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام
عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسي
لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقًا(3)، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد
قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت
ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين"(4).
__________
(3) التُّفروق: قِمَع التمرة.
(4) زاد المعاد 3/ 61.
(0/305)
ص306 وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفرًا
ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم
على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر. وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من
الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة
الغائب، ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم
كتابًا آخر، ولا يدري هل أسلم أم لا؟.
2 ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بن مَتَّى الملقب
بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية:
"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم
القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم،
وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط،{يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ
نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة. فلما دخل
حاطب على المقوقس قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال
الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
فقال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
فقال حاطب: ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن
هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه
النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى
القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قومًا فهم أمته، فالحق
عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا
نأمرك به.
فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود
فيه. ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت
معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صلى الله
عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له،
(0/306)
ص307 ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام
عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن
نبيًا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما
مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك). ولم يزد على هذا
ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية، واتخذ
النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم. وأما سيرين
فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري.
3ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام
على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة،
لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس
عليك). واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم
البحرين، ولا ندري هل بعث به عظيم البحرين رجلاً من رجالاته، أم بعث عبد الله
السهمي، وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة: عبد حقير من
رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مزق الله
ملكه)، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى بَاذَان عامله على اليمن: ابعث إلى هذا
الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فاختار باذان رجلين ممن
عنده، أحدهما: قهرمانه بانويه، وكان حاسبًا كاتبًا بكتاب فارس. وثانيهما: خرخسرو
من الفرس، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما
إلى كسري، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما: إن
شاهنشاه [ملك الملوك] كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه
بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولاً توعده فيه، فأمرهما النبي صلى الله عليه
وسلم أن يلاقياه غدًا.
وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن
لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله،
وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولي سنة سبع،
وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك. فقالا: هل تدري
ما
(0/308)
ص308 تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره
الملك. قال: (نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني
سيبلغ ما بلغ كسرى ! وينتهي إلى منتهي الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما
تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء)، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه
الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه: انظر
الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري. وكان ذلك سببًا في إسلام
باذان ومن معه من أهل فارس باليمن.
4ـ الكتاب إلى قيصر ملك الروم: روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب
الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم،
سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن
عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران: 64]. واختار
لحمل هذا الكتاب دَحْيَة بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه
إلى قيصر، وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل
إليه في ركب من قريش، كانوا تجارًا بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه
وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي
يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه مني، وقربوا
أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن
كذبني فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبًا لكذبت عليه. ثم قال:
أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا
القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال:
فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم.
(0/308)
ص309 قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل
يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه: قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل
أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا
ندري ما هو فاعل فيها ـ قال: ولم تمكنني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة ـ
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه
سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: (اعبدوا الله وحده، ولا
تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم)، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف
والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل
تبعث في نسب من قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا. قلت:
لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من
آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. فقلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك
أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف
أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم
ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟
فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطه لدينه بعد
أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟
فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن
تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة
والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه
خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت
عنده لغسلت عن قدميه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فلما فرغ
من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت
لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر،
فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على
الإسلام. هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه
أنه أجاز دحية بن خليفة الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمال وكسوة،
ولما كان دحية بحِسْمَى في
(0/309)
ص310 الطريق لقيه ناس من جُذَام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئًا،
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي، وهي وراء وادي القرى، في خمسمائة رجل،
فشنَّ زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلاً ذريعًا، واستاق نَعَمهم ونساءهم، فأخذ
من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان. وكان
بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رِفَاعة
الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
وكان قد أسلم هو ورجال من قومه، ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى الله
عليه وسلم احتجاجه، وأمر برد الغنائم والسبي. وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية
قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتاب إلى قيصر كان بعد الحديبية؛ ولذا قال
ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك.
5ـ الكتاب إلى المنذر بن سَاوِي:
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتابًا
يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل
البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس
ويهود، فأحدث إلى في ذلك أمرك).
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام
عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما
بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطيع رسلي
ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا،
وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب،
فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك. ومن أقام على يهودية أو مجوسية
فعليه الجزية).
6 ـ الكتاب إلى هَوْذَة بن على صاحب اليمامة: وكتب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى هوذة بن على صاحب اليمامة: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله
إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف
والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك).
واختار لحمل هذا الكتاب سَلِيط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة
بهذا
(0/310)
ص311 الكتاب مختومًا أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه ردًا دون
رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب
تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من
نسج هجر. فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله
عليه وسلم كتابه فقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه).
فلما انصرف رسول الله من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبي، يقتل بعدي)، فقال
قائل: يا رسول الله، من يقتله؟ فقال: (أنت وأصحابك)، فكان كذلك؟.
7 ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق:
كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد
رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني
أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك). واختار لحمل هذا
الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال: [من ينزع
ملكي مني؟ أنا سائر إليه]، ولم يسلم. واستأذن قيصر في حرب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فثناه عن عزمه، فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة، ورده بالحسنى.
8 ـ الكتاب إلى ملك عُمَان: وكتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا إلى ملك
عمان جَيْفَر وأخيه عبد ابني الجُلَنْدَي، ونصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي،
سلام على من اتبع الهدي، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًا ويحق القول على
الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما [أن تقرا بالإسلام] فإن
ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما). واختار لحمل هذا
الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما
قدمتها عمدت إلى عبد ـ وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقًا ـ فقلت: إني رسول رسول
الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم على بالسن والملك، وأنا
أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعو إلى الله وحده لا
شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك
ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله
عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله
للإسلام. قال:
(0/311)
ص312 فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا. فسألني
أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم. قال: وكيف صنع
قومه بملكه؟ فقلت: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال:
انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب. قلت: ما كذبت،
وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت: بلي، قال:
فبأي شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج له خرجًا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى
الله عليه وسلم، قال: لا والله لو سألني درهما واحدًا ما أعطيته، فبلغ
هرقل قوله، فقال له اليَنَّاق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجًا، ويدين بدين غيرك
دينًا محدثًا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟ والله لولا
الضن بملكي لصنعت كما صنع. قال: انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني ما الذي
يأمر به وينهي عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهي عن معصيته، ويأمر بالبر
وصلة الرحم، وينهي عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر
والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا
حتى نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير
ذنبًا. قلت: إنه إن أسلم مَلَّكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ
الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته
بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى
الإبل. قال: يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعي الشجر وترد المياه؟ فقلت:
نعم، فقال: والله ما أري قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا. قال: فمكثت
ببابه أيامًا، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يومًا فدخلت عليه،
فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت
إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهي
إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال:
ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف.
قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم
مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحَرجَة،
وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على
قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا، وارجع إلى غدًا. فرجعت
إلى أخيه فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يَضِنَّ بملكه، حتى إذا كان الغد
أتيت إليه، فأبي أن يأذن لي. فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني
إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلاً ما في
يدي، وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالاً ليس كقتال من لاقي. قلت:
أنا خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال: ما نحن فيما ظهر عليه،
(0/312)
ص313 وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إليَّ، فأجاب إلى الإسلام
هو وأخوه جميعًا، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين
الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني. وسياق هذه القصة تدل على أن
إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيرًا عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان بعد الفتح.
وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك
الأرض، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر، ولكن شغل فكره هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم
باسمه ودينه.
(0/313)
ص314 النشاط العسكري بعد صلح الحديبية
غزوة الغابة أو غزوة ذي قَرَد:
هذه الغزوة حركة مطاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في
لِقَاحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد الحديبية، وقبل خيبر. ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر
بثلاث، وروي ذلك مسلم مسندًا من حديث سلمة ابن الأكوع. وذكر الجمهور من أهل
المغازي أنها كانت قبل الحديبية، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي. وخلاصة
الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم بظهره مع غلامه رَبَاح، وأنا معه بفرس أبي طلحة، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن
الفزاري قد أغار على الظهر، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه، فقلت: يا رباح، خذ هذا
الفرس فأبلغه أبا طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمت على أكَمَة،
واستتقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم
بالنبل وأرتجز، أقول:
[خُذْها] أنا ابنُ الأكْوَع ... واليومُ يومُ الرُّضَّع
فو الله ما زلت أرميهم وأعقر بهم، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر،
ثم رميته فتعفرت به، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته، فجعلت أرديهم بالحجارة،
فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا
أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا يستخفون، ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه
آرامًا من الحجارة، يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. حتى أتوا
متضايقًا من ثَنِيَّةٍ، فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قَرْن، فصعد إلى منهم أربعة
في الجبل، قلت: هل تعرفونني؟ أنا سلمة بن الأكوع، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته،
ولا يطلبني فيدركني، فرجعوا. فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله
عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم أخرم، وعلى أثره أبو قتادة، وعلى أثره
المقداد بن الأسود، فالتقي عبد الرحمن وأخرم، فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد
الرحمن فقتله، وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله، وولي
القوم مدبرين، فتبعتهم أعدو على رجلي، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه
(0/314)
ص315 ماء يقال له: ذو قَرَد، ليشربوا منه، وهم عطاش، فأجليتهم عنه، فما
ذاقوا قطرة منه، ولحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيل عشاء، فقلت: يا رسول
الله، إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح، وأخذت
بأعناق القوم، فقال: (يا بن الأكوع. ملكت فأسجح)، ثم قال: (إنهم ليقرون الآن في
غطفان). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير
رجالتنا سلمة). وأعطاني سهمين، سهم الراجل وسهم الفارس، وأردفني
وراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة. استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو.
(0/315)
ص316 غزوة خيبر ووادي القُرى (في المحرم سنة 7هـ)
كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بُعد ثمانين ميلاً من
المدينة في جهة الشمال، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة.
سبب الغزوة:
ولما اطمأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوي أجنحة الأحزاب
الثلاثة، وهو قريش، وأمن منه تمامًا بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين
الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة،
ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه.
ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات
وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا. أما كون خيبر بهذه الصفة،
فلا ننسي أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على
الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع
الإسلامي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الأحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم
يتهيأون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة، حتى وضعوا خطة
لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة،
وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق، وأسِير بن زارم،
ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك، وإنما أبطأوا في
القيام بهذا الواجب؛ لأن قوة أكبر وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة
للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم
يوم الحساب.
الخروج إلى خيبر:
قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من
الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر. قال المفسرون: إن
خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني صلح
الحديبية، وبالمغانم الكثيرة خيبر.
عدد الجيش الإسلامي:
ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم قائلاً: {سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ
كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الفتح: 15].
(0/316)
ص317 فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا
يخرج معه إلا راغب في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة.
واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري، وقال ابن إسحاق: نُمَيْلَة بن
عبد الله الليثي، والأول أصح عند المحققين. وبعد خروجه صلى الله عليه وسلم قدم أبو
هريرة المدينة مسلمًا، فوافي سباع بن عرفطة في صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته أتي
سباعا فزوده، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلم المسلمين فأشركوه
وأصحابه في سهمانهم.
اتصال المنافقين باليهود:
وقد قام المنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن
أبي إلى يهود خيبر: إن محمدًا قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا حذركم، ولا تخافوا
منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، عزّل، لا سلاح معهم إلا
قليل، فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى
غطفان يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا
لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين.
الطريق إلى خيبر:
وسلك رسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر ـ بالكسر،
وقيل:
بالتحريك ـ ثم على الصهباء، ثم نزل على واد يقال له: الرجيع، وكان بينه
وبين غطفان مسيرة يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر، لإمداد اليهود، فلما
كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حسًا ولغطًا، فظنوا أن المسلمين أغاروا على
أهاليهم وأموالهم فرجعوا، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر. ثم
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم
أحدهما: حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي
جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام، كما يحول بينهم وبين
غطفان. قال أحدهما: أنا أدلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل حتى انتهي
إلى مفرق الطرق المتعددة وقال: يا رسول الله، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى
المقصد، فأمر أن يسمها له واحدًا واحدًا. قال: اسم واحد منها حزن، فأبي النبي صلى
الله عليه وسلم من سلوكه، قال: اسم الآخر شاش، فامتنع منه أيضًا، وقال: اسم الآخر
حاطب، فامتنع منه أيضًا، قال حسيل: فما بقي إلا واحد. قال عمر: ما اسمه؟ قال:
مَرْحَب، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم سلوكه.
بعض ما وقع في الطريق:
1ـ عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر
فسرنا ليلاً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ وكان
عامر رجلاً شاعرًا ـ فنزل يحدو
(0/317)
ص318 بالقوم، يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينا
فاغفر فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنا ... وَثبِّت الأقدام إن لاقينا
وألْقِينْ سكينة علينا ... إنا إذا صِيحَ بنا أبينا
وبالصياح عَوَّلُوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هذا السائق). قالوا: عامر بن
الأكوع، قال: (يرحمه الله): قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به.
وكانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد،
وقد وقع ذلك في حرب خيبر.
2ـ وبالصهباء من أدني خيبر صلي النبي صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دعا
بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، ثم قام إلى
المغرب، فمضمض، ومضمض الناس، ثم صلي ولم يتوضأ، ثم صلي العشاء.
3ـ ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال: (قفوا)، فوقف الجيش، فقال: (اللهم
رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما
أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما
فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا، باسم الله).
الجيش الإسلامي إلى أسوار خيبر:
وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من
خيبر، ولا تشعر بهم اليهود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي قومًا بليل لم
يقربهم حتى يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، وركب المسلمون، فخرج أهل خيبر
بمساحيهم ومكاتلهم، ولا يشعرون، بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا الجيش قالوا: محمد،
والله محمد والخَمِيس، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: (الله أكبر، خربت خيبر، الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء
صباح المنذرين).
حصون خيبر:
وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين، شطر فيها خمسة حصون:
1 ـ حصن ناعم. 2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ.
3 ـ حصن قلعة الزبير. 4 ـ حصن أبيّ.
(0/318)
ص319
5 ـ حصن النِّزَار. والحصون الثلاثة الأولي منها كانت تقع في منطقة يقال
لها: (النطاة)، وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ. أما الشطر
الثاني، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثلاثة حصون فقط:
1ـ حصن القَمُوص (وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير).
2ـ حصن الوَطِيح.
3ـ حصن السُّلالم.
وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية، إلا أنها كانت صغيرة، لا تبلغ
إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها. والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول
منها، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال.
معسكر الجيش الإسلامي:
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اختار لمعسكره منزلاً، فأتاه
حُبَاب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله، أم هو الرأي
في الحرب؟ قال: (بل هو الرأي) فقال: يا رسول الله، إن هذا المنزل قريب جدًا من حصن
نَطَاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم،
وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وأيضًا هذا بين
النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه
معسكرًا، قال صلى الله عليه وسلم: (الرأي ما أشرت)، ثم تحول إلى مكان آخر.
التهيؤ للقتال وبشارة الفتح:
ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل: بل بعد عدة محاولات ومحاربات ـ قال النبي
صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله، [يفتح الله على يديه]) فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقالوا: يا رسول
الله، هو يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه)، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه
وسلم في عينيه، ودعا له، فبرئ، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: يا رسول
الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: (انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم
إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك
رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم).
بدء المعركة وفتح حصن ناعم:
أما اليهود فإنهم لما رأوا الجيش وفروا إلى مدينتهم تحصنوا في حصونهم،
وكان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال.
(0/319)
ص320 وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم. وكان خط
الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل
اليهودي الذي كان يعد بالألف. خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا
الحصن، ودعا اليهود إلى الإسلام، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم
ملكهم مرحب، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة، قال سلمة بن الأكوع:
فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب ... شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
إذا الحروب أقبلتْ تَلَهَّب
فبرز له عمي عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مُغَامِر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له،
وكان سيفه قصيرًا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين
ركبته فمات منه، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن له لأجرين ـ وجمع بين
إصبعيه ـ إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد، قَلَّ عربي مَشَي بها مِثْلَه).
ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخري وجعل يرتجز بقوله: قد
علمت خيبر أني مرحب... إلخ، فبرز له على بن أبي طالب. قال سلمة ابن الأكوع: فقال عليّ:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ ... كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ
أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ
فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن، وقال: من
أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى. ثم خرج ياسر أخو
مرحب، وهو يقول: من يبارز؟ فبرز إليه الزبير، فقالت صفية أمه: يا رسول الله، يقتل
ابني، قال: (بل ابنك يقتله)، فقتله الزبير. ودار القتال المرير حول حصن ناعم، قتل
فيه عدة سراة من اليهود، انهارت لأجله
(0/320)
ص321 مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين، ويؤخذ من المصادر أن
هذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة، إلا أن اليهود يئسوا من
مقاومة المسلمين، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب، واقتحم المسلمون حصن
ناعم.
فتح حصن الصعب بن معاذ:
وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم، قام
المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري، ففرضوا عليه الحصار
ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن
دعوة خاصة. روي ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: (اللهم إنك قد
عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم
حصونها عنهم غَنَاء، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا). فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن
الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه.
ولما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا
الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة، ودار البراز والقتال أمام الحصن، ثم
فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات
والدبابات. ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق، كان
رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير، ونصبوا القدور على النيران، فلما علم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذلك نهي عن لحوم الحمر الإنسية.
فتح قلعة الزبير:
وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة
الزبير، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته
وامتناعه، ففرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصار، وأقام محاصرًا ثلاثة
أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا، إن
لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم
فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا
أشد القتال، قتل فيه نفر من المسلمين، وأصيب نحو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فتح قلعة أبيّ:
وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه، وفرض
المسلمون عليهم الحصار، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة، وقد
قتلهما أبطال المسلمين، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو
دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء. وقد أسرع أبو دجانة بعد
قتله إلى اقتحام القلعة، واقتحم معه الجيش
(0/321)
ص322 الإسلامي، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن، ثم تسلل اليهود من
القلعة، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول.
فتح حصن النَّزَار:
كان هذا الحصن أمنع حصون هذا الشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن
المسلمين لا يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم في هذا السبيل،
ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القلاع
الأربعة السابقة. وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار، وصاروا يضغطون عليهم
بعنف، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلا للاقتحام فيه.
أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن، وللاشتباك مع قوات المسلمين، ولكنهم
قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء الحجارة. وعندما استعصى حصن
النزار على قوات المسلمين، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنصب آلات المنجنيق،
ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف، فأوقعوا الخلل في جدران الحصن، واقتحموه،
ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامه اليهود هزيمة منكرة، وذلك لأنهم لم
يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا من الحصون الأخري، بل فروا من هذا
الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم. وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر
الأول من خيبر، وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة
أخري إلا أن اليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون، وهربوا إلى
الشطر الثاني من بلدة خيبر.
فتح الشطر الثاني من خيبر:
ولما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، تحول
إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص: حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير،
وحصن الوَطِيح والسُّلالم، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق، وتحصن
هؤلاء أشد التحصن. واختلف أهل المغازي هل جري هناك قتال في أي حصن من حصونها
الثلاثة أم لا؟ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من
سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام.
أما الواقدي، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد
المفاوضة، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال،
وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال.
ومهما كان، فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ
الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار، ودام الحصار أربعة عشر يومًا، واليهود لا
يخرجون من حصونهم، حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق،
فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح.
(0/322)
ص323 المفاوضة:
وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل
فأكلمك؟ قال: (نعم)، فنزل، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم
من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي
الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا)، فصالحوه على ذلك، وبعد
هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين، وبذلك تم فتح خيبر.
قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد:
وعلى رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالا كثيرا، غيبا مَسْكًا
فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير. قال ابن
إسحاق: وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكِنَانة
الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأتي رجل
من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لكنانة: (أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال: نعم، فأمر بالخربة،
فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي، فأبي أن يؤديه. فدفعه إلى الزبير،
وقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه،
ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بمحمود بن
مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل بالجدار
فمات ـ. وذكر ابن القيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي
الحقيق، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة. وسبي رسول الله صلى
الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، وكانت
عروسًا حديثة عهد بالدخول.
قسمة الغنائم:
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر، فقالوا: يا
محمد، دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم، ولم يكن
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون
حتى يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر، ما بدا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم.
وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة
(0/323)
ص324 آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين
النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم، لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد
المسلمين، وعزل النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم، لنوائبه وما يتنزل به من أمور
المسلمين، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية
من شهد منهم ومن غاب، وكانوا ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان،
فقسمت على ألف وثمانمائة سهم، فصار للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد. ويدل على
كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر، وما
رواه عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر، ولما رجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا
منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل.
قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين:
وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه، ومعهم
الأشعريون أبو موسى وأصحابه. قال أبو موسي: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من
قومي، ركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفرًا وأصحابه
عنده، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا
معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر،
فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب
سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم. ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه
وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال: (والله ما أدري
بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر). وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول صلى
الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه، فأرسلهم
النجاشي على مركبين، وكانوا ستة عشر رجلاً، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم،
وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك.
الزواج بصفية:
ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بن أبي الحقيق
لغدره، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي، فقال: يا نبي الله، أعطني جارية
من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا نبي الله،
(0/324)
ص325 أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة وبني النضير، لا تصلح إلا لك،
قال: (ادعوه بها). فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذ
جارية من السبي غيرها)، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت،
فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، حتى إذا كان بسد الصهباء راجعًا إلى المدينة
حلت، فجهزتها له أم سليم، فأهدتها له من الليل، فأصبح عروسًا بها، وأولم عليها
بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق، وأقام عليها ثلاثة أيام في الطريق يبني بها.
ورأى بوجهها خضرة، فقال: (ما هذا؟) قالت: يا رسول الله، رأيت قبل قدومك علينا كأن
القمر زال من مكانه، وسقط في حجري، ولا والله ما أذكر من شأنك شيئا، فقصصتها على
زوجي، فلطم وجهي. فقال: تمنين هذا الملك الذي بالمدينة.
أمر الشاة المسمومة:
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب
بنت الحارث، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم، شاة مَصْلِيَّةً، وقد سألت أي عضو أحب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت
سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول
الذراع، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها، ولفظها، ثم قال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه
مسموم)، ثم دعا بها فاعترفت، فقال: (ما حملك على ذلك؟) قالت: قلت: إن كان ملكًا استرحت
منه، وإن كان نبيًا فسيخبر، فتجاوز عنها. وكان معه بِشْر بن البراء بن مَعْرُور،
أخذ منها أكلة فأساغها، فمات منها. واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها،
وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولا، فلما مات بشر قتلها قصاصا.
قتلى الفريقين في معارك خيبر:
وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً، أربعة من
قريش وواحد من أشْجَع، وواحد من أسْلَم، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار.
ويقال: إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 18 رجلاً.
وذكر العلامة المنصورفوري 19 رجلاً، ثم قال: إني وجدت بعد التفحص 23 اسمًا،
واحد منها في الطبري فقط، وواحد عند الواقدي فقط، وواحد مات لأجل أكل الشاة
المسمومة، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر، والصحيح أنه قتل في بدر. أما قتلى
اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً.
(0/325)
ص326 فَدَك:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بعث مُحَيِّصَة بن
مسعود إلى يهود فَدَك، ليدعوهم إلى الإسلام، فأبطأوا عليه، فلما فتح الله خيبر قذف
الرعب في قلوبهم، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصالحونه على النصف من
فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر، فقبل ذلك منهم، فكانت فدك لرسول الله صلى الله
عليه وسلم خالصة؛ لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب.
وادي القُرَى:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، انصرف إلى وادي القري،
وكان بها جماعة من اليهود، وانضاف إليهم جماعة من العرب. فلما نزلوا استقبلتهم
يهود بالرمي، وهم على تعبئة، فقتل مِدْعَم ـ عَبْدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلا، والذي نفسي
بيده، إن الشَّمْلَة التي أخذها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل
عليه نارًا)، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشِرَاك
أو شراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (شراك من نار أو شراكان من نار). ثم
عَبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال، وصَفَّهم، ودفع لواءه إلى سعد
بن عبادة، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حُنَيْف، وراية إلى
عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، وبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن
العوام فقتله، ثم برز آخر فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله
عنه فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى
الإسلام. وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم، فيصلي بأصحابه، ثم يعود، فيدعوهم إلى
الإسلام وإلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح
حتى أعطوا ما بأيديهم، وفتحها عنوة، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم، وأصابوا أثاثا
ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القري أربعة أيام. وقسم
على أصحابه ما أصاب بها، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها (كما عامل
أهل خيبر).
تَيْمَاء:
ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَي، لم
يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح، فقبل ذلك
منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بأموالهم. وكتب لهم بذلك كتابا وهاك
نصه: هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء
ولا جلاء، الليل مد، والنهار شد، وكتب خالد بن سعيد.
(0/326)
ص327 العودة إلى المدينة:
ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العودة إلى المدينة، وفي الطريق
أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا
الله) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون
أصَمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا). وفي مرجعه ذلك سار النبي صلى الله
عليه وسلم ليلة، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال: (اكلأ لنا الليل)،
فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ أحد، حتى ضربتهم الشمس،
وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من ذلك الوادي،
وتقدم، ثم صلي الفجر بالناس، وقيل: إن هذه القصة في
غير هذا السفر. وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر، يبدو أن رجوع النبي صلى الله عليه
وسلم كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7هـ.
سرية أبَان بن سعيد:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاء
المدينة تماما بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا، بينما الأعراب ضاربة
حولها، تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة؛ ولذلك أرسل سرية
إلى نجد لإرهاب الأعراب تحت قيادة أبان بن سعيد، بينما كان هو إلى خيبر، وقد رجع
أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه، فوافي النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر،
وقد افتتحها.
والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ، وقد ورد ذكرها في البخاري.
قال ابن حجر: لم أعرف حال هذه السرية.
(0/327)
ص328 بقية السرايا والغزوات في السنة السابعة
غزوة ذات الرِّقَاع:
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر جناحين قويين من أجنحة
الأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث، أي إلى الأعراب القساة
الضاربين في فيافي نجد، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة
وأخري. ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة، ولم يكونوا يقطنون الحصون
والقلاع، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير
عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر؛ ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب
والإرهاب، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخري. ولفرض الشوكة ـ أو
لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة ـ قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع. وعامة أهل المغازي يذكرون
هذه الغزوة في السنة الرابعة، ولكن حضور أبي موسي الأشعري وأبي هريرة رضي الله
عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيبر، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع
الأول سنة 7هـ. وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة: أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان، فأسرع بالخروج
إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن
عفان رضي الله عنهما، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له: نخل، على
بعد يومين من المدينة، ولقي جمعًا من غطفان، فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضًا ولم يكن
بينهم قتال، إلا أنه صلي بهم يومئذ صلاة الخوف. وفي رواية البخاري: وأقيمت الصلاة
فصلي بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلي بالطائفة الأخري ركعتين، وكان للنبي صلى الله
عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان. وفي البخاري عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنهم
قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه،
فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات
الرقاع، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا. وفيه عن جابر: كنا مع النبي صلى الله عليه
وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم،
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرق الناس في العضاة، يستظلون بالشجر، ونزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه. قال جابر: فنمنا نومة، فجاء
رجل من المشركين:
(0/328)
ص329 فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتخافني؟ قال: (لا). قال: فمن يمنعك
مني؟ قال: (الله). قال جابر: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئنا،
فإذا عنده أعرابي جالس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اخترط سيفي
وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا. فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها
هو ذا جالس)، ثم لم يعاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أبي عوانة:
فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (من يمنعك مني؟)
قال: كن خير آخذ، قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قال الأعرابي:
أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلَّى سبيله، فجاء إلى
قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس. وفي رواية البخاري: قال مسدد عن أبي عوانة عن
أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَث ابن الحارث. قال ابن حجر: ووقع
عند الواقدي في سبب هذه القصة: أن اسم الأعرابي دُعْثُور، وأنه أسلم، لكن ظاهر
كلامه أنهما قصتان في غزوتين. والله أعلم. وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من
المشركين، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دمًا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،
فجاء ليلاً، وقد أرصد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رَبِيئة للمسلمين من
العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر، فضرب عبادًا، وهو قائم يصلي، بسهم فنزعه،
ولم يبطل صلاته، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه،
فقال: سبحان الله ! هلا نبهتني، فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. كان لهذه
الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا
بعدالغزوة نري أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة، بل
استكانت شيئًا فشيئًا حتى استسلمت، بل وأسلمت، حتى نري عدة قبائل من هذه الأعراب
تقوم مع المسلمين في فتح مكة، وتغزو حُنَيْنًا، وتأخذ من غنائمها، ويبعث إليها
المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة
التي كانت ممثلة في الأحزاب، وساد المنطقة الأمن والسلام، واستطاع المسلمون بعد
ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل، بل بعد هذه
الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة؛ لأن الظروف في داخل البلاد
كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين. وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى شوال سنة 7هـ. وبعث في خلال ذلك عدة سرايا. وهاك بعض
تفصيلها:
1ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد، في صفر أو
ربيع الأول سنة
(0/329)
ص330 7هـ. كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد، فبعثت هذه
السرية لأخذ الثأر، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا، وساقوا النعم، وطاردهم
جيش كبير من العدو، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر، فجاء سيل عظيم حال بين
الفريقين. ونجح المسلمون في بقية الانسحاب.
2ـ سرية حِسْمَى، في جمادي الثانية سنة 7هـ، وقد مضي ذكرها في مكاتبة
الملوك.
3ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة، في شعبان سنة 7هـ، ومعه ثلاثون رجلاً. كانوا يسيرون
الليل ويستخفون في النهار، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم
يلق أحدًا، فانصرف راجعًا إلى المدينة.
4ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك، في شعبان سنة
7هـ في ثلاثين رجلاً. خرج إليهم واستاق الشاء والنعم، ثم رجع فأدركه الطلب عند
الليل، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه، فقتلوا جميعًا إلا بشير، فإنه
ارْتُثَّ إلى فدك، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه، فرجع إلى المدينة.
5ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي، في رمضان سنة 7هـ إلى بني عُوَال وبني
عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة، في مائة وثلاثين
رجلاً، فهجموا عليهم جميعًا، وقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء، وفي هذه
السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال: لا إله إلا الله،
فلما قدموا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، كبر عليه وقال: (أقتلته بعد ما قال:
لا إله إلا الله؟) فقال: إنما قالها متعوذًا قال: (فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق
هو أم كاذب؟).
6ـ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر، في شوال سنة 7هـ في ثلاثين راكبًا.
وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين، فأخرجوا أسيرًا في
ثلاثين من أصحابه، وأطمعوه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستعمله على خيبر، فلما
كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضي إلى قتل أسير وأصحابه
الثلاثين. ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر.
7ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار [بالفتح، أرض لغطفان، وقيل: لفَزَارَة
وعُذْرَة]، في شوال سنة 7هـ في ثلاثمائة من المسلمين، للقاء جمع كبير تجمعوا
للإغارة على أطراف المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير
هربوا، وأصاب بشير نعما كثيرة، وأسر رجلين، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأسلما.
8 ـ سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة
السابعة قبل عمرة القضاء، وملخصها: أن رجلا من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير
إلى الغابة، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين. فبعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم، فوصلوا إلى القوم مع غروب
الشمس، فكمن أبو حدرد في ناحية،
(0/330)
ص331 وصاحباه في ناحية أخرى، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة
العشاء، فقام رئيس القوم وحده، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم،
فاحتز أبو حدرد رأسه، وشد في ناحية العسكر، وكبر، وكبر صاحباه وشدا، فما كان من
القوم إلا الفرار، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم(1).
__________
(1) زاد المعاد 2/149، 150، وابن هشام 2/629، 630 وعنده: ابن أبي حدرد. وانظر لتفصيل هذه
السرايا: رحمة للعالمين 2/229- 231، وزاد المعاد 2/148- 150،
وتلقيح فهوم أهل الأثر مع حواشيها ص31، ومختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي
ص322- 324.
(0/331)
ص332 عمرة القضاء
قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما هَلَّ ذو القعدة
أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية، فخرجوا إلا
من استشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوي النساء والصبيان. اهـ.
واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري، وساق
ستين بدنة، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة،
ولبي، ولبي المسلمون معه، وخرج مستعدًا بالسلاح والمقاتلة، خشية أن يقع من قريش
غدر، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها: الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح،
وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل، ودخل بسلاح الراكب: السيوف في
القُرُب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدخول راكبًا على ناقته
القَصْواء، والمسلمون متوشحون السيوف، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم
يلبون. وخرج المشركون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا
المسلمين، وقد قالوا فيما بينهم: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمي يثرب، فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين.
ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم، وإنما أمرهم بذلك
ليري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع، أي أن يكشفوا المناكب اليمني، ويضعوا
طرفي الرداء على اليسرى.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الثنية التي تطلعه على
الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن
بمِحْجَنِه، ثم طاف، وطاف المسلمون، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم يرتجز متوشحًا بالسيف:
خَلُّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلُّوا فَكُلّ الْخَيْرِ
فِي رَسُولِهِ
قَدْ أَنْزَلَ الرّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ ... فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى
رَسُولِهِ
يَا رَبّ إنّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ ... إنّي رَأَيْتُ الْحَقّ فِي
قَبُولِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتَلِ فِي سَبِيلِهِ ... الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ
عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ
عَنْ خَلِيلِهِ
وفي حديث أنس فقال عمر: يابن رواحة، بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (خَلِّ عنه يا
عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل). ورَمَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون ثلاثة أشواط، فلما رآهم المشركون قالوا: هؤلاء
(0/332)
ص333 الذين زعمتم أن الحمَّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. ولما
فرغ من الطواف سعي بين الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي، وقد وقف الهدي عند
المروة، قال: (هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر)، فنحر عند المروة، وحلق هناك، وكذلك
فعل المسلمون، ثم بعث ناسًا إلى يَأْجُج، ليقيموا على السلاح، ويأتي الآخرون
فيقضون نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثًا، فلما أصبح
من اليوم الرابع أتوا عليًا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضي
الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل بسَرِف فأقام بها. ولما أراد الخروج
من مكة تبعتهم ابنة حمزة، تنادى، يا عم يا عم، فتناولها علي، واختصم فيها على
وجعفر وزيد، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر؛ لأن خالتها كانت تحته. وفي هذه
العمرة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية، وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى
ميمونة، فجعلت أمرها إلى العباس، وكانت أختها أم الفضل تحته، فزوجها إياه، فلما
خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي، فبني بها بسرف. وسميت هذه
العمرة بعمرة القضاء؛ إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحُدَيْبِيَة، أو لأنها وقعت
حسب المقاضاة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية، والوجه الثاني رجحه
المحققون، وهذه العمرة تسمي بأربعة أسماء: القضاء، والقَضِيَّة، والقصاص، والصُّلح.
وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع من هذه العمرة عدة
سرايا، وهي كما يلي:
1ـ سرية ابن أبي العوجاء، في ذي الحجة سنة 7هـ في خمسين رجلاً. بعثه رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْم؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة
لنا إلى ما دعوتنا، ثم قاتلوا قتالاً شديدًا. جرح فيه أبو العوجاء، وأسر رجلان من
العدو.
2ـ سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفَدَك، في صفر سنة
8هـ. بعث في مائتي رجل، فأصابوا من العدو نعما، وقتلوا منهم قتلي.
3ـ سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8هـ. كانت بنو قُضَاعَة قد حشدت
جموعًا كبيرة للإغارة على المسلمين، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب
بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً، فلقوا العدو، فدعوهم إلى الإسلام، فلم
يستجيبوا لهم، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إلا رجل واحد، فقد ارْتُثَّ من بين
القتلى.
4ـ سرية ذات عِرْق إلى بني هوازن، في ربيع الأول سنة 8هـ. كانت بنو هوازن
قد أمدت الأعداء مرة بعد أخري فأرسل إليها شُجَاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين
رجلاً، فاستاقوا نَعَما من العدو، ولم يلقوا كيدًا.
(0/333)
ص334 معركة مؤتة
وهذه المعركة أكبر لقاء مُثْخِن، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في
حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصاري، وقعت
في جمادي الأولي سنة 8هـ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926 م. ومؤتة (بالضم فالسكون)
هي قرية بأدني بلقاء الشام، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
سبب المعركة:
وسبب هذه المعركة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير
الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَى. فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان
عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطًا، ثم قدمه، فضرب
عنقه. وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة
الحرب، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقلت إليه الأخبار، فجهز
إليهم جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في
غزوة الأحزاب.
أمراء الجيش ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال:
(إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه
إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى
الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: (اغزوا بسم
الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليدًا ولا
امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا
تهدموا بناء).
توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة:
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وسلموا عليهم، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد الله بن رواحة ـ
فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِن
مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71]،
(0/334)
ص335 فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله
بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرع تقذف الزَّبَدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جَدَثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيعًا لهم حتى بلغ
ثنية الوداع، فوقف وودّعهم.
تحرك الجيش الإسلامي، ومباغتته حالة رهيبة:
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان، من أرض الشام،
مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض
البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء
وبَلِي مائة ألف.
المجلس الاستشاري بمَعَان:
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم ـ الذي
بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغير، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل
فحسب، على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم، قوامه مائتا ألف مقاتل؟ حار المسلمون،
وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن
يأمرنا بأمره فنمضي له. ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس،
قائلاً: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل
الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به،
فانطلقوا، فإنما هي إحدي الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. وأخيرًا استقر الرأي على
ما دعا إليه عبد الله بن رواحة.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو:
وحينئذ بعد أن قضي الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض
العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها: [شَارِف] ثم دنا
العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبئوا للقتال، فجعلوا على
ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.
بداية القتال، وتناوب القواد:
وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل
يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل. معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن
إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
(0/335)
ص336 أخذ الراية زيد بن حارثة ـ حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ
وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال
الإسلام، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعًا. وحينئذ أخذ
الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال
اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم
يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قتل. يقال: إن
روميًا ضربه ضربةً قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث
يشاء؛ ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. روى البخاري عن نافع؛ أن ابن
عمر أخبره: أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة، ليس
منها شيء في دبره، يعني ظهره. وفي رواية أخري قال ابن عمر: كنت فيهم في تلك
الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلي، ووجدنا ما في جسده بضعًا
وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية العمري عن نافع زيادة: [فوجدنا ذلك فيما أقبل من
جسده]. ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة، أخذ الراية عبد الله
بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، حتى حاد
حيدة ثم قال:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ ... كَارِهَةً أو لتُطَاوِعنَّه
إنْ أَجْلَبَ النّاسُ وَشَدّوا الرّنّهْ ... مَا لِي أَرَاكِ
تَكْرَهِينَ الْجَنّهْ
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد
لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه من يده، ثم
أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
الراية إلى سيف من سيوف الله:
وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال: يا معشر
المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على
خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريرًا، فقد روي البخاري عن خالد بن
الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة
يمانية. وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي
يمانية.
(0/336)
ص337 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة ـ مخبرًا بالوحي،
قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر
فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف
الله، حتى فتح الله عليهم).
نهاية المعركة:
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين، كان مستغربًا جدًا أن
ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي
ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم
فيه. واختلفت الروايات كثيرًا فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيرًا. ويظهر بعد النظر
في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار،
في أول يوم من القتال. وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب
الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة.
فقد كان يعرف جيدًا أن الإفلات من براثنهم صعب جدًا لو انكشف المسلمون، وقام
الرومان بالمطاردة. فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل
مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا:
جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد ـ بعد أن تراءي الجيشان، وتناوشا ساعة ـ يتأخر
بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظنًا منهم أن
المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء. وهكذا انحاز
العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز
سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
قتلى الفريقين:
واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان، فلم يعرف عدد
قتلاهم، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم.
أثر المعركة:
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها
لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة
والحيرة، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معني
جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ
ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم
الرجوع عن الغزو
(0/337)
ص338 من غير أن تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان
يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيدون ومنصورون
من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقًّا. ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا
تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم
وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها. وكانت هذه المعركة بداية اللقاء
الدامي مع الرومان، فكانت توطئة وتمهيدًا لفتوح البلدان الرومانية، واحتلال
المسلمين الأراضي البعيدة النائية.
سرية ذات السَّلاسِل:
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقف القبائل العربية ـ التي
تقطن مشارف الشام ـ في معركة مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين، شعر بمسيس
الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان، وتكون سببًا
للائتلاف بينها وبين المسلمين، حتى لا تتحشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخري.
واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص؛ لأن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي. فبعثه
إليهم في جمادي الآخرة سنة 8هـ على إثر معركة مؤتة؛ ليستألفهم، ويقال: بل نقلت
الاستخبارات أن جمعًا من قُضَاعَة قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة،
فبعثه إليه، ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معًا. وعقد رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعمرو بن العاص لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة
المهاجرين والأنصار، ومعهم ثلاثون فرسًا، وأمره أن يستعين بمن مر به من بَلِي
وعُذْرَةَ وبَلْقَيْنِ. فسار الليل وَكمَنَ النهار، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم
جمعًا كثيرًا، فبعث رافع بن مَكِيثٍ الجُهَنِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواء، وبعث له سراة
المهاجرين والأنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعًا
ولا يختلفا. فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت على=
مددًا، وأنا الأمير، فأطاعه أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وطئ بلاد
قُضَاعَة، فدوخها حتى أتي= أقصي بلادهم، ولقي في آخر ذلك جمعًا، فحمل عليهم
المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا. وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدًا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وذات
السلاسل [بضم السين الأولي وفتحها: لغتان] بقعة وراء وادي القُرَى، بينها وبين
المدينة عشرة أيام. وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض جُذَام يقال له: السلسل، فسُمِّي
ذات السلاسل.
(0/338)
ص339 سرية أبي قتادة إلى خضرة:
كانت هذه السرية في شعبان سنة 8هـ؛ وذلك لأن بني غَطَفَان كانوا يتحشدون
في خَضِرَة ـ وهي أرض مُحَارِب بنَجْد ـ فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً، فقتل منهم، وسَبَي وغنم، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
(0/339)
ص340 غزوة فتح مكة
قال ابن القيم: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده
وحزبه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدي للعالمين، من أيدي الكفار
والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عِزِّه على مناكب
الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجًا
ا.هـ.
سبب الغزوة:
قدمنا في وقعة الحديبية أن بندًا من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب
أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد
قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءًا من ذلك
الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدوانًا على ذلك الفريق. وحسب
هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في
عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخري، وقد كانت بين القبيلتين عداوة
وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، ووقعت هذه الهدنة، وأمن كل فريق من الآخر
ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فخرج نَوْفَل بن
معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8هـ، فأغاروا على خزاعة
ليلاً، وهم على ماء يقال له: [الوَتِير] فأصابوا منهم رجالاً، وتناوشوا واقتتلوا،
وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل، حتى
حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا
الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا
بني بكر، أصيبوا ثأركم. فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟
ولما دخلت خزاعة مكة لجئوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي، وإلى دار مولًى
لهم يقال له: رافع. وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي، فخرج حتى قدم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة، فوقف عليه، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَنا وحلف أَبِيه الأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا ... ثُمَّةَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ
نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَبدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ
يَأْتُوا مَدَدَا
(0/340)
ص341
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ
يَسْمُو صُعُدَا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا ... فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ
يَجْرِي مُزْبِدًا
إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا مِيثَاقَك
الْمُوَكّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا ... وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو
أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا ... هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا
وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سالم)، ثم عرضت له
سحابة من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب). ثم خرج بُدَيْل بن
وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة.
أبو سفيان يخرج إلى المدينة ليجدد الصلح:
ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدرًا محضًا ونقضًا صريحًا
للميثاق، لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وخافت وشعرت
بعواقبه الوخيمة، فعقدت مجلسًا استشاريًا، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً
لها ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله
قريش إزاء غدرتهم. قال: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ، ويزيد في
المدة). وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو
راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال: من أين أقبلت يا بديل؟ ـ وظن أنه أتي النبي صلى
الله عليه وسلم ـ فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي. قال: أو
ما جئت محمدًا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء
المدينة لقد علف بها النوي، فأتي مبرك راحلته، فأخذ من بعرها، ففته، فرأي فيها
النوي، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًا. وقدم أبو سفيان المدينة، فدخل على
ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه،
فقال: يا بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس. فقال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم
خرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى
أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتي
عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فوالله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به، ثم جاء
(0/341)
ص242 فدخل على عليِّ بن أبي طالب، وعنده فاطمة، وحسن، غلام يدب بين
يديهما، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحمًا، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن
كما جئت خائبًا، اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: هل
لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت:
والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم. وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع
وانزعاج ويأس وقنوط: يا أبا الحسن، إني أري الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال:
والله ما أعلم لك شيئًا يغني عنك. ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم
الْحَقْ بأرضك. قال: أو تري ذلك مغنيًا عني شيئًا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني
لم أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين
الناس، ثم ركب بعيره، وانطلق. ولما قدم على قريش، قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت
محمدًا فكلمته، فوالله ما رد على شيئًا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرًا،
ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدني العدو، ثم جئت عليًا فوجدته ألين القوم، قد أشار
على بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئًا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال:
أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك،
إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
التهيؤ للغزوة ومحاولة الإخفاء:
يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ
قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل
عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما
هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي، وفي صباح
الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا، وارتجز: يا رب إني ناشد
محمدًا... الأبيات. فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل، ثم أبو سفيان،
وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه
سائر إلى مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها).
وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية
رجال، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي، إلى بطن إضَم، فيما بين ذي خَشَب وذي
المروة، على ثلاثة بُرُد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8هـ؛ ليظن الظان أنه
صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه
السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها
(0/342)
ص343 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى
لحقته. وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشًا،
فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من
السماء بما صنع حاطب، فبعث عليًا والمقداد والزبير بن العوام وأبا مَرْثَد
الغَنَوِي فقال: (انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَةَ خَاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى
قريش)، فانطلقوا تعادي بهم خيلهم حتى وجدوا المرأة بذلك المكان، فاستنزلوها،
وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم يجدوا شيئًا. فقال لها
علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن
الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها،
فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا
فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا، فقال:
(ما هذا يا حطب؟) فقال: لا تَعْجَلْ على يا رسول الله. والله إني لمؤمن
بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ مُلْصَقًا في قريش؛ لست من
أنْفَسِهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك له
قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي. فقال
عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك يا عمر لعل الله
قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذَرَفَتْ عينا عمر،
وقال:
الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من
أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة:
ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8هـ، غادر رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة متجهًا إلى مكة، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلف على
المدينة أبا رُهْم الغفاري. ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس
بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا، ثم لما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد
الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذي والهجو، فقالت
له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك.
(0/343)
ص344 وقال عليٌّ لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه
وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ
تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]،
فإنه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ
لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، فأنشده أبو سفيان أبياتًا منها:
لَعَمْرُك إنّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاَّتِ
خَيْلَ مُحَمّد
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي
حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَدَلّنِي ... عَلَى اللّهِ مَنْ
طَرّدْتُ كُلّ مُطَرَّدِ
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: (أنتَ طَرَّدْتَنِي كل
مُطَرَّد؟).
الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان:
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى
بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم واصل
سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران،
فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب
رضي الله عنه.
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحدًا يخبر قريشًا
ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمَّى الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو
سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون
الأخبار. قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان
يقول: ما رأيت كالليلة نيرانًا قط ولا عسكرًا. قال: يقول بديل: هذه
والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه
نيرانها وعسكرها. قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال:
أبا
(0/344)
ص345 الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك؟ فداك
أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز
هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي،
ورجع صاحباه. قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من
هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام
إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو الله؟ الحمد لله الذي
أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضتُ
البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل
عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول
الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت:
والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر،
فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله
لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك
كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به)،
فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك
يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما
أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئًا
بعد. قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)، قال: بأبي أنت وأمي،
ما أحلمك وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء. فقال له العباس:
ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك،
فأسلم وشهد شهادة الحق. قال العباس: يا رسول الله، إن
أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا. قال: (نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).
الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة:
وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8هـ ـ
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا
سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت
القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثلا ـ
سليم، فيقول: مإلى= ولِسُلَيْم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فيقول:
مُزَيْنَة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفذت
(0/345)
ص346 القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال:
مالي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها
المهاجرون والأنصار، لا يري منهم إلا الحَدَق من الحديد، قال: سبحان الله ! يا
عباس، من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار،
قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة. ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح
مُلْكُ ابن أخيك اليوم عظيمًا. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم
إذن. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم
الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليوم أذل الله قريشًا. فلما حاذي رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله، ألم تسمع ما قال سعد؟ قال:
(وما قال؟) فقال: قال كذا وكذا. فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا
رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشًا) ثم أرسل إلى
سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس، ورأي أن اللواء لم يخرج عن سعد. وقيل:
بل دفعه إلى الزبير.
قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي:
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان ومضي قال له العباس:
النجاء إلى قومك. فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته:
يا معشر قريش، هذا محمد، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به. فمن دخل دار أبي سفيان فهو
آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحَمِيت الدسم
الأخمش الساقين، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم. قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من
أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك
الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو
آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، ووبشوا أوباشًا لهم، وقالوا: نقدم هؤلاء،
فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش
وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة
ليقاتلوا المسلمين. وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك
سلاحًا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أري؟ قال: لمحمد وأصحابه. قالت: والله ما
يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم، ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لي عِلَّه ... هذا سلاح كامل وألَّه
وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة
فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة.
(0/346)
ص247 الجيش الإسلامي بذي طُوَى:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق